17‏/08‏/2016

روح السياسة 22


روح السياسة 22


تطور الفوضى ومصارعة الانحلال الاجتماعى

   لم يكن القنصل ( مارسيوس سنسورينوس ) سلميا قائلا بالمذهب الإنسانى , بل كان ممن يعلمون نفسية الأعداء , فلما دنا من أبواب قرطاجة كانت أغنى مدن العالم القديم وأكثرها نضارة فى الفنون والتجارة ومحبى السلم , وبعد أن امتدح ( سنسورينوس ) لهؤلاء فوائد السلم , ولعن فظائع الحرب , قال لهم مستنتجا : " ألقوا سلاحكم وسلموها إلى , فستأخذ روما على عاتقها أمر حمايتكم . " 

فأجابوه إلى طلبه , ثم قال لهم سلمونى : " سلمونى سفنكم الحربية , فهى كثيرة عظيمة النفقة لا فائدة منها بعد أن تعهدت روما بالدفاع عنكم ضد أعدائكم . " ففعل المسالمون ما أشار به عليهم , وحينئذ قال لهم : " تحمدون على خضوعكم ولم يبق على إلا أن أطلب إليكم أن تقوموا بتضحية أخرى وهى أن روما – دفعا لكل عصيان – أمرتنى بأن أهدم قرطاجة , فهى تسمح لكم بالإقامة فى أى مكان تختارونه فى الصحراء على أن يبعد ثمانين درجة عن البحر . " هنالك أدرك القرطاجيون خطورة المذهب السلمى , وقد  حاولوا عبثا أن يدافعوا عن أنفسهم , فقرطاجة حرقت مع من فيها من السكان وغابت عن التاريخ .


   رئيس وزرائنا بعد اعتصام موظفى البريد أحدثت عندى هذا الظن خطبته التى ألقاها أمام تمثال ( غامبتا ) فقد جاء فيها : " أنه لا حق لغير الأقوياء , وليس المستقبل لغير ذوى الجرأة والإقدام , وكل مجتمع يحابى عصاة الموظفين جدير بازدراء الناس أجمعين , فقمع عصيانهم ضرورة تمليها سلامة الأمة . "

   ينبغى أن نعلم كيف ندافع عن أنفسنا غير خائفين , فالخوف سبب جميع الفتن الدامية وما ينشأ عنها من استبداد عسكرى .

   من أى شئ تتألف حكومة البلاد إنها لا تتألف فقط  من البرلمان الذى يسن القوانين , ولا من الوزارة التى تأمر بتنفيذها , بل أيضا من مليون من الموظفين الذين ينفذونها مباشرة والذين توزعت بينهم السلطة الحقيقية , فإذا رفع هؤلاء الموظفين راية العصيان اضمحلت الدولة , وإذا أمكن الاستغناء عن الوزراء فكيف يستغنى عن موظفى الحكومة البالغ عددهم مليونا ؟
   إن الأوهام هى التى تقيم الأمم وتقعدها وقد أثبت لنا التاريخ أنه يقتضى لزعزعة ما لبعض الأوهام من السلطان نشوب حروب تمتد قرونا كثيرة وسيل الدماء كالأنهار .


   وليس من الصعب أن يوفق بين المصالح , وإنما الذى يظل التوفيق بينه متعذرا هو الحقد والحسد الذان بذرهما الساسة فى الجماعات .

   لا يهتم الثوريون بالمستقبل البعيد وتنحصر عنايتهم فى تهييج العوام , الجموع لا تتعقل , وأنها لا تطيع غير ذوى القوة أوالنفوذ .

   ليس خطر الحركات الثورية بما توجبه من العنف فقط , بل فى الفوضى النفسية التى تنتشر بفعل العدوى بين جميع الطبقات أيضا .

   فمن أوصاف الأمم اللاتينية فى الوقت الحاضر فقدان الإرادة وانحطاط الخلق وبانحطاط الخلق لا بانحطاط الذكاء غابت الأمم العظيمة عن التاريخ كما هو معروف .

   لا تظهر الفوضى الاجتماعية بين طبقات المجتمع الدنيا وحدها , بل تظهر بفعل العدوى النفسية بين المحافظين أيضا . 

0 التعليقات: