23‏/03‏/2015

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 28

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 28




الفصل الثالث : في معارف عامة عن الأصحاب

وفيه:


المبحث الأول: نظرة تقريبية لعدد علماء الحنابلة من طِبَاقِهم المطبوعة.

المبحث الثاني: آفاق الحنابلة وأوطانهم.


المبحث الثالث: معرفة بيوتات الحنابلة.


المبحث الرابع: في التحول المذهبي منهم وإليهم.


المبحث الخامس: في مشتبه الأسماء.


المبحث السادس: في الكنى والأَلقاب والمبهمات.


المبحث السابع: الأوائل الحنبلية.



المبحث الأول: نظرة تقريبية لعدد علماء الحنابلة من طبقاتهم المطبوعة

أربعة كُتبٍ هي العمدة في معرفة طبقات علماء الحنابلة من لدن الإمام أَحمد، المتوفى سنة (241 هـ) - رحمه الله تعالى- حتى قرب نهاية القرن الثالث عشَر وهي:


" طبقات الحنابلة " للخلال، ا
لمتوفى سنة (311 هـ) . وقد عُنِي عناية فائقة بتراجم تلاميذ الإمام أَحمد، وعليه بنى القاضي أَبو الحسين الفراء ابن أَبي يعلى النصف الأول من كتابه، وهو " الطبقات " لابن أبي يعلى، المتوفى سنة (526 هـ) ، ونصفه الثاني في تراجم تلامذة تلاميذ الإمام أَحمد فمن بعدهم، حتى ختم علماء طبقة المتقدمين بالحسن بن حامد، المتوفى سنة (403 هـ) ، وبدأ ببعض أعيان طبقة المتوسطين من رئيسهم والده أَبي يعلى.
و " ذيل الطبقات، لابن رجب، المتوفى سنة (795 هـ) ، وهي تبدأ بتراجم طبقة المتوسطين بدءًا من تلاميذ القاضي أبي يعلى رئيس طبقة المتوسطين، وبالتحديد من وفيات سنة (460 هـ) وحتى وفيات سنة (751 هـ) .
ثم الذيل من حيث وقف ابن رجب إلى قرب تمام القرن الثالث عشر، لابن حُميد، المتوفى سنة (1295هـ) في كتابه: " السحب الوابلة ... " وما سوى هذه الثلاثة: اختصار، أو مع إِضافة في معلومات عن المترجم له، أو إِضافة تراجم إليها، وقد مضى ذكرها مفصلاً وقد طُبِعَ من الكتب المفردة في تراجم علماء الحنابلة: " طبقات الحنابلة " لابن أَبي يعلى، وفيه: " 706 " ترجمة . و " مختصره " لابن سرور المعروف بلقب: " الجنَّة " . و " ذيله " لابن رجب، وفيه " 552 " ترجمة . و " المقصد الأرشد " لابن مفلح، وفيه: " 1315 " ترجمة . و " الجوهر المنضد " لابن عبد الهادي، وفيه: " 211 " ترجمة . و " المنهج الأَحمد " للعليمي. ومختصره له: " الدرالمنضد " ، وفيه " 194 " ترجمة . وذيله: " النعت الأَكمل " للغزي الشافعي، وفيه: " 194 " ترجمة . والذيل على ابن رجب لابن حميد النجدي ثم المكي: " السحب الوابلة " وفيه: " 843 " ترجمة.
و " مختصر طبقات الحنابلة " للشطي . و " الفتح الجلي في القضاء الحنبلي " له . و " مشاهير علماء نجد " و " علماء نجد خلال ستة قرون " . وفيه: " 338 " ترجمة.
فهذه ثلاثة عشر كتابًا فيها نحو ستة آلاف ترجمة بالمكرر وبغير المكرر فيها نحو أربعة آلاف عَلَمٍ من أصحاب الإمام أحمد وتلاميذه، ومن المتمذهبين بمذهبه.


المبحث الثاني: آفاق الحنابلة وأَوطانهم
تكَوَّنَ المذهب الحنبلي في بغداد، محل مولد الإمام أَحمد، سنة (164 هـ) ووفاته فيها سنة (241 هـ) ، وعنها انتشر في أَنحاء العراق، خاصة في الزبير ولم ينتشر خارج العراق إلَّا في القرن الرابع فما بعد إِذْ خَرَجَ المذهب إلى الشام، وهو قاعدة الحنابلة الثانية، في فلسطين، وأعمالها
وفي دمشق، وأعمالهاوفي القرن السادس فما بعد دخل المذهب مصر

وكان له وجود وانتشار في: إقليم الديلم، والرحاب، وبالسوس من إِقليم خوزستان، وفي الأَفغان.
وفي جزيرة العرب: في نجد- وهي قاعدته الثالثة- وفي الحجاز والأَحساء، وقطر والبحرين، والِإمارات العربية، وعُمَان، والكويت (1) وللمذهب وُجُوْدٌ في جوبوتي، وأرتريا (2)

وكانت عَوَاصِمَ قُوَّتِهِ، وانتشاره في حِقَبٍ زمانية متتابعة، في بغداد أَولاً، ثم في الشام في المقدس وفلسطين، ودمشق وأَعمالها، ثم صار له شأن في مصر بالقاهرة، ثم تحولت قاعدته العريضة في نجد قلب جزيرة العرب منذ القرن الحادي عشر تقريبًا حتى الآن

وغير خَافٍ أَنَّ السبب الفَعَّال في انتشار مذهب ما: هو " السلطة الحاكمة "؛






المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 27

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 27

المبحث الثاني  : طبقات الأصحاب في الاجتهاد والتقليد
يمر في هذا الفصل المصطلحات الآتية:
الاجتهاد المطلق: وهو الذي يتتبع صاحبه أصول الشرع المطلقة، فيأخذ من حيث أِّخذ الأَئمة.
ويُقال لصاحبه: " المجتهد المطلق ".
الاجتهاد المقيد: وهو الذي يتتبع صاحبه أصول إمامه الذي
ينتسب إليه خاصة.
ويقال لصاحبه: مجتهد المذهب.
- التقليد: وهو الذي يتبع صاحبه التخريج على مذهب إمامه أو " الترجيح في المذهب ".
ودونهما: التقليد بلا تمييز.
ويقال لكل منهم: مقلد، وصاحب " التخريج أعلى منزلة من من صاحب " الترجيح " وأَمَّا المقلد بلا تمييز فلا عبرة به.
وتفريعاً عن هذه الأقسام في الاجتهاد والتقليد، اصطلح فقهاء كل مذهب من المذاهب الأربعة على تصنيف فقهاء المذهب على طبقات - ولامشاحة في الاصطلاح - وهي مبسوطة في كتب أصول الفقه. وأَعلى التقاسيم: بسطهم إلى سبع طبقات كما فعل أحمد بن سليمان الشهير بابن كمال باشا الحنفي، المتوفى سنة (940 هـ) أَفردها في رسالة بثلاث صفحات مطبوعة،
والطبقات هي:
1- طبقة المجتهد المطلق.
2- طبقة المجتهد في المذهب
3- طبقة المجتهد فيما لا رواية فيه عن صاحب المذهب.
4- طبقة المخرجين.
5- طبقة المرجحين من المقلدين.
6- طبقة المقلدين القادرين على التمييز.
7- طبقة المقلدين الذين لا تمييز لهم.
وبعض الشافعية جعلهم خمس طبقات (1) :
1- المجتهد المطلق
2- المجتهد المنتسب.
3- مجتهد المذهب.
4- مجتهد الفتوى والترجيح.
5- الحافظ للمذهب المفتي به.





* القسم الأول:
" المجتهد المطلق " وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها المصنف في آخر " كتاب القضاء " - على ما تقدم هناك- إذا استقل بإِدراك الأَحكام الشرعية، من الأدلَّة الشرعية العامة والخاصة، وأَحكام الحوادث منها ولا يتقيد بمذهب أحد.
وقيل: يُشترط أَن يعرف أَكثر الفقه.
قدمه في " آداب المفتي والمستفتي " .
قال أَبو محمد الجوزي: من حَصَّل أصوله وفروعه فمجتهد وتقدم هذا وغيره في آخر " كتاب القضاء ".
قال في آداب المفتي والمستفتي: ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق.
مع أنه الآن أَيسر منه في الزمن الأول؛ لأَن الحديث والفقه قد دُوّنا، وكذا ما يتعلَّق بالاجتهاد من الآيات، والآثار وأصول الفقه، والعربية، وغير ذلك. لكن الهمم قاصرة، والرغبات فاترة، وهو فرض كفاية، قد أَهملوه ومَلُّوه، ولم يعقلوه ليفعلوه . 


قلت: قد ألحق طائفة من الأصحاب المتأخرين بأصحاب هذا القسم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه، وتصرفاته في فتاويه وتصانيفه تدل على ذلك.



القسم الثاني:
مجتهد في مذهب إمامه، أو إمام غيره .

وأحواله أربعة:
الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابًا وأولى عن غيره، وأشد موافقة فيه وفي طريقه.
قال ابن حمدان في " آداب المفتي " : وقد ادَّعى هذا منا ابن أبي موسى، في شرح الإرشاد الذي له، والقاضي أبو يعلى، وغيرهما من الشافعية خلق كثير.
قلت: وعن أصحاب الإمام أحمد- رضي الله عنه-.
فمن المتأخرين: كالمصنف، والمجد، وغيرهما.
وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهدًا في مذهب إمامه، مستقلًا بتقريره بالدليل، لكن لا يتعدَّى أصوله وقواعده، مع إتقانه للفقه وأصوله، وأدلة مسائل الفقه، عالمًا بالقياس ونحوه، تام الرياضة، قادرًا على التخريج والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول، والقواعد التي لإمامه.
ثم قد يوجد من المجتهد المقيد استقلال بالاجتهاد والفتوى في مسألة خاصة، أو باب خاص، ويجوز له أن يُفتي فيما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصًا عليه عن إمامه، لما يخرجه على مذهبه.
وعلى هذا العمل وهو أَصح..
وقد سُئِلَ الإمام أَحمد- رضي الله تعالى عنه- عمن يفتي بالحديث: هل له ذلك، إذا حفظ أَربعمائة أَلف حديث؟ فقال: أَرجو.
فقيل لأَبي إِسحاق بن شاقلا: فأَنت تفتي، ولست تحفظ هذا القدر؟
فقال: لكني أفتي بقول من يحفظ أَلف أَلف حديث.
يعني الإمام أَحمد- رضي الله تعالى عنه-.
ثم إِن المستفتي- فيما يفتي به من تخريجه هذا- مقلد لِإمامه، لا له..
والحال: أن المجتهد في مذهب إمامه: هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع، ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط.

وليس من شرط المجتهد: أن يفتي في كل مسألة بل يجب أَن يكون على بصيرة في كل ما يفتي به، بحيث يحكم فيما يدري، ويدري أَنَّهُ يَدْري، بل يجتهد المجتهد في القبلة، ويجتهد العامي فيمن يقلده ويتبعه.
فهذه صفة المجتهدين أَرباب الأَوجه، والتخاريج، والطرق.
وقد تقدم ذِكْرُ صفة تخريج هذا المجتهد - وأَنه: تارة يكون من نصه، وتارة يكون من غيره- قبل أقسام المجتهد محررًا.
الحالة الثالثة: أَن لا يبلغ به رتبة أَئمة المذهب، أصحاب الوجوه والطرق، غير أَنه فقيه النفس، حافظ لمذهب إِمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريره، ونصرته، يصور ويحرر ويمهد، ويقوي، ويزيف، ويرجح . لكنه قَصَّر عن درجة أولئك، إِما لكونه لم يبلغ- في حفظ المذهب- مبلغهم، وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه، وغيره.
على أنه لا يخلو مثله - في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته - عن أطراف من قواعد أصول الفقه، ونحوه.
وإما لكونه مقصرًا في غير ذلك من العلوم التي هي أَدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه، والطرق.
وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب ، وحرروها، وصنفوا فيها تصانيف، بها يشتغل الناس اليوم غالبًا، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه، ويمهد الطرق في المذاهب .
وَأمَّا فتاويهم: فقد كانوا يستنبطون فيها استنباط أولئك، أو نحوه، ويقيسون غير المنقول والمسطور على المنقول والمسطور ولا تبلغ فتاويهم فتاوى أَصحاب الوجوه.
وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول، واستنباط وجه أو احتمال. وفتاويهم مقبولة.
الحالة الرابعة: أَن يقوم بحفظ المذهب، ونقله، وفهمه، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه، أو تفريعات أَصحابه المجتهدين في مذهبه، وتخريجاتهم.
وأما ما لا يجده منقولًا في مذهبه: فإن وجد في المنقول ما هذا معناه، بحيث يدرك - من غير فَضْل فكر وتأمل- أنه لا فارق بينهما- كما في الأَمَة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك -: جاز له إلحاقه به والفتوى به، وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابط، ومنقول ممهد محرر في المذهب.
وما لم يكن كذلك: فعليه الإمساك عن الفتيا فيه.
ومثل هذا يقع نادرًا في حق مثل هذا المذكور.
إذْ يبعد أن تقع واقعة حادثة لم ينص على حكمها في المذهب، ولا هي في معنى بعض المنصوص عليه من غير فرق ، ولا مندرجة تحت شيء من قواعد وضوابط المذهب المحرر فيه.
ثم إِن هذا الفقيه: لايكون إلَّا فقيه النفس؛ لأَن تصوير المسائل على وجهها، ونقل أَحكامها بعده: لا يقوم به إلَّا فقيه النفس، ويكفي استحضاره أَكثر المذهب مع قدرته على مطالعة بقيته قريبا.


* القسم الثالث: " المجتهد في نوع من العلم "
فمن عَرَفَ القياس وشروطه: فله أَن يُفتي في مسائل منه قياسية، لا تتعلق بالحديث.
ومن عَرَفَ الفرائض: فله أَن يُفتي فيها وإن جهل أَحاديث النكاح، وغيره، وعليه الأصحاب.
* القسم الرابع: " المجتهد في مسائل، أو مسألة "
وليس له الفتوى في غيرها.
وأما فيها، فالأظهر: جوازه.
ويحتمل المنع؛ لأنه مظنة القصور والتقصير.
قاله في " آداب المفتي والمستفتي ".
قلت: المذهب الأول.
قال ابن مفلح في أصوله: يتجزأ الاجتهاد عند أصحابنا وغيرهم.
وجزم به الآمدي، خلافًا لبعضهم.
وذكر بعض أَصحابنا مثله.
وذكر أيضا: قولًا لا يتجزأ في باب، لا مسألة . انتهى

فهذه أَقسام المجتهد ذكرها ابن حمدان في " آداب المفتي والمستفتي " انتهى


* فمن طبقة المجتهدين بإطلاق: بعد إِمام المذهب أَحمد بن حنبل، المتوفى سنة (241 هـ) رحمه الله تعالى:
- القاضي أَبو يعلى الكبير، المتوفى سنة (458 هـ) .
- أَبو الوفاء ابن عقيل، المتوفى سنة (513 هـ) .
- الموفق ابن قدامة المقدسي، المتوفى سنة (620 هـ) .
- شيخ الإسلام ابن تيمية أَحمد بن عبد الحليم، المتوفى سنة (728 هـ) .
ـ ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر المتوفى سنة (751 هـ) .
* ومن طبقة المجتهدين في المذهب:
في المتقدمين: الخلال ت سنة (311 هـ) ، وغلامه ت سنة
(363 هـ) ، والخِرَقي ت سنة- (334 هـ) ، والبربهاري ت (329 هـ) ، وابن المسلم ت سنة (387 هـ) ، وخاتمة المتقدمين الحسن بن حامد ت سنة (403 هـ) . وغيرهم ممن مضى ذكرهم في طبقة المتقدمين.
* وفي طبقة المتوسطين من مجتهدي المذهب: جُلُّ آل أَبي يعلى، وجُلّ البيوتات الآتية: آل قدامة المقادسة، وآل تيمية، وآل مفلح، وغيرهم من البيوتات الحنبلية.
* ومن أَفرادهم:
- البناء ت سنة (471 هـ) ومحقق المذهب في زمانه، ورأس الحنابلة في أوانه ابن المَنِّي: نصر بن فتيان النهرواني ت سنة (583 هـ) وهو شيخ الموفق ابن قدامة.
- الحافظ عبد الغني المقدسي وأخوه العماد. وفخر الدين ابن تيمية، صاحب " البلغة " وغيرها، والشيخ أَبو عمر ابن قدامة ت سنة (607 هـ) ، وابن الزاغوني ت سنة (527 هـ) ، والسامري صاحب المستوعب ت سنة (616 هـ) ، وأَبو الخطاب ت سنة (510 هـ) ، وابن عبد الهادي ت سنة (756 هـ) .
وعبد الله الزريراني ت سنة (729 هـ) ، والشمس ابن مفلح ت سنة (763 هـ) ، والزركشي ت سنة (774 هـ) ، وابن رجب ت سنة (795 هـ) ، وشيخ المذهب ابن نصر الله ت سنة (844 هـ) ، والبرهان ابن مفلح ت سنة (884 هـ)

* ومن مجتهدي المذهب في طبقة المتأخرين:
شيخ المذهب المرداوي ت سنة (885 هـ) ، والحجاوي ت سنة (968 هـ) ، والفتوحي الشهير بابن النجار ت سنة (972 هـ) ، والشيخ مرعي ت سنة (1033 هـ) ، والبهوتي ت سنة (1051 هـ) .

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 26

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 26






الفصل الثاني : في طبقات الأصحاب 
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: في طبقاتهم الزمانية في نقل المذهب وخدمته. 
المبحث الثاني: طبقاتهم في الاجتهاد والتقليد.

المبحث الأول: طبقات الأصحاب الزمانية في نقل المذهب

- تمهيد:
اصطلح متأخرو الأصحاب على تقسيم علماء المذهب الذين اشتهروا بالتأليف فيه، فاعتنوا بالرواية، وجمعها، وترتيبها، وانتخاب المذهب المعتمد منها، وقلبوا التأليف في ذلك على وجوه تُقَرِّبُهُ، متنًا، وشرحًا، ونظمًا، واختصاراَ، وتحشية، وتحريرًا للمسائل بالاختيار والترجيح، والتحقيق والتنقيح، وماهو المعتمد في المذهب، ونشر أصوله، وقواعده، وضوابطه، وهم نحو " 500 " خمسمائة عالم فقيه، كل منهم له يد في التأليف في شيء من ذلك، حتى بلغ مجموع مؤلفاتهم فيه نحو " 1400 " كتاب.
اصطلحوا على تقسيمهم إلى ثلاث طبقات زمانية هي:
1- طبقة المتقدمين.
2- طبقة المتوسطين.
3- طبقة المتأخرين.
وبيانهم كالآتي:


*
فالمتقدمون: " 241 هـ - 403 هـ " :


يبدأون من تلامذة إِمام المذهب: الإمام أحمد بن حنبل، المتوفى في شهر ربيع الأول سنة (241 هـ) ، وينتهون بوفاة شيخ المذهب في زمانه: الحسن بن حامد، المتوفى سنة (403 هـ) .


وتنتظم طبقة المتقدمين هذه: علماء المذهب في الطبقات الثلاث الأولى من طبقات الحنابلة، وهم:
(أ) أَصحاب الإمام، وخاصته، وتلامذته،

 (ب) وأَصحاب أَصحابه فمن بعدهم إلى وفاة الحسن ابن حامد سنة (403 هـ)
 
- وعمدة المجتهدين في المذهب من هذه الطبقة:
الخلال ت سنة (311 هـ) ، وتلميذه أبو القاسم الخرقي ت
سنة (334 هـ) ، وابن المنادي ت سنة (336 هـ) والآجري ت سنة (360 هـ) ، وغلام الخلال ت سنة (363 هـ) وابن بطة العكبري. وأَبو حفص البرمكي، وابن المسلم، وفاة ثلاثتهم في (387 هـ) ، وخاتمتهم الحسن بن حامد ت سنة (403 هـ) والله أعلم.

- والمتوسطون: (403 هـ-884 هـ) :

يبدأون من تلامذة الحسن بن حامد، المتوفى سنة (403 هـ) ، وهم رؤساء الطبقة الخامسة من طبقات علماء الحنابلة ورأس هذه الطبقة ورئيسها: تلميذه الأكبر، حامل لواء المذهب، وشيخه، وناشره في زمانه، الإمام المجتهد: القاضي أَبو يعلى الفراء: محمد بن الحسين، المتوفى بدار ولادته بغداد سنة (458 هـ) .
و " الفراء " نسبة إلى خياطة الفِراء وبيعها، وهو أَول حنبلي وَليَ القضاء سنة (447 هـ) 

 وهذه الطبقة: قد حوت نحو " 166 " عَلَمًا من فقهاء المذهب المؤلفين فيه، وقد بلغت تأليفهم في الفقه الحنبلي وأصوله نحو " 550 " كتابًا
كانت " المتون " المعتمدة في هذه الطبقة التي لحقتها الشروح
وما إليها " 11 " متنا هي:
كتاب المجرد، والتعليق، والروايتين، ثلاثتها للقاضي أَبي يعلى.
ت سنة (459 هـ) ، والهداية لأَبي الخطاب ت سنة (510 هـ) ، والعمدة، والكافي، والمقنع، ثلاثتها للموفق ابن قدامة ت سنة (620 هـ) ، والمحرر للمجد ت سنة (652 هـ) ، والوجيز للدجيلي ت سنة (732 هـ) ، والفروع للشمس ابن مفلح ت سنة (763 هـ) ، والتسهيل للبعلي ت سنة (777 هـ) وكان مالحقها يبلغ " 101 " كتاب

والمتأخرون: " 885 هـ - إلى الآخر ".

يبدأون من رأس المتأخرين ورئيسهم: إِمام المذهب في زمانه، وجامع شتاته، ومحرر رواياته، من حقق فيه ودقق، وشرح وهذَّب: مُنَقّحُ المذهب، العلامة المرداوي: أَبو الحسن علاء الدّين علي بن سليمان المرداوي الصالحي، المتوفى سنة (885 هـ) مرورًا بطبقته فمن بعدهم على توالي القرون إلى الآخر
 وفي هذه الطبقة: نحو " 100 " من فقهاء الحنابلة بلغت مؤلفاتهم في الفقه وعلومه نحو " 700 " كتاب،

وكانت " المتون " المعتمدة في هذه الطبقة إِضافة إلى المتون في الطبقتين السابقتين المتقدم ذكرهما، هي ثمانية متون:
الِإقناع، وزاد المستقنع، كلاهما للحجاوي ت سنة (968 هـ) ، ومنتهى الإرادات للفتوحي ت سنة (972 هـ) ، وغاية المنتهى ودليل الطالب لمرعي ت سنة (1033 هـ) ، وعمدة الطالب للبهوتي ت سنة (1051 هـ) وكافي المبتدي، وأَخصر المختصرات للبلباني ت سنة (1083





19‏/03‏/2015

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 25

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 25
 المبحث الرابع: خَبَر القول بخلق القرآن: فِتْنَةٌ. ثم مِحْنةٌ. ثم نصْرةٌ
مدة (23) عامًا من بدايتها فتنة في عهد المأمون سنة (212 هـ) إلى نهايتها نُصرة في عهد المتوكل سنة (234 هـ) ومواجهة الإمام أَحمد لها في مراحلها -رحمه الله تعالى-.















المدخل السابع: في التعريف بعلماء المذهب
وفيه ثلاثة فصول :

الفصل الأول: معرفة التآليف المفردة عن الإمام أَحمد وعن الآخذين عنه وعلماء مذهبه. وهي سبعة أنواع
الفصل الثاني: في معرفة طبقاتهم. وفيه مبحثان.
الفصل الثالث: في معارف عامة عن الأصحاب. وفيه سبعة أَبحاث

 
  


الفصل الأول: في معرفة التآليف المفردة عن علماء المذهب من لدن الإمام إلى وفيات القرن الخامس عشر الهجري

- تمهيد: ساق ابن أَبي يعلى بسنده في: " الطبقات: 1/ 274 " في ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال: " سمعت أَحمد بن حنبل يقول: إِنما الناس بشيوخهم، فإِذا ذهب الشيوخ، تُوِدِّعَ من العيش ". وشيوخ هذا المذهب، قد اتصل عقدهم عن لدن رأسهم ورئيسهم: الإمام أَحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، إلى زماننا - والحمد لله على نعمه - وتستفاد ترجمة الإمام أَحمد، والأصحاب، من كتب التراجم العامة كغيرهم من علماء الِإسلام، ومن الكتب الخاصة بتراجمهم وقد كان لفقهاء الحنابلة فضل السبق على أَتباع المذاهب الثلاثة: الحنفية والمالكية، والشافعية، في تسجيل تراجم الحنابلة بمصنفات مفردة، يتلوهم في ذلك الحنفية، ثم الشافعية، ثم المالكية، فأول تأليف في تراجم الحنابلة هو كتاب طبقات أصحاب أَحمد بن حنبل للخلال، المتوفى سنة (311 هـ) و " طبقات الأصحاب " لابن المنادي ت سنة (336 هـ) . وأَول كتاب للحنفية " أخبار أبي حنيفة وأصحابه " للصيمري ت سنة (436 هـ) وهو مطبوع . وقد ترجم فيه لأَبي حنيفة، وتلاميذه، وتلاميذهم، ومن بعدهم إلى زمن المؤلف- رحم الله الجميع - هو: " وفيات الأَعيان من مذهب النعمان " لنجم الدين إبراهيم بن علي

الطرطوسي، المتوفى سنة (758 هـ). وأَول كتاب في تدوين شيوخ مذهب الشافعية هو " المذهب في ذكر شيوخ المذهب " لأَبي حفص عمر بن علي المطوعي، المتوفى سنة (440 هـ) . وليس أَولها مطلقاً كما ذكره السبكي في مقدمة " الطبقات " له. وأَول كتاب في ذلك للمالكية هو: " ترتيب المدارك وتقريب المسالك في معرفة أَعلام مذهب مالك " للقاضي عياض اليحصبي، المتوفى سنة (544 هـ) . ويمكن تصنيف جهود الحنابلة في إِفراد ترجمة الإمام، وإفراد تراجم الأصحاب على سبعة أَنواع هي: النوع الأول: تسمية الكتب المفردة في ترجمة الإمام أَحمد وخبره- رحمه الله تعالى- في محنة القول بخلق القرآن الكريم النوع الثاني: كتب في تراجم تلاميذ الإمام والرواة عنه. النوع الثالث: كتب في تراجم الأصحاب على اختلاف طبقاتهم وبلدانهم. النوع الرابع: كتب تختص بتراجم الأصحاب حسب بلدانهم النوع الخامس: كتب تختص بترجمة عَلَم من أعيان المذهب. النوع السادس: التراجم الذاتية. النوع السابع: مؤلفات في تفضيل المذهب والدفاع عنه.

 

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 24

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 24



المبحث الثالث: مَدَى تأثر فقه أحمد ومذهبه بفقه الشافعي ومذهبه:
وُلدَ الإمام الشافعي سنة (150 هـ) وتوفي سنة (204 هـ) ، والإمام أَحمد ولد سنة (164 هـ) وتوفي سنة (241 هـ) فيكون أَدرك من حياة الشافعي أَربعين عاما، وقد تتلمذ عليه واستفاد منه، وَبِالمِثْلِ فإِن الشافعي اعترف بفضل الإمام أَحمد وأَثنى عليه كثيرًا، وأَخذ عنه، وكان لمنزلته عنده يزوره فلما قيل له، أنشد: قالوا يزورك أَحمد وتزوره ... قلت الزِّيارة كلها من أَجله إن زرته فلفضله أو زارني ... فبفضله فالفضل في الحالين له قيل: أَجابه أحمد- رحمه الله تعالى- بقوله: إن زُرتنا فبفضل منك تَمنحنا ... أو نحن زُرْنا فللفضل الذي فيكا فَلاَ عدمنا كلا الفضلين منك ولا ... نال الذي يتمنى فيك شانيكا

والشافعي- رحمه الله تعالى- دخل بغداد مرتين، أقام في رحلته الأولى سنتين ونصف، وفيها صَنَّفَ كُتبهُ القديمة، ورحلته الثانية أقام بها شهرًا ولم يصنف فيها شيئًا.

فلهذه العلاقة العلمية والودية لاشك أثر على كل منهما كما أثرت العلاقة فيما بين أحمد، وإسحاق بن راهويه، المتوفى سنة (238 هـ) ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى - في: " الفتاوى: 34/ 113 " : (وموافقته- أي أحمد- للشافعي، وإسحاق، أَكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أَشبه منها بأصول غيرهما، وكان يُثني عليهما، ويُعظمهما، ويُرجح أصول مذهبهما على من ليست أصول مذهبه كأصول مذهبهما .ومذهبه: أَن أصول فقهاء الحديث أَصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق، هما عنده من أَجل فقهاء الحديث في عصرهما، وجمع بينهما في مسجد الخيف، فتناظرا في " مسألة إجارة بيوت مكَة " ...)

ثم إِن هذين الإمامين يشتركان في خدمة الحديث الشريف وفقهه، مما صار له الَأَثر على فقههما، وتلاقي فُهُوْمِهِمَا في الاستنباط والتعليل، وصار له أَثر على أتباعهما في خدمة السنة النبوية؛ ولهذا برز في كلا المذهبين أَعلام على قدم الإمامة في علم الحديث فمن الشافعية: الخطيب، والنووي، وابن كثير والذهبي، وابن حجر. ومن الحنابلة: عبد الغني بن سرور المقدسي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الهادي. وكان من أَثر الفقه الشافعي بالفقه الحنبلي، سلوك بعض الأصحاب طريقة بعض الشافعية في صناعة التأليف في الفقه، وذلك من لدن أَول متن في المذهب: " مختصر الخِرَقي "؛ إذ أَلَّفهُ على طريقة المزني في " مختصره " كما في: " الفتاوى 4/ 450 " . وهكذا من سار على طريقة الخرقي وترتيبه من الأصحاب. وهذا الفخر ابن تيمية ت سنة (622 هـ) - رحمه الله تعالى- له: " تخليص المطلب ... " و " ترغيب القاصد... " و " بلغة الساغب ... " وهذه الثلاثة على طريقة الغزالي الشافعي في: " البسيط " ، و " الوسيط " و " الوجيز ". وهذا العلاَّمة المرداوي ت سنة (885 هـ) جرى في كتابه: " الِإنصاف... " على طريقة ابن قاضي عجلون في تصحيحه لمنهاج النووي وغيره من كتب التصحيح.


ومنه أَن يحيى بن يحيى الأَزجي ت بعد سنة (600 هـ) في كتابه: " نهاية المطلب في علم المذهب " حذا فيه حذو " نهاية المطلب " لِإمام الحرمين الجويني الشافعي، كما في: " ذيل الطبقات " وقد فرح بعضهم بهذا التقارب بين المذهبين، فادَّعى أَنه لا حاجة لمذهب الإمام أَحمد؛ لعدم وجود خلاف بينهما إلا في مسائل قليلة نحو ست عشرة مسألة؟ وقد ذكر هذه الدعوى الشيخ يوسف بن عبد الهادي الحنبلي،المتوفى سنة (909 هـ) - رحمه الله تعالى- في كتابه. " مناقب الإمام أَحمد " ورد عليها فيه، ثم أَفرد كتابا لنقضها باسم: " قرة العين فيما حصل من الاتفاق والاختلاف بين المذهبين ". ولم يقدر لنا الاطلاع على الكتابين، لكن الشيخ أحمد بن محمد المنقور التميمي، المتوفى سنة (1125 هـ) - رحمه الله تعالى- ذكر في مجموعه: " الفواكه العديدة في المسائل المفيدة " الإشارة الى ذلك، ونقل كلام ابن عبد الهادي الآتي ذكره في: كتب المفردات " من الباب العاشر ". والخلاصة أن المسائل بين الأئمة الأربعة تجري على أنواع : 1- مسائل اتفقوا عليها وانظر " الإفصاح " لابن هبيرة، و " رحمة الأمة " للدمشقي. 2- مسائل اختلفوا فيها على قولين أو ثلاثة أو أربعة. 3- ومن مسائل الخلاف ما يحصل فيه بعضها انفراد واحد عن الثلاثة، ولهذا أَلف أَهل كل مذهب مفردات ذلك المذهب. ومنها كتب في مفردات مذهب الإمام أَحمد. وليس الخلاف والانفراد هو الشاهد على الاستقلال، لكن الشاهد: ما ثبت في أَجوبة الإمام على فتوى المفتين في أَكثر من ستين أَلف مسألة، رواها عنه تلامذته، ودونوها في كتب " المسائل عنه " وفيها من الفقه، والتعليل، والتدليل، ودقة النظر ما يبهر العقول، ويرسم للمتفقه طريق الفقه في الدِّين واستنباط دقائق الأَحكام من أَدلة التشريع، فرحمة الله على الجميع، آمين.

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 23

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 23



المبحث الثاني: إِمامته في الفقه :


ينتظم الإمام عقد الصفوة المباركة من أئمة المسلمين في الفقه، والدِّين، وَلاَ أدَلَّ على امتلاكه الطاقة الكبرى في الفقه، وتبوئه موقع الريادة فيه، من انتصابه للفتيا، وتسجيل آلاف الفتاوى، مقدرة بنحو ستين أَلف فتوى. قال تلميذه عبد الوهاب بن عبد الحكم الوَرَّاق: " ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، قيل له: وأيش الذي بان لك من فضله ، وعلمه على سائر من رأيت؟ قال رجل سئل عن ستين ألف مسألة ، فأجاب فيها بأن قال: حدَّثنا، وأخبرنا ". وهي مدونة في عشرات كتب المسائل، التي رواها مئات التلاميذ عنه، بل من كبار شيوخه من يرجع إليه، ويستفتيه، ويرجع إلى رأيه في الفقهيات، كما يأخذون عنه الروايات أمثال الأئمة: الشافعي، ويزيد بن هارون، وابن مهدي، وعبد الرزاق، ووكيع، ويحيى ابن آدم، وأَبي ثور، وكان يقول- وهو شيخه-: (أَحمد، شيخنا، وإمامنا) . ولهذا قال أَبو القاسم ابن الجَبُّلي: " أَكثر الناس يظنون أَن أَحمد إِنما كان أَكثر ذكره لموضع المحنة، وليس هو كذاك، كان أَحمد بن حنبل، إذا سُئِلَ عن المسألة كأن علم الدنيا بين عينيه " انتهى من كتاب ابن الجوزي " مناقب الإمام أَحمد " : " الباب التاسع: في بيان غزارة علمه وقوة فهمه وفقهه ". وفيه ساق أَمثلة عجيبة من دقة فقه الإمام، وبصيرته النافذة في مآخذ الأَحكام . وما كان أَغنانا عن البحث في هذا، لأَن ثبوت إمامة أَحمد في الفقه، ومعرفته فيه، وغوصه في فهم نصوص الوحيين الشريفين، وفقه الصحابة والتابعين، وشهرة ذلك كالشمس إلَّا أَنها تغرب، وهذا واضح للعيان لمن وقف على أَفعاله، وأقواله في أَجوبته وفتاويه التي بلغت عشرات الأَسفار يكتبها عنه مئات الأصحاب، وقد شهد بفقهه الأَئمة الكبار من شيوخه، وأَقرانه، وتلامذته، ممن لهم قدم صدق في الإسلام والعلم والورع والإيمان من أَئمة أهل العلم في الأَقطار، في بغداد، والحجاز واليمن، والشام، ومصر، وبلاد العجم، وقد ساق الذهبي أقوالهم في: " تاريخ الإسلام " و " السير " وغيره في غيرها من سابق ولاحق، فَمِنَ الذين نَعَتُوْه بِالفقه:

شيخه وتلميذه: الإمام الشافعي ، وشيخه عبد الرزاق ، قال: " ما رأيت أَحدًا أَفقه ولا أَورع من أَحمد بن حنبل ". قال الذهبي بعده: " قلت: قال هذا، وقد رأى مثل الثوري، ومالك، وابن جريج ". ومن الذين نعتوه بالفقه: أَبو عبيد القاسم بن سَلَّام " وأَبو ثور  ، وعبد الله بن المديني  ، وابن وارة  ، والنسائي  ، وصالح بن محمد جزرة  ، والبوشنجي  ، وأَبو زرعة الرازي  ، وإبراهيم بن خالد ، وإسحاق ابن راهويه ، ويحيى بن آدم ، وإبراهيم الحربي ،

وأَبو حاتم الرازي ، والعجلي ، ويحيى بن معين ، كل هؤلاء نعتوه بالفقه، ومنهم من فَضَّله على غيره، وأَلحقه بطبقة التابعين؛ بل منح لقب: " الإمام " ، وقد سمى ابن الجوزي بعض من لقبوه بالإمام، منهم: علي بن المديني، وأَبو عبيد القاسم بن سلام، وبشر بن الحارث، ويحيى بن آدم القرشي، والذهلي، وأَبو ثور. ولما ساق الذهبي كلمة المروزي في تفضيل أَحمد على أَهل زمانه قال: " قلت: كان أَحمد عظيم الشأن، رأسًا في الحديث، وفي الفقه، وفي التأله، أثنى عليه خلق من خصومه، فما الظن بإخوانه وأَقرانه ...؟ ". وقال أيضا في: " السير 11/291-293 " : " و إلى الإمام أَحمد، المنتهى في معرفة السنة علما، وعملًا، وفي معرفة الحديث وفنونه، ومعرفة الفقه وفروعه، وكان رأسًا في الزهد، والورع، والعبادة، والصدق " قال الربيع بن سليمان، قال الشافعي: " أَحمد إِمام في ثمان خصال: إِمام في الحديث، إمام في الفقه، إِمام في اللغة، إِمام في القرآن، إِمام في الفقر، إِمام في الزهد، إِمام في الورع، إِمام في السنة ". وقد شرحها مع ضِعْفِها ابن أَبي يعلى في " الطبقات " . فالإمام أَحمد- رحمه الله تعالى- مُحَدّث يمحص الروايات صحيحها من سقيمها، وراجحها من مرجوحها، وناسخها من منسوخها وعامها من خاصها، ومطلقها من مقيدها ... وهذه منقبة له بالاتفاق والإجماع من الموافق والمخالف. والإمام أَحمد- رحمه الله تعالى- فقيه يمحص معاني النصوص وأَلفاظ الرواة. وهو لغوي بارع، يعرف منازل الكلام، وموارده، ومصادره، ونحو العربية، وبلاغتها، ويكفينا في هذا إِضافة إلى أَنه عربي من ذُرَى شيبان، شهادة سَيِّدِ من نطق بالضاد في زمانه، شيخه، وتلميذه الإمام الشافعي بأَن أَحمد: " إِمام في اللغة " . وقد قال أَحمد: " كتبت من العربية أكثر مما كتب أَبو عمرو بن العلاء ". وكان- رحمه الله تعالى- لا يلحن في الكلام، ويؤدِّب أَولاده على اللحن، وقد ضرب ابنته زينب، وانتهرها على اللحن. وهكذا جمع الله له بين الفقهين: فقه الإسناد، وفقه المتون والألفاظ بحقائقها اللغوية والشرعية. ولا غرابة كان فقهه: " فقه دليل " ، وإلاَّ فكيف يفقه النص من لا يعرف منزلة سنده؟.

18‏/03‏/2015

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 22

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 22



 المدخل السادس : في التعريف بالإمام أحمد
المولود في 20/ 3/ 64 هـ- المتوفى ضحوة يوم الجمعة 12/ 3/ 241 هـ
عن 77 عاما و " 11 " شهرًا و " 22 " ليلة.
- رحمه الله تعالى-
وفيه خمسة أبحاث:
المبحث الأول: عيون المعارف في ترجمته
المبحث الثاني: الإمام أحمد محدث وفقيه
المبحث الثالث: مَدَى تأثر فقه أحمد ومذهبه بفقه الشافعي ومذهبه.
المبحث الرابع: خبر القول بخلق القرآن: فتنة ثم محنة ثم نصرة . ومواجهة أحمد لها في مراحلها كافة
المجث الخامس: في معرفة الخصال التي تميز بها الإمام أحمد - رحمه الله تعالى-

المدخل السادس : في التعريف بالإمام أحمد
المولود في 20/ 3/ 64 هـ- المتوفى ضحوة يوم الجمعة 12/ 3/ 241 هـ
وإن أَوْفى الكتب المطبوعة منها على الِإطلاق، كتاب ابن الجوزي . ت سنة (598 هـ) : " مناقب الإمام أَحمد بن حنبل " فإِنه- رحمه الله تعالى- استفرغ جُلَّ ما في الكتب المسندة في ترجمة أَحمد، في نحو ستمائة: " 600 " ، صفحة، فالمترجمون للِإمام بعد ابن الجوزي عيال عليه.
وتستفاد ترجمته تبعًا من كتب السير والتراجم، والطبقات، والتواريخ،
وأَوفاها ما في: " السير " للذهبي: (11/177- 358) ، فانَّه استوفى عيون ما في ترجمته، وبخاصة: " خبر القول بخلق القرآن " . واتَكَأ على كتاب ابن الجوزي المذكور.
والعجب أن ابن جرير، لم يترجم له في: " تاريخه " كما أَن ابن عساكر لم يذكر خبر المحنة في: " تاريخه "
وتستفاد ترجمته أيضا من تراجم تلاميذه، ومن تراجم أَقرانه، ومن تراجم شيوخه، ومن تراجم خصومه.

المبحث الأول: عيون المعارف في ترجمته
تاريخ ولادته ووفاته:
روى عبد الله بن أحمد، عن أَبيه، أنه قال: " قَدِمَتْ بي امِّي حَمْلًا من خراسان، وَوُلدْتُ سنة (164 هـ)
وقال ابنه صالح:
" جِيْءَ بِهِ من مرو حَمْلا ".
وأَفادت الروايات أَنه وُلدَ في بغداد في العشرين من شهر ربيع الأول عام (164 هـ)
وتوفي في بغداد، محموما، ضحوة يوم الجمعة، العاشر، من شهر ربيع الأول عام 241 هـ، وغُسِّلَ، وصُلي عليه، ودُفِنَ في هذا اليوم، يوم وفاته .
وكان عمره يوم مات: سبعة وسبعين عامًا وأحد عشر شهرًا واثنتين وعشرين ليلة
وقد ذكرَ مترجموه كثرة من حضر جنازته من الرجال، ومن النساء، واسترسل المؤرخون في ذكر العدد التقريبي لمن حضر جنازته، حتى من الكفار، ومن أَسلم منهم ذلك اليوم.

ابن حنبل:
انفرد الإمام مالك- رحمه الله تعالى- بنسبة مذهبه إلى اسمه فيُقال: " المذهب المالكي "
أَما أَبو حنيفة النعمان بن ثابت، فنسبة مذهبه إلى كنيته، فيُقال: " المذهب الحنفي "
وأَما محمد بن إِدريس بن العباس بن عثمان بن شافع، فينسب مذهبه إلى جده: " شافع " الذي اشتهر بالنسبة إِليه هو، فيُقال له: " الإمام الشافعي " ويُقال لمذهبه: " المذهب الشافعي " .
وأَما أَحمد بن محمد بن حنبل، فاشتهر عند الناس بالنسبة إلى جده، فيُقال: " الإمام أَحمد بن حنبل " و " ابن حنبل " ويقال في النسب إلى مذهبه : "المذهب الحنبلي " .
ويظهر أَن لِجَدِّه " حنبل " من الشهرة، والمكانة، ما جعل الحفيد " أَحمد " لا يُعرف إلَّا به، فيُقال: أَحمد بن حنبل . والله أعلم .
كنيته:
كنيته " أبو عبد الله " وعبد الله، هو الابن الثاني له، والأول هو ابنه:

صالح، فلماذا تكنى بعبد الله دون صالح، والعادة جارية بتكني الأَب بأَكبر أَبنائه؟
فلعله تكنى بأبي عبد الله قبل أَن يتزوج، ويولد له، فغلبت عليه.
وهذا جَارٍ في الناس، كما قيل:
لَهَا كُنْيَة عمرو ... وَلَيْسَ لها عمرو
أَو أَنه ولد له ابن أَول ما ولد وسماه عبد الله، ومات في صغره، ويمَنَّى به، فغلبت عليه.
- وإذا عرفنا أَن الإمام أَحمد لم يتزوج إلَّا بعد الأَربعين من عمره بتتبع الأَخبار والروايات في ترجمته نجد مجموعة منها في خبر ما قبل الأَربعين من عمره كان يدعى فيها بأَبي عبد الله، وهذا دليل مادي على سلامة أَحد هذين التعليلين وَأَوَّلهما أَوْلَى. وكم في بطون التاريخ، والسير من معالم، طويت معالمها، وغابت أَخبارها، فهذا: شيخ الإسلام أَبو إسماعيل الهروي: عبد الله بن محمد الأنصاري. ت سنة (481 هـ) لا يعرف له سوى ابنيه: مجاهد، وعبد الهادي، فمن أين جاءت تكنيته بأَبي إسماعيل؟ يدور في هذا تعليلات كثيرة، والله أعلم.

كان أبوه محمد: من أجناد مرو لكن ما لبس زي الجند قط،
وأصله من البصرة، وكان كريمًا جوادًا مُمَدَّحًا، فَتح داره بخراسان لوفود العرب، فيقوم بالضيافة، والإكرام.
توفي وهو ابن ثلاثين عامًا، ولذا قال أَحمد: لم أَر جدي، ولا أَبي.
وكان جده: حنبل، واليًا على سرخس، ومن القائمين بالدعوة العباسية.
وهذه السابقة مِن جَدِّه، لم تشفع له عند المأمون، والمعتصم، والواثق، من خلفاء بني العباس في موقفهم من أَحمد الإمام، فهل من مُعتبر (1) ؟.
والدته :
هي: صفية بنت ميمونة- هكذا- بنت عبد الملك الشيباني من بني عامر وعبد الملك هذا من وجوه بني عامر وساداتهم.
هكذا وجدت اسمها.
فهذه الوالدة المباركة، ترملت من زوجها، وكان أَحمد وحيدها، وكانت أمه قد وُفِّقَتَ حينما رحلت به إلى بغداد دار العلم آنذاك
وفي هذه النقاط الثلاث كان الشافعي كذلك، فقد ترملت أمه في شبابها، فحملت وحيدها: محمد بن إدريس من غزة إلى مكة، دارالإسلام الأولى، ومثابة العلم والعلماء.
 أَولاده: للِإمام أَحمد عشرة أَولاد، ثمانية بنين، وابنتان، هم :
صالح، وعبد الله، وزهير، و الحسن والحسين، والحسن، ومحمد، وسعيد، وزينب، وفاطمة.
زوجاته: كان له- رحمه الله تعالى- زوجتان من العرب، وجاريتان، كما يأتي:
1- أَول زواج له كان بعد بلوغه أَربعين عاما كانت زوجته عباسة: بنت الفضل، من نسل العرب من الرَّبَض أَقامت معه ثلاثين عامًا، لم يختلف معها بكلمة واحدة.
ولدت له: ابنه صالحًا أَبا الفضل القاضي بطرسوس. ولد سنة (203 هـ) وت سنة (266 هـ) بأَصبهان وله ثلاث وستون سنة، وهو أكبر من أخيه عبد الله بعشر سنين.
ولصالح ثلاثة أَبناء، هم: أَحمد، وعلي، وزهير ت سنة (303 هـ) ، ولأحمد ابن اسمه: محمد بن أحمد بن صالح بن الإمام
أَحمد. ت سنة (330 هـ) يكنى أبا جعفر.
وقد توفيت عباسة في حياة الإمام أَحمد، وكان يثني عليها كثيراَ
2- زوجته: أم عبد الله: ريحانة- بنت عم الإمام أَحمد: عمر تزوجها بعد وفاة أم صالح، وولدت له: راوية المسند: ابنه: عبد الله، فقط . وماتت في حياته.
وعبد الله يكنى: أَبا عبد الرحمن، ولد سنة (213 هـ) وتوفي سنة (295 هـ) ببغداد عن عمر ناهز سبعة وسبعين عامًا مثل أبيه، صلى عليه ابن أَخيه زهير بن صالح
3- جارية اسمها: حُسْن، اشتراها بعد وفاة أم عبد الله. ولدت له بقية أَولاده: أم علي: زينب، والحسن، والحسين- توأمان- وَمَاتَا قُربَ ولادتهما ثم: الحسن ومحمد، وعاشا نحو أَربعين عاماَ، ثم سعيد، وُلدَ قبل موت والده بنحو خمسين يومًا، وقد ولي قضاء الكوفة
فلعلَّها فاطمة، التي ذكرها المقريزي في: " المقفى " ولم يتبين من أي زوجاته المذكورات.
4- جارية اشتراها، وسماها: " ريحانة ".
قال ابن المنادي:
" استأذن أَحمد زوجته في أَن يتسرى طلبًا للاتباع، فأَذنت له، فاشترى جارية بثمن يسير وسماها: ريحانة، استنانًا برسول الله صلى الله عليه وسلم . " انتهى.
" صفته:
كان شيخًا رَبْعَةً، وقيل: طُوالاً أَسمر شديد السمرة، حسن الوجه، مخضوبًا يخضب بالحِنَّاء خِضَابًا ليس بالقاني، وفي لحيته شعرات سُود.
تعلوه سكينة، ووقار وخشية، وكان مهيبًا في ذات الله، حتى لقال أبو عبيد: ما هبت أَحدًا في مسألة ما هبت أحمد بن حنبل ". وكانت ثيابه غلاظًا بيضاء، يعتم، ويتزر.
وكان نظيفًا في مَلْبَسِهِ.
وكان يَتَنَوَّر في بيته، وما دخل حَمَّامًا قط.
وكان أَكثر جلوسه متربعاً.
- فراسة العلماء عنه في صغره:
بدت عليه النجابة وهو غَضٌ يختلف إلى الكُتَّاب، واشتهر
بالشغف الشديد في التعلم، والرغبة في العلم وهو في سن الصبا وتميز بالورع، وعفة اللسان، والقلم، وهو في ريعان الشباب.
قال أَبو سهل الحافظ الهيثم بن جميل الأَنطاكي في أَحمد:
" إِن عاش هذا الفتى فسيكون حجة على أهل زمانه " انتهى.
فلله أَبوه، ما أَصدق فراسته، فقد كان حجة على أهل زمانه إلى الآخر، فسبحان المنعم المتفضل.
- أَحمد في صِغَرِهِ يرفض أَن يكون وَشَّاء:
أَرسل معه عَمُّه أَوراقًا إلى ديوان الخليفة فغاب أَحمد طويلًا، دون أَن يَرُدَّ عَلَى عَمِّه، وسِنُّهُ عند ذلك صغيرة.
فلما قابله عَمُّه سأله عن الأَوراق، فعرف أَنه لم يوصلها، فسأله : لماذا لم توصلها فأَجاب أَحمد الغلام:
" ما كنت لأَرفع تلك الأَخبار، لقد أَلقيت بها في البحر، فجعل عمه يسترجع، ويقول: هذا غلام يتورع فكيف نحن... ؟ "
- تواضعه  :
كان- رحمه الله- آية في التواضع ومثالًا يحتذى في ذلك، وسيرته خير شاهد على ما نقول، وهو عربي صليبه ولاشك، ومما يشهد لتواضعه أَنه لم يكن يفخر بعروبته.
يقول الحافظ الناقد الجليل يحيى بن معين- رفيق حياته وصديقه-: ما رأيت خيرًا من أَحمد بن حنبل، ما افتخر علينا بالعربية قط ولا ذكرها.
وقد سُئِلَ مرة عن ذلك وهل هو عربي؟ فقال: نحن قوم مساكين.
وَيَحْكِي ابن الجوزي أَن أَحمد كان من أَحب الناس وأَكرمهم نفسا وأَحسنهم عشرة وأَدبًا، كثير الإطراق والتقى، معرضًا عن القبح واللغو لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث، وذكر الصالحين والزهاد في وقار، وسكون، ولفظ حسن، وإذا لقيه إِنسان بش به، وأَقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعا شديدًا، وكانوا يكرمونه، ويعظمونه .
- إِجابته الدعوة:
كان من مظاهر تواضعه، وتطبيقه للسنن: إِجابته للدعوة في المناسبات المشروعة، مثل الزواج، والختان وكان في حضوره، ملاطفًا للناس، متواضعاً، لكن كان أَمَّارًا بالمعروف، نَهَّاءً عن المنكر، يُقَوّمُ السلوك، ويزيل المنكر، فإن لم يمكنه انصرف.
وكان ربما بذل شيئًا من المال؛ لإدخال السرور.
وله في ذلك حكايات، ومواقف كريمة.
- تعبده وزهده غير المتكلف:
إن أعظم صفة أخذت بمجامع قلبي، هي ما أَفاض به مترجموه - رحمه الله تعالى - في أخبار تعبده، وزهده، وتألُّهه، وقراءته القرآن، وورعه، مما لا ينقضي منه العجب، لكنها المعونة الربانية، والعناية الِإلهية، وهي بحق تقضي له بالإمامة في العلم والدِّين، إِذ العالم لا يكون عالمًا حتى يكون عاملًا،.
وكان من هديه: أنه لا يُظهر النسك.
وكثيرًا ما يقول: اللهم سَلِّم، سَلّم.
وكانت الدنيا لا يجري لها ذكر على لسانه.
قال تلميذه أَبو داود- صاحب السنن- ت سنة (275 هـ) : " لقيت مائتين من مشايخ العلم، فما رأيت مثل أَحمد بن حنبل، لم يكن يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أَمر الدنيا، فإذا ذُكِر العلم تكلم ".
قال ابن كثير- رحمه الله تعالى-:
" وقد صَنَّف أَحمد عن الزهد كتابًا حافلًا عظيمًا، لم يسبق إلى مثله، ولم يلحقه أحد فيه، والمظنون بل المقطوع به: أنه إنما كان يأخذ بما أَمكنه منه- رحمه الله- " .
وجاء في " السير: 11/ 192 " قال الرمادي: سمعت عبد الرزاق وذكر أَحمد بن حنبل فدمعت عيناه، فقال: بلغني أَن نفقته نفدت، فأخذت بيده فأَقمته خلف الباب، وما معنا أَحد، فقلت له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها ... فقال لي: يا أبا بكر لو قبلت من أحد شيئًا قبلت منك
وفي مجال ورعه وتقواه كان يقول: ما كتبت حديثًا إلًا وقد عملت به، حتى مر بي أَن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأَعطى أَبَا طَيبة دينارًا فأَعطيت الحجام دينارًا حين احتجمت.
- حبه للوحدة:
قال عنه ابنه عبد الله: كان أَصبر الناس على الوحدة، وبِشْرٌ لم
يكن يصبر على الوحدة، كان يخرج إلى ذا إلى ذا
وكان يقول: أَشتهي مكانًا لايكون فيه أَحد من الناس
ويقول رأيت الخلوة أَروح لقلبي

وكان يحب الخمول والانزواء عن الناس، ويعود المريض.
وكان يكره المشي في الأَسواق، ويؤثر الوحدة.
وقال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أَبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكره أَن يتبعه أَحد.
أَقول: فليعتبر من إذا مشى معه مَنْ لا يُفْرَحُ بِهِ، أو احتوشه بعض الطلاَّب، ضاقت الطريق به؟
- بعده عن الشهرة:
من كان موصوفًا بالزهد، والورع، والتواضع، وصدق اللجأ إلى الله، والتعبد، ودوام الذكر، وقراءة القرآن ، وتبليغ العلم؛ خاف على نفسه " الشهرة " وكرهها، وَفرَّ من أَسبابها وأَخذ بالتوقي منها وقد ضرب الإمام أَحمد في حربها، شوطًا بعيد المدى في دقائق حياته، حتى كان يقول: " لو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر ".
ولهذا قال في وصفه عيسى بن محمد الرملي:
" عن الدُّنيا ما كان أَصبره، وبالماضين ما كان أَشبهه، وبالصالحين ما كان أَلحقه، عَرَضت له الدُّنيا فَأَبَاهَا، والبِدع فنفاها " رواهما الذهبي في: " السير " .
وكان ينهى من رآه آخذا ببعض أَسباب الشهرة مثل تشمير الثياب فوق المعتاد، ولبس المرء غير لبس أهل بلده، وهكذا، مما ساقه ابن الجوزي عنه في كتابه: " تلبيس إِبليس " وفَصَّلْتُ القول فيه في رسالة باسم: " الفرق بين حَدِّ الثوب والأزرة ".
قال ابن الجوزي- رحمه الله تعالى- بسنده:
وقال أحمد- رحمه الله تعالى-:
" القلانس من السماء، تنزل على رؤوس قوم، يقولون برؤوسهم
هكذا، وهكذا- المعنى لا يريدونها- وقوله: هكذا وهكذا، أي يميلون رؤوسهم أن يتمكن منها، ومعنى الكلام: أنهم لايريدون الرئاسة، وهي تقع عليهم ... "
أَقول: فما بالنا نبذل النفس، والنفيس، ونغض الطرف عن أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، متربصين شيئًا من ذلك، ثم لا نكتفي بهذا الإثم بل نزيده إثمًا بتخريجه فقهاً؛ ليفيد شرعيته؛ ولهذا نزلت القيمة بنزول القيم وارتفع أَهل الأهواء، والماديون، والسَّفل.
- إِجلال علماء زمانه له وهيبته عندهم:
كان علماء زمانه: يجلونه، ويقصدونه بالسلام عليه.
قال أَبو عبد الله: كان لنا عند يزيد بن هارون توهم في شيء فكلمته فأَخرج كتابه، فوجده كما قلت، فَغيَره، فكان إذا جلس يقول: يا ابن حنبل، ادن يابن حنبل، ادن ها هنا.
وقال ميمون بن الأَصِبغ: كنا عند يزيد بن هارون، وكان عنده المعيطي، وأبو خيثمة، وأحمد، وكانت في يزيد- رحمه الله- مداعبة، فذاكره المعيطي بشيء، فقال له يزيد: فقدتك، فتنحنح أحمد فالتفت إِليه، فقال: من ذا؟ قالوا: أحمد بن حنبل، فقال: إلَّا أَعلمتموني أَنه ها هنا؟
قال المروزي: فسمعت بعض الواسطيين يقول: ما رأيت يزيد ابن هارون ترك المزاح لأَحد إلَّا لأَحمد بن حنبل.
ويقول أَحد تلامذته: كنا نهاب أَن نرد أَحمد في شيء أو نُحَاجَّهُ فيه ".
ويقول آخر دخلت على إِسحاق بن إبراهيم - والي بغداد - وفلان وفلان من السلاطين فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل، صرْتُ إليه أكلمه في شيء فَوَقَعَتْ عَلَيَّ الرعدة حين رأيته من هيبته .
- كرمه:
مع قلة ذات اليد، وأَن حاله كانت كفَافًا، بل ربما لحقته فاقة، كان يبذل ما في يده، ولا يؤخر ما في يومه لِغَدِه.
- مصدر نفقته:
مُسْلِم يَتَعَفَّفُ من أُعطيات السلطان، والأَخذ من أَيدي الناس وإن لحقته فاقة، يظن الظَّانُّ أَن لديه من الثراء، ما ينافس به أهل الدنيا في دنياهم، لا. ولكن كان لديه الكنز الذي لا ينفد: " القناعة " ، والعفة، وضبط النفس، وعلو الهمة.
إِن غاية مَا ذَكرَتْهُ المصادر أَن له دارًا في بغداد، ملحق بها جوانب مؤجرة، فينفق من غِلالها.
وثم مصدران آخران:
تقوته من عمل يده:
ومن وقائعه في ذلك أَنه زمن الرحلة إلى عبد الرزاق في اليمن، كان يعمل " التكك " (نوع من اللباس) ويبيعها، يتقوت بها  .
- حوانيت كان يؤجرها: وقد ذكر مترجموه من حسن تعامله مع شاغليها، وعطفه عليهم، ما يقضي بورعه، وسماحة نفسه، وزهده، وانصرافه بكليته عن الدنيا.
وَلَعَلَّ قلة ذات يده، وتقلله من الدنيا، كان سببًا في نبوغه في العلم والفقه في الدِّين.
ومن شواهد ذلك أنه جرت بين أبي الوليد الباجي، المتوفى سنة (474 هـ) وابن حزم، المتوفى سنة (456 هـ) - رحمهما الله تعالى- مناظرة، فلما انقضت قال الفقيه أبو الوليد: " تعذرني، فإن أكثر مطالعتي كانت على سُرج الحُرَّاس " . قال ابن حزم: " وتعذرني أيضا، فإن أكثر مطالعتي كانت على منابر الذهب والفضة " قال ياقوت بعد ذلك  : " أراد ابن حزم أن الغِنى أضيع لطالب العلم من الفقر وهذا مشاهد، فالضِّدَّان لا يجتمعان، كحُبِّ القرآن وحُبِّ الغناء وحب المال وحب العلم، والولاية والتجارة، وبقدر ما يحصل من العنصر الداخل يضعف الجانب الآخر، والقوة لمن غلب، فاحذر أن تُغلب في دينك وعلمك وعملك . والله المستعان
رفضه أعطيات السلطان:
اذأ كان الإمام أَحمد في رحلاته قد رفض الأخذ من شيخه بواسط: يزيد بن هارون، ورفض عطاء شيخه عبد الرزاق في اليمن، ورفضه من رفيقه في السفر إلى اليمن: إسحاق بن راهويه، ورفضه من يحيى بن معين، ورفضه من جار له بمكة حِيْنَ سُرِقَتْ ثيابه، فما بالك بأعطيات السلطان له؟.
إنَّه ما قبل- رحمه الله تعالى- أعطيات السلطان قط، في أَخبار يطول ذكرها، وهي من ضنائن السلوك، وضبط النفس. وإلى الله الشكوى، فما لنا من هذا إلَّا الرواية؟
وكان يقبل الهدية من غير السلطان، ويثيب عليها بأَكثر منها.
نعم، رفع الله المحنة عن الإمام أَحمد وعن المسلمين بولاية المتوكل وكان دفع له مالاً فلم يقبله، فأَلزمه به ففرقه بعد ما قبله وأَجرى المتوكل على أَهله وولده، أَربعة آلاف في كل شهر حتى مات المتوكل، لكن الإمام أَحمد اعترض على ولديه: صالح، وعبد الله، وعمه، لأَنهم قبلوا مال الخليفة المتوكل، ويقول لهم: لِمَ تأخذونه، والثغور معطلة، والفيء غير مقسوم بين أَهله؟
وأَقول: اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كَسْرَنا، فما بقي إلَّا من يقول:
أَنا للأُعطيات أَنا.
وما أجمل ما قاله مصعب بن عبد الله الزبيري:
" ومن في ورع أحمد؟ يرتفع على جوائز السلطان، حتى يُظن أنه الكِبر ويكري نفسه مع الجمالين، حتى يُظن أنه الذل، ويقطع نفسه عن مباشرة عامة الناس وغشيان خاصتهم أنْسًا بالوِحدة، فلا يراه الرائي إلا في مسجد، أو عيادة مريض، أو حضور جنازة، ولم يقض لنفسه بعض ما قضيناه من شهوات ".
- تاريخ بدء طلبه للحديث:
بدأ- رحمه الله تعالى- في طلب الحديث سنة (179 هـ) . في العام الذي مات فيه الإمامان: مالك، وحماد بن زيد، أَي: وهو في سنِّ السادسة عشرة من عمره.
وكان أَول سماعه من: هشيم بن بَشير الواسطي سنة (179 هـ)
وأَول من كتب أَحْمَدُ عنه الحديثَ: هو أَبو يوسف
- رحلاته:
لعل أَول من اشتهر بأَنه طاف البلاد، وجاب الأَمصار، في طلب الحديث، متتبعا محاريب العلم، وأَئمته الهداة في السنن والفقه في الدِّين، هو الإمام أَحمد؟ فقد رحل من بغداد إلى : المصرين: الكوفة، والبصرة، وإلى : عبادان، وإلى : الجزيرة، وإلى: واسط، وإلى الحرمين: مكة والمدينة، ورحل ماشيًا إلى صنعاء اليمن، وارتحل ماشيا إلى : طرسوس، مرابطا، وغازياً، ورحل إلى الشام.
ومنعته قلة ذات اليد، من الرحلة إلى " الرَّيِّ " ليأخذ عن محدِّثها: جرير بن عبد الحميد.
وتارة منعته أمه من الرحلة، شفقة عليه.
ووعد شيخه الشافعيَّ بالرحلة اليه في مصر لكن حالت المنية
دون ذلك، بوفاة الإمام الشافعي سنة (204 هـ) - رحمه الله تعالى- . وكانت رحلاته هذه نتيجة وَلَعِهِ بالعلم، والطَّلَب، ولهذا رَوَى عنه ابنه صالح، قال:
(رَأَى رجل مع أَبي محبرة، فقال له: يا أَبا عبد الله، أَنت قد بلغت هذا المبلغ، وأَنت إِمام المسلمين، فقال: " من المحبرة إلى المقبرة ")
ومع هذا العمل الصالح، كان حريصًا على توفر ركنه: " الِإخلاص " فيقول: " إِظهار المحبرة من الرياء ".
ولهذا نفع الله بعلمه، واشتهرت في العالمين ثقته وأَمانته وجلالة قدره- رحمه الله تعالى-.
وإلى بيان موجز عن رحلاته:
[1] كانت أَولى رحلاته في طلب الحديث إلى : الكوفة سنة وفاة شيخه هشيم سنة (183 هـ) .
وكان أَجل شيوخه فيها وكيع، وكانت صلته به على نحو صلة زفر بأَبي حنيفة، لكن هذا في تلقي الرأي، وأَحمد في تلقي السنة.
وكان في رحلته هذه في حال شظف في العيش؛ إذ كان يتوسد اللبن من قلة ذات اليد، وقد حُمَّ فرجع إلى أمِّه في بغداد.
[2] ثم رحل إلى ما هو أبعد منها عن بغداد: " البصرة " دار آبائه وأَجداده من بني شيبان، دخلها أَول ما دخلها في أَول شهر رجب سنة (186 هـ) ، ثم سنة (190 هـ) ، ثم (194 هـ) ، ثم سنة
(200 هـ) ، ثم رحلة خامسة.
والتقى فيها بأَعلامها: ابن علية، وابن مهدي، وابن القطان.
[3] ورحل إلى : عبادان سنة (186 هـ)
[4] ورحل إلى : واسط سنة (187 هـ) وهو في طريقه إلى مكة.
لأَداء فريضة الحج، وأَخذ فيها عن: يزيد بن هارون.
[5] ورحل إلى : " طرسوس " ماشيًا على قدميه.
[6] وبعد أَن أَنهى أَمصار قطره، صَوَّب سفره إلى الحجاز لأَداء فريضة الحج سنة (187 هـ) فأَخذ في مكة عن: ابن عيينة، ثم الشافعي.
ثم حج تطوعًا أَربعًا، منها في: سنة (197 هـ) ، وسنة (198 هـ) .
فهذه خمس حجات كان في ثلاث منها يحج ماشيًا، ومرتين راكبًا وكان في حجته سنة (198 هـ) يفتي الناس في الموسم في مسجد الخيف.
[7] ورحل ماشيًا إلى صنعاء (1) اليمن سنة (198 هـ) ، وأَقام عند شيخه محدِّث اليمن: عبد الرزاق بن همام، مدة سنتين
وفيها أَخذ عن: إبراهيم بن عقيل، وكان عَسِراً في الرواية.
[8] ورحل إلى الشام.
كثرة شيوخه  :
كان له شُيوخ كُثر، منهم في المسند ما يزيد عن " 280 " شيخاً، كذا ذكر الذهبي، وقد أُفردت في عصرنا بكتاب بلغ بهم مؤلفه: (292) شيخا (2)
وهم من أَقطار الأَرض من: بغداد، والبصرة، والكوفة، والحجاز، والشام، والجزيرة، واليمن.
وكان أُستاذه وشيخه الذي اختص به لملازمته والتخرج عليه، الحافظ أَبو سهل هشيم بن بشر الواسطي، إِذ لازمه من سنة (179 هـ) إلى سنة (183 هـ) .
قال الِإمام أَحمد (3) :
" كتبت من هشيم سنة (179 هـ) ، ولزمناه إلى سنة (183 هـ) ، وكتبنا منه كتاب الحج، نحوًا من أَلف حديث، وبعض التفسير وكتاب القضاء، وكُتُبًا صغارًا ".
وشأنه في هذا شأن الأَئمة في ملازمة شيخ يتخذ الطلب عليه أَساسًا في حياته العلمية، وتحصيله، مع الاختلاف إلى غيره.
وهذا أَبو حنيفة اختص بأستاذه حماد بن أبي سليمان، وبه تَفَقَّه. ومالك اختص بأستاذه ابن هرمز

والشافعي اختص بأُستاذه مالك.
وقد سمَّاهم ابن الجوزي في: " المناقب " وساقهم على حروف المعجم، فيمن وقعت له تسميته.
- أَدب أَحمد مع شيوخه:
يحدِّث أَحمد عن حاله مع شيخه هشيم فيقول (1) :
" وكان هشيم كثير التسبيح، ولازمته أَربعة، أو خمسة- أَعوام- ما سألته عن شيء- هيبةً- إِلاَّ مرتين، في الوتر ومسألة أخرى عن أَشعث " .
هكذا الأَدب، وصدق الطلب، وإخلاص العمل، وإجلال الشيوخ فأَين هذا من بعض الطلبة المتعالمين، الذين يتنمرون على شيوخهم بأَسئلة يصنعونها؛ ليظهروا عجزه، وفضلهم عليه؛ وهؤلاء حقيق أَن يفشلوا، ولا ينجحوا، وقد شُوْهِدَ هذا.
أما الذين يسألون للوشاية، فَصُدَّ عنهم، وَوَلِّهم دُبرك.
- رواية شيوخه عنه  :
حدَّث عن الإمام أَحمد، جُملة كبيرة من شيوخه، عقد ابن الجوزي لتسميتهم " الباب الحادي عشر " ، نحو عشرين شيخًا حدَّثوا عنه، منهم الإمام الشافعي

قال الذهبي- رحمه الله تعالى: (و-حدَّث عنه- أبو عبد الله الشافعي، لكن الشافعي لم يُسَمِّه، بل قال: حدَّثني الثقة) انتهى.
- كثرة تلامذته:
تلاميذه الرواة الآخذون عنه، وحَمَلَةُ المسائل عنه قد أفردهم بالتأليف تلميذ تلامذته: الخلال . ت سنة (311 هـ) ثم ابن المنادي. ت سنة (336 هـ) ، ثم الجنابذي . ت سنة (611 هـ) وقد فرغ لهم ابن أبي يعلى. ت سنة (526 هـ) الجزء الأول من " الطبقات " وبلغ بهم (577) نفسًا، وعقد لهم ابن الجوزي " الباب الثاني عشر " من كتابه في مناقب أحمد ويأتي تفصيل ذلك في: المدخل السابع.
هذا فضلًا عما يذكر في ترجمته من كثرة الآخذين عنه، مِمَّن لم تقع تسميتهم، ومن كان يحضر درسه، ومجالسه، وقد ذكر مترجموه، أنه كان يحضر درسه ومجلسه ما يزيد على خمسة آلاف، ما بين كاتب، ومستمع، ومتأدب بأدب، وملتمس حُسْنَ دَلِّ وسمت.
- غرامه بالكتب  :
قال أبو زرعة: " حُزِرَتْ كُتُبُ أحمد، يَوْمَ مات، فبلغت اثني عشر حِمْلًا، وعِدْلًا ما كان على ظهر كتاب منها: حديث فلان، ولا في بطنه: حدَّثنا فلان، كل ذلك كان يحفظه ".

* إِمامته في علم الجرح والتعديل ومعرفة الرجال:
إِمامته في معرفة الرجال كمعرفته في عقبه، وفضلا عن إِمامته وبصيرته في ذلك فهو من المعتدلين المتحلين بالِإنصاف، ومجانبة الِإفراط والتفريط.
وله في ذلك: " العلل ومعرفة الرجال " و " الأَسامي والكنى " و " التاريخ " و " حديث شعبة ".
* روايته في الكتب الستة  :
قال الذهبي- رحمه الله تعالى-:
" حَدَّث عنه البخاري حديثًا، وعن أَحمد بن الحسن، عنه حديثًا آخر في المغازي، وَحَدَّث عنه مسلم، وأَبو داود بجملة وافرة، وروى أَبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، عن رَجُلٍ ، عنه "
* من نفائس أقواله:
- منها " قال الميموني: قال لي أَحمد: يا أَبا الحسن، إياك أَن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إِمام "
أَقول: أَين هذا الهدي السني المقتصد في السنة من الذين يستظهرون سننًا، وهدياً في عصرنا لم تكن معروفة في عمر التاريخ الإسلامي؟ ثم هم يجالدون عليها، ثم يتدينون ببغض من لم يَتَسَنَّنْ

بها، والله يعلم ما في أَنفسكم فاحذروه.
- ومنها: " قال الورَّاق: سمعت أَحمد بن حنبل يقول: ما شبهت الشباب إِلاَّ بشيء كان في كُمِّي فسقط ".
- ومنها: قال عبد الله بن أَحمد، سمعت أَبي يقول: " قولوا لأَهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز " .
* مؤلفاته:
الإمام أَحمد - رحمة الله تعالى- عن كبار المصنفين في الإسلام، له المؤلفات الجامعة، والمصنفات الماتعة، ويكفيه شرفًا كتابه العظيم: " المسند " ديوان الإسلام لسنة النبي- عليه الصلاة والسلام- وقد بلغت كتبه نحو الثلاثين، وَقَارَبَت كُتب المسائل عنه المائتين.
وبجانب هذا كان ينهى عن وضع الكتب " في الرأي " ، ويصفه بأَنه بدعة، والروايات عنه في النهي عن الكتابة عنه منشورة، وأَخبارها مسطورة.
ومنها ما رواه ابنه عبد الله عنه في: " مسائله: 1821 " وقد ذُكِرَ وضع الكتب عنده فقال:
" أَكرهها. هذا أَبو حنيفة وضع كتابًا، فجاء أَبو يوسف فوضع كتابًا، وجاء محمد بن الحسن فوضع كتاباَ، فهذا لا انقضاء له، كل ما جاء رجل وضع كتابًا، وهذا مالك وضع كتاباَ، وجاء الشافعي أيضا، وجاء هذا - يعني: أَبا ثور- وهذه الكتب وَضْعُها بدعة، كل ما جاء رجل وضع كتابًا وترك حديث رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ".
كما تظافرت الروايات عنه في نهيه لتلاميذه عن الكتابة عنه شيئًا من أَجوبته وفتاويه، وَعَلَّلَ ذلك بأَنه رأي، والرأي قد يتغير، وَعَلَّلَ ذلك مرة أخرى وأَرشد طلابه بأن ينصرفوا إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتركوا تقييد الرأي وكتابته، فإن الرأي قد يخطىء.
لكن لما اطمأن- رحمه الله تعالى- إلى إشباع النفوس بالسنة والحديث، وأَن هذا هو العلم، وأنه لا يجوز أن يصرف عن الوحيين صارف، طفق العلية من أَصحابه وتلاميذه يكتبون عنه أَجوبته، وفتاويه، ومنهم من كان يعرضها عليه.
وهذا نظير نهي النبي صلى الله عليه وسلم كتابة شيء عنه صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، فلما أمن صلى الله عليه وسلم على عظمة منزلة القرآن في نفوس الصحابة، وزالت خشية الانشغال عنه، وخوف اختلاطه بغيره، أَذن صلى الله عليه وسلم بتدوين الحديث عنه، فأملى، وأمر، وأذن صلى الله عليه وسلم بكتابة الحديث عنه.
وبعد فإلى بيان مؤلفات الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-:
1- المسند. طبع مرارا
2- فضائل الصحابة. مطبوع في مجلدين.
3- العلل ومعرفة الرجال. مطبوع
4- الأَسامي والكنى. طبع.
5- حديث شعبة.
6- التاريخ.
7- الزهد. مطبوع
8- الورع. مطبوع
9- الرد على الزنادقة والجهمية . طبع مرارا
10- كتاب أهل الردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض ونحو ذلك. وهل هو تأليف مستقل للإمام أم جزء من كتاب الخلال: " الجامع لعلوم الإمام أحمد " ؟ مطبوع.
11- الإيمان. مخطوطته في: المتحف البريطاني كما في: تاريخ التراث العربي: 1/ 3/ 226.
12- طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
13- الإمامة.
14- نفي التشبيه.
15- المقدم والمؤخر في القرآن.
16- جوابات القرآن.
17- الناسخ والمنسوخ، مصورته في مكتبة الشيخ حماد الأنصاري بالمدينة.
18- رسالة في الصلاة. مطبوعة . وهي في: " طبقات ابن أبي يعلى: 1/348- 381.
19- حديث الشيوخ.
20- المناسك الكبير.
21- المناسك الصغير.
22- الفرائض.
23- كتاب الأشربة. مطبوع
24- كتاب الوقوف والوصايا. مطبوع
25- أَحكام النساء طبع
26- الترجل . طبع
وهذه الثلاثة يظهر- والله أعلم- أَنها من كتاب: " الجامع " للخلال " وإن وجدت نسخ خطيه مفردة لها.
ولم أَذكر كتاب: " التفسير " الذي قيل: إِنه يبلغ مائة وعشرين أَلف حديث، لأَن نقد الذهبي لنسبته، وإنكار وجود تفسير له، مقنع كما في ترجمته للِإمام أَحمد من: " السير 11/328، وفي 13/522 ".
وأما رسائله- رحمه الله تعالى- ...
فهي في الاعتقاد، وقد ساق ابن أَبي يعلى في: " الطبقات " منها ست رسائل هي :
1- " رسالة الاصطخري: 1/ 24- 36 "
2- " رسالة الربعي الحسن بن إسماعيل: 1/ 130- 131 "
3- رسالة عبدوس بن مالك العطار 1/ 241- 246 "
4- " رسالة محمد بن عوف الطائي: 1/ 311- 313 "
5- " رسالة السنة رواية الأَتدراني والسرخسي: 1/329- 330 "
6- " رسالة الإمام أَحمد إلى مسدد بن مسرهد، المتوفى سنة (228 هـ) : 1/ 341- 345 "
* تاريخ تأليفه للمسند:
أَلَّف " المسند " قبل المحنة، وما سمعه ابنه عبد الله إلَّا بعدها في حدود سنة (227 هـ) أو سنة (228 هـ) .
* سعة حفظه:
الأخبار عنه في هذا تطول، ومنها:
عن أَحمد الدورقي، عن أَبي عبد الله قال: نحن كتبنا الحديث من ستة وجوه، وسبعة لم نضبطه، فكيف يضبطه من كتبه من وجه واحد؟
قال عبد الله بن أَحمد: قال لي أَبو زرعة: أَبوك يحفظ أَلف أَلف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأَبواب. قال الذهبي بعدها: فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أَبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأَثر، وفتوى التابعي، وما فُسِّر، ونحو ذلك، وإلاَّ فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك " .