روح السياسة 25
قلما تسيغ النفوس المبادئ لمجرد بيان صحتها ,
وإنما تهيمن عليها بعد أن تدخل بفعل التكرار فى أعماقها حيث تنضج بواعث السير
والحركة .
النزاع الاجتماعى
شهرت نقابة العمال الاممية فى
السويد الحرب على المجتمع بإعلانها أمر الإضراب العام معتمدة على قوتها الكبيرة
وعلى إطاعة العمال إياها إطاعة عمياء , فشعر آنئذ كل فرد من أفراد المجتمع بأن
الوطن فى خطر , وبأنه يجب الدفاع ضج مطالب البرابرة الجدد .
أجل هذا كله اضطر أبناء الطبقة
الوسطى إلى الدفاع فحلوا من تلقاء أنفسهم محل العمال فى المصانع والمعاهد غير
طالبين إلى الحكومة شيئا .
وبعد ثلاثة أشهرمضت فى نزاع
قضى على الاعتصام الهائل مع ما بلته النقابة من الجهود العظيمة لإذلال المجتمع
ووضعه تحت نيرها .
وقد أسدت ( السويد ) بذلك الدفاع
المجيد أعظم خدمة إلى الحضارة , إذ علمت الطبقات القائدة كيف تدافع عن نفسها .
عندما تشعرإحدى طبقات المجتمع
بزيادة نفوذها تصبو فى الحال إلى استعباد الطبقات الأخرى .
زيادة النفوذ التى هى مقدمة
الابتلاع تقع عندما يزول التوازن بين عناصر المجتمع , وحياة الأمة كحياة الأفراد
لا تدوم إلا بتوازن قواها المتقابلة , فإذا اختل التوازن وقع المرض , وإذا استمر
الاختلال وقع الموت .
إذا المبدأ القائل بالمحافظة على
التوازن بين عناصر المجتمع وبعدم ترويج عنصر على حساب العناصر الأخرى مبدأ سياسى
أساسى .
إن أعمالنا الظاهرة فى الغالب
نتيجة قوى خفية لا نعرفها عادة إلا بآثارها , وهى لا تملى علينا أعمالنا فقط بل تملى
أيضا الأدلة الضرورية لايضاح هذه الأعمال .
وإذا دققنا فى عوامل السيرالتى تقود أولى الأمر منذ ثلاثين سنة فإننا نراها
ترد إلى ثلاثة وهى :
-
أولا : الخوف الشديد من الناخبين .
-
ثانيا : اضطهاد الأقليات لنيل الحظوة عند
الناخبين .
-
ثالثا : تأثير المبادئ الاشتراكية .
فلنبحث فى فعل هذه العوامل الثلاثة .
يتوقف مصيرنا على ما ستفكر فيه
الشبيبة وتقوله وتفعله , ولقد وصلت هذه الشبيبه إلى ميدان الحياة الاجتماعية فرأت
أمامها معتقدات الماضى منحلة , ودعائم المجتمع متداعية , وهى لما تجد مثلا أعلى
تدافع عنه وشاهدت سلسلة المراتب ونظم العائلة والملكية والوطن والجيش منثلمة
اعتقدت أن كل مجهود عقيم , واعتقاد مثل هذا سيقضى على الأخلاق التى صبر بها الناس
على الاضطهاد والعنف .
فسرعان ما
يصبح التعصب للشر قويا عندما لا يقاومه التعصب للخير .
ومع ها كله لم تزل شبيبة الطبقة
الوسطى خيرة أبناء الأمة لقبضها على زمام العلم والصناعة والآداب والفنون , بيد أن
الخيرة لا تبقى خيرة إذا فقدت ؟أخلاقها .
المقادير الحديثة وتبديد المقادير
يستدل على مقادير الجيل بالبحث
فى مبادئه الناظمة التى تسير عزائمه وتعين وجهته , وأين نجد هذه المبادئ ؟
لا نجدها فى الجماعات والجماعات
ذات شهوات لا مبادئ , وهل يظفر بها فى أرباب القلم الذين يؤلفون الكتب ويلقون
الخطب ؟ هؤلاء لا يعبرون فى الغالب عن غير المبادئ المسلم بها لاستهواء سامعى
خطبهم وقارئى كتبهم .
وعلى رغم صعوبة استنباط المبادئ
السائدة لأحد الأدوار قد يلم بها إلماما تقريبيا عند الاطلاع على تعاليم الأساتذة
المسموعى الكلمة .
للمقادير ثلاثة أنواع : النوع
الأول هو المقادير الطبيعية الثابتة كالهرم وحوادث الجو وسير الكواكب , فنحن وإن
كنا لا نقدر على تبديلها نستطيع أن نعين سننها ونخبر عنها قبل وقوعها ونحافظ على
أنفسنا إزاءها محافظة جزئية ,
والنوع الثانى وهو المقادير المتبدلة كالأوبئة والمجاعات التى كانت تودى
بحياة ملايين من البشر , فهذه المقادير تتبدد كلما تقدم العلم فحلل عناصرها وهاجم
كل واحد من تلك العناصر على انفراد .
والنوع الثالث هو المقادير المصنوعة , فالتاريخ حافل بهذه المقادير , وبنا
أن العلة بعد أن تتكون تأتى بنتائجها بحكم الضرورة كان من الصعب مقاتلة المقادير
المصنوعة , ويجب السيطرة عليها ومقاومتها بمقادير مصنوعة أخرى لا تقل عنا قوة ,
وهذا ما يفعله أعاظم الرجال .
والأغلاظ النفسية – وكذلك العجز
عن التنبؤ بالمستقبل – مصدر المقادير المهلكة الثقيلة الوطأة على كثير من الأجيال
.
الموسيو ( هانوتو ) أحد وزراء
خارجيتنا الأفاضل صرح لى بأنه لا يرى شيئا أكثر ضرورة من علم النفس للرجل السياسى
فى أثناء قيامه بأمور وظيفته .
لا يعلم علم النفس أولى الأمر كيف
يحاربون الأقدار التى تقيد حياة الأمم فقط بل يعلمهم أيضا كيف يسيرون الحوادث .
ومع ما فى الإنسان من عجز عن
تذليل المقادير الناشئة عن احوال لا سلطان له عليها ينتفع بها الرجل المحنك كما
ينتفع الربان بالريح على رغم اتجاهه .
على هذا الوجه استطاع الألمان
الذين رأوا زيادة الإنتاج والمزاحمة الخطرة من الأمور التى لا مفر منها أن يوجدوا
نقابات إنتاج ليحولوا بها دون وقوعهم فى الأزمات الاقتصادية , وأما نحن فلعدم
إدراكنا ضرورة التجمع الصناعى ترانا نقاتل بقوانين جائزة نقابات الإنتاج التى
يساعدها إمبراطور ألمانيا .
ترى ما يوجبه رجال السياسة
الغافلون الأغرار من بلايا ومقدار احتياج البلاد إلى أعاظم الرجال الذين يعرفون
كيف يقرأون المستقبل من ثنايا الحال ويذللون المقادير .
فسياسة لا تبالى بغير الحال هى
سياسة منحطة موجبة لأسوأ العوارض , ولا يكون النجاح فى عالم السياسة إلا ببعد
النظر والتطلع إلى المستقبل .
الصفات الخلقية هى التى تقوم
عليها سيادة الأمة هى ضبط النفس والرزانة وتحمل التبعات والميل إلى الإتحاد والحزم
والشجاعة , فإذا ضعفت هذه الصفات عجزت الأمة عن سياسة نفسها وعن منع الأمم
الأجنبية عن التدخل فى شئونها .
0 التعليقات:
إرسال تعليق