17‏/08‏/2016

روح السياسة 26

روح السياسة 26

الدفاع الاجتماعى

   نعلم أن روح الأمة تتآلف من شبكة من التقاليد والمعتقدات والمشاعر العامة والأساطير التى تبت أمرها بفعل الوراثة , فهذه هى الروح التى تعين على شكل غير شعورى وجهة أفكارنا واتجاه سيرنا وبفضلها تفكر الأمم تفكيرا متماثلا وتسير سيرا متشابها فى طرق معاشها الأساسية .

 والأمل أكبر باعث للحركة على الدوام ,  فالوهم يستولى الأفئدة , وأما الحقائق الباردة فلا توقد نار الحمية فى أحد , ثم إن بذر الأوهام فى النفوس أسهل من بذر الحقائق فيها .

   وتستلزم كل حضارة شيئا من الضغط والقسر , ولا تكون الأمة متمدنة إلا إذا علمت كيف تتحمل هذا الضغط والقسر , فلولا الروادع الاجتماعية القوية لما خرجت الأمم من طور الهمجية , وهى تعود إلى ذلك الطور عندما تضعف تلك الروادع . 

 ولا تبقى الروابط الاجتماعية التى هى وليدة الحضارة إلا بجهد مستمر .

   يجب على أبناء الطبقة الوسطى أن يتوكلوا على أنفشهم لا على الجامعة العارية من المبادئ الناظمة ولا على الحكومة التى لا قوة لها .

   ومن يود أن يعيش قويا فليبق قويا , ففى اطور الذى دخل العالم فيه حديثا لا يستطيع أحد أن يحافظ على شئ لا يعرف كيف يدافع عنه .

   إذا فالطبيعة مسوية أحيانا , ولكن لا كما يحلم الاشتراكيون , فالطبيعة تعيد ذرية صفوة الناس إلى حظيرة المساواة فى المستقبل , وأما الاشتراكيون فيودون التسوية بين الناس فى الحال .
   وقد بين الموسيو ( ريمون بوانكاره ) حديثا أن النائب الذى يكون فى بعض الأحيان متكبرا أمام البرلمان ليس سوى مسمار " لا يخطو خطوة من دون أن يسمع خشخشة قيود استعباده " , ولا يتأخر طرفة عين عن " الركوع أمام سلطان لجان الانتخابات " .       

  وعلى ذلك فالنائب الذى انتخب فأصبح لا يبالى بغير تجديد انتخابه وصار لهذا الغرض ينقاد لأحط غرائز الجموع هو بالحقيقة خطر على المجتمع .

   ليس من الضرورى أن تكون المبادئ الناظمة القادرة على قيادة الشعب كثيرة العدد إذا كانت متينة محترمة .             

   ونحن كذلك يجب أن نبذل جهودنا فى الدفاع عن المبدأ الوطنى الذى هو عنوان نظامنا الخلقى , ويتفرع من المبدأ المذكور كثير من المبادئ ولاسيما المبدأ القائل أن الأمة لا تعيش من غير جيش وسلسلة مراتب واحترام للسلطة وتهذيب نفسى .


   إن حب الوطن هو الملاط الاجتماعى الحقيقى الذى لا قوة للأمة بغيره , والوطن هو عنوان تراث القرون السالفة , ولما كنا لا نقدر على العيش بدونه فلنعش لأجله .

   وليست الدساتير والنظم والأساطيل هى التى توجب التحاما بين أجزاء الأمة وتمنحها عظمة , فقوة الأمة الحقيقية فى مثلها الأعلى , فالمثل الأعلى مع خفائه هو الذى يوجد الأشياء المنظورة ويقود النفوس , والأمة لكى تنال مثلا أعلى تجد قرونا كثيرة , وتقع فى طور الهمجية عندما تفقد ذلك المثل .

   الحوادث الطبيعية والحيوية والاجتماعية تابعة لضرورة مهيمنة , وقد احتاجت كل أمة فى أدوار التاريخ جميعها إلى المعتقد والسيف والعلم والخيال , فإذا حرمت إحدى هذه القوى الناظمة وخضعت لقوى مذبذبة ذات أهواء وردت موارد الهلاك .

   إذا الإرادة سيدة الأفراد والشعوب , فلتكن غاية التربية تقويتها لا إضعافها , وليست الصعوبة فى كسب الإرادة المؤقتة بل فى كسب الإرادة المستمرة , ولا تورث الإرادة القوية النفوس يأسا وقنوطا , فبها ينسف الإنسان الجبال ويبتدع كل شئ .


   وإذا كان التاريخ الحديث يدلنا على أمم ترتفع وأمم تقف , وأخرى تنحط فإن إنعام النظر يدلنا على أن ذلك كله ناشئ عن تفاوت فى إرادة تلك الأمم , فالإرادة لا القدر هى المهيمنة على العالم . 



تم تلخيص الكتاب 

روح السياسة 25

روح السياسة 25

النزاع الاجتماعى

   شهرت نقابة العمال الاممية فى السويد الحرب على المجتمع بإعلانها أمر الإضراب العام معتمدة على قوتها الكبيرة وعلى إطاعة العمال إياها إطاعة عمياء , فشعر آنئذ كل فرد من أفراد المجتمع بأن الوطن فى خطر , وبأنه يجب الدفاع ضج مطالب البرابرة الجدد .

 أجل هذا كله اضطر أبناء الطبقة الوسطى إلى الدفاع فحلوا من تلقاء أنفسهم محل العمال فى المصانع والمعاهد غير طالبين إلى الحكومة شيئا .  

 وبعد ثلاثة أشهرمضت فى نزاع قضى على الاعتصام الهائل مع ما بلته النقابة من الجهود العظيمة لإذلال المجتمع ووضعه تحت نيرها .

   وقد أسدت ( السويد ) بذلك الدفاع المجيد أعظم خدمة إلى الحضارة , إذ علمت الطبقات القائدة كيف تدافع عن نفسها .

   عندما تشعرإحدى طبقات المجتمع بزيادة نفوذها تصبو فى الحال إلى استعباد الطبقات الأخرى .
   زيادة النفوذ التى هى مقدمة الابتلاع تقع عندما يزول التوازن بين عناصر المجتمع , وحياة الأمة كحياة الأفراد لا تدوم إلا بتوازن قواها المتقابلة , فإذا اختل التوازن وقع المرض , وإذا استمر الاختلال وقع الموت .

   إذا المبدأ القائل بالمحافظة على التوازن بين عناصر المجتمع وبعدم ترويج عنصر على حساب العناصر الأخرى مبدأ سياسى أساسى .

  إن أعمالنا الظاهرة فى الغالب نتيجة قوى خفية لا نعرفها عادة إلا بآثارها , وهى لا تملى علينا أعمالنا فقط بل تملى أيضا الأدلة الضرورية لايضاح هذه الأعمال .  

وإذا دققنا فى عوامل السيرالتى تقود أولى الأمر منذ ثلاثين سنة فإننا نراها ترد إلى ثلاثة وهى :
-         أولا : الخوف الشديد من الناخبين .

-          ثانيا : اضطهاد الأقليات لنيل الحظوة عند الناخبين .
-         ثالثا : تأثير المبادئ الاشتراكية .
 فلنبحث فى فعل هذه العوامل الثلاثة .
   يتوقف مصيرنا على ما ستفكر فيه الشبيبة وتقوله وتفعله , ولقد وصلت هذه الشبيبه إلى ميدان الحياة الاجتماعية فرأت أمامها معتقدات الماضى منحلة , ودعائم المجتمع متداعية , وهى لما تجد مثلا أعلى تدافع عنه وشاهدت سلسلة المراتب ونظم العائلة والملكية والوطن والجيش منثلمة اعتقدت أن كل مجهود عقيم , واعتقاد مثل هذا سيقضى على الأخلاق التى صبر بها الناس على الاضطهاد والعنف .   

        فسرعان ما يصبح التعصب للشر قويا عندما لا يقاومه التعصب للخير .
   ومع ها كله لم تزل شبيبة الطبقة الوسطى خيرة أبناء الأمة لقبضها على زمام العلم والصناعة والآداب والفنون , بيد أن الخيرة لا تبقى خيرة إذا فقدت ؟أخلاقها .

المقادير الحديثة وتبديد المقادير

   يستدل على مقادير الجيل بالبحث فى مبادئه الناظمة التى تسير عزائمه وتعين وجهته , وأين نجد هذه المبادئ ؟        
                                          
   لا نجدها فى الجماعات والجماعات ذات شهوات لا مبادئ , وهل يظفر بها فى أرباب القلم الذين يؤلفون الكتب ويلقون الخطب ؟ هؤلاء لا يعبرون فى الغالب عن غير المبادئ المسلم بها لاستهواء سامعى خطبهم وقارئى كتبهم .

   وعلى رغم صعوبة استنباط المبادئ السائدة لأحد الأدوار قد يلم بها إلماما تقريبيا عند الاطلاع على تعاليم الأساتذة المسموعى الكلمة .

   للمقادير ثلاثة أنواع : النوع الأول هو المقادير الطبيعية الثابتة كالهرم وحوادث الجو وسير الكواكب , فنحن وإن كنا لا نقدر على تبديلها نستطيع أن نعين سننها ونخبر عنها قبل وقوعها ونحافظ على أنفسنا إزاءها محافظة جزئية ,  

               والنوع الثانى وهو المقادير المتبدلة كالأوبئة والمجاعات التى كانت تودى بحياة ملايين من البشر , فهذه المقادير تتبدد كلما تقدم العلم فحلل عناصرها وهاجم كل واحد من تلك العناصر على انفراد .        

 والنوع الثالث هو المقادير المصنوعة , فالتاريخ حافل بهذه المقادير , وبنا أن العلة بعد أن تتكون تأتى بنتائجها بحكم الضرورة كان من الصعب مقاتلة المقادير المصنوعة , ويجب السيطرة عليها ومقاومتها بمقادير مصنوعة أخرى لا تقل عنا قوة , وهذا ما يفعله أعاظم الرجال .

   والأغلاظ النفسية – وكذلك العجز عن التنبؤ بالمستقبل – مصدر المقادير المهلكة الثقيلة الوطأة على كثير من الأجيال .

   الموسيو ( هانوتو ) أحد وزراء خارجيتنا الأفاضل صرح لى بأنه لا يرى شيئا أكثر ضرورة من علم النفس للرجل السياسى فى أثناء قيامه بأمور وظيفته .  

 لا يعلم علم النفس أولى الأمر كيف يحاربون الأقدار التى تقيد حياة الأمم فقط بل يعلمهم أيضا كيف يسيرون الحوادث .

   ومع ما فى الإنسان من عجز عن تذليل المقادير الناشئة عن احوال لا سلطان له عليها ينتفع بها الرجل المحنك كما ينتفع الربان بالريح على رغم اتجاهه .   

 على هذا الوجه استطاع الألمان الذين رأوا زيادة الإنتاج والمزاحمة الخطرة من الأمور التى لا مفر منها أن يوجدوا نقابات إنتاج ليحولوا بها دون وقوعهم فى الأزمات الاقتصادية , وأما نحن فلعدم إدراكنا ضرورة التجمع الصناعى ترانا نقاتل بقوانين جائزة نقابات الإنتاج التى يساعدها إمبراطور ألمانيا .

   ترى ما يوجبه رجال السياسة الغافلون الأغرار من بلايا ومقدار احتياج البلاد إلى أعاظم الرجال الذين يعرفون كيف يقرأون المستقبل من ثنايا الحال ويذللون المقادير .

   فسياسة لا تبالى بغير الحال هى سياسة منحطة موجبة لأسوأ العوارض , ولا يكون النجاح فى عالم السياسة إلا ببعد النظر والتطلع إلى المستقبل .

   الصفات الخلقية هى التى تقوم عليها سيادة الأمة هى ضبط النفس والرزانة وتحمل التبعات والميل إلى الإتحاد والحزم والشجاعة , فإذا ضعفت هذه الصفات عجزت الأمة عن سياسة نفسها وعن منع الأمم الأجنبية عن التدخل فى شئونها .

   قلما تسيغ النفوس المبادئ لمجرد بيان صحتها , وإنما تهيمن عليها بعد أن تدخل بفعل التكرار فى أعماقها حيث تنضج بواعث السير والحركة .

روح السياسة 24

روح السياسة 24

القتل السياسى

   إن القتل السياسى – وقد كثر وقوعه هذه الأيام – مظهر من مظاهر الفوضى الاجتماعية الحاضرة وعنوان لاختلال نفسى عظيم . 

 وأكبر انطباع يوجبه القتل السياسى فى الجمهور عدم تأديته إلى نتيجة عملية , فسواء أقيصر روسيا كان المقتول أم ملك ايطاليا أم امبراطورة النمسا أم رئيس جمهورية فرنسا أم ملك البرتغال يدل الواقع على أنه ينصب فى الحال مكانه رجل آخر من دون أن يبدل شئ فى النظام الذى مثله المقتول ,وكثيرا ما يؤدى القتل السياسى إلى رد فعل مؤيد للنظام المذكور .

الاضطهاد الدينى

   الأحقاد الدينية أحد العوامل فى انتشار الفوضى الاجتماعية فى فرنسا .

   تجلت الاضطهادات الدينية على الخصوص فى فصل الكنيسة عن الدولة وفى قانون نزع أموال المحافل الدينية , جاهلين أن القوى الأدبية لا تقاتل بالعنف والقسر.

   وليست القوانين القائلة بنزع أموال الحافل الدينية طائشة بل هى تنم عن ظلم وحشى , وتدل على عجز عن فهم بعض قواعد الإنصاف , وقد أثبتت درجة ما توجبه القوانين المفسدة للأخلاق من فساد فى أخلاق الذين يطبقونها .

  نعلم أن الباعثعلى سن تلك القوانين هو حب القبض على مليار فرنك كان يظن أنه يعود على المحافل الدينية ثم توزيع قسم منه على العمال كرواتب تقاعد طمعا فى أصواتهم أيام الانتخابات , وقد كانت نتيجة ذلك أن المليار غاب عن الأبصار وزاد العمال حقدا على المجتمع , إذ لم تسفر تصفية أموال المحافل الدينية عن غير اثنى عشرمليونا من الفرنكات , وقد زاد الأمر ضررا نزع المعاهد والمؤسسات التى كانت المحافل الدينية تقوم بهامن يد هذه المحافل وتحميل الدولة واجب الإنفاقعليها من بيت المال .

   والأشخاص الذين استفادوا من تطبيق القوانين المذكورة هم مأمورو التصفية والمضاربون .
   وقد عرض الموسيو ( ويجيسمانسه ) تقريرا على مجلس الشيوخ فدعمه بأرقام موجبة للحزن , إذ ذكر أن بعض المحاكم منحت مأمورى التصفية مئة ألف فرنك أجرة على تصفية ستمئة ألف فرنك .   

 غير أن هذه المبالغ التى ابتلعها مأمورو التصفية وحماتهم لا تعد شيئا بجانب الأرباح التى نالها أرباب الصناعات من المزايدات التى لم تقع علنا , فقد ذكر الموسيو ( دوفيلين ) فى جلسة عقدها المجلس فى 14 كانون الثانى سنة 1909 أمثلة بارزة صحيحة على ذلك , ومنها ان رجلا اشترى دير ( بوا ) ب 2600000 فرنك فباعه على الفور بربح ثمانية ملايين فرنك,وأن رجلا آخر ابتاع دير ( وازو) بثمن دون ثمنه الحقيقى ثلاث مرات .

   ولا نجهل المواطآت التى أقامت مجلس النواب وأقعدته , فبالمواطآت قضت المحاكم لصديق من أصدقاء مأمورى التصفية بأن يدفع نصف مليون فرنك ثمنا لمصنع (شارتروز) وعلامته التجارية مع أن ثمنهما قدر رسميا بثمانية ملايين فرنك

   وأما الذين نزعت أموالهم فلم يفكر أحد فى أمرهم , فوقع أكثرهم فى بؤس شديد  
   فى خطبة ألقيت فى مجلس النواب ونشرتها الجريدة الرسمية ما يأتى : " أسأل رئيس الوزراء : من الذى سيطعم رجال الدين الذين جردهم موظفو التصفية من أموالهم وكيف ترون أن تقضوا حاجاتهم ؟       

 هم لا يمنحون رواتب تقاعد وليس لديهم شئ من وسائل العيش .  

 اليوم نعرف أن مليارات المحافل الدينية استعملت لطرد البنات القديسات وكثير من رجال الدين الذين كانوا لا هم لهم سوى عمل الخير وإغاثة البائسين وحماية الأولاد.

   ولا يسع أى رجل حر الضمير أن ينكر حيدان الدولة عن طريق العدل وسلوكها سبيلا مفسدا للأخلاق بنزعها أملاكا خاصة بالأفراد كمصنع ( شارتروز ) الذى أنشأه أناس بأموالهم وعملهم الشخصى , فنزع أموال الأفراد لمخالفة مبادئهم الدينية مبادئ أولياء الأمور عمل وحشى مخل بالأدب وقواعد الإنصاف .

   وعلى أى أساس يقوم المجتمع بعد أن بلغ فيه ازدراء الحقوق هذا المبلغ ؟ لذلك يرجع المجتمع إلى عصور الهمجية حيث لا حق لغير القوى .

   فالديانات عبارة عن قوى يجب الانتفاع بها لا هدمها , ولا يجوز أن يضطهدوا المعتقدات الأخرى .


  الديانات – وهى التى تورث النفوس آمالا كبيرة , وتدعم الضعفاء والمحرومين طيب العيش – ملجأ البائسين فى كل وقت , فنعد الخياليين الذين أوجدوا الآلهة وعبادتها من المحسنين إلى البشر , والعلم الذى عرفهم أخذ يعدل عن مقاتلتهم , ويعترف بشأنهم الكبير, فقد كانوا فى الماضى عوامل ثبات فى الأمم الخلقى , وهم إن كانوا سيتحولون فى المستقبل لن يزولوا ما دام البشريحتاج إلى الأمل . 

روح السياسة 23

روح السياسة 23

استفحال الجرائم
     أوجب انتشار الفوضى الاجتماعية زيادة الجرائم , ولا تخلو مطالعة ما دار حديثا فى البرلمان من المناقشات  حول الجرائم وعقوبة الإعدام من فائدة , فهى ترشدنا إلى السهولة التى يهذر بها أذكياء الخطباء عندما يتخذون السبل العاطفية دليلا لهم .    

  لقد أتوا بأدلة مختلفة لحماية القتلة من عقوبة الإعدام .

   الباعث على تلك المناقشات هو مسألة " التبعة " التى أثرت كثيرا فى سير العقوبات منذ خمسين سنة , واتضح أمرها الآن على وجه التقريب , فالتبعة لا تلحق المرء إلا إذا كان مريدا مختارا .

   الإنسان غيرمسئول عن أفعاله من الوجهة الفلسفية , ولكنه مسئول عنها اجتماعيا ,  احتاج الوقوف على الفرق بين التبعة الاجتماعية , وعدم التبعة الفلسفية إلى زمن غير قليل .


   يجب إنزال العقاب على المجانين وأشباههم إذا خرقوا حزمة القوانين الاجتماعية سواء مختارين كانوا أم غير مختارين , فإذا جاز ترك مبدأ التبعة الأدبية لا يجوز ترك مبدأ التبعية الاجتماعية , وإذا اقترف الجانى الجريمة , شاعرا كان أم غير شاعر فهو خطر ينبغى نفيه من المجتمع , فلولا التبعية الاجتماعية لما قامت حضارة ما .

   والحاجة إلى القتل للقتل نفسه تنمو ويشتد أمرها إذا لم يقض عليها بعنف , فهى ثمالة موروثة مستعدة للظهور فى كل حين
   ومع إن العقوبات فى انجلترا قصيرة المدة تطبق على المجرمين تطبيقا شديدا مؤثرا فى نفوسهم , فهم يكرهون على الشغل الشاق ويجلدون بسياط ذات تسعة أذناب .


   قللت هذه الطريقة عدد الجرائم فى انجلترا , وصارت لندن التى كانت تسكنها – كما بين الموسيو ( لاكاسان ) – عصابة من الأوباش لا تعرف هذه العصابة بعد أن جلد من قبض عليه من أفرادها وتشتتت .

   لقد سن نظام الجلد فى الدنمارك سنة 1905 عندما كثرت فيها الاعتداءات على الناس, وإنا لنرجو أن يدخل مشترعونا نظام العقوبات الجثمانية إلى فرنسا , بعد أن اثبتت التجارب تأثيره الحسن فى انجلترا , ودلت على أنه خير من اللبث فى السجن شهورا وسنوات . "


   وحينما تعيث عصابات الأشقياء فى الأرياف والحقول فسادا , ويتعذر على المرء أن يطوف فى باريس ليلا من دون أن يتقلد سلاحا , يفكر ولاة الأمور فى اتخاذ تدابير كافية للمدافعة عن أرواح الناس . 

ولكن عندما يقع ذلك فى وقت لا يكون فيه ما يكفى من قوانين العقوبات الشافية , ويكون كل امرئ مكرها على الدفاع عن نفسه يصول الشعب – كما صرح مقرر اللجنة القضائية فى مجلس النواب – صولة شديدة , فيشرع فى قتل الجناة من غير محاكمة .

   ومن العوامل فى زيادة الجرائم جبن قضاتنا الذين يخشون انتقام الجناة , ولا يشتدون إلا على النساء المذنبات ذنوبا طفيفة .

   ومن فوائد العقوبات الجثمانية أنها تذل من تطبق عليه أكثر من أن تؤلمه , فالوبش الذى يفتخر بالسجن حتى بالشنق لا يفتخربأنه جلد عشرين جلدة مثلا .

روح السياسة 22


روح السياسة 22


تطور الفوضى ومصارعة الانحلال الاجتماعى

   لم يكن القنصل ( مارسيوس سنسورينوس ) سلميا قائلا بالمذهب الإنسانى , بل كان ممن يعلمون نفسية الأعداء , فلما دنا من أبواب قرطاجة كانت أغنى مدن العالم القديم وأكثرها نضارة فى الفنون والتجارة ومحبى السلم , وبعد أن امتدح ( سنسورينوس ) لهؤلاء فوائد السلم , ولعن فظائع الحرب , قال لهم مستنتجا : " ألقوا سلاحكم وسلموها إلى , فستأخذ روما على عاتقها أمر حمايتكم . " 

فأجابوه إلى طلبه , ثم قال لهم سلمونى : " سلمونى سفنكم الحربية , فهى كثيرة عظيمة النفقة لا فائدة منها بعد أن تعهدت روما بالدفاع عنكم ضد أعدائكم . " ففعل المسالمون ما أشار به عليهم , وحينئذ قال لهم : " تحمدون على خضوعكم ولم يبق على إلا أن أطلب إليكم أن تقوموا بتضحية أخرى وهى أن روما – دفعا لكل عصيان – أمرتنى بأن أهدم قرطاجة , فهى تسمح لكم بالإقامة فى أى مكان تختارونه فى الصحراء على أن يبعد ثمانين درجة عن البحر . " هنالك أدرك القرطاجيون خطورة المذهب السلمى , وقد  حاولوا عبثا أن يدافعوا عن أنفسهم , فقرطاجة حرقت مع من فيها من السكان وغابت عن التاريخ .


   رئيس وزرائنا بعد اعتصام موظفى البريد أحدثت عندى هذا الظن خطبته التى ألقاها أمام تمثال ( غامبتا ) فقد جاء فيها : " أنه لا حق لغير الأقوياء , وليس المستقبل لغير ذوى الجرأة والإقدام , وكل مجتمع يحابى عصاة الموظفين جدير بازدراء الناس أجمعين , فقمع عصيانهم ضرورة تمليها سلامة الأمة . "

   ينبغى أن نعلم كيف ندافع عن أنفسنا غير خائفين , فالخوف سبب جميع الفتن الدامية وما ينشأ عنها من استبداد عسكرى .

   من أى شئ تتألف حكومة البلاد إنها لا تتألف فقط  من البرلمان الذى يسن القوانين , ولا من الوزارة التى تأمر بتنفيذها , بل أيضا من مليون من الموظفين الذين ينفذونها مباشرة والذين توزعت بينهم السلطة الحقيقية , فإذا رفع هؤلاء الموظفين راية العصيان اضمحلت الدولة , وإذا أمكن الاستغناء عن الوزراء فكيف يستغنى عن موظفى الحكومة البالغ عددهم مليونا ؟
   إن الأوهام هى التى تقيم الأمم وتقعدها وقد أثبت لنا التاريخ أنه يقتضى لزعزعة ما لبعض الأوهام من السلطان نشوب حروب تمتد قرونا كثيرة وسيل الدماء كالأنهار .


   وليس من الصعب أن يوفق بين المصالح , وإنما الذى يظل التوفيق بينه متعذرا هو الحقد والحسد الذان بذرهما الساسة فى الجماعات .

   لا يهتم الثوريون بالمستقبل البعيد وتنحصر عنايتهم فى تهييج العوام , الجموع لا تتعقل , وأنها لا تطيع غير ذوى القوة أوالنفوذ .

   ليس خطر الحركات الثورية بما توجبه من العنف فقط , بل فى الفوضى النفسية التى تنتشر بفعل العدوى بين جميع الطبقات أيضا .

   فمن أوصاف الأمم اللاتينية فى الوقت الحاضر فقدان الإرادة وانحطاط الخلق وبانحطاط الخلق لا بانحطاط الذكاء غابت الأمم العظيمة عن التاريخ كما هو معروف .

   لا تظهر الفوضى الاجتماعية بين طبقات المجتمع الدنيا وحدها , بل تظهر بفعل العدوى النفسية بين المحافظين أيضا .