16‏/10‏/2016

عن الحرب 29

عن الحرب 29


آثار الانتصار

   مقياس النصر لا يتصاعد بسساطة وبمعدل يتناسب والزيادة فى حجم الجيوش المندحرة ، بل يتجاوزها بكثير . 

والتأثير النفسى لمعركة كبرى على الطرف الخاسر أكبر بكثير مما على المنتصر ، وهذا التأثير النفسى يتسبب بدوره بإحداث خسائر مادية إضافية ، تترك صداها فى انهيار المعنويات وهكذا يصبح هذان العاملان ( المادى والمعنوى ) متبادلى التأثير حيث يؤكد ويضاعف أحدهما الآخر . 

لذا لابد للمرء من أن يؤكد وبشكل خاص على التأثير المعنوى الذى يعمل واتجاه معاكس لدى الجانبين ، فبينما توهن قوى الخاسر ، تضاعف من نشاط وطاقات المنتصر .

   أما بالنسبة للمنتصر فعلى العكس من ذلك ، إذ تسهم كل تلك العوامل فى مضاعفة قوة ونطاق شجاعته . وما سيحدث هو أن معيار الخسارة سيتجاوز هبوطا ، حدود التوازن والاستقرار الأولية كثيرا أى الانهيار التام الذى يفوق وبقوة الفعل العكسى فى صعود المنتصر فوق تلك الحدود . 

لهذا السبب نهتم وبشكل خاص عند البحث فى آثار الانتصار ، فى تلك الآثار والجوانب التى تعلن عن نفسها صراحة فى الطرف المندحر .

   تزداد تلك الآثار حجما بعد عملية واسعة النطاق بنسبة أكبر مما لها بعد ، عملية صغيرة ، كما تزداد كثيرا بعد معركة كبرى عما عليه الحال بعد اشتباك ثانوى .

    فالمعركة الكبرى توجد لذاتها ، وللمنتصر فهى المعركة التى يريد ، والتى يبحث عنها بالوسائل التى توفر له أقصى قدر من الجهد . فدحر العدو فى هذا المكان ، وفى هذا الوقت هو الغاية التى تلتقى عندها حبال وأسلاك خطة الحرب ، وتتوحد عندها كل الآمال والمطامح البعيدة ، والأفكار غير الواضحة عن المستقبل . فهنا يعطينا القدر جوابا لسؤالنا الجرئ . 

وهذا ما يسبب التوتر المتزايد ليس لدى القائد ، بل فى كل الجيش، نزولا حتى آخر سواقى العجلات ، وإن كان بدرجات ضئيلة دون ريب ، ولكن بأهمية وانعكاسات من نفس النوع كذلك .

   أما المعارك الكبرى ، وفى جميع العصور ، وتحت أية ظروف ، فلم تحدث بشكل مرتجل ، أو صدفة ودون توقع ، أو كمجرد تنفيذ حرفى ودون معنى خاص ، لواجب عسكرى .

    بل إنها حدث عظيم جلل ، يتجاوز كثيرا حدود وأبعاد الحياة اليومية الرتيبة وذلك عائد لما تستحقه المعركة بذاتها فى جزء فيه ، وإلى أن القائد قد أعدها وخطط لها بشكل يصعد كثيرا من التوتر النفسى العام .  وكلما زادت درجة ترقب وتعلق النتيجة وما يتعلق بها كلما ازداد تأثير ذلك .

   النتيجة ستحسم بالمجموع الكلى للقوتين المادية والمعنوية ، وأكثر مما بمجرد انفتاح وترتيب القطعات أو بالصدفة .

   عندما يخسر المرء ، فأول شئ يصدم خياله ، بل وعقله كله هو ضخامة وسرعة ذوبان الأفراد . يلى ذلك خسارة الأرض . 

 يأتى بعد ذلك إنهيار خط المعركة الأصلى ، وارتباك وفوضى الوحدات ، والمخاطر المتأصلة فى التراجع . ثم يأتى الانسحاب نفسه ، الذى يبدأ عادة فى الظلام ، أو الذى يستمر وعلى أية حال خلال الليل . وحالما يبدأ ذلك يتوجب عليك أن تترك خلفك الكثير من المشردين وحشودا من الرجال المنهكين ، ومن بينهم أكثر المقاتلين شجاعة – الذين جازفوا بحياتهم واندفعوا إلى أقصى الأمام ، أو صمدوا فى مواضعهم حتى النهاية .   
                  
   الاحساس بالهزيمة وتفاقم مخاطر هذا الاحساس بالفكرة المرعبة لترك العديد من رفاق السلاح والأخوة الأعزاء بين براثن العدو ، هؤلاء الرجال الذين تظهر قيمتهم الحقيقية الرفيعة خصوصا فى الساعات الحرجة وعند اشتداد أتون المعركة .  وهناك ما هو الأسوأ من كل ذلك ، وهو فقدان الثقة المتزايد فى القيادات العليا . والأسوأ من كل ذلك بعد هو الاحساس بأن اندحارنا لم يكن مجرد كابوس مر فى المنام ، بل إنه أصبح واقعا ملموسا ، مؤكدا لنا أن العدو هو الأقوى . 

   انها حقيقة لعل المرء يحس بها ويدركها طوال الوقت ، ولكن لعدم توفير بديل صلب ( لإلغاء أثرها ) يقاوم هذا الإدراك بقوة الثقة بالأمل والصدفة والحظ الحسن ، والرحمة الالهية ، وأخيرا بالاعتماد على جرأته وشجاعته هو ، إلا أنه يحس الآن ، أن كل تلك القوة ليست مجدية له فى موقفه ، وها هى الحقيقة المرة تسحقه بقسوة ودون رحمة . 

   لن يصاب جيش يمتلك روحا حربية بذعر أبدا عند اندحاره . وواصل العدو الضغط من أجل مكاسب أكبر ومجد أروع ، فليس إلا قائد جيد ومقدام مع جيش بمعنويات عالية ، وروح قتالية فذة تعززت واشتدت بخبرات وتجارب العديد من المعارك والحملات ، قادران على صد هذا السيل الجارف وإيقاف اندفاعه إلى الحدود التى يمكن إيقاف المد فيها بمصدات صغيرة ولكنها قوية وعديدة حتى لن يعود للقوة ( المهاجمة ) أمل كبير بالنصر وتبدأ باستهلاك نفسها .

   أما آثار كل ذلك خارج الجيش – بين صفوف الشعب والحكومة – فانهيار لمعظم الآمال والتوقعات ، وتحطم تام للثقة بالنفس ، الأمر الذى يترك فراغا سيملأه الخوف المحطم الذى يمتد سريعا ليكمل حالة الشلل .

   وبدلا من ردود فعل حاسمة وشجاعة تتمثل ببذل جهود فورية وعزومة من قبل أى كان للصمود وإيقاف المزيد ن التدهور ، يسود وعلى العكس جو من اليأس والخوف من لا جدوى ولا أمل بأى جهد من هذا الاتجاه . وسيتردد الرجال حيث يتطلب الأمر عملا سريعا وحاسما ، بل وقد ينهارون بحال من القنوط والشلل ويتركون الأمر كله للمقادير .

   تعتمد نتائج وعواقب الانتصار وتأثيراته هذه على المسار المستقبلى للحرب ، جزئيا على شخصية وكفاءة القائد المنتصر ، لكنها تعتمد فى قسمها الأعظم على الظروف التى أدت إلى انتصاره ، وعلى الظروف التى أنشأها الانتصار بدوره .

 فما لم يكن القائد شجاعا ومقداما فلا يمكن توقع أى نتائج عظيمة حتى من أروع الانتصارات ، بل يمكن أن يتحول ذلك إلى شئ عديم الفعالية بسرعة ، بفعل ظروف رئيسية معاكسة .


   تفترض كل الحروب مسبقا وجود الضعف الانسانى ، وتسعى جادة للاستفادة منه ،

أما التساؤل عما إذا كان الاندحار فى معركة كبرى سيشكل قوة دفع لاستثارة و إيقاظ قوى كانت لولا هذا الاندحار ستظل فى سبات ، فذلك أمر آخر . 

إلا أن إيقاظ أو تحريك ردود فعل شديدة كهذه يظل أمرا خارج النطاق وتحديدات فن الحرب . 

0 التعليقات: