حتي يغيروا ما بأنفسهم 18
1- آفة الغفلة :
قال الله تعالى « إن الذين لا يرجون
لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك
مأواهم النار بما كانوا يكسبون » يونس - 7 - .
وقال تعالى : « سأصرف عن آياتي الذين
يتكبرون في الأرض بغير الحق ، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها ، وإن يروا سبيل
الرشد لا يتخذوه سبيلا ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ، ذلك بأنهم كذبوا
بآياتنا وكانوا عنها غافلين ، والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ، حبطت أعمالهم
هل يُجزون إلا ما كانوا يعملون » الأعراف - 147 - .
وقال تعالى : « لهم قلوب لا يفقهون بها ،
ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل
أولئك هم الغافلون » الأعراف - 179 - .
2- آفة الإعراض عن آيات الله وسننه :
يقول الله تعالى في ذلك : « وكأين من آية
في السماوات والأرض ، يمرون عليها وهم عنها مُعرضُونَ » يوسف - 105 - .
« وجعلنا السماء سقفا محفوظاً وهم عن
آياتها معرضون » الأنبياء - 32 - .
« بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم
مُعرضُونَ » المؤمنون - 71 - .
وسبب هذا الإعراض ، عدم رؤية العلاقة بين
طاقة الفكر وسنن الكون ، هذه العلاقة التي يسميها الله التسخير .
3- آفة التكذيب وافتراء الكذب :
قال الله تعالى : « ومن أظلم ممن افترى
على الله كذباً أو كَذَّبَ بآياته » الأنعام - 21 - .
« وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » فاطر - 25 - .
« ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير
» الملك - 18 - .
« بلى قد جاءتك آياتي فَكَذَّبْتَ بها
واستكبرت » الزمر - 59 - .
« إن الله لا يهدي من هو كاذبٌ كفار »
الزمر - 3 - .
في هذه الآيات يبين الله :
1- إن التكذيب ظلم …
2- وهو شيمة الأقوام السابقين أيضاً .
3- وأن للتكذيب عاقبة …
4- وله ارتباط بالاستكبار .
5- ويكون بما لم يحط به الإنسان علماً …
6- ويكون أحياناً عن علم وتعمد .
7- التكذيب قد يكون للإضلال بغير علم ..
8- والكاذب لا يهتدي إلى الحق .
التكذيب ، مثل الاستكبار والإعراض
والغفلة ،
ونحن إذا نظرنا إلى التكذيب ، ينبغي أن
ننظر إليه على أساس أن له سنناً متعلقة بالنفس ، يمكن أن يحدث لكل من تكونت لديه
تلك النظرات . فالمشكلة هنا دقيقة ، وذلك أن هذه السنة سنَّة بشرية غير خاصة بقوم
معينين ، وإنما هي عامة لكل الناس الذين يحملون أفكاراً معينة . ويكون التكذيب
مطابقاً لما في النفس من الأفكار ، قلَّةً وكثرة ، قوةً وضعفاً .
« بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه » .
وضربنا لذلك مثلاً حين شرحنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذهاب العلم ، برغم
وجود الكتاب بين الناس دون أن يغني عنهم شيئاً ، كما تفقد آيات الكتاب مفعولها عند
الذين فقدوا العلم بها ، كذلك فإن آيات الآفاق وآيات الأنفس تفقد مفعولها أيضاً ،
عند الذين فقدوا العلم بها . بل إن آيات الآفاق والأنفس ، لم نتعلم بعد قراءتها
ولا طريقة فهمها ، فلذا يسهل علينا جداً التكذيب بها ، بل نظن أن هذا التكذيب الذي
نكذب به ، يرضى عنه الله سبحانه وتعالى ونخدم به دينه ، ونحصنه من الضياع .
وفي الواقع ، أن من عرف قراءة آيات
الآفاق والأنفس ، وعرف كيف يتعامل معها ، يدرك أن لهذه الآيات الآفاقية والأنفسية
قوة آيات الكتاب في الدلالة على الحق ،
والغرض من هذا ، أن نستفيد من الماضي ،
لننزع عنه هالة القدسية العمياء ، التي تخفي نقائصه . ومثل هذا النظر جعل محمد إقبال
يحجب الثقة ، عن إنتاج المسلمين في وقت ضعفهم ، كذلك سنذكر نظراً جيداً للأستاذ
سيد قطب أيضاً فيما بعد في هذا الموضوع .
إن الذين طال عيشهم في الظلام ، يؤذيهم
النور ويجرح أبصارهم ،
إن التخوف من الفكر ، قد يحمي المتحصن به
يوماً ما ، ولكن لن يحفظه إلى الأبد ، بل سيأتي اليوم الذي يحدث فيه الطوفان الذي
يجرف الأخضر واليابس .
4- آفة اتباع الهوى :
هذه الآفة من ذرية الآفة الكبرى ، إذ حين
يذهب العلم يبرزُ الهوى ليقود . ويُلمحُ ذلك من الآيات التي تذكر الذين يتبعون
أهواءهم ، قال تعالى :
« ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من
الله » القصص - 50 - .
وقال تعالى : « بل اتبع الذين ظلموا
أهواءهم بغير علم » الروم - 29 - ، وقال تعالى : « أولئك الذين طبع الله على
قلوبهم واتبعوا أهواءهم » محمد - 16 . وقال تعالى : « وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم
بغير علم » الأنعام - 119 . وقال تعالى : « أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له
سوء عمله واتبعوا أهواءهم » محمد - 14 .
والإنسان حين لا يهتدي بسنن الله ، ولا
يهتدي بالعلم والهدى الذي جاء من عند الله ، يميل به هواه ، لأنه فقد الميزان ،
فصار سهلاً عليه أن يميل مع هواه حيث لا يخشى سنَّةً ولا علماً . فكيف يخشاهما ! …
وهو لم يشعر بقوانينها في الحياة ، وأسلوب كشفهما للباطل ! … فلذا نجد أنَّ ضيق
نظره . والمحدودية في إدراكه ، يسهلان عليه اتباع الظنون وما تهواه نفسه ، دون أن
يخشى نكيراً .
5- آفة اتباع الآباء :
إن الذين يفقدون السنن والقوانين ، في
أحداث الكون وحوادث البشر ، يستبدلون تقاليد الآباء بالسنن ! … ولتقاليد الآباء ،
سلطان قوي يأخذ بمخانق البشر . وسلطان الآباء ، يجب أن يقف عند حدٍّ معين لا يتجاوزه
، وإلا كان وبالاً ومصيبة .
إن الأمراض التي نعيشها في مجال الفكر ،
أمراض مميتة ، قاطعة لطريق الحياة . أنا لا أشعر أني قربت إليك بعيداً ، فإن ضغط
إرهاب القرون الماضية في الفكر ، سيفٌ مسلط على رؤوسنا . وإزالة هذا الكابوس ، لن
تتم إلا بجهود عظيمة ، من الدأب في الدرس ، وفتح الأبصار والبصائر ، والسير في
الأرض والنظر إلى ما خلق الله ، وكيف بدأ هذا الخلق . وهذه كلها لم نتعود عليها
بعد ، بل لا نرى فيها كثيراً من الجدوى ، مهما تكرر النداء في آيات القرآن ، وبعث
الهمم إليها .
وهكذا قص الله علينا نفسية الماضين
والجامدين من أهل الكتاب ، نحن قد دخلنا إلى تلك الاجحار ، وعشنا فيها منحنين حتى
تقلصت عضلاتنا ، مغمضين ، حتى صار نورُ الفكر يُعْشِينا ، ومع ذلك نزعم كما زعم
الأولون ، من أننا : عبادُ الله المصطفون وأحباؤه المقربون . إننا لم ننظر إلى
التاريخ البشري على أساس السنن ، وإنما نظرنا على أساس الخصوصيات والمحسوبيات ،
وأن المجد ميراث من غير جد .
كل ذلك لأننا لم نفتح أبصارنا ، ولا نريد
أن نبصر . وكأن العذاب بالذنوب لم ينطبق علينا ، وكأننا لسنا من البشر الذين خلقهم
الله ويخضعون لسننه . وكأننا لم نقرأ : « لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ
أَهْلِ الْكِتَابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا » النساء - 123 - .
وكل التحذير الذي بوجهه القرآن إلى اتباع
الآباء ، حمله المسلمون على غيرهم . كأن مشكلة اتباع الآباء ، ليست مشكلة إنسانية
، أو أن ضررها لا يمكن أن يلحق المسلمين . فهذه غفلة عن هذه السنة ، وحمل الآيات -
التي تحذر من اتباع الآباء على غير بصيرة - على الأمم السابقة ، كل هذا أفقد
المسلمين قيمة التحذير من اتباع الآباء . فبقيت الآيات في الكتاب ، ولكن لم
ينتفعوا منها بشيء وهذا مثل واضح عن فقدان الكتاب قيمته الإصلاحية حين يعجز البشر
عن التفاعل معه . ومن هنا تبرز أهمية إدراك العلاقة ، بين ما بالنفس وآيات الكتاب
.
وأكرر ، بأن المشكلة ليست مشكلة الأجيال
الماضية وفهمهم ، وإنما مشكلة ضياع الأجيال الحاضرة وعطالتهم
والقرآن الكريم يزكَّي اتباع الآباء فيما
إذا خضع ما عند الآباء للبرهان ، وعند ذلك يقول القرآن الكريم : « واتبعتُ ملة
آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله
علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون » يوسف - 38 .
وقال الله تعالى ، عن الذين يقدمون ما
عليه الآباء على الكتاب - مهما كانت حجتهم بأنهم يعلمون مالا نعلم - قال الله فيهم
: « وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ، قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ،
أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون » البقرة - 170 . فإن من لا يقدر على
التمييز بين القاعدة والشخص ، يفتح على نفسه باب التيه . والنجاة من هذا التيه ،
تكون بإخضاع ما عليه الآباء للعقل والقاعدة . وهذا العمل هو الذي يجعل الفائدة من
تراث الآباء مضمونة ، مع تفادي ما يمكن أن ينتج عنه من ضرر .
فالغفلة عن إدراك هذا النظام الرباني
المودع في الكون ، يفقد الإنسان ميزته الأساسية ، وأمانته التي حمله الله إياها ،
والسلطان الذي أعطاه الله تعالى له ، لتسخير ما خلق الله له . ويصير هذا الإنسان
المكرم في أسفل سافلين ، بل يصير الإنسان نفسه مسخراً للذين يعلمون سنن الله .
والإنسان حين لا يدرك أن للكون نظاماً ،
وللعقل سلطاناً ، يعيش في فوضى . تأتيه النكبات تلو النكبات ، ولا يعرف لها سبباً
معقولاً ، ولا يشعر أنه إنما يصيبه ذلك لأنه عطل ما أودع الله فيه من قوى : « وما
ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » النحل - 33 - .
إن الخلط العجيب ، بين سلطان الله وما
منح الله للبشر - من تمكين في توجيه حياتهم ، وعدم رؤية المجال الذي أعطي للإنسان
- يبطل النظام الذي أبدعه الله لحياة البشر .
0 التعليقات:
إرسال تعليق