حتي يغيروا ما بأنفسهم 7
مجال
كل من التغييرين
تغيير
الله وتغيير القوم
إن مجال التغيير الذي يحدثه الله ، هو ما
بالقوم ، والتغيير الذي أسنده الله إلى القوم ،مجاله ما بأنفس القوم .
« ما بقوم » يشمل الكثير ، ويشمل أول ما
يشمل ما يمكن أن يلاحظ ويرى من أوصاف المجتمع ؛ من الغنى والفقر ، والعزة والذلة ،
والصحة والسقم . وينبغي أن نتذكر هنا ، أن القصد ليس الفرد ، كل فرد بذاته ، وإنما
المجتمع العام . وأن التغيير الذي يحدثه الله من الصحة والسقم ، والغنى والفقر ،
والعزة والذلة ، إنما يعود إلى القوم بمجموعهم لا إلى فرد محدد .
وأما التغييرات التي يحدثها الأقوام ،
فإن الله تعالى علَّقها بما بالأنفس .
إن المراد بما بالأنفس : الأفكار ،
والمفاهيم ، والظنون ، في مجالي الشعور واللاشعور .
وملاحظة الارتباط بين التغييرين ، وتمكُّن
الإنسان من استخدام سنن التغيير ، يعطي للإنسان سيطرة على سنَّة التاريخ ، وسيطرة
على صنعه وتوجيهه .
وفي الواقع إن ابن خلدون لمح هذا الجانب
ببصيرة نفَّاذة
وابن خلدون له من التطلع إلى ما وراء
الأحداث من أسباب ، سواء كانت هذه الأحداث دولاً ومللاً ، وعزَّة وذلة ، وكثرة
وقلة . فإن ما يذكره ابن خلدون هو هذه الأشياء الظاهرة مما بالقوم ، من غنى وفقر ،
وصحة وسقم ، وعزة وذلة .
فهذه الأشياء هي التغيير الذي يحدثه الله
في نص الآية . وابن خلدون صار له من التطلع إلى مبررات ومسببات هذه النعم والنقم ،
لما بالأقوام والدول والملل ، ما دعاه إلى أن يُعمل فكره فوصل إلى ما وصل إليه وهو
يقول في ذلك :
« فإن التاريخ في ظاهره ، لا يزيد على
أخبار من الأيام والدول … وفي باطنه نظر وتحقيق ، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق …
وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق ، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق ، وجدير بأن
يعد في علومها وخليق » .
فهذا الذي يسميه ابن خلدون باطن التاريخ
؛ هو الذي سميناه القسم الخاص بالأقوام ، في تغيير ما بالأنفس مما أقدرهم الله
عليه ، وعلى أساسه حملهم أمانته . وابن خلدون يربط التغيير الأول بالتغيير الثاني
،
ولهذ قال بن خلدون في عبقرية نفاذه عن
المؤرخين واستيعابهم للأخبار وجمعهم لها :" ...وأدوها إلينا كما سمعوها ولم
يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها فالتحقيق قليل . والتقليد في الآدميين
عريق وسليل . والتطفل علي الفنون عريض وطويل.
إن ابن خلدون جعل محور بحثه عن الدول ،
ولكن إدراك الموضوع على أساس الحضارة ، ينطبق عليه نفس النظر . وهذا ما يحتاج إليه
العالم الإسلامي لبحثه كثقافة حضارة لا كدولة ، إذ الدولة جزء من الحضارة ونتاج
لها .
وما أحوج العالم الإسلامي والعالم كله ،
إلى بذل ما يستحقه البحث في أصول الحضارة في هذا العصر ، كما فعل ابن خلدون ، مع
اختلاف المستوى ، ولكن الروح التي بدأ بها ابن خلدون بحثه ، هي التي تجعل كل من
ينظر إليه لا يتمالك من الإعجاب مع قصور كثير من أمثلته ومباحثه قال :
(ولما طالعت كتب القوم ، وسبرت غَوْرَ
الأمس واليوم ، نبَّهتُ عَيْنَ القريحة من سنة الغَفْلةِ والنوم .. فأنشأتُ في
التاريخ كتاباً ، ورفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حِجَاباً ، وفَصَّلتُهُ في
الأخبار والاعتبار باباً باباً ، وأبديتُ فيه لأولية الدول والعمران عللاً
وأسباباً ، فذهبت مناحيه تهذيباً ، وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً ،
واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً ، وطريقة مُبْتَدَعَةً وأسلوباً ، وشرحت
فيه من أحوال العُمران والتمدن ، وما يعرض في الاجتماع الإنساني عن العوارض
الذاتية ما يُمتعك بعلل الكوائن وأسبابها ، ويُعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها
، حتى تنزع من التقليد يدك ، وتقف على أحوال من قَبلكَ من الأيام والأجيال وما
بعدك ) .
0 التعليقات:
إرسال تعليق