16‏/10‏/2016

عن الحرب 25

عن الحرب 25

الكتاب الرابع
الاشتباك


طبيعة المعركة اليوم

   مالذى يحدث عادة فى معركة كبرى اليوم ؟ تتنقل القطعات بهدوء وبحشود كبيرة إلى مواضع تنتشر خطيا وبالعمق . وينهمك جزء صغير نسبيا منها ، ويترك لخوض القتال وحيدا لعدة ساعات ، هذا القتال الذى تتخلله بين آونة وأخرى ضربات صغيرة – صولة هجوم ، مهارشة بالحراب ، أو هجوم خيالة – والتى تسبب تأرجح القتال إلى حد ما جيئة وذهابا . ستنهك الوحدات المنهمكة بالقتال وتتضاءل قوتها تدريجيا حتى إذا لم يتبق منها شيئا يذكر ، يتم سحبها لتحل بدلا عنها وحدات جديدة .

   يذوى لهيب المعركة ببطء ، ويفرض الظلام إذا توقف القتال ، وحان الوقت لمعرفة ما تبقى من القوة القتالية القادرة على المواصلة لدى الطرفين . 

     وبوسع الطرفان احتساب ما كسب أو خسر من الأرض ، وحالة الأمن فى مؤخراته . وبعد استخلاص النتائج ، مع الانطباعات الشخصية ( للقائد ) عن الشجاعة والجبن ، والبراعة والغباء التى رصدها بين قطعاته وقطعات العدو ، حيث يتم تجميع هذه الانطباعات الكلية كى تكون أساسا لأى قرار يتخذ ، إما بالتوقف وترك الميدان أو بتجديد القتال فى الصباح التالى . 


الاشتباك بشكل عام

   القتال هو العمل المركزى ( القضية المركزية ) ، الذى تعمل كافة الأنشطة الأخرى لدعمه فقط .
   الاشتباك يعنى القتال ، وهدف القتال هو تدمير أو دحر العدو .    
      
   الحروب فى أيامنا هذه تتألف من عدد كبير من الاشتباكات الكبيرة والصغيرة ، التى تجرى فى آن واحد أو متعاقبة .

   ما الذى نعنيه بتدمير العدو ؟ ببساطة نعنى تدمير قواته ، إما بتدميره كليا أو بما يكفى لإيقاف القتال .

   مفهوم تدمير قوات العدو ، كيف سنبرهن على أن تدمير قوات العدو ، يجب أن تكون عادة ، وفى جميع الحالات البالغة الأهمية هو الهدف الرئيسى ؟

  نقر بأن اشتباكا ما ، يساوى فى نقطة ما ، أكثر مما يساويه فى نقطة أخرى . كما نقر بوجود ترتيب لأسبقية الاشتباكات فى الاستراتيجية ، وهذا هو حقا ، كلما تدور الاستراتيجية حوله .

   الإبادة المباشرة لقوات العدو يجب أن تكون ودائما الاعتبار الحاكم والأساسى .

   لكن يجب علينا التأكيد بأن الموضوع الذى يهمنا هنا هو الاستراتيجية ، وليس التعبية .
 لذلك لن نناقش هنا الوسائل التعبوية المستخدمة لتدمير أقصى ما يمكن من قوات العدو بأقل ما يمكن من قوات الجهد . الانتصارات التعبوية الكبرى فقط يمكن أن تقود إلى انتصارات استراتيجية كبرى أو ، كما قد قلنا وبتحديد أكثر ، للانتصارات التعبوية أهمية فائقة فى الحرب .

   الدليل على تأكيدنا هذا بسيط للغاية . ويمكن أن نجده فى الوقت الذى تستغرقه العمليات المعقدة . 
أما السؤال عما إذا كان الهجوم البسيط أكثر فاعلية من الهجوم الأكثر تعقيدا ، فالجواب بدون ريب سيكون لصالح الأخير أن افترض المرء أن العدو سيظل سلبيا . إلا أن كل عملية معقدة ستأخذ وقتا ، ويجب أن يتسير هذا الوقت دون هجوم مقابل فى أحد أجزاءه وبشكل يتعارض فيه مع تطور الكل  عدوا عزوما ، وشجاعا ، ونشيطا لن يسمح بالوقت الكافى لمشاريع معقدة وطويلة المدى.

   إن على المرء أن لا يضرب لأبعد مما تطوله يداه .

   الإدارة الحيوية للحرب ومن بين المناقب العسكرية كلها ، هى التى أسهمت دائما بالقدر الأكبر من النجاح والشهرة .

   ما الذى نعنيه ب " تدمير قوات العدو؟ " إنه تقليص قوة هى أكبر من قوتنا نسبيا.

   إذا تمكن أحد الطرفين وبانفتاح بارع ( لقواته ) أن يضع العدو فى موقف سئ يتعذر عليه معه مواصلة القتال ، دونما مخاطر وإذا تراجع بعد بعض المقاومة نستطيع القول أننا وعند هذه النقطة قد دحرناه .

   ومن التجارب المألوفة أن لا تختلف خسائر المنتصر خلال سياق الاشتباك كثيرا عن الطرف الخاسر . وغالبا ما لا يكون هناك اختلاف ما ، بل ويكون الأمر  معكوسا فى بعض الأحيان .

 لا تبدأ الخسارة الحقيقية والموجعة والتى لا يشارك المنتصر فيها المهزوم ، إلا عندما يبدأ العدو انسحابه ، وحين تتولى الخيالة سحق ما يتبقى من رجال متعبين فى الأفواج التى سحقتها المعركة ، بالإضافة إلى المتساقطين من الرجال شبه الموتى على جانبى الطريق ، والمدافع المحطمة ، 

وعربات وصناديق الأسلحة المتروكة ، بينما يعجز رجال آخرون عن التراجع بسرعة كافية على الطرق والنياسم السيئة فتتولى الخيالة أمرهم

   كما تسقط بعض المفارز الصغيرة التى ظلت طريقها خلال الليل فى أيادى العدو وهكذا يبدأ الطرف المنتصر عادة بتجميع المكاسب بعد أن يتم حسم القضية ، سيبدو الأمر متناقضا ، ما لم يتم حل التناقض كما يلى .

   ليست الخسائر المعنوية فقط ما يوقعه الطرفان ببعضهما خلال الاشتباك ، إذ تهتز القوى المعنوية كذلك ، وتتأذى وتتحطم ، وقبل القرار على مواصلة أو إيقاف الاشتباك لا يكفى حساب الخسائر فى الرجال والخيول والمدافع ، إذ كذلك لا بد من التمعن فى وموازنة الضرر فى النظام ، والشجاعة ، والثقة والتماسك والخطة .

   يصعب تحديد نسبة الخسائر المادية خلال سير المعركة ، إلا أن ذلك لا ينطبق على فقدان المعنويات . هناك مؤشران رئيسيان لذلك ، الأول هو فقدان الأرض التى جرى القتال فوقها ، والثانى هو تفوق احتياطات العدو ، فكلما استنفذ أحد الطرفين احتياطه أسرع من خصمه ، كلما كانت كلفة المحافظة على التوازن أعلى .

   فقدان الأرض ، ونقط الاحتياط النشيط ، هما السببان الرئيسيان للتراجع . ولقد ثبت أن فقدان المعنويات هو العامل الحاسم فى كل اشتباك .

   تظل لحظات الخطر واليأس ، أفضل الأوقات لتحمل المخاطر والقيام بالمحاولة الأخيرة لاستعادة الموقف وصنع الانتصار من الهزيمة فلم يعد هناك ما نخسره .

   وحدث فى بعض الحالات ، وإن كنا نقر بندرتها ، أن تتفجر  روح الثأر والكرامة ويتصاعد فيها الحقد حدا قد يقلب الموازين رأسا على عقب .

   عدد الأسرى والمدافع هما ودائما الغنائم الحقيقية للمنتصر ، كما يشكلان دليلا ملموسا لحجم الانتصار ، كما يظلان أفضل دليل على درجة التفوق من أى دليل آخر ، ومن خلال ذلك يغدو العامل المعنوى محسوسا ولو بطريقة أخرى .

   لقد أوضحنا أن المعنويات تتدهور خلال الاشتباك ، إلا أنها تسترجع تدريجيا فى الوقت الذى يليه مباشرة ، وغالبا مالا تترك أى أثر على ترديها .

   على كل حال ، يجب أن لا نستهين بفقدان التوازن المعنوى لمجرد أن لا قيمة مطلقة له ، ولأنه لا يظهر فى الميزان النهائى . فقد يصل هذا الفقدان حدا كبيرا بحيث يفوق كل شئ آخر ويغدو قوة لا تقاوم . لهذا السبب قد يغدو هذا النوع ( من التحطيم المعنوى ) هدفا رئيسيا للعمليات . 

0 التعليقات: