14‏/05‏/2019

حتي يغيروا ما بأنفسهم 20

حتي يغيروا ما بأنفسهم 20

المنهج والتطبيق


وهذا بالذات ما قصدته من إبراز هذه النقاط في أضواء خاصة . والجانبان اللذان حاولت إبرازهما في هذا البحث :
1 - جانب فصل القاعدة عن التطبيق .
2 - جانب تعميم السنة .

1 - جانب فصل القاعدة عن التطبيق :
إن التطبيق قد يكون قريباً من القاعدة أو بعيداً عنها بصور متفاوتة ، فالتطبيق قد يساعد على فهم القاعدة ، ولكن القاعدة بحد ذاتها لها من قوة السًنَّةِ ما يجعلها تتصف بقوله تعالى « ولن تجد لسنة الله تبديلا » أما التطبيقات فتتفاوت كثيرا . وبعبارة أخرى : التفريق بين النظرية والتاريخ ، على اعتبار أن النظرية هي القاعدة والتاريخ هو التطبيق .
وبعبارة ثالثة أيضاً التفريق بين الإسلام والمسلمين ، فالإسلام سُنة وقاعدة ، والمسلمون تطبيق وتاريخ . وهم مثال على القاعدة ، ليس لهم من الحصانة ما يجعلهم يحتلون محل القاعدة .

ونتعلم نحن من هذا ، أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج ، وأنه من الخير للأمة الإسلامية أن تبقى مبادئ منهجها سليمة ناصعة قاطعة . وأن يوصف المخطئون المنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه _ أياً كانوا _ وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبداً بتحريف المنهج وتبديل قيمه وموازينه ، فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف …

فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص ، والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنع المسلمون في تاريخهم . وإنما هو كل وضع وكل فعل صنعوه موافقا تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة …

إن تاريخ الإسلام هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام في تصورات الناس وسلوكهم ، وفي أوضاع حياتهم ، ونظام مجتمعاتهم(1) . فالإسلام محور ثابت تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت ، فإذا هم خرجوا من هذا الإطار أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتاً فما للإسلام وما لهم يومئذ ؟ وما لتصرفاتهم وأعمالهم تحسب على الإسلام أو يفسر بها الإسلام ؟ بل ما لهم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام وأَبوا تطبيقه في حياتهم ؟ وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين ولا لأنهم يقولون بأفواههم أنهم مسلمون .


وليس معنى هذا أن بعض المصلحين لا يتجرؤون على ذلك ، ولكن الواقع بثقله يتحدى الأفراد المصلحين ، ولن يتيسر لنا الخروج من الخلط بين السنة والتاريخ ، إلا إذا تذوقنا أهمية السنة ، وطبيعة الصلة بين السنَّة والرجال . فالرجل ليس سنَّة ، وإنما يخضع للسنَّة ، ويسعى لكشفها وتطبيقها . ومهما كان هذا الرجل عظيماً فلن يتجاوز حد الرجل . ثم ليس مما يقلل من قيمة الرجل أن يخطئ ، وكل ابن آدم خطاء . ولكن مع أخطائه يبقى مكانه محفوظاً ، ولا يُقللُ من قيمته العملية كونُهُ لم يحط بكل شيء . ولكن حسبه أن يعطي شيئاً جديداً مهما كان يسيراً . وسيحفظ له هذا الكشف مكانه ومقامه مهما سبقهُ من جَاءَ بعده . وهذا هو التقدير الصحيح للرجال ، لا أن نرفعهم فوق ما يستحقون ، ونعطي لهم العصمة التي لم يعطها لهم الله ورسوله وأولو العلم القائمون بالقسط .

إننا حين نكتسب النظرة الصحيحة إلى التاريخ ، ووضعه في مكانه ، لا يزعجنا خطأ رجل أياً كان هذا الرجل ، لأن لدينا ما يعصمنا من وضع الرجل مكان السنن . إن هذا الفهم ليس يعصمنا من خطئه فقط ، بل يجعلنا نستفيد من صوابه ، أيَّما فائدة ، متخذين الصواب الذي انتهى إليه منطلقاً لنا ، لا مكانا للوقوف عنده أو التراجع عنه .

وأرى أن الصفحة الأولى من كتاب هذا الدين من أروع ما تركه سيد رحمه الله . فعند الحديث عن طبيعة هذا الدين وطريقة عمله في حياة البشر تبرز الحقائق التالية :
1 - حقيقة أولية بسيطة .
2 - ومع بساطتها كثيراً ما تنسى .
3 - ونسيانها ينشأ عنه خطأ جسيم .
ثم يقول : وحين يذكَّرون بهذه الحقيقة :
1 - فانهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها .
2 - أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني .
3 - أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً .
ثم هذه السلسلة من الأخطاء نتيجة خطأ واحد ، وهو عدم إدراك طبيعة هذا الدين أو نسيانها .
ولو أن إنساناً خصص حياته كلها لبحث هذه النقاط وكشف مصادرها التاريخية وبواعثها النفسية وآثارها الاجتماعية ، وقرب ذلك للإفهام وفصلها تفصيلاً حتى يبلغ بها درجة البلاغ المبين ، لكانت هذه الحياة ، حياة مباركة طيبة .

كم من حقائق قرآنية أولية بسيطة على مسمع كل أحد في قارعة الطريق ! ولكن مع هذا كله لا ينتبه إليها منتبه ! وكم من المصائب التي تسد علينا منافذ الحياة تنشأ عن هذا النسيان وعدم الانتباه ! وكم من الآلاف المؤلفة من الشباب يصابون بخيبة أمل ، أو بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني حين يكشفون الحقيقة ، لأنهم يعيشون على الوهم متقوقعين ! ثم كم من الشباب يصابون بالشك في الدين إطلاقاً ، ويظهر عليهم آثار ذلك بأساليب مختلفة ، لكل موسم ما يناسبه ، … إنه الامتلاء بالأوهام . أجل إنها مشكلة مجتمع ، مشكلة جيل ضائع متخم بالأوهام ، ومجاعة من إدراك سنة الحياة .



(1) أن مصطلح تاريخ الإسلام ليس دقيقاً في بيان المراد لأن الإسلام ليس له تاريخ المعنى الذي يطلق به كلمة التاريخ لي المسلمين لأن التاريخ هو سلسلة التغيرات . والإسلام هو مجموعة السنن الثابتة .

حتي يغيروا ما بأنفسهم 19

حتي يغيروا ما بأنفسهم 19
الفِعْلُ وَالانْفِعَالُ

سبق أن ألمحنا إلى أن كثيراً من أعضاء الجسم تعملُ آلياً دون تدخل الإرادة ، وقلنا كذلك إن الأفكار التي بالنفس تتفاوت في درجة العمق والتغلغل .
وهذه المفاهيم التي تعمقت ، تقوم في كثير من الأحيان بأعمال آلية دون تدخل الفكر الواعي عند الإنسان .

إن كتاب (أعمدة الحكمة السبعة) فيه تفاصيل دقيقة ، كيف قام لورانس بالمهمة على أحسن وجه ، وكيف استغل عدا ما أشار إليه مالك ، بدو الصحراء الذين لا نعرف لهم قيمة ، واختار منهم حرسه الخاص ، مئة من الشبان الأشداء ، كلهم ماتوا في سبيل حماية لورانس ما عدا بضعة نفر منهم .. وقد خاض نيفاً وثلاثين معركة في سبيل بريطانيا ، ولكن دون أن تراق قطرة دم بريطاني .

إن علم تغيير ما بالنفس وما ينبغي أن نغيره ، والزمن الذي يحتاج إليه إذا استخدمت الإمكانيات بكفاءة ، هذا العلم هو الذي يخرجنا من الحيرة التي نعيش فيها .

حتي يغيروا ما بأنفسهم 18

حتي يغيروا ما بأنفسهم 18
1- آفة الغفلة :
قال الله تعالى « إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون » يونس - 7 - .
وقال تعالى : « سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ، ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ، حبطت أعمالهم هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون » الأعراف - 147 - .
وقال تعالى : « لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون » الأعراف - 179 - .
2- آفة الإعراض عن آيات الله وسننه :
يقول الله تعالى في ذلك : « وكأين من آية في السماوات والأرض ، يمرون عليها وهم عنها مُعرضُونَ » يوسف - 105 - .
« وجعلنا السماء سقفا محفوظاً وهم عن آياتها معرضون » الأنبياء - 32 - .
« بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم مُعرضُونَ » المؤمنون - 71 - .
وسبب هذا الإعراض ، عدم رؤية العلاقة بين طاقة الفكر وسنن الكون ، هذه العلاقة التي يسميها الله التسخير .
3- آفة التكذيب وافتراء الكذب :
قال الله تعالى : « ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كَذَّبَ بآياته » الأنعام - 21 - .
« وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » فاطر - 25 - .
« ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير » الملك - 18 - .
« بلى قد جاءتك آياتي فَكَذَّبْتَ بها واستكبرت » الزمر - 59 - .
« إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفار » الزمر - 3 - .
في هذه الآيات يبين الله :
1- إن التكذيب ظلم …
2- وهو شيمة الأقوام السابقين أيضاً .
3- وأن للتكذيب عاقبة …
4- وله ارتباط بالاستكبار .
5- ويكون بما لم يحط به الإنسان علماً …
6- ويكون أحياناً عن علم وتعمد .
7- التكذيب قد يكون للإضلال بغير علم ..
8- والكاذب لا يهتدي إلى الحق .
التكذيب ، مثل الاستكبار والإعراض والغفلة ،
ونحن إذا نظرنا إلى التكذيب ، ينبغي أن ننظر إليه على أساس أن له سنناً متعلقة بالنفس ، يمكن أن يحدث لكل من تكونت لديه تلك النظرات . فالمشكلة هنا دقيقة ، وذلك أن هذه السنة سنَّة بشرية غير خاصة بقوم معينين ، وإنما هي عامة لكل الناس الذين يحملون أفكاراً معينة . ويكون التكذيب مطابقاً لما في النفس من الأفكار ، قلَّةً وكثرة ، قوةً وضعفاً .

« بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » . وضربنا لذلك مثلاً حين شرحنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذهاب العلم ، برغم وجود الكتاب بين الناس دون أن يغني عنهم شيئاً ، كما تفقد آيات الكتاب مفعولها عند الذين فقدوا العلم بها ، كذلك فإن آيات الآفاق وآيات الأنفس تفقد مفعولها أيضاً ، عند الذين فقدوا العلم بها . بل إن آيات الآفاق والأنفس ، لم نتعلم بعد قراءتها ولا طريقة فهمها ، فلذا يسهل علينا جداً التكذيب بها ، بل نظن أن هذا التكذيب الذي نكذب به ، يرضى عنه الله سبحانه وتعالى ونخدم به دينه ، ونحصنه من الضياع .
وفي الواقع ، أن من عرف قراءة آيات الآفاق والأنفس ، وعرف كيف يتعامل معها ، يدرك أن لهذه الآيات الآفاقية والأنفسية قوة آيات الكتاب في الدلالة على الحق ،

والغرض من هذا ، أن نستفيد من الماضي ، لننزع عنه هالة القدسية العمياء ، التي تخفي نقائصه . ومثل هذا النظر جعل محمد إقبال يحجب الثقة ، عن إنتاج المسلمين في وقت ضعفهم ، كذلك سنذكر نظراً جيداً للأستاذ سيد قطب أيضاً فيما بعد في هذا الموضوع .
إن الذين طال عيشهم في الظلام ، يؤذيهم النور ويجرح أبصارهم ،
إن التخوف من الفكر ، قد يحمي المتحصن به يوماً ما ، ولكن لن يحفظه إلى الأبد ، بل سيأتي اليوم الذي يحدث فيه الطوفان الذي يجرف الأخضر واليابس .

4- آفة اتباع الهوى :
هذه الآفة من ذرية الآفة الكبرى ، إذ حين يذهب العلم يبرزُ الهوى ليقود . ويُلمحُ ذلك من الآيات التي تذكر الذين يتبعون أهواءهم ، قال تعالى :
« ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله » القصص - 50 - .
وقال تعالى : « بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم » الروم - 29 - ، وقال تعالى : « أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم » محمد - 16 . وقال تعالى : « وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم » الأنعام - 119 . وقال تعالى : « أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم » محمد - 14 .
والإنسان حين لا يهتدي بسنن الله ، ولا يهتدي بالعلم والهدى الذي جاء من عند الله ، يميل به هواه ، لأنه فقد الميزان ، فصار سهلاً عليه أن يميل مع هواه حيث لا يخشى سنَّةً ولا علماً . فكيف يخشاهما ! … وهو لم يشعر بقوانينها في الحياة ، وأسلوب كشفهما للباطل ! … فلذا نجد أنَّ ضيق نظره . والمحدودية في إدراكه ، يسهلان عليه اتباع الظنون وما تهواه نفسه ، دون أن يخشى نكيراً .

5- آفة اتباع الآباء :
إن الذين يفقدون السنن والقوانين ، في أحداث الكون وحوادث البشر ، يستبدلون تقاليد الآباء بالسنن ! … ولتقاليد الآباء ، سلطان قوي يأخذ بمخانق البشر . وسلطان الآباء ، يجب أن يقف عند حدٍّ معين لا يتجاوزه ، وإلا كان وبالاً ومصيبة .

إن الأمراض التي نعيشها في مجال الفكر ، أمراض مميتة ، قاطعة لطريق الحياة . أنا لا أشعر أني قربت إليك بعيداً ، فإن ضغط إرهاب القرون الماضية في الفكر ، سيفٌ مسلط على رؤوسنا . وإزالة هذا الكابوس ، لن تتم إلا بجهود عظيمة ، من الدأب في الدرس ، وفتح الأبصار والبصائر ، والسير في الأرض والنظر إلى ما خلق الله ، وكيف بدأ هذا الخلق . وهذه كلها لم نتعود عليها بعد ، بل لا نرى فيها كثيراً من الجدوى ، مهما تكرر النداء في آيات القرآن ، وبعث الهمم إليها .

وهكذا قص الله علينا نفسية الماضين والجامدين من أهل الكتاب ، نحن قد دخلنا إلى تلك الاجحار ، وعشنا فيها منحنين حتى تقلصت عضلاتنا ، مغمضين ، حتى صار نورُ الفكر يُعْشِينا ، ومع ذلك نزعم كما زعم الأولون ، من أننا : عبادُ الله المصطفون وأحباؤه المقربون . إننا لم ننظر إلى التاريخ البشري على أساس السنن ، وإنما نظرنا على أساس الخصوصيات والمحسوبيات ، وأن المجد ميراث من غير جد .
كل ذلك لأننا لم نفتح أبصارنا ، ولا نريد أن نبصر . وكأن العذاب بالذنوب لم ينطبق علينا ، وكأننا لسنا من البشر الذين خلقهم الله ويخضعون لسننه . وكأننا لم نقرأ : « لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا » النساء - 123 - .

وكل التحذير الذي بوجهه القرآن إلى اتباع الآباء ، حمله المسلمون على غيرهم . كأن مشكلة اتباع الآباء ، ليست مشكلة إنسانية ، أو أن ضررها لا يمكن أن يلحق المسلمين . فهذه غفلة عن هذه السنة ، وحمل الآيات - التي تحذر من اتباع الآباء على غير بصيرة - على الأمم السابقة ، كل هذا أفقد المسلمين قيمة التحذير من اتباع الآباء . فبقيت الآيات في الكتاب ، ولكن لم ينتفعوا منها بشيء وهذا مثل واضح عن فقدان الكتاب قيمته الإصلاحية حين يعجز البشر عن التفاعل معه . ومن هنا تبرز أهمية إدراك العلاقة ، بين ما بالنفس وآيات الكتاب .

وأكرر ، بأن المشكلة ليست مشكلة الأجيال الماضية وفهمهم ، وإنما مشكلة ضياع الأجيال الحاضرة وعطالتهم

والقرآن الكريم يزكَّي اتباع الآباء فيما إذا خضع ما عند الآباء للبرهان ، وعند ذلك يقول القرآن الكريم : « واتبعتُ ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون » يوسف - 38 .
وقال الله تعالى ، عن الذين يقدمون ما عليه الآباء على الكتاب - مهما كانت حجتهم بأنهم يعلمون مالا نعلم - قال الله فيهم : « وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون » البقرة - 170 . فإن من لا يقدر على التمييز بين القاعدة والشخص ، يفتح على نفسه باب التيه . والنجاة من هذا التيه ، تكون بإخضاع ما عليه الآباء للعقل والقاعدة . وهذا العمل هو الذي يجعل الفائدة من تراث الآباء مضمونة ، مع تفادي ما يمكن أن ينتج عنه من ضرر .

فالغفلة عن إدراك هذا النظام الرباني المودع في الكون ، يفقد الإنسان ميزته الأساسية ، وأمانته التي حمله الله إياها ، والسلطان الذي أعطاه الله تعالى له ، لتسخير ما خلق الله له . ويصير هذا الإنسان المكرم في أسفل سافلين ، بل يصير الإنسان نفسه مسخراً للذين يعلمون سنن الله .
والإنسان حين لا يدرك أن للكون نظاماً ، وللعقل سلطاناً ، يعيش في فوضى . تأتيه النكبات تلو النكبات ، ولا يعرف لها سبباً معقولاً ، ولا يشعر أنه إنما يصيبه ذلك لأنه عطل ما أودع الله فيه من قوى : « وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » النحل - 33 - .

إن الخلط العجيب ، بين سلطان الله وما منح الله للبشر - من تمكين في توجيه حياتهم ، وعدم رؤية المجال الذي أعطي للإنسان - يبطل النظام الذي أبدعه الله لحياة البشر .

حتي يغيروا ما بأنفسهم 17

حتي يغيروا ما بأنفسهم 17

العقل والسنن في القرآن

وهذا الموضوع ، موضوع السنَّة ، ربما يمكن تَقبلهُ بدون صعوبةٍ كبيرة ، إلا أن المشكلة ، مشكلة العقل ، وما يعترض له من الركود والعطالة ، من أداء وظيفته ، أو ارتباطه الوظيفي بسنن الكون ، هذه الوظيفة ، وظيفة التسخير .

ولقد اعتنى القرآن الكريم ، عناية بالغة ، واستنهض الهمم ، حتى لا يفقد العقلُ مَضَاءهُ وقُوته ، في إدراكه لسنن الحوادث والاعتبار بها . واعتبر الذين عطَّلوا قلوبهم كالأنعام بل هم أضل .

والعطالة ، التي تصيب العقل عند الإنسان ، لها مصدرٌ أساسي وهذا المصدر له بعد ذلك أعراض أخرى تدل عليه .

والمصدر الأساسي للعطالة : العقيدةُ العبثيةُ في الوجود والكون ؛ اعتقاد العبث واللعب في الوجود . يقول تعالى في هذا : « وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين » الدخان - 38 - . وقوله تعالى : « أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً » المؤمنون - 115 - .
إن العقيدة العبثية في الكون هي ، عدم رؤية النظام ، وعدم رؤية السنن ، وعلاقة الطاقة المفكرة الإنسانية بسنن الكون . وهذا هو ظن العبثية في الوجود . عن الذي لا يرى هذه العلاقة ، وهذا الارتباط ، لا يمكن أن يقدر المسؤولية الدنيوية ، ولا المسؤولية الأخروية ، أي لا يقدر المسؤولية الاجتماعية ، ولا المسؤولية الفردية - كما سبق - أن شَرحنا ذلك .
إن هذه العقيدة العبثية ، توارثناها على مر القرون ، إن لم تكن باسمها فبمحتواها ، وتغلغلت هذه العقيدة في النفوس ، وشملت القمة والقدمين . ومهما تفاوتت هذه العقيدة في الرسوخ ، إلا أنها استقرت بشكل فعال ، وساهمت في شلل الفكر والعمل ، في العالم الإسلامي . وهذا الشلل في الفكر ، الذي أشرنا إليه في إغلاق باب الاجتهاد ، إنما هو جنين ، ووليد لهذه الآفة ، التي نتحدث عنها الآن ، وهي : عدم رؤية علاقة الطاقة الفكرية في الإنسان ، بسنن الكون . وظن الفوضى ، وعدم الخضوع للسنن ، في أحداث الكون .
ومادامت هذه العلاقة غير ثابتة ، وغير موجودة ، وغير معترف بها ، فلا جدوى من إعمال العقل والفكر .
فهذه الآفة التي تسللت إلى الفكر الإسلامي ، دون اسم معين ، أو باسم تعظيم السلف ، وتعظيم السلف ، وتعظيم القدرة الإلهية ، التي لا تدع للبشر مجالاً للعمل . هذه الآفة ، ولدت بعد ذلك أجنتها ، التي نمت وترعرعت ، وصار لها أحفاد وذرية . إذ ما دام الأمر يسير على غير سُننٍ يُمكنُ أن نتبعها ، فلا جدوى من إعمال الفكر لكشف حل ، وتغيير واقع .
والقرآن الكريم ، يعدد الآفات التي تتولد عن العقيدة العبثية في الوجود . ونذكر منها خمسة :
1- الغفلة .
2- الإعراض .
3- التكذيب .
4- الهوى .
5- تقليد الآباء .

حتي يغيروا ما بأنفسهم 16

حتي يغيروا ما بأنفسهم 16
قاعدة هامة :
إن هذا الحديث من المرتكزات القيمة لفهم هذه السنة العجيبة ، التي أعيى المسلمين السابقين واللاحقين ، فهم حقيقتها . هذه السنة وردت بوضوح صارخ في حديث صحيح للرسول صلى الله عليه وسلم . عن زياد بن لبيد أنه قال : « ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال : وذاكَ عندَ ذهاب العلم . قلنا يا رسول الله وكيفَ يذهبُ العلمُ ونحنُ نقرأ القرآن ونُقرِئُه أبناءنا ، وأبناؤُنا يقرئُونهُ أبناءَهم إلى يوم القيامةِ ؟ فقالَ : ثَكِلتكُ أمكَ يا ابن لَبِيد ، أن كنتُ لأراكَ مِن أفقَهِ رَجُل بالمدينة . أوَ لَيس هذهِ اليهودُ والنصارى يقرؤون التوراةَ والإنجيلَ ولا ينتفِعونَ ممِا فِيهِما بشيءً ؟ »(1) .

هذا الحديث يبين أمورا تساعد على فهم أدق للسنن ، وهو من فهم الصادق الأمين (صلى الله عليه وسلم) ، الذي ما ترك شيئاً ينفع أمتهُ إلا وحثهم عليه . إنه كان صلى الله عليه وسلم يرى المستقبل من خلال السنن . السنة التي تعم الجميع ، والتي انطبقت على أهل الكتاب السابقين ، ويمكن أن تنطبق على أهل القرآن . فإن هذا الحديث لا يحتمل أي تأويل أو غموض في الفهم . فانه يذكر سنة ، وحادثة معاصرة لها تاريخ سابق ، ومثالاً سيأتي ، فانه جمع بذلك الماضي والحاضر والمستقبل . لأن الموضوع يخضع لسنة ، إذ كل من اكتسب الحالة النفسية التي كانت عليها اليهود والنصارى يحل به ما حل بهم . وهذه الحالة النفسية المشابهة ، يطلق الله عليها تشابه القلوب ، ويقول الله في ذلك : « وقال الذين لا يعلمون ، لولا يكلمنا اله أو تأتينا آية ، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ، تشابهت قلوبهم ، قد بينا الآيات لقوم يوقنون » البقرة _ 118 _ .

أن فكرة الاجتراء على المعاصي ، على أساس أنهم يعذبون قليلاً ثم يذهبون إلى الجنة ، فكرة منتقدة على اليهود والنصارى ، ولكن ذلك لم يمنع المسلمين من الاحتجاج بنفس الحجج . قال الله تعالى : « وقالوا لن تمسنا النار إلاَّ أياماً معدودة ، قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون » البقرة _ 80 _ .


في هذا الحديث الذي نحن بصدده ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « يَحدثُ ذَاكَ عِندَ ذَهابِ العِلم .» ويصعب على الصحابي أن يفهم كيف يذهب العلم ومعهم مصدره . فيضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل على إمكان ذلك ، من واقع الحياة المعاصرة لهم ، من مجتمع سابق لا يزال معاصراً لهم ، معهم الكتاب ، ولا ينتفعون مما فيه بشيء .

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر أنه إذا ذهب العلم ، يذهب معه الانتفاع مما في القرآن والحديث أيضاً . وقد نختلفُ على حقيقة هذا العلم ، وهَل هو عندنا ، أم ليس عندنا ؟
ولكن المهمَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدده بأنه علم . ومهما اختلفتا فإن الواقع أقسى من أي خلاف .
إن الواقع بكل ثقله وكل دلالاته الصارخة والخفية ، يقول : إن المسلمين لم يعودوا يملكون العلم الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا العلم الذي مجده الله في القرآن ، وعلى أساسه أثبت تفاوت الناس ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات . وبأسلوب إنكاري نفى أن يتساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون .

إن العلم له يعد له مفهوم واضح عند المسلمين . ولا يعرفون له تعريفاً يستطيعون أن يميزوا به ما هو علم مما هو ليس بعلم ، وهذا يفقد العلم قيمته ، فيختلط بالظن ، وينظر إليه كما ينظر إلى الأوهام والظنون ، فهذا هو معنى ذهاب العلم . وكثيراً ما يمدح المسلمون دينهم بأنه دين العلم ، ويريدون بذلك أن يزينوه كما يتزين الفارغون بالأزياء الجديدة . ولكن حين يُبحث الموضوع على أساس العلم ، نرى أعينهم تدور كالمغشي عليه ، ويصير العلم عندهم هو والظن سواء ، ويفضلون أن يتمسكوا بنظرات ذاتية كوَّنوها عن الإسلام ، رسخت على مر العصور .

وليس موضوعنا هنا هو بحث العلم ، هذا العلم المظلوم ، الذي لم يعد له مقام في العالم الإسلامي . فهو روح فقدناه وحقيقة غبنا عنها . وما لم يرجع هذا العلم إلى المسلمين ، بكل ما منحه الله من قوة وسلطان ، فلن يقدر المسلمون أن يستفيدوا من الكتاب والسنة ، وسيظلون يتدحرجون تحت أقدام اللاعبين ، مهما ظنوا أنهم أهل القرآن وعلم الحقيقة واليقين .

وهنا يختلط على المسلم تقديسه للكتاب والسنة ، واعتقاده أنهما يغنيان عن كل شيء بأمر آخر وهو كيف لم يرفعا عن المسلم الهوان الذي وقع فيه .

فهنا نخطئ ويصل تقديسنا للكتاب والسنة إلى الغلو ، حين ننسب إليهما شيئاً ليس من مهمتهما ، إذ ليس من مهمة الكتاب والسنة ، أن يرفعا الهوان عن قوم لا يستخدمون أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم . فهذه الملاحظة أمر جوهري ، علينا أن نتأملها جيداً ، إذ ليس من شأن الكتاب والسنة الهداية ، إلا أن بعض البشر ، يزيدهم هذا الكتاب ضلالاً ولا يزيدهم هدىً . قال تعالى :
« يصل به كثيراً ويهدي به كثيراً » البقرة - 26 - ويقول الله تعالى : « إنما تنذر الذين يخشون ربهم » فاطر - 18 - « إنما تنذر من اتبع الذكر » يس - 11 - . « لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين » يس - 70 - .

هذه حقيقة علينا أن نفهمها جيداً ، إذ ليس مما ينقص من قدر الكتاب والسنة ، أنهما لا يرفعان شأن قوم ، لم يرفعوا بما بعث الله به رسوله رأساً .

وعلينا أن نكرر هذا ، حتى لا يُفرض على الكتاب والسنة ما ليس من شأنهما . ثم على أساس هذه الفريضة ، يظن أن الكتاب والسنة لم يقوما بمهمتهما . ونقع في هذا الخلط بدون شعور منا . فهذا الغموض ، وهذه الفرضيات التي فرضناها ، وابتدعناها تعظيماً للكتاب والسنة ، توهمنا أن الكتاب والسنة ، لم يؤديا المهمة التي ظننا أنهما ينبغي أن يقوما بها . وهذه متاهة ومكان للالتباس ، وعلينا أن نعرف أن الكتاب يظل كاملاً ، ويظل متصفاً بكل صفات القداسة ، ولا يشترط أن يرفع الكتاب رأس من لم يرفع به رأساً .

إن الفهم شرط التوبة ، شرط تغيير ما بالنفس . والتائب هو الذي غير ما بنفسه .

إن الكتاب والحديث ، وكل السنن الكونية ، تظل معطلة بالنسبة للإنسان ، إن لم ينتبه إليها . وليس معنى هذا ، أن هذه السنن يبطل مفعولها ، ولكن معناه ، أن المسلم لا يستطيع أن ينتفع منها . فالمشكلة ، ليست في أن الكتاب لم يقم بمهمة الإيقاظ ، ولكن المسلم لم يقم بواجب النظر .

إن عقل المسلم لم يتعلق بالكتاب والسنة بمعنييها ، بمعنى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبمعنى سنن الله في الكون . وبهذا نكون حددنا ، أن مكان المشكلة ، ليس في الكتاب والسنة بمعنييها ، وإنما في العقل ، الذي فقد وظيفته في العالم الإسلامي . ويكفي على هذا دليلاً ، إغلاق باب الاجتهاد في العالم الإسلامي خلال القرون الطويلة . إن هذا الإغلاق لم يأت من الكتاب والسنة ، ولا أمراً به ، بل من أهم ما يعنى به الكتاب والسنة : الاجتهاد ، ثم الاجتهاد ، ثم الاجتهاد …

ولكن العالم الإسلامي هو الذي أغلق الباب ، باب الاجتهاد ، باب العقل ، الذي يمكن أن يدخل إليه الكتاب والسنة ، ليقوما بمهمة توجيه هذا الإنسان . وكان الهدف من إغلاق باب العقل عند المسلمين ، حماية الكتاب والسنة من التلاعب والتلفت . ولكن هذا الهدف لم يخدم الكتاب السنة ، لأن العقل المقفل لا يستطيع أن يحمي الكتاب والسنة .

إن القلوب التي عليها  الطبع ، والعيون التي عليها الغشاوة ، والآذان الموقورة ، لا تتفاعل مع الحقيقة .

إن من أوليات ما يعلمنا الله تعالى في كتابه الكريم : أن الباطل لا يكسبُ قوة الحق ، وإن كثر أتباعه وطالَ عمرُهُ .
« قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث » المائدة - 100 - .
… والقرآن الكريم يدينُ الذين يلزمون ما كان عليه آباؤهم ، فيقول في ذلك :
« وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون » البقرة - 170 - .

والآيات في هذا كثيرة . والقرآن مليء بهذا الموضوع : « إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون » الصافات - 70 - .

كان البحث ، في موضوع : ضرورة ربط آيات الآفاق والأنفس ، وسنن التعامل معها ، بآيات القرآن ، ربطاً محكماً ، بحيث يشعر المسلم ، بالارتباط القوي بين آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس ، وأن ذلك ليس مجردَ إقحامٍ . وهذا يحتاج إلى حذق ، وإلى معرفة دقيقة من التعامل مع الأنفس . ونحن إذا أردنا أن نعيد للعقل وظيفته ، فلا يعني ذلك ، معارضة أمر القرآن . بل من أعظم مهمة الكتاب الكريم ، أن يعيد للإنسان كانسان ، وظيفته . ثم بعد ذلك يسير به في ظلال : « أفلا تعقلون » حتى يوصله إلى النعيم المقيم ، ولا يتركه في أي جزء من الطريق من حين أن يقول : « يا أيها الناس » إلى قوله : « وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير » وإلى أن يقول : « ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين » .

ولعلي أكون بهذا ، قد بعثت بصيصاً من الأمل ، فيما حاولت أن أصل إليه ، من أن : كل سنة ، وكل مثال في التغيير ، ينبغي أن يكون مستنداً إلى القرآن الكريم ، لتكسب السنَّة فاعليتها الاجتماعية عند المسلمين . ومعنى الفاعلية الاجتماعية ، أن يتعامل العقل مع السنن ، في سعيه إلى ابتغاء مرضاة الله . والمجتمع الذي شأنه هذا ، سيكون من أبرع المجتمعات البشرية ، في استخراج السنن استخداماً صحيحاً . فمثل هذا المجتمع ، هو الذي يسبغ الله عليه من نعمه ، ظاهرة وباطنة ، في الدنيا والآخرة : « لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة » البقرة - 220 - . وحتى هذا الوصل بالكتاب ، قد لا يكفي لإقناع المسلم ، بأنه لم يخرج عن أمر الكتاب ، لأنه لا يكفي عند المسلم ، أن يكون الموضوع موجوداً ، في الكتاب والسنة ، حتى يقبل الأمر . لأن فهم الكتاب والسنَّة مقيد بفهم الآباء ، وفكرة « ما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين » المؤمنون - 24 - . لها سلطان أيما سلطان ، ومن هنا يتبين ، أن مشكلة المسلمين معقدة ، ليست بسيطة . ولكن مع ذلك ، فإن إدراكها إدراكاً صحيحاً ، لا يجعل الأمر مستعصياً على الحل . لأن المشكلة ، مشكلة إكساب الإنسان المسلم ، قدرة التعامل مع الحقيقة ، بصرف النظر عن ملابساتها ، أو إكساب المسلم قدرة التعامل مع السنة : « سنة الله في الذين خلوا من قبل » الأحزاب - 38 - .
وهنا ينبغي أن نشير إلى أمر آخر ، وهو القدرة على التمييز ، بين ما نقبله على أساس الثقة ، وما نقبله على أساس التعامل مع السنة . فإن من أدرك كيفية التعامل مع السنَّة ، لا يعود يبالي بالثقة من جهل الناقل - فيما يمكن اختباره على أساس السنَّة - سواء كان الناقل موثوقاً به ، أو ليس كذلك ، لأن الموضوع في هذه الحالة ، يحمل دليله معه . فكل من عرف التعامل مع السنن ، لا يمكن أن يخدعه صديق ، أو يغره عدو ، سواء كان قاصداً أو غير قاصد . أما من لا يعرف التعامل مع السنَّة ، وإنما يقبل الموضوع على أساس الثقة فقط ، فهذا معرض للوقوع في الخطأ ، ولاسيما إذا كان في قبول تفسير ، ما ينقل عن المعصوم ، صلى الله عليه وسلم . وهذا التعرض للخطأ يكون على وجهين :
حين نقبل خطأ من نثق به .
وحين نرفض صواب من لا نثق به .
وأسلوب أخذ المسلمين ، والعلوم الاجتماعية والنفسية ، مبني على أساس الثقة ، فلهذا لا قدرة لنا على التعامل مباشرة مع السنن ، وإعطائها ما تستحق من العناية .

وإنما كان التعديل والتجريح ، هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية ، لأن معظمها تكاليف إنشائية ، أوجب الشارع العمل بها ، حتى حصل الظن بصدقها . وسبيل صحة الظن ، الثقة بالرواة ، بالعدالة والضبط .

إن حماية مجتمع ما ، في الحرب والاقتصاد والعقيدة ، ليس خاضعاً للمصادقة ، ولأمور اعتباطية ، وإنما يخضع لموازين دقيقة ، مما بالأنفس من الأفكار ، التي يمكن أن يُجري عليها الاختصاصيون التعديلات المطلوبة كماً وكيفاً ، ضمن نطاق زمن محدد ، بناء على خبرات سابقة ، من سنَّة الأولين أو المعاصرين . كل ذلك علم ، وكل ذلك سنن ، يمكن معرفتها والسيطرة عليها ، وتصحيح الأخطاء فيها ، ومسابقة الزمن في ذلك .

ولكن لن يتمكن من ذلك عقل مرعُوبٌ ، لا علم له بأحداث العالم ، ولا يعرف من أين تأتي المصائب ، ولا كيف تدفع ، ولا كيف تُعطى المناعات للمجتمعات ، ضد الأخطار الفكرية ، لحماية المجتمع ، فضلاً عن أن ينشئ  أجهزة لمراقبة الانحرافات وتصحيح الأخطاء ، على أساس السنن والقواعد التي تخضع لها المجتمعات .



(1) ذكره ابن كثير في تفسير الآية (66) المائدة . وصححه .

حتي يغيروا ما بأنفسهم 15

حتي يغيروا ما بأنفسهم 15
كيف تلقى السنن القبول عند المسلمين

والذي يحول دون استفادة المسلمين من سنن التغيير وتطبيقاتها ، أن الذين يبحثون هذه الأمور ويمارسونها - إن كان هناك من يمارسها - لا يستطيعون ربطها بمبرراتها من كتاب الله وسنة رسوله . وذلك إما لجهلهم بالكتاب والسنة ، أو لاعتقادهم أن هذه السنن لا يعترف بها القرآن ولا السنة . بل ربما استخدموا هذه السنن لعزل المسلمين عن عقيدتهم بسبب جهلهم لحائق القرآن أو بسبب تجاهلهم لها . ولكن ما لنا ولهؤلاء الذين شأنهم هكذا ، فما بال أولئك الذين يتعلقون بالقرآن والسنة بكل ما أوتوا من حماس إيماني ، متوارث خلال العصور المديدة ! إن هؤلاء لهم مشكلة أخرى معاكسة لمشكلة أولئك ، فهم لا يعيرون اهتماماً للبحوث التي تعني بتغيير المجتمعات ، لا لأنهم لا يشعرون أن محيطهم لا يحدث فيه تغيير ، بل لأنهم إلى الآن لم يمكنهم أن يدركوا ارتباط هذا التغيير بالسنن النفسية على التغيير ، سواء في إيقاف التغيير أو إبطائه أو تغيير وجهة سيره في الجانب الذي يريدون . فمن هنا لا يخطر لهم أن يصرفوا جهداً في هذه الدراسات ، فضلاً عن أن يروا مواطنها وأصولها من الكتاب والسنة .
وأهم شيء يحث عليه القرآن ومن أجله أنزل الله الكتب وأرسل هو تغيير المجتمعات . فلهذا كان الإلحاح في القرآن لينظر الناس إلى سنن الذين خلوا من قبل . والسنة (القانون) ، وهي التي على أساسها ترتفع وتنخفض المجتمعات ، وعلى أساسها يكافئ الله ويعاقب . وعلى البشر أن يتفهموا هذه السنن ، حتى ينالوا رحمة الله ويبتعدوا عن انتقامه . لهذا يقول الله تعالى : « وإن يعودوا فقد مضت سنَّة الأولين » الأنفال - 38 - أي وإن يعودوا لأعمالهم الفاسدة الناشئة عن تصوراتهم ، واعتقاداتهم الخاطئة ، فقد مضت سنَّةُ الله في نزول العقاب على أمثال هؤلاء .
ويقول الله تعالى أيضاً : « ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ، وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ، كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنَّة الأولين . ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سُكرت أبصارنا بل نحن قومٌ مسحورون » الحجر - 11 - 15 .
في هذه الآيات بين الله تعالى كيف أن ما بأنفس هؤلاء القوم من الأفكار ، راسخة ثابتة وجامدة ، وكيف أن نظر هؤلاء محدوداً جداً ، وأن هذه المحدودية في النظر تحول بينهم وبين أن يكون محتملاً عندهم وجود طريقة للحياة أفضل مما هم عليه .

والبشر في سيرهم ، تتراكم الأمثلة والنماذج أمامهم ليعتبروا بها ، ويستفيدوا منها . فلهذا يدخل في سنَّة الاعتبار ، الأحداث التي حدثت بعد نزول القرآن ، خلال هذه العصور في كل أقطار الأرض ، سواء في المجتمعات المؤمنة ، أم الكتابية أم الوثنية ..
وحين يتعلم الإنسان كيف يتعامل مع السنن ، يستطيع أن يستفيد من أخطاء ومن صواب الكافرين ، فضلاً عن المؤمنين ، وذلك إذا تمكن أن يصل إلى درجة التعامل مع السنن مباشرة دون أن تتدخل عداوة أو صداقة من سخر هذه السنن .
إن هذا المستوى من الإدراك ، لا يصل إليه إلا من كانت منافذ الفهم وإدراك الصواب لديه مفتوحة ، حيث لم يتوصل التقليد إلى إغلاقها . وهذا ما يحثنا الله سبحانه وتعالى على فعله حين يصف لنا أولي الألباب : « فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب » الزمر - 18 - .

إن الاستكبار الذي جعله الله سبباً لأن يحيق بهم المكر السيئ في الآيات التي سبق أن ذكرناها ، إنما هو ما ذكره الله هنا من العمى والصمم ، والإقفال على القلوب ، لأن الاستكبار حالة نفسية ، أي فكرة خاطئة بالنفس ، تجعل الإنسان مستكبراً ، يقول مالا يفعل ويدعي مالا يقدر عليه . كل ذلك ناشئ من التقدير الخاطئ للواقع والسنن ، ناشئ من نظر ذاتي محدود …. والإنسان ذو الفهم الصحيح والإدراك الجيد لوقائع التاريخ لن يكون مستكبراً ، إذ أن الاستكبار إنما منبعه فراغ في الفهم ، وفراغ في إدراك الحقيقة .
إن المستكبر يتصف بالبعد عن النظر الموضوعي(1) ، وهذا البعد مبعثه الغرور ، الذي هو محتوى نفسي خاطئ .
ومشكلة الاستكبار تلقى اهتماماً كبيراً في القرآن ، لأن الفارغ عن فهم الحقيقة يكون مستكبراً حين يملك ، ويذل إن زال عنه الملك . والمؤمن لا يكون مستكبراً حين يملك ، ولا ذليلاً إن أصابته مصيبة .

إن إدراك السنن والتعامل معها ، هو الذي يجعل الإنسان يمشي سوياً على الأرض ، ومن يجهلها فهو المكب : « أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ؟ » الملك - 22 - .


(1) النظر الموضوعي : أن ترى الشيء أو الحدث كما هو عليه . والنظر الذاتي : أن ترى الحدث أو الشيء كما تريده أنت ، ولا يشترط أن يكون كما هو في الواقع ، وإنما يتخيله الذهن ، كما كان الناس يتخيلون دوران الشمس حول الأرض .

حتي يغيروا ما بأنفسهم 14

حتي يغيروا ما بأنفسهم 14

ما بالنفس يتفاوت في الرسوخ

هناك عوامل لترسيخ ما بالنفس منها ، التكرار في العرض والشرح ، والممارسة العملية لها في الحياة التطبيقية .

والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثلاً في كيفية ترسخ الفكرة ، أو تمكنها حتى تصير ملكة ، تتولد منها أعمال الإنسان وواقع المجتمع :
(عن حذيفة عن رسول الله قال : « تعرض الفتن على قلوب كالحصير ، عوداً عوداً ، فأي قلب أشربها نكت في نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفاة فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مُر بَادَّاً كالكوز مُجخَّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً » . رواه مسلم . قال ابن جرير : فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من الله تعالى والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر عنها مخلص ، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى : « ختم الله على قلوبهم » .

فضرب المثل بأشياء محسوسة للأشياء التي لا تحس أو للأمور المعنوية ، وذلك بذكر مثل الحصير ، وكيف تعرض الأعواد عند نسجها عوداً عوداً ، فبناء النفس كذلك إنما يتم خلال الزمن ، بعرض الأفكار عليها بوسائل مختلفة فكرة ، فكرة . والقلب الذي يتقبل الفتنة والشر ، تنكت فيه نكتة سوداء ، والذي يرفض يبقى أبيض لا تضره فتنة . وكذلك العرض المستمر المتتابع على القلوب كنسج الحصير .

وهنا يمكن أن يشبه ما يحدث في النفس – من أن النفس تحول بعض الأفكار إلى الأعماق ، مما يجعل هذه الأفكار تعمل عملها آلياً – بما يحدث في بعض أعضاء الجسم عند الإنسان التي تعمل آلياً ، كذلك الأفكار المترسبة في الأعماق تعمل آلياً وتستجيب للأحداث والمثيرات استجابة آلية ، ولا يشترط أن يكون كل ما ترسخ صواباً بل الخطأ أيضاً يترسخ ، وقد يكون الصواب فيه قليلاً .
ونبش هذه المفاهيم المترسبة وإخراجها إلى حيز الوعي ، وإجراء التغيير اللازم عليها عملية ليست خارجة عن طوق الإنسان ، لأن ذلك من المهمة التي أوكلها الله إلى الإنسان لا كفرد ، بل كقوم وكمجتمع .

إن تغيير ما بالنفس ، سواء كان في مجال الوعي أو كان مترسباً منسياً بكل محتوى النفس الظاهر والباطن ، إن هذا التغيير من مهمة الإنسان ، وكلما كشف سنن التعامل مع النفس كان قادراً على إحداث التغيير . فمن هنا تتأكد الحاجة إلى ضرورة تحصيل علم سنن تغيير ما بالنفس .

وقد تنبه ابن خلدون إلى شيء من هذا حين تحدث عن اكتساب ملكة البيان العربي والشعر ، قال : « فمن قل حفظه أو عَدِمَ لم يكن له شعر وإنما هو نظم ساقط ، واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ . ثم الامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ … » . وموطن الشاهد من كلام ابن خلدون ليس هذا بل سيأتي وهو قوله : « وربما يقال إن من شرطه نيسان ذلك المحفوظ ، لتحمى رسومه الحرفية الظاهرة ، إذ هي صادة عن استعمالها بعينها ، فإذا نسيها ، وقد تكيفت النفس بها ، انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة »(1) .
وما يقوله ابن خلدون لا ينطبق على الشعر فقط ، بل على كل علم من العلوم إذا أراد الإنسان أن يكسب ملكة فيه .

وكما بين الأفراد فروق فردية ، كذلك بين الأمم والمجتمعات ، إلا أن مصدر الفروق مختلف ، إذ مصدره في الأفراد الفطرة والاستعداد الأولي ، بينما في المجتمعات مصدره مقدار استغلال هذه الاستعدادات . فالأول موهوب والثاني مكسوب . والخلط بينهما يكون سبباً لتبني العصبيات التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها منتنة .

والفطرة الموهوبة للأفراد من الذكاء تتفاوت ، وهذا التفاوت فطري موجود في كل مكان بين الأفراد ، في كل المجتمعات ، وحتى بين الاخوة من متوسطي الذكاء ومن هم دون ذلك أو فوقه . ولكن المجتمعات ليست هكذا بالفطرة ، بل ما بين المجتمعات من الفروق إنما ترجع إلى مواريثهم المكتسبة من الثقافة ، فبهذا يتفاوتون . ويمكن لكل مجتمع أن يرفع أو يغير من مواريثه الاجتماعية .

ولا توجد بين المجتمعات فروق في الفطرة وإنما فروق في الثقافة المكتسبة ،

إن هذه المواضيع لم تصر في العالم الإسلامي علماً تطبيقياً ، وإن كان شيء من ذلك ، فهي نظرات عند أفراد قلائل لم يصلوا بعد إلى درجة سد فرض الكفاية في الأمة . ولا بد أن يصل عدد هؤلاء علماً وعملاً إلى ما يسد حاجة الأمة ، حتى يمكن اختزال زمن التغيير إلى أدنى حد .
ولكن إلى الآن لم تصح عندنا الفكرة نظرياً ، فضلاً عن أن نستخدم ذلك في سبيل تغيير ما بالأنفس لنغير ما بالمجتمع ،

ويمكن أن نقرب الفكرة قليلاً ، إذا قارنا عملية التغيير فيما بالأنفس بعملية تعليم القراءة والكتابة , فلو ترك تعليم المجتمع القراءة والكتابة ، إلى مجهود كل شخص دون أن تكون مؤسسات لتعليم أطفال الأمة ، فإن الفوضى ستحل . وكذلك ينبغي أن يخضع تغير ما بالأنفس لمؤسسات . وإلى الآن يحدث ما يحدث عندنا على أساس الصدفة ، دون تحول ذلك إلى علم منَّهج واضح . لهذا يظهر عدم التوازن في المجتمع وبطء نموه حتى في المشاكل التي صارت خاضعة للسنن بوضوح في مجتمعات أخرى . والسبب ؛ أن الأمة لم تحصل بعد ملكة تغيير ما بالأنفس ، ولم تملك ما يسد فرض الكفاية . ونقص ملكة التغيير ، مثل نقص ملكة البيان والشعر ، فلا يمكن تحصيل ملكة عملية تغيير ما بالأنفس – كما لا يمكن تحصيل ملكة البيان والشعر – إلا بممارسة هذا الفن ؛ وهو النظر في سنن الماضين وما حدث للأمم من تغيير بطيء أو سريع خلال التاريخ . ونحن إلى الآن لا ندرس التاريخ على هذا الأساس أو القصد ، وإن كان القرآن يلح علينا في ذلك .


ولابن خلدون العذر في أن تكون عباراته غير دقيقة ، حيث جعل مرد ذلك إلى العوائد المترسخة ، التي يمكن أن تمثل ما نطلق عليه نتائج ما بالأنفس . قال في « فصل إن الدول لها أعمار طبيعية كما للأشخاص » . وبعد أن تحدث عن عمر الأفراد ، تحدث عن عمر الدول فقال : (إن الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال ، والجيل هو عمر شخص واحد ، والعمر الوسط يكون أربعين . وعلل ذلك بأن الجيل الأول ، لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها .. والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة . أما الجيل الثالث فينسون البداوة والخشونة كأن لم تكن فيصيرون عيالاً على الدولة . فهذه كما ترى ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدولة وتخلفها .

ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع كما مر في أن المجد والحسب إنما هو في أربعة آباء وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعي كافٍ مبني على ما مهدناه من قبل من المقدمات . فتأمله فلن تعدو وجه الحق إن كنت من أهل الإنصاف .

وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مئة وعشرون سنة على مر ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر . بتقريب قبله أو بعده إلا إن عرض لها عارض آخر من فقدان الطالب فيكون الهرم حاصلاً مستولياً والطالب لم يحضرها ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعاً « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » )(1) .

وقد ذكر ابن خلدون: « ومن الغلط الخفي في التاريخ ، الذهول عن تبديل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الاعصار ومرور الأيام ، وهو داء دوي شديد الخفاء . إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة ، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة . وذلك أن أحوال العالم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج واحد مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال .

وهذا تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوان ذهاب العلم ، والصحابي لم يكن يفهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يذهب العلم ، وكذلك لم يفهموا كيف نكون كالقصعة ، يتداعى عليها الأكلة . أما نحن اليوم فلا نفهم كيف يحصل العلم ، ولا كيف ننقذ القصعة المستباحة .
ذلك الصحابي لم يكن يقدر أن يتصور كيف يذهب العلم ، واليوم نتعب التعب كله في إثبات وجود علم يخرج المسلمين مما هم فيه من التيه .

وكذلك حديث القصعة وتداعي الأكلة إليها ، فإن الصحابة عجزوا أن يفهموا كيف يمكن أن يتم ذلك ، وكل ما خطر في بالهم من تفسير للموضوع ، أن يكون سبب ذلك قلة في عدد المسلمين ، حين قالوا أوَمنْ قلَّة يومئذ يا رسول الله ؟ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن العدد حين التداعي على القصعة يكون كثيراً . ولكن هناك شيء آخر يجعل الناس كغشاء السيل . إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى المستقبل من خلال السنن ، ولم يكن كل الصحابة كذلك .
وليس هناك نظر اجتماعي سنني ، مثل نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المشكلة الاجتماعية . وكما يقول مالك بن نبي كان رسول الله يقرأ التاريخ قبل أن يقع ، ويحذر من الوقوع فيه ، على أساس أن الأمر على نظام وسنن ، سواء في الوقوع في الجهل والقصعة المستباحة أو الخروج منها .
إن هذا النظر السنني هو ما يحتاج إليه شباب العالم الإسلامي ، إذ أن عدم وضوحه يحشر الأمور المختلفة في ميزان واحد ، بينما يبعد الأمور المتشابهة عن بعضها . فيقع المرء في حيرة فيجعلنا مرة مثل الصحابة ، ومرة مثل الجاهلين . ولا يدرك ما يميزنا عن كل واحد منهم من عناصر التخلف .
إنني أجدني اشعر بضيق شديد من خفاء هذه الأمور وعدم وضوحها ، وأنها لم تصر بعد بضاعة مفهومة متداولة . وهذا الخفاء يعوق حركة التقدم في الإصلاح لما يحيط به من غموض . فما لم نسيطر على خارطة تغيير ما بالنفس ، وما لم نتمكن بوضوح من سنة التغيير ، وما ينبغي أن نغيره وما ينبغي أن نحذفه ، وما ينبغي أن نضيف إليه ؛ سنظل في طريقنا بعفوية لا قصد فيها ، ونحافظ على أفكار تعوق تقدمنا ، وننبذ أفكاراً ونعاديها بينما لا غنى لنا عنها . مثال ذلك عدم مبالاتنا بعلم تغيير ما بالنفس ، هذا فضلاً عن إعراضنا عن عبر التاريخ التي توضح لنا ما ينبغي أن نغيره . فهنا نحتاج إلى علمين ، علم تغيير ما بالنفس ، وعلم آخر وهو ما نميز به ما ينبغي أن نغيره مما ينبغي أن نبقيه . فهذا النقص هو الذي يجعل سير حركة المسلمين بطيئاً ، مثقلاً بالآصار والأغلال التي تحول بينهم وبين أن يروا المستقبل في ضوء الماضي . إن الحيرة نتيجة الغموض ، والحيرة هي البرزخ الذي نسير فيه في أيامنا هذه .
إن اندفاع الإنسان للحركة المجدية ، مرهون باقتناعه أن لكل مشكلة طريقة لحلها . فكذلك المسلمون لا يمكن لهم أن يتحركوا بجدية لتغيير واقعهم ، ما لم يقتنعوا أن مشكلتهم تخضع لقوانين وسنن .
أما إذا بقي لديهم شعور أن المشكلة لا تحل إلا بالمهدي ، أو بأن الزمن شارف على الانتهاء ، فان المشكلة تبقى دون حل ، بل تزداد تعقيداً .

إن الفكرة حين تتعمق في النفس تكون مصدراً للأخلاق ، وما الخلق إلا السلوك الناشئ عن أفكار متعمقة ثابتة راسخة في النفس .

وينبغي أن يلاحظ أن الفكرة يمكن أن يوحى بها ، فتكون مصدراً للأخلاق دون أن تمر بالوعي الشعوري ، كما عند الأطفال والعوام .