روح السياسة 22
تطور الفوضى ومصارعة الانحلال الاجتماعى
لم يكن القنصل ( مارسيوس سنسورينوس ) سلميا
قائلا بالمذهب الإنسانى , بل كان ممن يعلمون نفسية الأعداء , فلما دنا من أبواب
قرطاجة كانت أغنى مدن العالم القديم وأكثرها نضارة فى الفنون والتجارة ومحبى السلم
, وبعد أن امتدح ( سنسورينوس ) لهؤلاء فوائد السلم , ولعن فظائع الحرب , قال لهم
مستنتجا : " ألقوا سلاحكم وسلموها إلى , فستأخذ روما على عاتقها أمر حمايتكم
. "
فأجابوه إلى طلبه , ثم قال لهم سلمونى : " سلمونى سفنكم الحربية ,
فهى كثيرة عظيمة النفقة لا فائدة منها بعد أن تعهدت روما بالدفاع عنكم ضد أعدائكم
. " ففعل المسالمون ما أشار به عليهم , وحينئذ قال لهم : " تحمدون على
خضوعكم ولم يبق على إلا أن أطلب إليكم أن تقوموا بتضحية أخرى وهى أن روما – دفعا
لكل عصيان – أمرتنى بأن أهدم قرطاجة , فهى تسمح لكم بالإقامة فى أى مكان تختارونه
فى الصحراء على أن يبعد ثمانين درجة عن البحر . " هنالك أدرك القرطاجيون
خطورة المذهب السلمى , وقد حاولوا عبثا أن
يدافعوا عن أنفسهم , فقرطاجة حرقت مع من فيها من السكان وغابت عن التاريخ .
رئيس وزرائنا بعد اعتصام موظفى
البريد أحدثت عندى هذا الظن خطبته التى ألقاها أمام تمثال ( غامبتا ) فقد جاء فيها
: " أنه لا حق لغير الأقوياء , وليس المستقبل لغير ذوى الجرأة والإقدام , وكل
مجتمع يحابى عصاة الموظفين جدير بازدراء الناس أجمعين , فقمع عصيانهم ضرورة تمليها
سلامة الأمة . "
ينبغى أن نعلم كيف ندافع عن
أنفسنا غير خائفين , فالخوف سبب جميع الفتن الدامية وما ينشأ عنها من استبداد
عسكرى .
من أى شئ تتألف حكومة البلاد
إنها لا تتألف فقط من البرلمان الذى يسن
القوانين , ولا من الوزارة التى تأمر بتنفيذها , بل أيضا من مليون من الموظفين
الذين ينفذونها مباشرة والذين توزعت بينهم السلطة الحقيقية , فإذا رفع هؤلاء الموظفين
راية العصيان اضمحلت الدولة , وإذا أمكن الاستغناء عن الوزراء فكيف يستغنى عن
موظفى الحكومة البالغ عددهم مليونا ؟
إن الأوهام هى التى تقيم الأمم
وتقعدها وقد أثبت لنا التاريخ أنه يقتضى لزعزعة ما لبعض الأوهام من السلطان نشوب
حروب تمتد قرونا كثيرة وسيل الدماء كالأنهار .
وليس من الصعب أن يوفق بين
المصالح , وإنما الذى يظل التوفيق بينه متعذرا هو الحقد والحسد الذان بذرهما
الساسة فى الجماعات .
لا يهتم الثوريون بالمستقبل
البعيد وتنحصر عنايتهم فى تهييج العوام , الجموع لا تتعقل , وأنها لا تطيع غير ذوى
القوة أوالنفوذ .
ليس خطر الحركات الثورية بما
توجبه من العنف فقط , بل فى الفوضى النفسية التى تنتشر بفعل العدوى بين جميع
الطبقات أيضا .
فمن أوصاف الأمم اللاتينية فى
الوقت الحاضر فقدان الإرادة وانحطاط الخلق وبانحطاط الخلق لا بانحطاط الذكاء غابت
الأمم العظيمة عن التاريخ كما هو معروف .
لا تظهر الفوضى الاجتماعية بين
طبقات المجتمع الدنيا وحدها , بل تظهر بفعل العدوى النفسية بين المحافظين أيضا .
0 التعليقات:
إرسال تعليق