17‏/08‏/2016

روح السياسة 20

روح السياسة 20

أغلاط  روح السياسة فى مادة الاستعمار


   المبادئ النفسية

 أنتقد المبادئ لا الرجال الذين يطبقونها , فمقتضيات السياسة لا النظريات هى التى تسوق ولاة الأمور .

   إن مسلمى الجزائر – ومنهم تتألف الأغلبية الساحقة فى بلاد الجزائر – من ذرية جميع الفاتحين الذين افتتحوا شمال أفريقية , ولو نظرنا اليوم إلى الأساس لرأينا ثلثيهم من البربر وثلثهم من العرب , والفرق بين القومين ضئيل جدا , فأحسن فارق لمسلمى الجزائر هو تقسيمهم إلى سكان بدو وسكان حضر, وسنرى خلافا لأحد آراء السادة أنه لا فرق فى انتساب العربوالبربر إلى هاتين الطبقتين .

   ويمكن تلخيص كتاب الموسيو ( لروا بوليو ) بكلمة واحدة وهى " حمل المسلمين على التفرنس " وبهذه الكلمة يعبرعن الآراء السائدة لفرنسا فى أمرالجزائر, فالنهج السياسى الذى اتبعناه حتى الآن لحمل المسلمين على التفرنسيشبه فى همجيته النهج الذى اتخذ من قبل الأمريكيين الأولين لإبادة أصحاب الجلود الحمراء, فقد كان أولئك ينزعون من أيدى هؤلاء أراضى الصيد تاركين لهم حرية الموت جوعا .


   كان على سياستنا أن تسعى فى حماية الدين الإسلامى , وأن تستند إلى أصحاب الطرق عند المسلمين , وأن تقوى علماء المسلمين وشيوخهم بدلا من أن تناهضهم وتضعف شأنهم , وقد دل المفوض الفرنسى الاول فى تونس على مقدرته , وعلى معرفته أمورالشرق عندما كان يدفع باى تونس إلى إصدار مراسيم دينية يبرر بها تدابيره فى عيون المسلمين , ولكن ما العمل وقد كافأناه باستعجالنا فى عزله من وظيفته . 

   ومن يود أن يحترم عادات العرب الدينية فليحترم جميع أنظمتهم , لأن هذه تشتق من تلك .
   ومن يقرأ ما كتبه ابن خلدون فى القرن الرابع عشر يعلم أن تقسيم البربرإلى أهل بدو وأهل حضرلا يختص بزماننا .

   طراز المعايش يكون بحسب البيئة يصدر ذنك الطرزان عن طبيعة الأرض لا عن العرق , ففى الصحارى الكثيرة الرمال نرى البربروالعرب أهل بدو , وفى القاع المخصبة نراهم أهل حضر , ولا فرق بين عرب الجزائروبين عرب مصر وسوريا وجزيرة العرب من هذه الجهة .

   وأهم اصلاح يراه الموسيو ( لروا بوليو ) هو تحريم تعدد الزوجات , وقد أسهب فى بيان فوائد الاقتصار على زوجة واحدة فقال : " إن تدبير لمنزل يقوم على الزوجة الواحدة فقط , فبتعدد الزوجات تزول روح العائلة وهناء البيت وينحط المجتمع العربى . "

   ولا أريد أن أبين هنا الأسباب التى جعلت الشرقيين يقولون بتعدد الزوجات وأن أذكر أن تعدد الزوجات الشرعى عند الشرقيين خير من تعدد الزوجات الخبيث المؤدى إلى زيادة اللقطاء فى أوربا , فعلى القارئ أن يطالع كتابى " حضارة العرب " , ففيه يجد إيضاحا كافيا لهذه المسائل وغيرها .

   وقد ثبت فى أيامنا أن توقف المسلمين لم ينشأ عن تعدد الزوجات , وهل من الضرورى أن أذكر أن العرب وحدهم هم الذين أطلعونا على العالم الإغريقى الرومانى , وأن جامعات أوربا – منها جامعة باريس – لم تعرف فى ستة قرون لها موردا علميا غير مؤلفات العرب وتطبيق مناهجهم ؟                      

  فحضارة العرب هى إحدى الحضارات التى لم يعرف التاريخ ما هو أكثرمنها نضارة , ولا نذكرأنها ماتت ككثير من أخواتها , غيرأننا نرى من السذاجة أن نعزو إلى مبدأ تعدد الزوجات نتائج صادرة عن عوامل أكثرأهمية , عجزناعن إدراك حاجات الشعوب الأجنبية , ومشاعرها وأفكارها ومن ثم عن حكمها .

   تاثير العرب العظيم فى الشرق أيام دولتهم , وتأثيرهم الآن فى أفريقيا والهند والصين , فقد أفلح العرب فى جعل الأمم التى اختلطوا بها تعتنق مقومات حضارتهم , أى دينهم ولغتهم وفنونهم , ويظهر أن الحضاة العربية ترسخ أينما حلت , فأمامها تقهقرت أديان الهند القديمة , وجعلت مصر الفراعنة التى لم يؤثر فيها الفرس والإغريق والرومان بلادا عربية من كل وجه , والآن نرى فى الهند خمسين مليونا وفى الصين عشرين مليونا من المسلمين , ويزيد هذا العدد كل يوم , ومع أنه يصيب زمر المبشرين الأوربيين إخفاقعظيم فى أفريقية يفتتحها الإسلام برمتها 

 قد يكون الأوربيون مستعمرين ماهرين , ولكن الأمة التى استطاعت بعد الرومان أن تمدن الشعوب الأخرى هى الأمة العربية , فالعرب وحدهم هم الذين استطاعوا بالحقيقة أن يجعلوا شعوبا أخرى تعتنق حضارة أمة غريبة عنها , أى دينها ونظمها وفنونها .

   الاختلاف بين مشاعرنا واحتياجاتنا وبين مشاعر الشرقيين واحتياجاتهم عظيم إلى الغاية , فلذا يتعذر تذليله فجأة .  

 وحضارتنا المطابقة لاحتياجاتنا لا تلائم احتياجاتهم , فهم لا يفتنون بحياتنا المفتعلة وهمومنا الدائمة وثوراتنا الكثيرة وحاجاتنا المصنوعة , وبما توجبه من عمل مستمر ولا يعيش عمالنا الموثقين فى عمل صعب والذين لا يعرفون من الحرية غير اسمها

   ومما استمال نظرى فى أثناء سياحاتى أن شاهدت متعلمى الشرق أقل افتتانا بحضارتنا حينما يزورون أوربا , ورأيت الجميع يعدون الشرقى أكثر سعادة أكبرشرفا وأحسن أخلاقا من الأوربى ما دام بعيدا منه , والنتيجة الواحدة التى تنجم عن تأثير حضارتنا فى الشرقيين هو أنها تفسدهم وتجعلهم تعساء .

   وما فتئت التجربة مستمرة منذ ذلك التاريخ , فالهند تحتوى اليوم على أربع جامعات أوربية 130000 مدرسة وثلاثة ملايين طالب , و ينفق على تلك المدارس أكثر من خمسين مليونا ثلثها على المدارس الابتدائية , والبقية على التعليم الثانوى والجامعات .

   إنها ترمى ألوفا من صغار الموظفين ليساعدوا الإنجليز على إدارة البلاد تلقاء رواتب قليلة إلى الغاية , وإلا اضطر الأنجليز إلى جلبموظفين من أوربا لا يقومون مقام الهنود إلا برواتب تفوق رواتب هؤلاء عشرين مرة .

   ونحن نصنع بعد كثير من المجهودات ما نسميه ابن المستعمرات المتعلم , إلا أن هذا الابن لا يلبث أن ينقلب علينا , فبدلا من أن يشكرلنا ما بذلناه من المساعى لتهذيبه تراه ينتقم لنفسه على ما بدر منا من التصدى لسجيته .

   إن التربية الأوربية بدلا من رفعها مستوى الهندوس الخلقى تخفضه خفضا يطلع عليه كل من يعاشرهم , فهى تحول صلاحهم وفضلاءهم إلى أناس خبثاء طمعاء فاقدى الضمير جبابرة مع أبناء بلادهم أذلاء نذلاء أمام سادتهم , وأن الهندى الذى قلما يكتسب مزايانا كثير الاستعداد لالتقاط معايبنا.

   ولماذا تلك النقائص الخلقية إلا فى من تخرج على الطريقة الأوربية من الهنود ؟ لأن تربيتنا التى لا تلائم مزاج الهنود النفسى تؤدى إلى تقويض ما أوجبته المؤثرات الإرثية فيهم من النتائج , وإلى زعزعة معتقداتهم القديمة الباعثة للسير فيهم , واستبدالها بنظريات مجردة , , ثم إنها تزيد احتياجاتهم من غير أن تمن عليهم بوسائل قضائها , ولما كانوا لهذا السبب لا يجدون فى المجتمع مكانا لهم ينقلبون أعداء على من منحوهم تلك التربية .


   وليس التعليم نفسه وإنما التعليم الذى لايلائم مزاج الأمة النفسى هو الذى يوجب تلك النتائج .
   فمن الحكمة أن لا نمس عمل الأجيال المتعاقبة إلا مسا خفيفا معتبرين بالزمان , ومن الصواب ألا نرتكب خطيئة الإسراع والمفاجئة فى ابتكار المراسيم السياسية والإدارية المناقضة للطبائع والعادات المتأصلة .

   لندع تلك البلاد النائية ولننظر إلى بلاد الجزائر التى هى أهم مستعمراتنا , 
وما رواه الموسيو ( بول دوما ) فى كتابه " فرانسيس أفريقية " : 
   أيام ضربت الجامعة أطنابها سنة 1868 فى بلاد الجزائر , رأى مطران الجزائرالموسيو ( لافيجيرى ) أن الفرصة قد حانت لتطبيق أسلوبه فى التبشير , فجمع عددا كبيرا من صبيان الجزائرالمتروكين لاطعامهم وتربيتهم , وقد نلنا من هذا العمل الخيرى درسا محزنا مفيدا فى آن واحد, فلما عدت منذ مدة قريبة من مدينة الجزائرإلى مدينة قسطنطين صادفت فى القطارقسيسا وجيها فكلمته فى أحوال الجزائر فرأيته قانطا من إصلاح العنصر العربى التعس , وقد دعم ادعاؤه بذكرمسألة أيتام الموسيو ( لافيجيرى ) حيث قال : " لقد جمع ذلك المطران أربعة آلاف صبى , فعادوا إلى الدين الإسلامى ما عدا مئة منهم ظلوا نصارى , ولهؤلاء أسوأ سمعة فى الجزائر , فقد اضطر كرام المستعمرين الذين استخدموهم إلى التخلص منهم بسرعة لاتصافهم بالاختلاسوالخمول وإدمان المسكرات , ثم خطر على البال أمرزواجهم فأحلوا قرى خاصة وأقطعوا أطيانا وجهزوا بأحسن جهاز , وقد أتوا بعد ذلك كله بأفظع الأعمال , ففى سنة 1880 قتلوا فى إحدى تلك القرى قسيسهم , فتأمل !

   فما من تربية تقدرعلى قهر النفوس أكثر من نظام الجندية , ولاشئ عندنا نستطيع أن ندغم العرب فى الفرنسيس أحسن من جمع الفريقين فى كتائب واحدة , وقد جربنا ذلك فعلا فجندنا العربفى كتائب الجزائر وجعلناهم تحت إمرة ضباط فرنسييين , فهل تفرنسوا بعد هذا الاختلاط المديد ؟  كلا , وإنا مع اعترافنا بأنهم جنود بسلاء نراهم يتخلصون من الطلاء الأوربى الضعيف دفعة واحدة بعد أن يخلعوا اللباس الرسمى عنهم .
   قال ذلك المؤلف : " بعد أن نسرح الجندى الجزائرى يلبس برنسه ويرجع إلى حوائه أو قريته ويقبل على أكل المفتول ( الكسكسو) ويتزوج ما يطيب له من النساء مؤمنا بأن الله واحد وأن محمدا رسوله وأن النصارى كلاب أبناء كلاب وأن المرأة من الدواب , فالجزائرى أقل الناس تفرنسا , وإذا اقتبس منا شيئا فنقائصنا ولا سيما نقيصة معاقرة الخمرة . "

   ولا أريد أن أذكركم الآن بأن سبب الانقلاب الأخير الذى أوشك أن ينزع بلاد الجزائر من أيدينا هو تجنيسنا يهود الجزائر دفعة واحدة بالجنسية الفرنسية .

   يدلنا البحث فى مختلف عناصر الحضارة , ولا سيما فى الأناظيم والمعتقدات والآداب واللغة والفنون على وجود تناسب بينها وبين طرز التفكير والشعور فى الأمة التى تعتنقها .

   وتتجلى الهوة العميقة بين الشرق والغرب فى الأنظمة على الخصوص , فالأنظمة السياسية والاجتماعية عند الشرقيين – عربا كانوا أم هنودا – تشتق من معتقداتهم الدينية , وأما فى الغرب فأشد الأمم تدينا قد فصلت بين معتقداتها وأنظمتها السياسية منذ زمن بعيد .

   شرائع الشرق دينية لا مدنية , والفرق بين شعوب الشرق وشعوب الغرب لم يكن فى المزاج النفسى والنظم والمعتقدات فقط , بل فى أدق أمور الحياة ولا سيما فى بساطة احتياجات شعوب الشرق بالنسبة إلى احتياجاتنا المعقدة .  

  واختلاف القابليات هو سر تفاوت الشعوب , ولا تقدرأى تربية على إزالة هذا التفاوت .

   سنن التطور الاجتماعى واجبة وجوب نواميس ذوات الحياة فالبذرة لا تصير شجرة والطفل لا يصبح رجلا , والحضارات لا تضحى رفيعة إلا بعد أن تنالها يد النمو التدريجى غير المحسوس , وليس من المتعذرأن نعكر على الأمم أمر تطورها بما نأتى به من عنف , كما أننا نقدر على الوقوف حيال نمو البذرة بكسرها إلا أننا لا نستطيع أن نبدل سنن ذلك التطور .

   ظن المؤرخون بعزوهم تفوق المسلمين الذهنى والمادى فى العالم إلى قوتهم المادية أنهم أصابوا كبد الحقيقة , فيرد عليهم بأن الحضارة الإسلامية استمرت على الانتشارزمنا طويلابعد زوال سلطة المسلمين , وبأن عدد المؤمنين بالقرآن بلغ فى الصين عشرين مليونا مع أنه لم يكن للمسلمين هيمنة على تلك البلاد فى وقت من الأوقات , وبأن عدد مسلمى الهند قد صارخمسين مليونا , أى أكثر منه أيام دولة المغول , ولا يزال عدد المؤمنين بالإسلام يزيد زيادة مطردة , وعلة ذلك أن القرآن والمبادئ التى تستنبط منه يلائم احتياجات الأمم المبتدئة لبساطته .

   يبذر المسلمون أينما مروا وحلوا ولو بصفتهم تجارا أنظمتهم ومعتقداتهم .

   ومهما كان الأمر لم تكن البلاد التى نود استعمارها وقت افتتاحنا لها ذات حضارة كحضارة اليابان السابقة , ولذا نقول أن آمالنا فى إدغام أى شعب أو حمله على التفرنس عبارة عن أوهام خطرة , فلنترك لأبناء المستعمرات عاداتهم ونظمهم وقوانينهم غير ساعين فى إلزامهم نظامنا الإدارى المعقد , ولنكتف بالوصاية عليهم 

   ويجب للوصول إلى هذا الغرض أن نققل عدد موظفينا فى المستعمرات , وأن نطالب ما يبقى منهم بدرس طبائع أبناء المستعمرات وعاداتهم ولغتهم درسا دقيقا , وأن نجعلهم فى حال يقدرون بها على اكتساب ما يلزمهم من النفوذ .

   ولا يتم النصر للمنطق العقلى إلا بعد عدد كبير من التجارب , فالمصائب وحدها هى التى تقدر على تنوير بصائر الناس المفعمة قلوبهم بالأوهام . 



0 التعليقات: