حتي يغيروا ما بأنفسهم 12
العلاقة
بين
سلوك الإنسان وما بنفسه
ومن الملاحظ أنه لا توجد ثمة علاقة بين
السبب والنتيجة عقلاً ، وإنما المشاهدة هي التي تقر هذه العلاقة
إن
الإنسان يفعل سبباً معيناً ينتج منه خَلقٌ من الله ، كخلق الإنسان ، وثمرة الزرع .
كذلك فإن الأفكار التي نضعها في الأنفس ، يخلق الله منها أفعالاً . فكما أن لنا
قدرة على زرع الأرض زيتوناً ورماناً أو عنباً …. فكذلك لنا قدرة على وضع الأفكار
في النفس ، والتي تُنتج كلٌ منها عملاً أو سلوكاً معيناً ، كما تثمر كل شجرة ثمراً
معيناً .
فإذا رأينا نتائج أعمال المسلمين تعاكس
مصالحهم ، فإن ما بأنفسهم عن الموضوع خاطئ ، وينبغي أن يتغير ما بأنفسهم حتى تتغير
أعمالهم ، وإذا رأيناهم مترددين في موقفهم تجاه أمر ، فإن ذلك يرجع إلى ما بأنفسهم
عن هذا لأمر من القناعة بعدم جدواه ، أو بعدم إمكان الوصول إليه …
مثال أول :
يحكى أن عملاقاً بلغ من القوة ما يدهش
ويحير ، وطبقت شهرته الآفاق ، وترامت أنباؤه حتى وصلت إلى عملاق آخر في بلد قريب ،
فأحب أن يتعرف على ذلك الذي يتحدث عنه الناس ، فأرسل إليه رسالة لطيفة يطلب وده ويعرض
صداقته ، ولكن خاب ظنه حين جاءه الجواب القاسي ينهاه عن التطاول فوق مرتبته …..
فصمم على الانتقام لشرفه من هذا المغرور
الذي أساء الأدب في رده . فخرج يسعى إليه حتى وصل إلى مشارف أرضه . ولما سمع
المغرور وقع أقدام خصمه تهز الأرض خارت قواه وتغير لونه ، وأدركت امرأته حاله ،
فأشارت عليه أن يندس في الفراش ، وألقت عليه دثاراً … ولما وصل الخصم الهائج سألها
عن الوقح المغرور الذي لا يعرف قدر الناس ، حتى يعرفه نفسه ، ويعلمه كيف يكون جواب
الناس .. فطلبت منه ألا يرفع صوته حتى لا يوقظ الطفل النائم ، وأشارت إلى قدميه وقد
برزتا من تحت الدثار . فلما رآهما ، هذا الذي ما عرف قلبه الخوف ، صمت قليلاً
كأنما ألقي عليه دلو من الماء البارد ، ثم قال في نفسه :
طفل … ؟ ! فكيف يكون الأب إذاً … ؟ ! ثم
أطلق ساقيه للريح عائداً من حيث أتى .
حين نسمع هذه الأسطورة قد نعرف أنها
أسطورة ، ولكن مع ذلك نتفاعل مع أحداثها لأن أحداثها خاضعة لسنن نفسية . هذه
الأسطورة مخترعة ، ولكن هذا الاختراع يدل على المفاهيم التي في نفس مخترعها ، سواء
كانت قيم هذه المفاهيم سامية أو وضيعة . فبدلاً من أن تُبرز القصة أو الأسطورة
خنوع الإنسان للقوة ، كان يمكن أن تبرز استعلاء الإنسان بالحق ، كما في قصة السحرة
مع فرعون كيف أنهم كانوا يقولون في أول النهار :
« بعزة فرعون إنَّا لنحن الغالبون »
الشعراء – 44 .
حتى إذا أتى عليهم المساء رأيتهم يواجهون
طاغية الدنيا بقولهم :
« لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات
والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا » طه – 72 .
فالقصة التي ذكرناها تبين الدافع الخلقي
لمل بالنفس عند المجتمع ، الذي من تراثه هذه القصة ، فتبرز روح الاستكبار في مواقف
القوة ، وروح الخنوع عند الضعف إذ هما متلازمان . أن المستكبر حين يفقد القوة يذل
، والإنسان الحق لا يستكبر عندما يملك القوة ، ولا يذل عندما يفقدها .
اإن الشجاعة والجبن ، والإقدام والهزيمة
، كل هذا يتعلق بما بالنفس ، فإذا تغير ما بالنفس يتغير حالاً سلوك الإنسان ، ولا
يعود يملك سيطرة على قواه ، ويخضع خضوعاً مطلقاً لسلطان ما حل بنفسه . فمن يملك القدرة
على تغيير ما بالنفس يملك أن يغير ما بالقوم .
ففي الأسطورة غيرت المرأة بذكائها ما
بنفس العملاق ، فتغير وضعه حالاً ، كأنما حدث كبس على زر ، فإذا المروحة دائرة ،
وإذا الرَّجُلُ يرتجف وهكذا …
مثال آخر :
قال ابن قَيِّم الجوزيَّة في زاد المعاد
، في حديثه عن غزوة الخندق :
« ثم إن الله عز وجل ، وله الحمد ، صنع
أمراً من عنده خذل بع العدوَّ ، وهزم جموعهم وفلَّ حَدَّهُم . فكأن مما هيأ من ذلك
، أن رجلاً من غطفان يقال له نُعيمُ بن مسعود بن عامر رضي الله عنه ، جاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني أسلمت فمرني بما شئت . فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : لإنما أنت رجل واحد فخذل عنَّا ما استطعت فإن
الحرب خَدْعةٌ . فذهب من فوره إلى بني قريظة ، وكان عشيراً لهم في الجاهلية ، فدخل
عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال : يا بني قُريظة إنكم قد حاربتم محمداً ، وإن
قريشاً إن أصابوا فرصة انتهزوها ، وإلا استمروا إلى بلادهم راجعين وتركوكم ومحمداً
فانتقم منكم . قالوا : فما العمل يا نُعيم ؟ قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم
رهائن . قالوا : لقد أشرت بالرأي . ثم مضى على وجهه إلى قريش وقال لهم : تعلمون
ودي لكم ونصحي لكم قالوا : نعم : إن اليهود قد ندموا على كان منهم ، من نقض عهد
محمد وأصحابه ، وإنهم راسلوه ، أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ، ثم يوالونه
عليكم فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم . ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مل ذلك . فلما كان
ليلة السبت من شوال ، بعثوا إلى يهود : إنَّا لسنا بأرض مُقام ، وقد هلك الكُراع
والخُفُّ فانهضوا بنا حتى نُنَاجزَ محمدا . فأرسل إليهم يهود : إن اليوم يوم سبت ،
وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه ، ومع هذا فإننا لا نقاتل معكم حتى
تبعثوا إلينا رهائن . فلما جاءتهم رسلهم بذلك ، قالت قريش : صدقكم والله نُعيم ،
فتخاذل الفريقان » .
« ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا
خيراً » الأحزاب – 25 .
هذا أسلوب في تغيير ما بأنفس القوم في
موضوع معين ، ليتغير موقفهم . وكان هذا العمل بإشارة واضحة من الرسول صلى الله
عليه وسلم . وكان المنفذ متقناً للعملية مستغلاً للظروف ، ولعلمه بالتاريخ الماضي
والحاضر للمشكلة التي يعيشها ، ولاسيما مع صلاته الخاصة السابقة مع الفريقين ، كل
ذلك مع تقدير جيد للموقف الذي عليه بنو قريظة وقريش ، مكنه أن يؤثر بما بأنفسهم
التأثير المناسب الذي يقتضيه الموقف ، فكان نجاحه بارعاً .
إن قصة نعيم بن مسعود نموذج واضح جداً
على استغلال قدرة تغيير ما بالأنفس لتغيير المواقف .
مثال ثالث :
وفي هذا العصر ، أخذت العقول البشرية
تهتم بهذا الموضوع للوصول إلى نتائج إيجابية بجهود قليلة ، لا تحتاج إلا إلى
مهارات في معرفة نفسية الأقوام وتاريخهم ، وما يمكن لن يقبلوه بسهولة ، أو يرفضوه
دون تردد ، وتوجيه ذلك كله لصالح المشرف على عملية التغيير .
ولأهمية هذه الوسائل التي يطلق عليها
مجتمعةً اسم « الحرب النفسية » ، أنشأ ترومان مجلساً أعلى للاستراتيجية النفسية
مهمته أن يوصي ببرامج من هذا النوع وينسق العمل .
وأدرك ايزنهاور أن الوسائل النفسية تكون
أشد فعالية إذا نسقت مع السياسة العامة فحَّول مجلس الاستراتيجية النفسية لمجلس
تنسيق العمليات » .
0 التعليقات:
إرسال تعليق