حتي يغيروا ما بأنفسهم 14
ما
بالنفس يتفاوت في الرسوخ
هناك عوامل لترسيخ ما بالنفس منها ،
التكرار في العرض والشرح ، والممارسة العملية لها في الحياة التطبيقية .
والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا
مثلاً في كيفية ترسخ الفكرة ، أو تمكنها حتى تصير ملكة ، تتولد منها أعمال الإنسان
وواقع المجتمع :
(عن حذيفة عن رسول الله
قال : « تعرض الفتن على قلوب كالحصير ، عوداً عوداً ، فأي قلب أشربها نكت في نكتة
سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل
الصفاة فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مُر بَادَّاً كالكوز
مُجخَّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً » . رواه مسلم . قال ابن جرير : فاخبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا
أغلقتها أتاها حينئذ الختم من الله تعالى والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ،
ولا للكفر عنها مخلص ، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى : « ختم الله
على قلوبهم » .
فضرب المثل بأشياء محسوسة للأشياء التي
لا تحس أو للأمور المعنوية ، وذلك بذكر مثل الحصير ، وكيف تعرض الأعواد عند نسجها
عوداً عوداً ، فبناء النفس كذلك إنما يتم خلال الزمن ، بعرض الأفكار عليها بوسائل
مختلفة فكرة ، فكرة . والقلب الذي يتقبل الفتنة والشر ، تنكت فيه نكتة سوداء ،
والذي يرفض يبقى أبيض لا تضره فتنة . وكذلك العرض المستمر المتتابع على القلوب
كنسج الحصير .
وهنا يمكن أن يشبه ما يحدث في النفس – من
أن النفس تحول بعض الأفكار إلى الأعماق ، مما يجعل هذه الأفكار تعمل عملها آلياً –
بما يحدث في بعض أعضاء الجسم عند الإنسان التي تعمل آلياً ، كذلك الأفكار المترسبة
في الأعماق تعمل آلياً وتستجيب للأحداث والمثيرات استجابة آلية ، ولا يشترط أن
يكون كل ما ترسخ صواباً بل الخطأ أيضاً يترسخ ، وقد يكون الصواب فيه قليلاً .
ونبش هذه المفاهيم المترسبة وإخراجها إلى
حيز الوعي ، وإجراء التغيير اللازم عليها عملية ليست خارجة عن طوق الإنسان ، لأن
ذلك من المهمة التي أوكلها الله إلى الإنسان لا كفرد ، بل كقوم وكمجتمع .
إن تغيير ما بالنفس ، سواء كان في مجال
الوعي أو كان مترسباً منسياً بكل محتوى النفس الظاهر والباطن ، إن هذا التغيير من
مهمة الإنسان ، وكلما كشف سنن التعامل مع النفس كان قادراً على إحداث التغيير .
فمن هنا تتأكد الحاجة إلى ضرورة تحصيل علم سنن تغيير ما بالنفس .
وقد تنبه ابن خلدون إلى شيء من هذا حين
تحدث عن اكتساب ملكة البيان العربي والشعر ، قال : « فمن قل حفظه أو عَدِمَ لم يكن
له شعر وإنما هو نظم ساقط ، واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ . ثم الامتلاء
من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم وبالإكثار منه تستحكم
ملكته وترسخ … » . وموطن الشاهد من كلام ابن خلدون ليس هذا بل سيأتي وهو قوله : «
وربما يقال إن من شرطه نيسان ذلك المحفوظ ، لتحمى رسومه الحرفية الظاهرة ، إذ هي
صادة عن استعمالها بعينها ، فإذا نسيها ، وقد تكيفت النفس بها ، انتقش الأسلوب
فيها كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة »(1) .
وما يقوله ابن خلدون لا ينطبق على الشعر
فقط ، بل على كل علم من العلوم إذا أراد الإنسان أن يكسب ملكة فيه .
وكما بين الأفراد فروق فردية ، كذلك بين
الأمم والمجتمعات ، إلا أن مصدر الفروق مختلف ، إذ مصدره في الأفراد الفطرة
والاستعداد الأولي ، بينما في المجتمعات مصدره مقدار استغلال هذه الاستعدادات .
فالأول موهوب والثاني مكسوب . والخلط بينهما يكون سبباً لتبني العصبيات التي وصفها
الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها منتنة .
والفطرة الموهوبة للأفراد من الذكاء
تتفاوت ، وهذا التفاوت فطري موجود في كل مكان بين الأفراد ، في كل المجتمعات ،
وحتى بين الاخوة من متوسطي الذكاء ومن هم دون ذلك أو فوقه . ولكن المجتمعات ليست
هكذا بالفطرة ، بل ما بين المجتمعات من الفروق إنما ترجع إلى مواريثهم المكتسبة من
الثقافة ، فبهذا يتفاوتون . ويمكن لكل مجتمع أن يرفع أو يغير من مواريثه
الاجتماعية .
ولا توجد بين المجتمعات فروق في الفطرة
وإنما فروق في الثقافة المكتسبة ،
إن هذه المواضيع لم تصر في العالم
الإسلامي علماً تطبيقياً ، وإن كان شيء من ذلك ، فهي نظرات عند أفراد قلائل لم
يصلوا بعد إلى درجة سد فرض الكفاية في الأمة . ولا بد أن يصل عدد هؤلاء علماً
وعملاً إلى ما يسد حاجة الأمة ، حتى يمكن اختزال زمن التغيير إلى أدنى حد .
ولكن إلى الآن لم تصح عندنا الفكرة
نظرياً ، فضلاً عن أن نستخدم ذلك في سبيل تغيير ما بالأنفس لنغير ما بالمجتمع ،
ويمكن أن نقرب الفكرة قليلاً ، إذا قارنا
عملية التغيير فيما بالأنفس بعملية تعليم القراءة والكتابة , فلو ترك تعليم
المجتمع القراءة والكتابة ، إلى مجهود كل شخص دون أن تكون مؤسسات لتعليم أطفال
الأمة ، فإن الفوضى ستحل . وكذلك ينبغي أن يخضع تغير ما بالأنفس لمؤسسات . وإلى
الآن يحدث ما يحدث عندنا على أساس الصدفة ، دون تحول ذلك إلى علم منَّهج واضح .
لهذا يظهر عدم التوازن في المجتمع وبطء نموه حتى في المشاكل التي صارت خاضعة للسنن
بوضوح في مجتمعات أخرى . والسبب ؛ أن الأمة لم تحصل بعد ملكة تغيير ما بالأنفس ،
ولم تملك ما يسد فرض الكفاية . ونقص ملكة التغيير ، مثل نقص ملكة البيان والشعر ،
فلا يمكن تحصيل ملكة عملية تغيير ما بالأنفس – كما لا يمكن تحصيل ملكة البيان
والشعر – إلا بممارسة هذا الفن ؛ وهو النظر في سنن الماضين وما حدث للأمم من تغيير
بطيء أو سريع خلال التاريخ . ونحن إلى الآن لا ندرس التاريخ على هذا الأساس أو
القصد ، وإن كان القرآن يلح علينا في ذلك .
ولابن خلدون العذر في أن تكون عباراته
غير دقيقة ، حيث جعل مرد ذلك إلى العوائد المترسخة ، التي يمكن أن تمثل ما نطلق
عليه نتائج ما بالأنفس . قال في « فصل إن الدول لها أعمار طبيعية كما للأشخاص » .
وبعد أن تحدث عن عمر الأفراد ، تحدث عن عمر الدول فقال : (إن الدولة في الغالب لا
تعدو أعمار ثلاثة أجيال ، والجيل هو عمر شخص واحد ، والعمر الوسط يكون أربعين .
وعلل ذلك بأن الجيل الأول ، لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها .. والجيل الثاني
تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة . أما الجيل الثالث فينسون
البداوة والخشونة كأن لم تكن فيصيرون عيالاً على الدولة . فهذه كما ترى ثلاثة أجيال
فيها يكون هرم الدولة وتخلفها .
ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع
كما مر في أن المجد والحسب إنما هو في أربعة آباء وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعي
كافٍ مبني على ما مهدناه من قبل من المقدمات . فتأمله فلن تعدو وجه الحق إن كنت من
أهل الإنصاف .
وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مئة وعشرون
سنة على مر ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر . بتقريب قبله أو بعده إلا إن عرض
لها عارض آخر من فقدان الطالب فيكون الهرم حاصلاً مستولياً والطالب لم يحضرها ولو
قد جاء الطالب لما وجد مدافعاً « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون »
)(1) .
وقد ذكر ابن خلدون: « ومن الغلط الخفي في
التاريخ ، الذهول عن تبديل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الاعصار ومرور الأيام
، وهو داء دوي شديد الخفاء . إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة ، فلا يكاد يتفطن له
إلا الآحاد من أهل الخليقة . وذلك أن أحوال العالم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على
وتيرة واحدة ومنهاج واحد مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من
حال إلى حال .
وهذا تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أوان ذهاب العلم ، والصحابي لم يكن يفهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
كيف يذهب العلم ، وكذلك لم يفهموا كيف نكون كالقصعة ، يتداعى عليها الأكلة . أما
نحن اليوم فلا نفهم كيف يحصل العلم ، ولا كيف ننقذ القصعة المستباحة .
ذلك الصحابي لم يكن يقدر أن يتصور كيف
يذهب العلم ، واليوم نتعب التعب كله في إثبات وجود علم يخرج المسلمين مما هم فيه
من التيه .
وكذلك حديث القصعة وتداعي الأكلة إليها ،
فإن الصحابة عجزوا أن يفهموا كيف يمكن أن يتم ذلك ، وكل ما خطر في بالهم من تفسير
للموضوع ، أن يكون سبب ذلك قلة في عدد المسلمين ، حين قالوا أوَمنْ قلَّة يومئذ يا
رسول الله ؟ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن العدد حين التداعي على القصعة
يكون كثيراً . ولكن هناك شيء آخر يجعل الناس كغشاء السيل . إن الرسول صلى الله
عليه وسلم كان يرى المستقبل من خلال السنن ، ولم يكن كل الصحابة كذلك .
وليس هناك نظر اجتماعي سنني ، مثل نظر
الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المشكلة الاجتماعية . وكما يقول مالك بن نبي كان
رسول الله يقرأ التاريخ قبل أن يقع ، ويحذر من الوقوع فيه ، على أساس أن الأمر على
نظام وسنن ، سواء في الوقوع في الجهل والقصعة المستباحة أو الخروج منها .
إن هذا النظر السنني هو ما يحتاج إليه
شباب العالم الإسلامي ، إذ أن عدم وضوحه يحشر الأمور المختلفة في ميزان واحد ،
بينما يبعد الأمور المتشابهة عن بعضها . فيقع المرء في حيرة فيجعلنا مرة مثل
الصحابة ، ومرة مثل الجاهلين . ولا يدرك ما يميزنا عن كل واحد منهم من عناصر
التخلف .
إنني أجدني اشعر بضيق شديد من خفاء هذه
الأمور وعدم وضوحها ، وأنها لم تصر بعد بضاعة مفهومة متداولة . وهذا الخفاء يعوق
حركة التقدم في الإصلاح لما يحيط به من غموض . فما لم نسيطر على خارطة تغيير ما
بالنفس ، وما لم نتمكن بوضوح من سنة التغيير ، وما ينبغي أن نغيره وما ينبغي أن
نحذفه ، وما ينبغي أن نضيف إليه ؛ سنظل في طريقنا بعفوية لا قصد فيها ، ونحافظ على
أفكار تعوق تقدمنا ، وننبذ أفكاراً ونعاديها بينما لا غنى لنا عنها . مثال ذلك عدم
مبالاتنا بعلم تغيير ما بالنفس ، هذا فضلاً عن إعراضنا عن عبر التاريخ التي توضح
لنا ما ينبغي أن نغيره . فهنا نحتاج إلى علمين ، علم تغيير ما بالنفس ، وعلم آخر
وهو ما نميز به ما ينبغي أن نغيره مما ينبغي أن نبقيه . فهذا النقص هو الذي يجعل
سير حركة المسلمين بطيئاً ، مثقلاً بالآصار والأغلال التي تحول بينهم وبين أن يروا
المستقبل في ضوء الماضي . إن الحيرة نتيجة الغموض ، والحيرة هي البرزخ الذي نسير فيه
في أيامنا هذه .
إن اندفاع الإنسان للحركة المجدية ،
مرهون باقتناعه أن لكل مشكلة طريقة لحلها . فكذلك المسلمون لا يمكن لهم أن يتحركوا
بجدية لتغيير واقعهم ، ما لم يقتنعوا أن مشكلتهم تخضع لقوانين وسنن .
أما إذا بقي لديهم شعور أن المشكلة لا
تحل إلا بالمهدي ، أو بأن الزمن شارف على الانتهاء ، فان المشكلة تبقى دون حل ، بل
تزداد تعقيداً .
إن الفكرة حين تتعمق في النفس تكون
مصدراً للأخلاق ، وما الخلق إلا السلوك الناشئ عن أفكار متعمقة ثابتة راسخة في
النفس .
وينبغي أن يلاحظ أن الفكرة يمكن أن يوحى
بها ، فتكون مصدراً للأخلاق دون أن تمر بالوعي الشعوري ، كما عند الأطفال والعوام
.
0 التعليقات:
إرسال تعليق