ثروة الأمم 8
فى أن تقسيم العمل محدود بسعة السوق
فعندما يكون السوق صغيرا لا يجد
الشخص أى حافز يدفعه لينذر نفسه كليا لشغل واحد ، وذلك لافتقاد القوة لمبادلة كل
ما يزيد عن إنتاج شغله الخاص ،
الفائض عن استهلاكه الخاص ، مقابل ما يحتاج إليه من
بعض منتجات شغل الآخرون .
من ذلك أن النجار الريفى يشتغل
فى أى نوع من الأشغال الخشبية ، والحداد الريفى يشتغل فى أى نوع من الأشغال
الحديدية ، فالأول ليس مجرد نجار فحسب بل صانع أثاث ، وحفار خشب ، وصانع عجلات
ومحاريث ، وعربات نقل وشحن ، كما أن أشغال الثانى أكثر تنوعا .
معلوم أنه يفضل النقل المائى ،
تقام سوق لكل أصناف الصنائع أوسع من السوق المعتمدة على النقل البرى .
فعربة الشحن العريضة العجلات التى يقودها رجلان ، وتجرها ثمانية أحصنة تذهب
فى حوالى ستة أسابيع وتعود بحوالى أربعة أطنان من السلع بين لندن وإدنبره ، وفى ما
يقارب من المدة نفسها يبحر مركب يقوم بأمره ستة أو ثمانية بحارة بين ميناءى لندن
وليث ،
حاملا مئتى طن من السلع جيئة وذهابا ، وهكذا ، يستطيع ستة أو ثمانية رجال وبفضل
النقل المائى ، أن يأخذوا ويعودوا بنفس كمية السلع بين لندن وإدنبره ، مقدار ما
تنقله خمسون عربة شحن عريضة العجلات ، يقودها مئة رجل ، ويجرها أربعمائة حصان ،
فعلى مئتى طن من السلع المنقولة بواسطة أرخص وسيلة شحن برى من لندن إلى إدنبره ،
ينبغى أن تفرض كلفة مئة رجل مدة ثلاثة أسابيع ، مضافا إليها كلفة استهلاك أربعمئة
حصان وخمسين عربة شحن كبيرة ، مقابل ذلك ، لا يفرض على نقل الكمية نفسها من السلع
بوسيلة الشحن المائى إلا كلفة ستة أو ثمانية رجال ، واستهلاك مركب حمولته مئتا طن ،
إضافة إلى قيمة المخاطرة العليا ، أو فرق كلفة التأمين بين النقل البرى والبحرى
.
ولذلك ،
فلو لم يكن من وسيلة نقل بين هذين الموضعين إلا الوسيلة البرية ، بحيث لايمكن أن
ينقل من السلع بينهما إلا تلك التى يكون ثمنها غاليا جدا بالقياس إلى وزنها ، إذا
لامتنع عليهما أن يحافظا إلا على قسم صغير من التجارة القائمة بينهما حاليا ، ولن
يستطيع أى منهما أن يقدم للآخر إلا القليل من التشجيع الذى يقدمه حاليا كل منهما
لصناعة الآخر ، وسوف تعدم التجارة ، مهما كان نوعها ، أو تكاد بين الأجزاء المتباعدة
فى العالم .
استنادا إلى أوثق التواريخ ، فإن
الأمم التى تمدنت أولا ، كانت تلك التى قامت حول البحر المتوسط .
ومن دون سائر البلدان الواقعة
على البحر المتوسط ، كانت مر هى البلد الأول الذى عنى بالزراعة والصنائع وتطويرهما
إلى حد معقول .
وفى مصر السفلى يتفرع هذا
النهر العظيم إلى العديد من الأقنية التى أتاحت مع شئ من الابتكار ، النقل المائى ،
لا بين المدن الكبر فحسب ، بل وبين القرى الكبرى ، وحتى العديد من المزارع
المتناثرة فى الريف .
ومن اللافت أن المصريين
القدماء لم يشجعوا التجارة الخارجية ولا شجعها الهنود ،
ولا الصينيون ، بل يبدو
أنهم جميعا قد استمدوا ثرواتهم العظيمة من هذه الملاحة الداخلية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق