عن الحرب 29
آثار الانتصار
مقياس
النصر لا يتصاعد بسساطة وبمعدل يتناسب والزيادة فى حجم الجيوش المندحرة ، بل يتجاوزها
بكثير .
والتأثير النفسى لمعركة كبرى على الطرف الخاسر أكبر بكثير مما على المنتصر
، وهذا التأثير النفسى يتسبب بدوره بإحداث خسائر مادية إضافية ، تترك صداها فى
انهيار المعنويات وهكذا يصبح هذان العاملان ( المادى والمعنوى ) متبادلى التأثير
حيث يؤكد ويضاعف أحدهما الآخر .
لذا لابد للمرء من أن يؤكد وبشكل خاص على التأثير
المعنوى الذى يعمل واتجاه معاكس لدى الجانبين ، فبينما توهن قوى الخاسر ، تضاعف من
نشاط وطاقات المنتصر .
أما
بالنسبة للمنتصر فعلى العكس من ذلك ، إذ تسهم كل تلك العوامل فى مضاعفة قوة ونطاق
شجاعته . وما سيحدث هو أن معيار الخسارة سيتجاوز هبوطا ، حدود التوازن والاستقرار
الأولية كثيرا أى الانهيار التام الذى يفوق وبقوة الفعل العكسى فى صعود المنتصر
فوق تلك الحدود .
لهذا السبب نهتم وبشكل خاص عند البحث فى آثار الانتصار ، فى تلك
الآثار والجوانب التى تعلن عن نفسها صراحة فى الطرف المندحر .
تزداد
تلك الآثار حجما بعد عملية واسعة النطاق بنسبة أكبر مما لها بعد ، عملية صغيرة ،
كما تزداد كثيرا بعد معركة كبرى عما عليه الحال بعد اشتباك ثانوى .
فالمعركة الكبرى توجد لذاتها ، وللمنتصر فهى
المعركة التى يريد ، والتى يبحث عنها بالوسائل التى توفر له أقصى قدر من الجهد .
فدحر العدو فى هذا المكان ، وفى هذا الوقت هو الغاية التى تلتقى عندها حبال وأسلاك
خطة الحرب ، وتتوحد عندها كل الآمال والمطامح البعيدة ، والأفكار غير الواضحة عن
المستقبل . فهنا يعطينا القدر جوابا لسؤالنا الجرئ .
وهذا ما يسبب التوتر المتزايد
ليس لدى القائد ، بل فى كل الجيش، نزولا حتى آخر سواقى العجلات ، وإن كان بدرجات
ضئيلة دون ريب ، ولكن بأهمية وانعكاسات من نفس النوع كذلك .
أما
المعارك الكبرى ، وفى جميع العصور ، وتحت أية ظروف ، فلم تحدث بشكل مرتجل ، أو
صدفة ودون توقع ، أو كمجرد تنفيذ حرفى ودون معنى خاص ، لواجب عسكرى .
بل
إنها حدث عظيم جلل ، يتجاوز كثيرا حدود وأبعاد الحياة اليومية الرتيبة وذلك عائد
لما تستحقه المعركة بذاتها فى جزء فيه ، وإلى أن القائد قد أعدها وخطط لها بشكل
يصعد كثيرا من التوتر النفسى العام .
وكلما زادت درجة ترقب وتعلق النتيجة وما يتعلق بها كلما ازداد تأثير ذلك .
النتيجة ستحسم بالمجموع الكلى للقوتين المادية والمعنوية ، وأكثر مما بمجرد
انفتاح وترتيب القطعات أو بالصدفة .
عندما
يخسر المرء ، فأول شئ يصدم خياله ، بل وعقله كله هو ضخامة وسرعة ذوبان الأفراد .
يلى ذلك خسارة الأرض .
يأتى بعد ذلك إنهيار خط المعركة الأصلى ، وارتباك وفوضى الوحدات ، والمخاطر
المتأصلة فى التراجع . ثم يأتى الانسحاب نفسه ، الذى يبدأ عادة فى الظلام ، أو
الذى يستمر وعلى أية حال خلال الليل . وحالما يبدأ ذلك يتوجب عليك أن تترك خلفك
الكثير من المشردين وحشودا من الرجال المنهكين ، ومن بينهم أكثر المقاتلين شجاعة –
الذين جازفوا بحياتهم واندفعوا إلى أقصى الأمام ، أو صمدوا فى مواضعهم حتى النهاية
.
الاحساس
بالهزيمة وتفاقم مخاطر هذا الاحساس بالفكرة المرعبة لترك العديد من رفاق السلاح
والأخوة الأعزاء بين براثن العدو ، هؤلاء الرجال الذين تظهر قيمتهم الحقيقية
الرفيعة خصوصا فى الساعات الحرجة وعند اشتداد أتون المعركة . وهناك ما هو الأسوأ من كل ذلك ، وهو فقدان
الثقة المتزايد فى القيادات العليا . والأسوأ من كل ذلك بعد هو الاحساس بأن
اندحارنا لم يكن مجرد كابوس مر فى المنام ، بل إنه أصبح واقعا ملموسا ، مؤكدا لنا
أن العدو هو الأقوى .
انها
حقيقة لعل المرء يحس بها ويدركها طوال الوقت ، ولكن لعدم توفير بديل صلب ( لإلغاء
أثرها ) يقاوم هذا الإدراك بقوة الثقة بالأمل والصدفة والحظ الحسن ، والرحمة
الالهية ، وأخيرا بالاعتماد على جرأته وشجاعته هو ، إلا أنه يحس الآن ، أن كل تلك
القوة ليست مجدية له فى موقفه ، وها هى الحقيقة المرة تسحقه بقسوة ودون رحمة
.
لن
يصاب جيش يمتلك روحا حربية بذعر أبدا عند اندحاره . وواصل العدو الضغط من أجل
مكاسب أكبر ومجد أروع ، فليس إلا قائد جيد ومقدام مع جيش بمعنويات عالية ، وروح
قتالية فذة تعززت واشتدت بخبرات وتجارب العديد من المعارك والحملات ، قادران على
صد هذا السيل الجارف وإيقاف اندفاعه إلى الحدود التى يمكن إيقاف المد فيها بمصدات
صغيرة ولكنها قوية وعديدة حتى لن يعود للقوة ( المهاجمة ) أمل كبير بالنصر وتبدأ
باستهلاك نفسها .
أما
آثار كل ذلك خارج الجيش – بين صفوف الشعب والحكومة – فانهيار لمعظم الآمال
والتوقعات ، وتحطم تام للثقة بالنفس ، الأمر الذى يترك فراغا سيملأه الخوف المحطم
الذى يمتد سريعا ليكمل حالة الشلل .
وبدلا
من ردود فعل حاسمة وشجاعة تتمثل ببذل جهود فورية وعزومة من قبل أى كان للصمود
وإيقاف المزيد ن التدهور ، يسود وعلى العكس جو من اليأس والخوف من لا جدوى ولا أمل
بأى جهد من هذا الاتجاه . وسيتردد الرجال حيث يتطلب الأمر عملا سريعا وحاسما ، بل
وقد ينهارون بحال من القنوط والشلل ويتركون الأمر كله للمقادير .
تعتمد
نتائج وعواقب الانتصار وتأثيراته هذه على المسار المستقبلى للحرب ، جزئيا على
شخصية وكفاءة القائد المنتصر ، لكنها تعتمد فى قسمها الأعظم على الظروف التى أدت
إلى انتصاره ، وعلى الظروف التى أنشأها الانتصار بدوره .
فما لم يكن القائد شجاعا
ومقداما فلا يمكن توقع أى نتائج عظيمة حتى من أروع الانتصارات ، بل يمكن أن يتحول
ذلك إلى شئ عديم الفعالية بسرعة ، بفعل ظروف رئيسية معاكسة .
تفترض
كل الحروب مسبقا وجود الضعف الانسانى ، وتسعى جادة للاستفادة منه ،
أما التساؤل
عما إذا كان الاندحار فى معركة كبرى سيشكل قوة دفع لاستثارة و إيقاظ قوى كانت لولا
هذا الاندحار ستظل فى سبات ، فذلك أمر آخر .
إلا أن إيقاظ أو تحريك ردود فعل شديدة
كهذه يظل أمرا خارج النطاق وتحديدات فن الحرب .
0 التعليقات:
إرسال تعليق