17‏/08‏/2016

روح السياسة 19

روح السياسة 19

الأوهام النقابية

   وفائدة هذه الجمعيات هى أنها تمنح منتسبيها قوة لا تكون للرجل وهو منفرد , ثم إنها تعفيه منملكة الاستقصاء وملكة العزم الشاقتين اللتين قل أن يتحلى بهما .

   ولنا فى التاريخ النقابى دليل ساطع على الحقيقة القائلة بأنه لا مزية فى الأنظمة ذاتها , وبأن تأثير هذه الأنظمة يختلف باختلاف الشعوب التى تعتنقها .

   ولم يمض على تأسيس جمعية اتحاد العمال سوى بضع سنوات حتى رأيناها تزعم أنها نقابة النقابات وإن كان لا ينتسب إليها غير خمسة فى المئة من عمال فرنسا , وبهذا تستدل على أن قوة المذهب ليست بعدد أنصاره .   


 كانت تلك الجمعية فى بدء الأمر تتراوح بين الضعف والقوة , وما أخذت تكون قوية إلا بعد أن صار على رأسها بضعة ثوريين أذكياء عالمين أن سلطة خفية نشطة متحلية بعدد قليل من المبادئ الثابتة لابد أن تصبح عظيمة بفضل ضعف الحكومة والفوضى العامة .

   عدد قليل من الرجال الحازمون يقدرون على تأسيس هيئة تفاوض الحكومة حسب قاعدة المساواة وتكره البرلمان على الإسراع فى سن قوانين تمليها عليه بتجبر . 

  والنفوذ فى عالم السياسة أمر ذو قيمة , ويكفى الزعيم فى بعض الأحيان جعله  الناس يعتقدون حيازته له , وتأسيس المرء لنفسه نفوذا شخصيا أمر كثير التعقيد , ويسهل إذا قامت به جماعة , فالناس يجادلون فى نفوذ الشخص ويعانون نفوذ الجماعة 
.   
ومن يستند إلى لجان الانتخاب وإلى جريدة وإلى عدد كاف من باعة المسكرات لا يمنعه مانع من أن يكون أحد سادة البلاد .

   ومهما كان الأمرفإن مستقبل المصالح السياسية والمصالح المهنية غير منوط بالمؤثرات الفردية , بل بلجان يقودها زعماء .

   وإلى ماذا تستند كفاءة أقلية متطرفة ؟ تستند إلى الغريزة وحدها . 


 وأما جموع العمال إنها تؤمن بكل ما تلقنه لعجزها عن التأمل والتفكير , ففى أيام الثورة تميل إلى الجهة المتصفة أفرادها بالجرأة والإقدام , وفى الأيام الاعتيادية تلزم جانب السكوت .

   حقا لا تستند سلطة جمعية اتحاد العمال إلى غير ضعف الحكومة , وهى لا تنمو إلا فى بلاد مثل فرنسا , ولا تعرف إنجلترا وأمريكا نظيرالحادثات التى ألمحنا إليها آنفا , ففى الولايات المتحدة يحكم على مقترفيها بسجن سنوات كثيرة لا يصيبهم فى أثنائها رحمة عفو , وفى إنجلترا لما كانت النقابات مسئولة عن الضرر الذى يوجبه أعضاؤها مسئولية مالية لا عهد لها بسياسة الهدم والتخريب .

   لا يعرف الفوضويون طريقة معقولة غيرطريقة التخريب والحرق .

   وأما العمال الذين هم أرقاء كثيرو الخضوع , فلا شئ يربحونه فى السبيل الذى يساقون إليه , وإنما ينالهم خسران كبير , وبيان الامر أن أجورهم تكون بحسبالاحوال الصناعية فى البلاد , فإذا لحق تجارة البلاد نقصان لا ينفعهم انتسابهم إلى نقابة فى زيادة أجورهم دانقا واحدا , وقد أخذ هذا النقصان يحدث , وسيزيد عندما يلجئ الخوف رؤوس الأموال إلى الهجرة إلى بلاد لا تذعر فيها باغتصابات شديدة , وتخريبات عنيفة وقوانين ظالمة كالتى ما فتئ البرلمان يسنها . 

ويجتنب مدافعو طبقات العمال الاعتراف بهذه الحقائق , وهم يعلمون على الخصوص أن العمال لا يحسنون حالهم بامتلاكهم ثروة الغير , بل بإتقان معرفتهم الفنية فالكفاءة هى قوة الجيل الحاضرولا شئ يعادلها .

   ولا ريب فى أن الحضارة تسعى – ومن سعيها ظهردستور الدول الكبيرة – فى إقامة المصلحة العامة مكان مصلحة الفرد والطوائف المتخاصمة .

  ومتى تثرلشعوب على قوانينها تكابد أهواء بعض الظلمة المستبدين الذين يظهرون أيام الفوضى ثم تقاسغزو الأجنبى بلادها .

  ويزيد الخصام بين النقابة الثورية والاشتراكية الحكومية , ولا فرق فى فساد هذين المذهبين , ولربما كانت النقابية أخف وطأة من الاشتراكية الحكومية , لتأديتها إلى تأليف طوائف مستبدة صغيرة متوازنة .

   وكلما ذهبت أخلاقنا وابتعدنا من فهم نواميس الكون العامة دنونا من معاناة أحد الاستبداديين , فلنتدبرعواقب الأمور .

   ولربما يدرك العمال فى آخر الأمر أن الفوضوية ليست مذهبا سياسيا بل مذهبا نفسيا خاصا بأناس منحلين منحطين فيعلمون أن طريقة تخريب الآلات وحرق المصانع وقتل الجنود من عمل المجانين الذى لا يتحسن به نصيب أحد .

   المصنع بصحبه , وبعدما أتى العلم فى الوقت الحاضربمبتكراته المعقدة صار أصعب شئ فى الصناعة ايجاد رؤساء لها لا جمع عمال يقومون بها , فسرعان ما يخرب المصنع الذى تم نجاحه على يد مديرماهرإذا تولت أمره أيد غير مجربة .


  الجماعات ذات كلف بما لا تفهمه , تكلف الثورات ثمنا غاليا وتنتج قليلا .
   لا يغيبن عن بالنا أن النقابية عدوة الاشتراكية , فلا تخافن ذلك النزاع المقدرالذى لم تجد الطبيعة وسيلة للرقى غيره . 

 وهل يخلو مكان من نزاع ؟ فالنزاع واقع بين أنواع الحيوان وبين الأمم وبين الأفراد وبين الجنسين وبين خليات الجسم الواحد , وما على المرء إلا أن يجيد الدفاع فى أثناء هذه المنازعات التى لا مناص منها .

0 التعليقات: