عن الحرب 59
الشعب المسلح
عندما
تنهض أمة كاملة فى مقاومة مسلحة ، فلن يعود السؤال وقتها هو " ما جدوى وقيمة
ذلك الشعب " بل " ما القيمة الكامنة
، وما الظروف المطلوبة ، وكيف يمكن الإفادة منها " .
لا
تلزم مقاومة مشتتة مثل هذه ، وبفعل طبيعتها الخاصة ، بأعمال رئيسية ، تعرضها لضغوط
شديدة فى الوقت والمسافة ، وهى تشبه فى عملها أسلوب التطاير والتبخير ، الذى يعتمد
على مساحومدى السطح (المائى) المكشوف ،
فكلما اتسع المكان ، ومنطقة التماس بين
المقاومة وقوات العدو ، كلما اضطر الأخير إلى ترقيق قواته وزيادة انتشارها ، كلما
زاد بالتالى تأثير وفاعلية الهياج الشعبى المعادى للغزاة ، وفعل هذه الثورة كفعل
الجمرات المتقدة التى لا تبدو للعيان فى استنزاف المقومات الأساسية فى جيش العدو ،
ونظرا لأنها ستحتاج إلى وقت ما كى تكون مؤثرة فستنشأ حالة من التوتر تتطور بينهما
يتفاعل العنصرن ( الطرفان ) ، وإما أن تخف حدة هذا التوتر تدريجيا إلى نوع من
الهدوء أو الانفراج إذا تم كبح العصيان فى بعض المناطق ،
ويستنفذ قدراته ببطء فى
أماكن أخرى ، أو على اعكس سيتزايد هذا التوتر فى حدته ويتحول إلى أزمة شديدة ، أو
حريق عام يحيط بالعدو مجبرا إياه على ترك البلاد قبل تعرضه لدمار شامل .
وكى
نكون واقعيين ، فلا بد للمرء أن يفكر فى عصيان مسلح عام يحدث ضمن إطار الحرب التى
يخوضها جيش نظامى ، على أن ينسق هذا العصيان كأحد عناصر خطة عامة كاملة .
وفيما يلى الظروف الوحيدة التى يمكن أن تكون
ثورة شعبية ما مؤثرة فيها :
1- يجب خوض الحرب فى الأجزاء الداخلية من البلاد .
2- أن لا تحسم تلك الحرب بضربة حاسمة منفردة .
3- أن تلائم السجايا الشعبية العامة هذا النوع من
الحرب .
4- يجب أن يكون مسرح العمليات كثير الاتساع .
5- يجب أن تكون المنطقة وعرة وصعبة المسالك ، لكثرة
الجبال أو الغابات ، أو الأهوار ، أو بسبب طرق وأساليب الزراعة المتبعة محليا .
علينا أن نتذكر أن الفقراء من الرجال الذين
اعتادوا على تحمل مصاعب الحرمان والأعمال الشاقة ، هم عادة أكثر نشاطا وحيوية
وتقبلا للمشاركة فى هذا النوع من الحرب .
إحدى
هذه الخصائص الفريدة التى يتميز بها الريف ، والتى تؤثر كثيرا على العصيان المسلح ،
هى انتشار وتناثر الحقول ودور السكن ، وفى ظروف كهذه يتحول الريف إلى قطاعات
منعزلة ،
وكثيفة المزروعات والأشجار ، كما تسوء حال الطرق مع تزايد أعدادها ، كما
يغدو أمر إسكان القطعات مع الأهلين بالغ الصعوبة وشاقا ، ثم وفوق الخطر من كل ذلك
فإن أهم خصائص العصيان المسلح عموما هى إمكانية تكرار أعمال المقاومة وأن على نطاق
أصغر فى كل مكان وفى لا مكان ، وحيث يتجمع السكان بدرجة أكبر فى القرى ،
فبوسع
العدو إقامة حاميات صغيرة وسط المجموعات التى تظهر عدائها أو عدم رضاها ، كما يمكن
نهب غلالها ومخازنها أو حرقها حتى كنوع من العقوبة .
لايمكن ولا يجوز استخدام المليشيات والعصابات المسلحة من المدنيين ضد القوة
المعادية الرئيسية – ولا بالحقيقة ضد أية قوة معادية بحجم كبير ، فلا يفترض فيها
مهاجمة الجزء المركزى (القلب) من قوات العدو ،
بل مواصلة القضم فى القشور الهشة
وحول حافات القوة وأطرافها ، وتعمل على أن تنشط خارج مسرح الحرب – حيث لا يظهر
الغازى بقوة – لحرمانه من الاستفادة من تلك المناطق كليا ، على أن تكثف
سحب العاصفة هذه حول جوانب العدو كلها كلما واصل تقدمه
يكون الشعب فى الأجزاء التى لم تحتل بعد أكثر حماسا لحمل السلاح ضد الغزاة ،
وسيكونون المثل الحسن الذى يقتدى به الآخرون تدريجيا ، وسيتسع اللهيب الثورى
بتأثير جذوات النار هذه حتى تصل إلى المنطقة التى تمركز العدو فيها كقاعدة له ،
مهددين خطوط مواصلاته بل ومنشآته ووجوده كذلك ، ولا حاجة للمرء بالاندفاع بعيدا فى
إيمان مبالغ به فى قوة عصيان ثورى عام ، معتبرا إياه كقوة لا تقهر ولا تنتهى ، أو
كأن جيش العدو غير قادر على إيقافه أو كبحه كإعصار يعجز الانسان عن التحكم به ، أو
كسيول المطر – الخلاصة ،
يجب أن لا نرسى أحكامنا على الروح الوطنية دفعة واحدة
وإلى حد إقناع أنفسنا بأن الأنصار المسلحين سيصمدون أمام العدو كالقوات المنظمة ،
أو كفصيل من الجنود ، فسيتماسك هؤلاء بشدة فى وجه الخطر ويلتفون حول قائدهم كقطيع
الماشية ماشيين وراء رئيسهم ، أما الأنصار، وعلى العكس من ذلك فسيتفرقون بسرعة فى
كل الاتجاهات ، ولا حاجة بهم إلى خطط خاصة فى مثل هذه المواقف .
وإجابة العدو الوحيدة على أعمال المليشيات هى إرساله وباستمرا لقوات
حماية لأرتاله ، وفى وضع جماعات الحرس فى
أماكن التوقف ، والجسور ، والمضائق وغيرها ،
وقد تكون التأثيرات الأولية لأعمال
المليشيا ( الأنصار ) طفيفة وقليلة الأهمية ، وكذلك ستكون المفارز الأولى بسبب
مخاطر التجزأة والتشتت ، إلا أن شرارات العصيان ستنتقل سريعا على أيدى تلك المفارز
الصغيرة ، التى قد تكون أحيانا كبيرة بأعدادها ، وستزداد فى جرأتها ورغبتها
بالقتال ، وستزداد حدة التوتر بالمقابل حتى يصل ذروته التى ستحسم الموقف .
لذلك
نرى أن لا تتحول المقاومة التى تنظمها ثورة عامة إلى قوة مادية كبيرة وثقيلة ، وأن
تقتصر على كونها قوة غامضة غير محددة وسريعة التملص أو الاختفاء ، وإلا لاستطاع
العدو توجيه قوة كافية إلى مركز المقاومة وسحقها ، وأخذ الكثير من الأسرى ، ولذلك
إن حدث تأثير سلبى قوى على الجماهير ، إذ ستصاب بخيبة أمل وتحس بشئ من الخوف وستظن
أن الأمر انتهى ، وأن لا جدوى لأى مزيد من الجهد ، وسيلقون السلاح
من الناحية الأخرى ، لا بد من التحشد فى نقاط معينة ، فلابد أن يتكاثف
الضباب مشكلا كتلة معتمة ومخيفة من السحب ، يمكن أن تنفجر منه صاعقة من الرعد فى
أية لحظة ،
أما موقع نقاط التحشد تلك فستكون على الأكثر ، وكما سبق لنا القول ،
على جانبى مسرح عمليات العدو ، أى حيث على الثوار تشكيل وحدات كبيرة ، أفضل تنظيما،
مع نسبة من القوات النظامية تبدو وكأنها جيشا متكاملا ، ولمساعدتها فى تحمل وتنفيذ
عمليات أكبر ،
ومن تلك المناطق يمكن زيادة قوة العصيان لاقترابها من مؤخرات العدو
التى تعد واهنة أمام ضرباتها القوية ، كلما تزايد حجم المجموعات المرسلة لإزعاج
العدو ، كلما ازداد حجم الوحدات التى يرسلها هذا لمجابهتها ، إذ ستزيد هذه
المجموعات من المصاعب التى يواجهها العدو ، ومن مخاوفه كذلك ، كما تعمق التأثير
المعنوى للعصيان ككل ،
وبدون ذلك فلن يكون للعصيان الشعبى ذلك الانطباع القوى
التأثير ، كما لن يشكل الموقف العام أية ضغوط أو مخاوف كبيرة للعدو بما يفرض عليه المزيد من الحذر .
0 التعليقات:
إرسال تعليق