31‏/10‏/2016

ثروة الأمم 13

ثروة الأمم 13

وما إن يتراكم مخزون البضائع فى أيدى أشخاص معينين ، حتى يبدأ بعضهم بصورة طبيعية فى استعماله لتشغيل عمال مهرة جادين ، يمدونهم بالمواد وأسباب المعيشة، ليحرزوا مكسبا ببيع أعمالهم أو بما يزيده شغلهم من قيمة إلى قيمة المواد .

ولابد فى مبادلة المصنوعات الناجزة بالمال ، و بالعمل ، أو بسلع أخرى ، وعلاوة على ما يكفى لتسديد ثمن المواد ، وأجور العاملين ، من إعطاء شئ لربح المبادر إلى هذا الشغل ، أى ذاك الذى خاطر برأس ماله فى هذه المغامرة .


 وهكذا فإن القيمة التى يضيفها العاملون إلى المواد تنحل فى هذه الحال إلى قسمين ، أحدهما يوفى أجور العاملين ، والآخر أرباح رب العمل على كامل رأس مال

المواد والأجور التى قدمها ، وما كان لهذا الشخص أن يهتم بتشغيلهم لو أنه يتوقع من بيع ثمرة أعمالهم شيئا أكثر من مجرد تعويض رأس المال الذى خاطر به ، وما كان له أن يستخدم رأس مال كبيرا لا صغيرا ، لو لم يكن لأرباحه أن تتقايس نسبيا مع سعة رأس ماله .

   وربما ظن أحد ما أن أرباح رأس المال ليست إلا اسما آخر لأجور نوع مخصوص من العمل ، عمل التفقد والتدبير ، غير أنها تختلف اختلاف بينا ،
وهى تنتظم بأسس مختلفة تماما .

   وفى الكثير من الأعمال الكبرى يكاد معظم العمل المشابه لهذا يوكل إلى موظف رئيسى ، وتمثل الأجور التى يتقاضاها قيمة عمل التفقد والتدبير هذا خير تمثيل ، 

وعلى الرغم من أن ما يؤخذ عادة فى عين الاعتبار عند تقدير هذه  الأجور لا يقتصر على جده ومهارته بل على مدى أهليته للثقة الموضوعة فيه ، فإن هذه الأجور لا تتسم بأية نسبة منتظمة إلى رأس المال الذى يشرف على إدارته ، 

كما أن صاحب رأس المال هذا وإن كان قد أعفى نفسه من كل عمل تقريبا ، يظل يتوقع أن تتسم أرباحه بنسبة منتظمة إلى رأس ماله ، لذلك فإن أرباح رأس المال تشكل ، فى سعر السلع ، قسما مكونا مختلفا ، وتنتظم وفق مبادئ مختلفة تماما .


   وفى حال كهذه ، لا يكون كامل نتاج العمل دائما ملكا للعامل ، فعليه فعلا ، فى معظم الأحوال أن يتقاسمه مع مالك رأس المال الذى يستأجره . 

ثروة الأمم 12

ثروة الأمم 12

مع تقدم الصناعة ، وجدت الأمم التجارية أنه من الأنسب لها أن تسك القطع النقدية من عدة معادن ، الذهب للدفعات الكبرى ، الفضة للمشتريات المعتدلة القيمة ،  والنحاس أو سواه من المعادن الغليظة لذات القيمة الأدنى .

   فالرومان فيما يروى ، ما كانوا يعرفون إلا النقد النحاسى حتى ما يقارب الخمس سنوات قبل الحرب البونية الأولى ، كان الأس دائما اسم القطعة النقدية النحاسية ،

 أما كلمة سسترسيوس فكانت تعنى أسين ونصف الأس ، ومع أن السسترسيوس كان فى الأصل قطعة فضية ، فإن قيمته كانت تقدر بالنحاس .  

  فإن قيمة المعدن الأغلى تنظم قيمة القطع المعدنية كلها .

   فى دار سك العملة الإنجليزية يسك من زنة باوند الذهب أربعة وأربعون جنيها ونصف ، تساوى باعتبار واحد وعشرين شيلنغ الجنيه ، ستة وأربعين باوند ، وأربعة عشر شيلنغ ،

 وستة بنسات ، فالأونصة من هذه القطع الذهبية تساوى ثلاثة باوند ، وسبعة عشر شيلنغ ، وعشرة بنسات ونصف بنى من الفضة ، ولا يدفع أى ضريبة أو رسم على سك القطع الذهبية فى إنجلترا .

   ومع أن سك النقود مجانى فى إنجلترا ، غير أن الذهب المسبوك المحمول إلى دار سك العملة قلما يعاد قطعا نقدية إلى صاحبه قبل تأخير يطول عدة أسابيع ، وفى السرعة الحالية لدار سك العملة ، قد يجوز ألا تعاد إلا بعد تأخير يدوم عدة أشهر ، 

وهذا التأخير لا يساوى رسما زهيدا على السك ، ويجعل من الذهب المسكوك قطعا نقدية أثمن بصورة ما من كمية مماثلة من الذهب المسبوك .

   إن تفوق المسكوك على المسبوك يحول دون تذويب المسكوك ، كما يثنى عن تصديره ، ولئن اقتضت أية ضرورة عامة تصدير المسكوك ، فإن القسم الأكبر منه سيعود بعد فترة قريبة من تلقاء ذاته ، ففى الخارج ، لن يكون من الممكن بيعه ،

إلا لقاء وزنه مسبوكا ، وهو فى الداخل قادر على أن يبتاع أكثر من وزنه هذا .


 لذلك سيكون ثمة ربح فى إعادته إلى داخل البلد ثانية ، ففى فرنسا يفرض رسم قدره ثمانية فى المئة على سك النقود ، ولذلك فإن القطع النقدية الفرنسية متى صدرت تعود ، 

فيما يروى ، من تلقاء ذاتها إلى فرنسا . 

ثروة الأمم 11

ثروة الأمم 11

 فالغالى هو العزيز المنال ، أو الذى يكلف الحصول عليه كثيرا من العمل ، أما الرخيص فهو ما يسهل الوصول إليه ، أو الذى لا يكلف إلا القليل جدا من العمل ، فالعمل وحده ، 

غير المتغير فى قيمته الذاتية ، هو المقياس الحقيقى والنهائى الذى يمكن لقيمة كافة السلع أن تقارن به ، وأن تقارن فى كل الأزمنة والأمكنة ، إنه سعرها الحقيقى ، أما النقد فهو سعرها الإسمى فقط .

   يمكن أن يقال أن للعمل سعرا حقيقيا وسعرا إسميا ، فقد يقال إن سعره الحقيقى يتقوم بكمية ضروريات الحياة وكمالياتها التى تبذل بدلا عنه ، وإن سعره الإسمى يتقوم بكمية النقد .

   فالسعر الحقيقى نفسه له القيمة نفسها دائما ، ولكن نظرا إلى التغير فى قيمة الذهب والفضة ، فإن السعر الإسمى نفسه قد تكون له أحيانا قيم متفاوتة جدا .

   إن من شأن كميات متفاوتة من العمل أن تبتاع ، على تباعد الأزمنة ، بكميات من الحنطة أقرب إلى التساوى ، أى ما يقوم بمعيشة العامل ، من كميات متساوية من الذهب أو الفضة ،

 أو ربما أى نوع آخر من السلع ، فالكميات المتساوية من الحنطة تكون على تباعد الأزمنة ،

 أقرب إلى القيمة الحقيقية نفسها ، أو تمكن مالكها من أن يستحق أو يبتاع ما يقرب أكثر من نفس كمية عمل أفراد آخرين .


   ولكن قيمة الفضة ، وإن كانت تتغير كثيرا من قرن إلى قرن ، قلما تتغير كثيرا من سنة إلى سنة ، بل هى كثيرا ما تستمر على حالها ، أو قريبا جدا من حالها ، طيلة نصف قرن أو قرن من الزمان ، ولذا فإن السعر النقدى المتوسط أو المعتاد للحنطة قد يستمر على حاله أو قريبا من حاله ، 

خلال فترة طويلة كهذه من الزمان ، ومعه السعر النقدى للعمل ، شرط أن يستمر المجتمع ، على الأقل ، فى الوضع ذاته أو ما يقرب من الوضع ذاته فى سائر المجالات الأخرى . 

   فالعمل ، كما يبدو بوضوح هو المقياس الشامل والدقيق الأوحد للقيمة ، أو المعيار الوحيد الذى يمكننا بواسطته مقارنة قيم مختلف السلع فى كل الأزمنة والأمكنة .

فالحنطة ، من قرن إلى قرن ، مقياس أفضل من الفضة ، لأن كميات متساوية من الحنطة تبقى ، من قرن إلى قرن ، أقرب لأن تستحق كمية العمل نفسها مما تستحقها كميات متساوية من الفضة ، 

وعلى العكس ، فالفضة من سنة إلى سنة ، مقياس أفضل من الحنطة ، لأن كميات متساوية منها أقرب لأن تستحق كمية العمل نفسها .


   فالمال هو المقياس الدقيق للقيمة التبادلية لكل السلع ، فى الزمان نفسه والمكان نفسه . 

ثروة الأمم 10

ثروة الأمم 10

فى السعر الحقيقى والإسمى للسلع ، أو فى ثمنها 
       من حيث العمل وثمنها بالنقود

   يكون كل رجل ثريا أو فقيرا بقدر ما باستطاعته أن يتمتع بضروريات الحياة ، وكمالياتها ، وملاهيها ، فإن قيمة أية سلعة عند الشخص الذى يمتلكها ، والذى لا ينوى أن يبيعها أو أن يستهلكها بنفسه ، بل أن يبادلها بغيرها من السلع ، إنما تساوى كمية العمل الذى تخوله ابتياعها أو استحقاقها ، فالعمل إذا هو مقياس القيمة التبادلية الحقيقى للسلع كلها .

   السعر الحقيقى لكل شئ ، أى الكلفة الحقيقية لكل شئ بالنسبة إلى الشخص الذى يبتغى احتيازه ، إنما هو الجهد والعناء المبذول لاحتيازه .

 فهذا المال أو هذه السلع يعفياننا فى الواقع من هذا العناء ، وهما يحتويان على قيمة كمية معينة من العمل التى نبادل بها ما يفترض فيه عند المبادلة أن يحتوى على كمية مماثلة ، العمل الذى كان لثمن الأول . 

   الثروة ، كما يقول السيد " توماس هوبز" ، قوة ، ولكن الشخص الذى يكسب ثروة طائلة ، أو يفلح فى الوصول إليها ، لا يكتسب ولا يفلح بالضرورة فى الوصول إلي أية قوة سياسية ، لا مدنية ولا عسكرية .

أما القوة التى يمنحه إياها امتلاك  الثروة مباشرة وفورا إنما هى قوة الشراء ، أى استحقاق معين لكل العمل أو كل نتاج العمل الموجود حينها فى السوق .

   ومع أن العمل هو المقياس الحقيقى للقيمة التبادلية لكافة لسلع ، ولكنه ليس الشئ الذى تقدر به قيمة السلع عادة ، فمن الصعب ، فى كثير من الأحيان ، التثبت من النسبة بين كميتين مختلفتين من العمل لن يحدد بمفرده دائما هذه النسبة ، فالاختلاف فى كمية الجهد المبذول ، والبراعة المستعانة ، ينبغى أن يؤخذا أيضا فى الحسبان .   

  فقد يكون ثمة مزيد من العمل فى عمل ساعة من الشغل الشاق ، مما يوجد فى ساعتين من التجارة السهلة ، أو فى الانكباب ساعة على صنعة استغرق صاحبها عشر سنوات فى اكتسابها ، مما قد يوجد فى عمل شهر فى صناعة بادية للعيان ، ولكنه ليس من السهل إيجاد أى مقياس دقيق للمشقة أو للبراعة .    

 غير أن التبادل لا يتوازن جراء أى مقياس دقيق ، بل بالمساومة والإفراط فيها فى السوق ، وفقا لهذا اللون من التساوى التقريبى الذى وإن كان غير دقيق فهو كاف للمضى فى تصريف أمور الحياة العادية .

   علاوة على ذلك ، يتم تبادل كل سلعة عادة بالمقارنة مع سلع أخرى لا مع العمل ، ولكن عندما توقفت المقايضة ، وأصبح النقد أداة شائعة للتجارة ، صار من الأشيع مبادلة كل سلعة مخصوصة بالنقد لا بأية سلعة أخرى .


   ولكن الذهب والفضة ، ككل السلع الأخرى ، تتغير قيمتها صعودا فى أحيان ، وهبوطا فى أحيان أخرى ، فاكتشاف مناجم أمريكا الزاخرة خفضت ، فى القرن السادس عشر قيمة الذهب والفضة فى أوربا إلى ما يقارب ثلث ما كانت عليه من قبل ، ولما كان الإتيان بهذه المعادن من المنجم إلى السوق يكلف أقل ، فقد باتا يبتاعان أو يستحقان كمية أقل من العمل عندما كان يؤتى بهما إلى السوق ، وهذا الانقلاب فى قيمتهما ، وإن كان الأعظم فى ما يبدو ، ليس الانقلاب الوحيد الذى يعطينا التاريخ عنه فكرة ما .   

ثروة الأمم 9

ثروة الأمم 9

أصل النقد واستعماله

   عندما استقر تقسيم العمل ورسخ رسوخا تاما ، صار نتاج عمل الإنسان الخاص لا يلبى قسما ضئيلا من احتياجاته .

   ويقال إن الماشية ، فى العصور القديمة للمجتمع ، كانت وسيلة التجارة الشائعة ، فنحن نجد أن الأشياء كانت فى الأزمنة القديمة تثمن بعدد من رءوس الماشية التى بذلت بدلا عنها ، ويقول هوميروس إن ثمن درع ديوميد كان تسعة ثيران ، ينما كان ثمن درع غلوكس مئة ثور ،

 ويروى أن الملح هو وسيلة التجارة الشائعة فى الحبشة ، ومثله نوع من لأصداف فى بعض أنحاء ساحل الهند ، وسمك القد المجفف فى نيوفاوند لاند ، والتبغ فى فرجينيا ، والسكر فى مستعمراتنا الهندية الغربية ، وجلود الحيوانات المدبوغة أو غير المدبوغة فى بعض البلدان الأخرى .    
         
   وثمة حتى اليوم قرية فى اسكتلندا ، حيث مازال بعض أصحاب الصنائع يحملون فيما روى لى ، حفنة من المسامير بدلا من النقود إلى المخبز أو إلى بائع الجعة .


   ولكن يبدو أن الناس فى جميع البلدان قد عقدوا العزم جراء أسباب قاهرة ، على إيلاء الأفضلية فى هذا الاستعمال للمعادن دون سائر السلع ، فالمعادن ، فضلا عن كونها قابلة للحفظ بخسارة قليلة كأية سلعة أخرى ، إذ نادرا ما يوجد لها نظير غير قابل للتلف مثلها ، 

يمكنها أيضا أن تقسم من دون خسارة إلى أى عدد من الأجزاء ، كما يمكن لهذه الأجزاء أن تتحد عبر الصهر ثانية ، وهذه صفة لا تضارعها فيها أية من السلع الباقية الأخرى ، كما أنها الصفقة التى تجعلها ، أكثر من غيرها من الصفات ، أليق استعمالا فى التدوال والتجارة .

   وقد استعملت مختلف الأمم معادن مختلفة لهذه الغاية ، فالحديد كان أداة التعامل التجارى الشائع بين الإسبرطيين القدماء ، والنحاس كان متدولا بين الرومان ، والذهب والفضة عند الأمم الثرية والتجارية .

   ويبدو أن هذه المعادن قد استعملت أولا لهذا الغرض على هيئة سبائك غفل من دون ختم أو سلك .
   وكان استعمال المعادن فى هذا الوضع البدائى يقترن بعيبين كبيرين :

 أولا ، الإزعاج الناشئ عن تمحيصها ، تستلزم عملية الروز والوزن بدقة ، أوزانا وموازين دقيقة .

   ولابد أن الناس كانوا ، قبل اعتماد النقد المسكوك ، يتعرضون دائما لأكبر الاختلاسات والغرامات ، ما لم يلجأوا إلى هذه العملية العسيرة والمتعبة ، وبدلا من أن يحصلوا على زنة باوند من الفضة الصافية ، أو النحاس الصافى ، ربما حصلوا مقابل سلعهم على تركيبة مزيفة من أرخص المعادن وأخشنها ، مما عولج فى مظهره الخارجى  يشبه تلك المعادن . 

وللحؤول دون تجاوزات كهذه ، وتسهيل المبادلات ، وتشجيع كافة أصناف الصنائع والتجارة من خلال ذلك ، توصل الناس فى جميع البلدان التى خطت خطوات هامة على طريق التطور ، إلى ضرورة وضع ختم رسمى على بعض الكميات المحددة من المعادن المعينة التى يشيع فى هذه البلدان استعمالها لشراء السلع .

   إن الإزعاج والصعوبة الناجمين عن زنة هذه المعادن بدقة أفضيا إلى اعتماد النقود المعدنية التى كان يفترض فى الختم الذى يغطى وجهيها وأطرافها أحيانا ، أن يثبت وزن المعدن فيها فضلا عن نقاوته . لذلك كانت هذه النقود المعدنية تتداول عدا كما هى الحال اليوم ، ومن دون تجشم عناء وزنها .


   ويبدو أن هذه تسميات هذه النقود المعدنية كانت تعبر أصلا عن كمية المعدن التى تحتوى عليها ، كان الأس الرومانى أو البوندو يحتوى على باوند رومانى من النحاس الجيد ، وكان الباوند الإنجليزى الإسترلينى ، فى عهد إدوارد الأول ، يحتوى على باوند من الفضة ذات النقاوة المعروفة .    

 وكانت البنيز الإنجليزية ، والفرنسية ، والإسكتلندية تحتوى فى الأصل ، كلها على زنة بنى من الفضة ، أى جزء من عشرين الأونصة ، وجزء من مئتين وأربعين من الباوند ، كما يبدو أن الشيلنغ أيضا كان اسما لأحد الأوزان .


   أفضى بخل الملوك والدول صاحبة السيادة وجورهم واستهتارهم بثقة رعاياهم إلى تخفيض تدريجى لكمية المعدن الحقيقية التى كانت قائمة أصلا فى نقودهم المعدنية ، فالأس الرومانى اختزل فى أواخر أيام الجمهورية إلى جزء من أربعة وعشرين من قيمته الأصلية ،

 وبدلا من أن يزن باوند بات يزن نصف أونصة ، أما الباوند والبنى الإنجليزيان فيحتويان على ثلث قيمتهما الأصلية فحسب ، والاوند الإسكتلندنى على حوالى جزء من ستة وثلاثين جزءا ، والباوند والبنى الفرنسيان على جزء من ستو وستين جزءا من قيمتهما الأصلية .       

          
 وقد تمكن الملوك والدول ذات السيادة الذين قاموا بهذه العمليات ظاهريا من تسديد ديونهم والوفاء بالتزاماتهم ببذل كمية من الفضة أقل مما كان مطلوبا منهم ، كان ذلك ظاهريا فعلا ، ذلك لأن الدائنين قد قد احتلس جزء مما هو مستحق لهم ، وقد منح كافة الدائنين فى الدولة الامتياز ذاته وبات فى وسعهم أن يسددوا بالقيمة الاسمية للنقد المخفض الجديد كل ما كانوا قد اقترضوه بالنقد القديم .   

 وقد كانت عمليات كهذه دائما ملائمة للمديونين ، وهادمة لمصالح الدائنين ، وقد تسببت أحيانا بانقلابات فى مصائر الأفراد العاديين أشد وأعنف مما قد تتسبب به كارثة عامة هائلة .



   لابد من الإشارة أولا إلى أن لكلمة قيمة دلالتين ، فهى تعرب أحيانا عن منفعة شئ معين ، وأحيانا تدل على القدرة على شراء سلع أخرى تمكننا منها حيازة هذا الشئ ، فالأولى قد تسمى " قيمة استعمالية " ، والأخرى " قيمة تبادلية " . 

فالأشياء ذات القيمة الاستعمالية الكبرى غالبا ما تكون لها قيمة تبادلية قليلة أو معدومة ، وبالعكس ، فالاشياء ذات قيمة التبادلية الكبرى غالبا ما تكون قيمتها الاستعمالية قليلة  أو معدومة 

 لا شئ أنفع من الماء : ولكنه لا يكاد يشترى به شئ ، ولا يكاد يبادل به شئ ، وعلى العكس ، فالجوهرة لا تكاد تكون لها أية قيمة فى الاستعمال ، ولكنيمكن فى كثير من الأحيان لكمية كبيرة من السلع الأخرى أن تبادل بها . 

ثروة الأمم 8

ثروة الأمم 8

فى أن تقسيم العمل محدود بسعة السوق

   فعندما يكون السوق صغيرا لا يجد الشخص أى حافز يدفعه لينذر نفسه كليا لشغل واحد ، وذلك لافتقاد القوة لمبادلة كل ما يزيد عن إنتاج شغله الخاص ،

 الفائض عن استهلاكه الخاص ، مقابل ما يحتاج إليه من بعض منتجات شغل الآخرون .

   من ذلك أن النجار الريفى يشتغل فى أى نوع من الأشغال الخشبية ، والحداد الريفى يشتغل فى أى نوع من الأشغال الحديدية ، فالأول ليس مجرد نجار فحسب بل صانع أثاث ، وحفار خشب ، وصانع عجلات ومحاريث ، وعربات نقل وشحن ، كما أن أشغال الثانى أكثر تنوعا .

   معلوم أنه يفضل النقل المائى ، تقام سوق لكل أصناف الصنائع أوسع من السوق المعتمدة على النقل البرى .        

  فعربة الشحن العريضة العجلات التى يقودها رجلان ، وتجرها ثمانية أحصنة تذهب فى حوالى ستة أسابيع وتعود بحوالى أربعة أطنان من السلع بين لندن وإدنبره ، وفى ما يقارب من المدة نفسها يبحر مركب يقوم بأمره ستة أو ثمانية بحارة بين ميناءى لندن وليث ،
 حاملا مئتى طن من السلع جيئة وذهابا ، وهكذا ، يستطيع ستة أو ثمانية رجال وبفضل النقل المائى ، أن يأخذوا ويعودوا بنفس كمية السلع بين لندن وإدنبره ، مقدار ما تنقله خمسون عربة شحن عريضة العجلات ، يقودها مئة رجل ، ويجرها أربعمائة حصان ،

 فعلى مئتى طن من السلع المنقولة بواسطة أرخص وسيلة شحن برى من لندن إلى إدنبره ، ينبغى أن تفرض كلفة مئة رجل مدة ثلاثة أسابيع ، مضافا إليها كلفة استهلاك أربعمئة حصان وخمسين عربة شحن كبيرة ، مقابل ذلك ، لا يفرض على نقل الكمية نفسها من السلع بوسيلة الشحن المائى إلا كلفة ستة أو ثمانية رجال ، واستهلاك مركب حمولته مئتا طن ، إضافة إلى قيمة المخاطرة العليا ، أو فرق كلفة التأمين بين النقل البرى والبحرى .       


  ولذلك ، فلو لم يكن من وسيلة نقل بين هذين الموضعين إلا الوسيلة البرية ، بحيث لايمكن أن ينقل من السلع بينهما إلا تلك التى يكون ثمنها غاليا جدا بالقياس إلى وزنها ، إذا لامتنع عليهما أن يحافظا إلا على قسم صغير من التجارة القائمة بينهما حاليا ، ولن يستطيع أى منهما أن يقدم للآخر إلا القليل من التشجيع الذى يقدمه حاليا كل منهما لصناعة الآخر ، وسوف تعدم التجارة ، مهما كان نوعها ، أو تكاد بين الأجزاء المتباعدة فى العالم .


   استنادا إلى أوثق التواريخ ، فإن الأمم التى تمدنت أولا ، كانت تلك التى قامت حول البحر المتوسط .


   ومن دون سائر البلدان الواقعة على البحر المتوسط ، كانت مر هى البلد الأول الذى عنى بالزراعة والصنائع وتطويرهما إلى حد معقول .      

  وفى مصر السفلى يتفرع هذا النهر العظيم إلى العديد من الأقنية التى أتاحت مع شئ من الابتكار ، النقل المائى ، لا بين المدن الكبر فحسب ، بل وبين القرى الكبرى ، وحتى العديد من المزارع المتناثرة فى الريف .   

 ومن اللافت أن المصريين القدماء لم يشجعوا التجارة الخارجية ولا شجعها الهنود ، 
ولا الصينيون ، بل يبدو أنهم جميعا قد استمدوا ثرواتهم العظيمة من هذه الملاحة الداخلية . 

ثروة الأمم 7

ثروة الأمم 7

            فى المبدأ الذى يتيح نشوء تقسيم العمل

   أن تقسيم العمل هذا الذى تفرع عنه العديد من المزايا لم يصدر فى الأساس عن أية حكمة إنسانية كانت تتوقع تلك الثروة التى تسبب بها تقسيم العمل ولا كانت تقصدها ،

 بل هو نتيجة ضرورية ، وإن كانت بطيئة وتدريجية لميل معين فى الطبيعة البشرية لا يتطلع إلى فوائد موسعة كهذه ، إنه الميل إلى المفاوضة ، ومقايضة شئ ما لقاء شئ آخر والمبادلة به .

   فقد يظهر على كلبى صيد يطاردان الأرنب البرى نفسه أنهما يعملان وفق اتفاق ما ، فكل واحد منهما يطرده نحو رفيقه ، أو يحاول اقتناصه عندما يطرده رفيقه نحوه ، بيد أن هذا ليس ناتجا عن أى عقد أو تفاهم ، بل عن مجرد تضافر أهوائها ، صدفة واتفاقا ، 

على الهدف نفسه فى هذا الوقت عينه ، ولم ير أحد قط كلبا يتبادل ، عمدا وطوعا ، عظمة بعظمة أخرى مع كلب آخر .

   فى معظم الأنواع الحيوانية الأخرى ، يصبح كل فرد ، متى بلغ أشده ، مستقلا تماما ولا يحتاج فى حالته الطبيعية إلى مساعدة أى كائن آخر ، أما الإنسان فيكاد يحتاج باستمرار إلى مساعدة إخوته .    

 أعطنى ما أريده تحصل على هذا الذى تريده ، ونحن عندما نتوجه إلى الآخرين لا نخاطب إنسانيتهم بل أنانيتهم ، ولا نتكلم إليهم عن احتياجاتنا الخاصة بل عن منافعهم ،

 ولا يختار الاعتماد بصورة أساسية على أريحية مواطنيه إلا المتسول .

   الاستعداد للمقايضة نفسه هو الذى يخلق الداعى إلى تقسيم العمل ، من ذلك أنه فى صفوف قبيلة من الصيادين والرعاة ، يتوصل شخص معين إلى صنع أقواس وسهام بمهارة وقدرة تفوق سواه ، وهو غالبا ما يبادلها مع رفاقه بالمواشى أو لحوم الغزلان ، 

ثم يدرك فى النهاية أنه يستطيع أن يحصل بهذه الطريقة على كمية من المواشى أو لحوم الطرائد أكبر مما لو خرج بنفسه إلى البرارى ليحصل عليها ، ومن قبيل الاهتمام بمصلحته الخاصة إذا ، يصبح صنع الأقواس والسهام شيئا فشيئا صنعته الرئيسية ، ويغدو صانع أسلحة .

   وهكذا فإن التأكد  من مبادلة كل ذلك القسم الزائد من إنتاج عمله ، والفائض عن استهلاكه الخاص ، لقاء أفسام زائدة كهذه من إنتاج أعمال آخرين ،

 حسبما تدعو الحاجة إلى ذلك ، يشجع كل رجل على الانكباب على شغله الخاص ، وترقية ما قد يمتلكه من فطرة أو موهبة لهذا النوع الخاص من الشغل وبلوغ غاية الكمال فيه . 

ثروة الأمم 6


ثروة الأمم 6



كل صاحب صنعة يمتلك كمية من مصنوعاته ليتصرف بها أكثر مما تقتضيه حاجته الخاصة ، 
مما يمكنه من مبادلة كمية كبيرة من مصنوعاته بكمية كبيرة من مصنوعات غيره أو بما يوازى ثمنها ، فهو يمد الآخرين بكل ما يحتاجون إليه ،

 وهم يمدونه بالوفرة نفسها مما يحتاج إليه هو ، وتنتشر بذلك وفرة عامة فى مختلف مراتب التجمع .

   دعنا نقصر نظرنا على ما لابد منه من تنوع الأعمال لصنع تلك الآلة البسيطة جدا ، المجز الذى يجز به الراعى الصوف .

 فلابد من تضافر صنائع عامل المنجم ، وبانى الأتون لصهر الركاز ، وبائع الخشب ، ومحرق الفحم المستعمل فى المصهر ، وصانع اللبن ، والبناء ، والعمال القائمين على الأتون ،
 وبانى الطاحون ، والحداد ، لإنتاجها ، ولو تفحصنا بالطريقة نفسها ، مختلف أجزاء لباسه وأثاث بيته ، والقميص الكتانى الخشن الذى يلتصق بجلده ، والحذاء الذى ينتعله ،

 والسرير الذى يرقد عليه ، وكل الأجزاء المختلفة التى تكونه ، وموقد مطبخه الذى يعد عليه طعامه ، والفحم الذى يستخدمه لهذا الغرض ، والمستخرج من أحشاء الأرض ، والمجلوب له عبر سفر بحرى أو برى طويل ، وبقية أدوات مطبخه ، ولوازم مائدته ، 

والسكاكين والشوك ، والأوانى الفخارية أو المعدنية التى يقدم عليها طعامه أو يقسمه ، ومختلف الأيدى المستعان بها لإعداد خبزه وجعته ، والنافذة الزجاجية التى تمرر الحرارة والضوء إلى الداخل وتقيه لفح الريح والمطر ، مع كل المعرفة والفن الضروريين لإعداد هذا الاختراع الجميل والسعيد ، الذى لولاه لما استطاعت هذه المناطق الشمالية من العالم أن تحصل على مساكن مريحة ، علاوة على أدوات مختلف الصناع المستعان بهم لإنتاج هذه الحاجات المختلفة .    


  أقول ، إذا تفحصنا ، كل هذه الأشياء ، ونظرنا فى تنوع العمل المستعان به لإتمام كل منها ، أدركنا أنه من دون مساعدة وتعاون عدة آلاف فإن أدنى الأشخاص مرتبة فى بلد متمدن لن تلبى حاجاته .