14‏/05‏/2019

حتي يغيروا ما بأنفسهم 16

حتي يغيروا ما بأنفسهم 16
قاعدة هامة :
إن هذا الحديث من المرتكزات القيمة لفهم هذه السنة العجيبة ، التي أعيى المسلمين السابقين واللاحقين ، فهم حقيقتها . هذه السنة وردت بوضوح صارخ في حديث صحيح للرسول صلى الله عليه وسلم . عن زياد بن لبيد أنه قال : « ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال : وذاكَ عندَ ذهاب العلم . قلنا يا رسول الله وكيفَ يذهبُ العلمُ ونحنُ نقرأ القرآن ونُقرِئُه أبناءنا ، وأبناؤُنا يقرئُونهُ أبناءَهم إلى يوم القيامةِ ؟ فقالَ : ثَكِلتكُ أمكَ يا ابن لَبِيد ، أن كنتُ لأراكَ مِن أفقَهِ رَجُل بالمدينة . أوَ لَيس هذهِ اليهودُ والنصارى يقرؤون التوراةَ والإنجيلَ ولا ينتفِعونَ ممِا فِيهِما بشيءً ؟ »(1) .

هذا الحديث يبين أمورا تساعد على فهم أدق للسنن ، وهو من فهم الصادق الأمين (صلى الله عليه وسلم) ، الذي ما ترك شيئاً ينفع أمتهُ إلا وحثهم عليه . إنه كان صلى الله عليه وسلم يرى المستقبل من خلال السنن . السنة التي تعم الجميع ، والتي انطبقت على أهل الكتاب السابقين ، ويمكن أن تنطبق على أهل القرآن . فإن هذا الحديث لا يحتمل أي تأويل أو غموض في الفهم . فانه يذكر سنة ، وحادثة معاصرة لها تاريخ سابق ، ومثالاً سيأتي ، فانه جمع بذلك الماضي والحاضر والمستقبل . لأن الموضوع يخضع لسنة ، إذ كل من اكتسب الحالة النفسية التي كانت عليها اليهود والنصارى يحل به ما حل بهم . وهذه الحالة النفسية المشابهة ، يطلق الله عليها تشابه القلوب ، ويقول الله في ذلك : « وقال الذين لا يعلمون ، لولا يكلمنا اله أو تأتينا آية ، كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ، تشابهت قلوبهم ، قد بينا الآيات لقوم يوقنون » البقرة _ 118 _ .

أن فكرة الاجتراء على المعاصي ، على أساس أنهم يعذبون قليلاً ثم يذهبون إلى الجنة ، فكرة منتقدة على اليهود والنصارى ، ولكن ذلك لم يمنع المسلمين من الاحتجاج بنفس الحجج . قال الله تعالى : « وقالوا لن تمسنا النار إلاَّ أياماً معدودة ، قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون » البقرة _ 80 _ .


في هذا الحديث الذي نحن بصدده ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « يَحدثُ ذَاكَ عِندَ ذَهابِ العِلم .» ويصعب على الصحابي أن يفهم كيف يذهب العلم ومعهم مصدره . فيضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل على إمكان ذلك ، من واقع الحياة المعاصرة لهم ، من مجتمع سابق لا يزال معاصراً لهم ، معهم الكتاب ، ولا ينتفعون مما فيه بشيء .

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر أنه إذا ذهب العلم ، يذهب معه الانتفاع مما في القرآن والحديث أيضاً . وقد نختلفُ على حقيقة هذا العلم ، وهَل هو عندنا ، أم ليس عندنا ؟
ولكن المهمَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدده بأنه علم . ومهما اختلفتا فإن الواقع أقسى من أي خلاف .
إن الواقع بكل ثقله وكل دلالاته الصارخة والخفية ، يقول : إن المسلمين لم يعودوا يملكون العلم الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا العلم الذي مجده الله في القرآن ، وعلى أساسه أثبت تفاوت الناس ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات . وبأسلوب إنكاري نفى أن يتساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون .

إن العلم له يعد له مفهوم واضح عند المسلمين . ولا يعرفون له تعريفاً يستطيعون أن يميزوا به ما هو علم مما هو ليس بعلم ، وهذا يفقد العلم قيمته ، فيختلط بالظن ، وينظر إليه كما ينظر إلى الأوهام والظنون ، فهذا هو معنى ذهاب العلم . وكثيراً ما يمدح المسلمون دينهم بأنه دين العلم ، ويريدون بذلك أن يزينوه كما يتزين الفارغون بالأزياء الجديدة . ولكن حين يُبحث الموضوع على أساس العلم ، نرى أعينهم تدور كالمغشي عليه ، ويصير العلم عندهم هو والظن سواء ، ويفضلون أن يتمسكوا بنظرات ذاتية كوَّنوها عن الإسلام ، رسخت على مر العصور .

وليس موضوعنا هنا هو بحث العلم ، هذا العلم المظلوم ، الذي لم يعد له مقام في العالم الإسلامي . فهو روح فقدناه وحقيقة غبنا عنها . وما لم يرجع هذا العلم إلى المسلمين ، بكل ما منحه الله من قوة وسلطان ، فلن يقدر المسلمون أن يستفيدوا من الكتاب والسنة ، وسيظلون يتدحرجون تحت أقدام اللاعبين ، مهما ظنوا أنهم أهل القرآن وعلم الحقيقة واليقين .

وهنا يختلط على المسلم تقديسه للكتاب والسنة ، واعتقاده أنهما يغنيان عن كل شيء بأمر آخر وهو كيف لم يرفعا عن المسلم الهوان الذي وقع فيه .

فهنا نخطئ ويصل تقديسنا للكتاب والسنة إلى الغلو ، حين ننسب إليهما شيئاً ليس من مهمتهما ، إذ ليس من مهمة الكتاب والسنة ، أن يرفعا الهوان عن قوم لا يستخدمون أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم . فهذه الملاحظة أمر جوهري ، علينا أن نتأملها جيداً ، إذ ليس من شأن الكتاب والسنة الهداية ، إلا أن بعض البشر ، يزيدهم هذا الكتاب ضلالاً ولا يزيدهم هدىً . قال تعالى :
« يصل به كثيراً ويهدي به كثيراً » البقرة - 26 - ويقول الله تعالى : « إنما تنذر الذين يخشون ربهم » فاطر - 18 - « إنما تنذر من اتبع الذكر » يس - 11 - . « لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين » يس - 70 - .

هذه حقيقة علينا أن نفهمها جيداً ، إذ ليس مما ينقص من قدر الكتاب والسنة ، أنهما لا يرفعان شأن قوم ، لم يرفعوا بما بعث الله به رسوله رأساً .

وعلينا أن نكرر هذا ، حتى لا يُفرض على الكتاب والسنة ما ليس من شأنهما . ثم على أساس هذه الفريضة ، يظن أن الكتاب والسنة لم يقوما بمهمتهما . ونقع في هذا الخلط بدون شعور منا . فهذا الغموض ، وهذه الفرضيات التي فرضناها ، وابتدعناها تعظيماً للكتاب والسنة ، توهمنا أن الكتاب والسنة ، لم يؤديا المهمة التي ظننا أنهما ينبغي أن يقوما بها . وهذه متاهة ومكان للالتباس ، وعلينا أن نعرف أن الكتاب يظل كاملاً ، ويظل متصفاً بكل صفات القداسة ، ولا يشترط أن يرفع الكتاب رأس من لم يرفع به رأساً .

إن الفهم شرط التوبة ، شرط تغيير ما بالنفس . والتائب هو الذي غير ما بنفسه .

إن الكتاب والحديث ، وكل السنن الكونية ، تظل معطلة بالنسبة للإنسان ، إن لم ينتبه إليها . وليس معنى هذا ، أن هذه السنن يبطل مفعولها ، ولكن معناه ، أن المسلم لا يستطيع أن ينتفع منها . فالمشكلة ، ليست في أن الكتاب لم يقم بمهمة الإيقاظ ، ولكن المسلم لم يقم بواجب النظر .

إن عقل المسلم لم يتعلق بالكتاب والسنة بمعنييها ، بمعنى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبمعنى سنن الله في الكون . وبهذا نكون حددنا ، أن مكان المشكلة ، ليس في الكتاب والسنة بمعنييها ، وإنما في العقل ، الذي فقد وظيفته في العالم الإسلامي . ويكفي على هذا دليلاً ، إغلاق باب الاجتهاد في العالم الإسلامي خلال القرون الطويلة . إن هذا الإغلاق لم يأت من الكتاب والسنة ، ولا أمراً به ، بل من أهم ما يعنى به الكتاب والسنة : الاجتهاد ، ثم الاجتهاد ، ثم الاجتهاد …

ولكن العالم الإسلامي هو الذي أغلق الباب ، باب الاجتهاد ، باب العقل ، الذي يمكن أن يدخل إليه الكتاب والسنة ، ليقوما بمهمة توجيه هذا الإنسان . وكان الهدف من إغلاق باب العقل عند المسلمين ، حماية الكتاب والسنة من التلاعب والتلفت . ولكن هذا الهدف لم يخدم الكتاب السنة ، لأن العقل المقفل لا يستطيع أن يحمي الكتاب والسنة .

إن القلوب التي عليها  الطبع ، والعيون التي عليها الغشاوة ، والآذان الموقورة ، لا تتفاعل مع الحقيقة .

إن من أوليات ما يعلمنا الله تعالى في كتابه الكريم : أن الباطل لا يكسبُ قوة الحق ، وإن كثر أتباعه وطالَ عمرُهُ .
« قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث » المائدة - 100 - .
… والقرآن الكريم يدينُ الذين يلزمون ما كان عليه آباؤهم ، فيقول في ذلك :
« وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون » البقرة - 170 - .

والآيات في هذا كثيرة . والقرآن مليء بهذا الموضوع : « إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون » الصافات - 70 - .

كان البحث ، في موضوع : ضرورة ربط آيات الآفاق والأنفس ، وسنن التعامل معها ، بآيات القرآن ، ربطاً محكماً ، بحيث يشعر المسلم ، بالارتباط القوي بين آيات الكتاب وآيات الآفاق والأنفس ، وأن ذلك ليس مجردَ إقحامٍ . وهذا يحتاج إلى حذق ، وإلى معرفة دقيقة من التعامل مع الأنفس . ونحن إذا أردنا أن نعيد للعقل وظيفته ، فلا يعني ذلك ، معارضة أمر القرآن . بل من أعظم مهمة الكتاب الكريم ، أن يعيد للإنسان كانسان ، وظيفته . ثم بعد ذلك يسير به في ظلال : « أفلا تعقلون » حتى يوصله إلى النعيم المقيم ، ولا يتركه في أي جزء من الطريق من حين أن يقول : « يا أيها الناس » إلى قوله : « وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير » وإلى أن يقول : « ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين » .

ولعلي أكون بهذا ، قد بعثت بصيصاً من الأمل ، فيما حاولت أن أصل إليه ، من أن : كل سنة ، وكل مثال في التغيير ، ينبغي أن يكون مستنداً إلى القرآن الكريم ، لتكسب السنَّة فاعليتها الاجتماعية عند المسلمين . ومعنى الفاعلية الاجتماعية ، أن يتعامل العقل مع السنن ، في سعيه إلى ابتغاء مرضاة الله . والمجتمع الذي شأنه هذا ، سيكون من أبرع المجتمعات البشرية ، في استخراج السنن استخداماً صحيحاً . فمثل هذا المجتمع ، هو الذي يسبغ الله عليه من نعمه ، ظاهرة وباطنة ، في الدنيا والآخرة : « لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة » البقرة - 220 - . وحتى هذا الوصل بالكتاب ، قد لا يكفي لإقناع المسلم ، بأنه لم يخرج عن أمر الكتاب ، لأنه لا يكفي عند المسلم ، أن يكون الموضوع موجوداً ، في الكتاب والسنة ، حتى يقبل الأمر . لأن فهم الكتاب والسنَّة مقيد بفهم الآباء ، وفكرة « ما سمعنا بهذا في آباءنا الأولين » المؤمنون - 24 - . لها سلطان أيما سلطان ، ومن هنا يتبين ، أن مشكلة المسلمين معقدة ، ليست بسيطة . ولكن مع ذلك ، فإن إدراكها إدراكاً صحيحاً ، لا يجعل الأمر مستعصياً على الحل . لأن المشكلة ، مشكلة إكساب الإنسان المسلم ، قدرة التعامل مع الحقيقة ، بصرف النظر عن ملابساتها ، أو إكساب المسلم قدرة التعامل مع السنة : « سنة الله في الذين خلوا من قبل » الأحزاب - 38 - .
وهنا ينبغي أن نشير إلى أمر آخر ، وهو القدرة على التمييز ، بين ما نقبله على أساس الثقة ، وما نقبله على أساس التعامل مع السنة . فإن من أدرك كيفية التعامل مع السنَّة ، لا يعود يبالي بالثقة من جهل الناقل - فيما يمكن اختباره على أساس السنَّة - سواء كان الناقل موثوقاً به ، أو ليس كذلك ، لأن الموضوع في هذه الحالة ، يحمل دليله معه . فكل من عرف التعامل مع السنن ، لا يمكن أن يخدعه صديق ، أو يغره عدو ، سواء كان قاصداً أو غير قاصد . أما من لا يعرف التعامل مع السنَّة ، وإنما يقبل الموضوع على أساس الثقة فقط ، فهذا معرض للوقوع في الخطأ ، ولاسيما إذا كان في قبول تفسير ، ما ينقل عن المعصوم ، صلى الله عليه وسلم . وهذا التعرض للخطأ يكون على وجهين :
حين نقبل خطأ من نثق به .
وحين نرفض صواب من لا نثق به .
وأسلوب أخذ المسلمين ، والعلوم الاجتماعية والنفسية ، مبني على أساس الثقة ، فلهذا لا قدرة لنا على التعامل مباشرة مع السنن ، وإعطائها ما تستحق من العناية .

وإنما كان التعديل والتجريح ، هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية ، لأن معظمها تكاليف إنشائية ، أوجب الشارع العمل بها ، حتى حصل الظن بصدقها . وسبيل صحة الظن ، الثقة بالرواة ، بالعدالة والضبط .

إن حماية مجتمع ما ، في الحرب والاقتصاد والعقيدة ، ليس خاضعاً للمصادقة ، ولأمور اعتباطية ، وإنما يخضع لموازين دقيقة ، مما بالأنفس من الأفكار ، التي يمكن أن يُجري عليها الاختصاصيون التعديلات المطلوبة كماً وكيفاً ، ضمن نطاق زمن محدد ، بناء على خبرات سابقة ، من سنَّة الأولين أو المعاصرين . كل ذلك علم ، وكل ذلك سنن ، يمكن معرفتها والسيطرة عليها ، وتصحيح الأخطاء فيها ، ومسابقة الزمن في ذلك .

ولكن لن يتمكن من ذلك عقل مرعُوبٌ ، لا علم له بأحداث العالم ، ولا يعرف من أين تأتي المصائب ، ولا كيف تدفع ، ولا كيف تُعطى المناعات للمجتمعات ، ضد الأخطار الفكرية ، لحماية المجتمع ، فضلاً عن أن ينشئ  أجهزة لمراقبة الانحرافات وتصحيح الأخطاء ، على أساس السنن والقواعد التي تخضع لها المجتمعات .



(1) ذكره ابن كثير في تفسير الآية (66) المائدة . وصححه .

0 التعليقات: