18‏/03‏/2015

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 19

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 19


- القسم الثالث: معرفة مذهب المجتهد من نص آية، أَو حديث، أو أَثر (3) :
ولهذا القسم عِدَّة صُور، تندرج كل مجموعة منها تحت نوع من
أَنواعه الثلاثة، وهي:
* النوع الأول: معرفة مذهب المجتهد من جوابه للمستفتي
بنص آية، أو حديث، أو أَثر عن الصحابة- رضي الله عنهم- فهذا النوع يُستفاد منه ثلاثة أمور:
1- أَن جوابه بآية، أو حديث، أو أَثر، هو بمثابة نص قوله المبين في أَول هذا الطريق، على أَن يراعى فيه ظاهر النص الذي احتج به، فظاهره هو مذهبه، ما لم يلحق النص بتفسير له.
2- أَن جوابه به يكون إِثباتاً لحجية المروي من السنة والأَثر، وصحته.
3- وهو إِيذان بأَن ذلك هو معنى النص المذكور في جوابه، وتفسير له.
* النوع الثاني: معرفة مذهب المجتهد من روايته.
ولهذا صُور:
الصورة الأولى: أَخذ مذهب المجتهد من روايته ورأيه من مرويه إذا كان له قول يوافقه، فهو زيادة في تثبيت رأيه
الصورة الثانية: مثلها، إلا أنه ليس له قول في المسألة مطلقاً يضاده، ولا رد للمروي بقادح، أو صارف.
فمرويه هُنا بمثابة قوله، ورأيه.
وذلك لعموم وجوب الأخذ بالدليل.
قال أحمد- رحمه الله تعالى-: " اذا كان الكتاب والسنة فهو الأمر "
وعلى هذا أَلَّف المروزي كتابه: " السنن بشواهد الحديث " فَسَاقَ مروياته من طريق الإمام أَحمد، معتبراً روايته رَأياً له.
وهذه الصورة انتصر لها ابن حامد في: " تهذيب الأَجوبة " . وَرَد عَلَى من خالف من بعض الأصحاب، ومن تابعهم من الشافعية، لكن قوَّى خلافهم المرداوي، وقدمه ابن حمدان، وذكر الخلاف، وأَطلقه ابن مفلح، وابن بدران.
الصورة الثالثة والرابعة: مروية إذا حكم بصحته، أو حكم بصحته ورد ما يخالفه.
عقد لهما ابن حامد باباَ في: تهذيبه " وانتصر للقول بهما مذهباً للإمام أحمد.
والخلاف فيهما نحو ما في الصورة الثانية.
الصورة الخامسة: تنقيح المجتهد عدم صحة الحديث أو ما
يُروى في الباب مطلقا وهذه لها حالتان:
1- نفي صحة المروي ومَا دَلَّ عليه
2- نفي صحة المروي مع القول بموجبه لأدلة أخرى في المسألة.
النوع الثالث: أَخذ مذهب المجتهد من المروي من غير روايته.
لهذا صورتان:
الصورة الأولى: أن لايكون للمجتهد في المسألة قول، فإذا صَحَّ الحديث فهو مذهبه، ويؤخذ مذهبه منه.
الصورة الثانية: أن يكون للمجتهد في المسألة قول يخالف ذلك
المروي، فهل مذهبه ما قاله ورآه، أَم الذي يوافق ذلك المروي؟ فيه قولان:
الأول: نعم، يكون مذهبه ما دل عليه الدليل وينسب إليه؟ إذا قرر ذلك من له رتبة الاجتهاد.
الثاني: عدم جواز نسبة ذلك إلى مذهب الإمام، والواجب الأَخذ بالدليل، وترك ما خالفه، وهذا هو الحق. والله أعلم.
- القسم الرابع: معرفة مذهب الإمام أَحمد من جوابه بالاختلاف:
لا يختلف الأصحاب أَن جوابه بالاختلاف غير مؤذن للسائل بجواز أَخذه بأَي القولين شاء، وإنما هو إِعلام للسائل بحكاية ما في المسألة من خلاف، وإشعار بتوقفه عن البت والقطع بقول فيها.
وهذا من الإمام في ندرة من أَجوبته، إِذ عَلِم الأصحاب من تتبعها، وجود جواب له على البت، أو قرائن تدل عليه، وأَن هذه الندرة إِنَّما تحصل في حين حتى تستبين له النازلة، ويتضح أَمرها، وربما بقي على توقفه طلباً للسلامة، ولقوة الخلاف فيها، فهو في نظر إلى الدليل، ومقاصد التشريع، كما وَضحه ابن حامد في: " تهذيب الأَجوبة ": (368- 369، 5 39- 395) ، وقد رد ابن حامد- أيضا- في: " تهذيب الأَجوبة " : على من انتقد على الإمام أَحمد من الشافعية، جوابه بالاختلاف، وقابلهم الحنابلة بأن هذا أولى من مسلك الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- من قوله: في المسألة قولان متباعدان. وهي في نظر الإنصاف نقائض مذهبية؟ إذ لكُلّ وجهة فيما
ذهب إِليه لا تخرج عن دائرة الخلاف المحمود، وكل يؤخذ من قوله ويرد، إلَّا صاحب الحوض المورود، وَكُلّ يَلْتَمِسُ سُنَتهُ، ويتهدى طريقته صلى الله عليه وسلم، فرحمة الله عليهم أَجمعين،
وقد تتبع الأصحاب أَجوبة الإمام أَحمد بالاختلاف فتحصل من تتبعهم عدة أَنواع هي:
1- جوابه باختلاف الصحابة على الإجمال أو التفصيل، ثم ينص على اختياره لأَحد القولين أو الأقوال، أو يقويه، ويثبته؛ فيكون هذا مذهبه، لايختلف الأصحاب في ذلك (1) .
2- جوابه باختلاف الصحابة دون قطع منه باختيار، ثم يسأل ثانية فيجيب على القطع والبت؛ فمذهبه ما قطع به (2) .
3- جوابه باختلاف الصحابة، وأَن السنة كذا (3) ؛ فمذهبه ما دلَّت عليه السنة لا غير، وانتصر له ابن حامد، وابن حمدان، وقال المرداوي: وهو الصواب.
وقيل: مذهبه قول الصحابي
وقيل: مذهبه الأَحوط منها.
وقيل: ينظر في قول الصحابي إِن كان تفسيرا للسنة أو تقييداً لمطلقها، أو بياناً لمجملها، فهو قوله وإلا فلا.


4- جوابه باختلاف الصحابة بحكايته على سبيل الإجمال، أَو التفصيل (1) .
فيه قولان: أحدهما: مذهبه ما كان أقرب إلى الدليل.
الثاني: التوقف
5- جوابه باختلاف الصحابة والتابعين (2)
فمذهبه مذهب من كان أَقوى دليلاً، فإِن تكافآ في الدليل، فمذهبه ما قاله الصحابي.
6- جوابه باختلاف العلماء (3) .
مثل قوله. فيه خلاف. وقوله: لا أقول فيها شيئا قد اختلفوا، أو ذَكَر القولين- مثلاً- ومن قال بكل منهما
فكل هذا محمول على التوقف، ثم هو على نُدرة وقِلة، كما تقدَّم.
7- جوابه باختلاف العلماء، ثم يتوقف (4) .
فلا ينسب له قول، بل هو متوقف في المسألة.
8- جوابه باختلاف العلماء، ثم يتبعه بالبت والقطع (5) .
فالمذهب ما كان منه على البت والقطع بلا خلاف، ولا يؤثر عليه ذكره الخِلافَ.


9- جوابه باختلاف العلماء ثم أَبدى التوقف، ثم سئِلَ ثانية فأجاب على القطع والبت، فمذهبه هو ما أفتى به مُبيَّناً مُفسَّرا على القطع، ولا يلتفت إلى ما كان قبل من الاختلاف والتوقف (1) .
10- جوابه على البَتِّ بدليله، ثم أتبعه بذكر وحكاية مذهب المخالف، فمذهبه هو ما أثبته وقطع به، وذكره للخلاف بعد لا يؤثر على ما ذهب إِليه، وإنما هو من باب البيان، وحكاية الواقع، أو له دخل بما رآه، وقطع به، فهو لا يباين جوابه (2) .
11- جوابه بأحد القولين، أو الأقوال في المسألة، ناسباً له إلى من قال به، أو مشيراً إليه، كقوله: هذا رخص فيه بعض الناس (3) . وقوله: قال بجوازه بعضهم. وقوله: قال فلان كذا، وقوله: قد كرهه قوم. فيكون ما حكاه هو مذهبه، وهذا في اختيار جماعة من الأصحاب منهم: ابن حامد، وابن حمدان، وقيل: لا.
والصحيح: أنه مذهبه ما لم يصرف عن ذلك قرينة.
12- جوابه باختلاف العلماء، ثم تصريحه بعده بالتخيير وأنه من الاختلاف المباح، فيكون مذهبه على التخيير للسائل (4) .
13- نَصّه على الحكم في الجواب، ثم اتباعه بقوله : " ولو 
قال قائل، أو ذهب ذاهب إلى كذا " مخالفا لِمَا نَصَّ عليه.
اختلف: هل يكون ما ذكره بعد نص جوابه: مذْهَبًا له أم لا؟
على قولين:
ذهب الأَكثر إلى إنه ليس مذهباً له . وذكر ابن حمدان في الرعاية احتماله مذهباً له، قال المرداوي:
" وهو متوجه " (1)
14- جوابه بقوله: " يَحْتَمِلُ قَوْلَين " (2)
قال القاضي وغيره: هو كروايتين.
- الطريق الثانى (3) : الفعل:
طرق معرفة مذهب المجتهد من " فعله " الذي فعله تعبداً على سبيل التأسي والاقتداء بصاحب الشرع صلى الله عليه وسلم أو لتعليم السنن؛ لأَن من شرط المجتهدِ: الوَرَعَ، والعالم الفقيه المتأهل الوَرع يَبْعُدُ أَن يفعل ذلك إلا على سبيل المتابعة للهدي النبوي أو تعليمه والِإرشاد إِليه، لاسيما من كان على درجة من الورع والزهد والتوقي، مثل الإمام أَحمد- رحمه الله تعالى- وهذا يخرج أفعال الجبلة وما يصدر من فعل في حال غياب النص عن المجتهد؛ لنسيان أو عدم ثبوت، أو نحو ذلك من العوارض الصارفة عن اعتماد مطلق الفعل مذْهَبًا
للمجتهد وحتى لا ينزل غير المعصوم منزلة المعصوم.
والتأسي في هذا على طرفين: الاعتبار وعليه أَكثر الأصحاب، وعدم الاعتبار وبه قال بعضهم كما بينه ابن حامد في " تهذيب الأَجوبة " 285- 289 . والحق ما قدمته . والله أَعلم.
- الطريق الثالث: السكوت:
معرفة مذهب المجتهد من جهة السكوت على نوعين:
- النوع الأَول (1) : " الإقرار " عما يقع أَمامه بمرأى ومسمع منه.
وهذا عكس الطريق قبله فالأَكثر على عدم اعتباره طريقاً لنسبة الفقه في الواقعة للمجتهد، وذهب بعضهم إلى اعتباره.
والذي ينبغي اعتماده هو ما ذهب إِليه الأكثر من عدم اعتباره مطلقاً، لكن ينظر فيما يحف بإِقراره وسكوته من قول أو فعل سابق، أو لاحق، أو أَنه يرى السكوت وعدم إِبداء الرأي في هذه المسألة؛ لعارض اقتضى السكوت، أو لأَنه في مهلة النظر أو لأَن غيره كفاه، أو أَنه لم يتبين له رأي فيها، أو لسبب خفي لم نطلع عليه، أو ما جرى مجرى ذلك، فيكون مذهبه بعاضد، وإلاَّ فلا ينسب إلى ساكت قول.
- النوع الثاني (1) : معرفة مذهب المجتهد، إذا أَفتى بحكم فاعترض عليه، فسكت، فهل مذهبه سكوته أم ما أفتى به؟

وهنا الأَصل أَن مذهبه ما أَفتى به، وهذا هو الطريق الأول في معرفة المجتهد وهو معرفة فقهه من قوله.
وهذا السكوت الذي اعترضه عند المباحثة ينزل منزلته حسبما يحف به، فقد يكون سكت خوفاً من فتنة، أوإفضاء إلى جدل، أو أَن المُبَاحِثَ له غير أَهل، أو دلالة على وهاء معارضته، فيكون مذهبه ما أَفتى به لا سكوته العارض، أو أَن سكوته كان بعد مناقشة قطعت منه الحجة على ما أَفتى به، فيكون مذهبه ما سكت عنه. والله أعلم. وقد يجيب الإمام أَحمد على سؤال، ثم يعارضه بعض أصحابه.
على الجواب بإيراد، ونحوه، فيجيبه الإمام بقوله:
" لا أقنع بهذا " أي لا أَرضى بهذا الإيراد، فمعنى هذا ثبوته عند جوابه، وأَن ما ذكره المعارض لا يؤثر عنده على صحة الجواب وسلامته (1)
- الطريق الرابع: التوقف (2) :
التوقف: هو السكوت عن حكم في المسألة؟ لتعارض الأدلة أَو لغير ذلك من الأَسباب، سواء كان من الإمام أو الأصحاب.
فحقيقة التوقف في المسألة: هو عدم إِفصاح المجتهد عن رأي له في المسألة؛ لتعارض الأَدلة، وتعادلها عنده في الظاهر لا في نفس
الأَمر والتوقف دليل سعة العلم بالأدلة، ومدارك الأَحكام، والخلاف، ومآخذه.
والمتوقف وإن كان لا رأي له، لكن إذا سئلنا عن مسألة توقف فيها الإمام، قلنا: مذهبه فيها الوقف.
والمجتهد قد يتوقف ابتداء عندما تعرض له النازلة، ثم لا يبت فيها، أو يبت فيها ويقطع بحكم لها بعد استكمال تصورها عنده في واقعها وفقهها، وقد يبت ثم يُبدي التوقف وهكذا.
ومذهبه: آخر الأمرين، من توقف أو بتّ بالحكم.
وقد سلك هذا الطريق الأَئمة الكبار، في عدد مما يعرض لهم من النوازل، والواقعات، والمسائل، والأقضيات؛ حتى صار من المقرر في " أَحكام القضاء " أَن القاضي إذا توقف ولم يتضح له وجه الحكم، دفعها إلى غيره لنظرها والبت فيها.
وقد ذكرت في كتاب: " التعالم " أَمثلة كثيرة استقرائية لدى بعضهم، ولضرب المثال لدى آخرين، منهم: الحافظ ابن أَبي حاتم، والحافظ ابن حجر الشافعي، وغيرهما. كل هذا للتدليل على بالغ الورع مع ما بلغوه من سامي المكانة في العلم.
وفي المذهب هنا حصل بالتتبع أن التوقف فيه على قسمين:
قسم في توقف الإمام، وقسم في توقف الأصحاب، وهذا بيانها:
- القسم الاول: توقف الإمام أحمد في الجواب؛ لتعارض
الأَدلة وتعادلها عنده، وهذا هو المراد عند الِإطلاق، وهو على أَنواع:
- النوع الأول (1) : جوابه باختلاف الأَدلة، أو الصحابة، أو التابعين، أو الناس، مع عدم القطع والبت، فهذا توقف منه في المسألة، ما لم توجد قرينة تدل على البت فهو مذهبه، أو سُئِلَ ثانية فأَفتى، فالذي أَفتى به هو مذهبه.
ولهذا النوع زيادة بيان مضى في أخريات " الطريق الأول ".
- النوع الثاني (1) : جوابه بقوله: دعه، دعها الساعة، لا أَعرف، لا أَدري، ما أَدري، ما سمعت . فجوابه بواحد من هذه الأَلفاظ إيذان بتوقفه في الحال، ما لم توجد قرينة تدل على حكم له بين في المسألة. وقال عبد العزيز غلام الخلال: إن هذا مؤذن بالحكم، وقوله: لا أَدري- مثلاً- إنكار على السائل: كيف يسأل وحكمه بيِّن؟ وقد يحكي الإمام أقوال الصحابة، ثم يقول: لا أَدري. أي يتوقف عن اختيار واحد منها.
- النوع الثالث (2) : جوابه بلفظ يشعر بالتوقف، ما لم يحف به قرينة تفيد صرفه إلى البت والقطع. ومن أَلفاظ هذا النوع: أَجبن عنه. أَتَفَزَّعُه، أَتَفَزَّع عنه. أَتهيبه. لا أَجترئ عليه . أَتَوقى . أَتوَقاه . أَستوحش منه.
- النوع الرابع: جوابه بلفظ اختلف الأصحاب فيه: هل يفيد
البت أو التوقف وهو: أَخشى. أَخاف أَن يكون . أَخاف أن لا يكون.
- النوع الخامس: حكاية الأصحاب عن مذهب الإمام، أَنه توقف فيه، ولم يذكر الصاحب لفظه فيه.
فالنظر في هذين النوعين موكول لنظر المجتهد في المذهب، وما يتوفر له من الدلائل على قطع الإمام بالحكم في المسألة، والله أعلم.
- القسم الثاني: توقفات الأصحاب في المذهب:
وهي على أَنواع:
- النوع الأول: التوقف عند اختلاف الرواية عن الإمام أَحمد، وتعذر الجمع، إذا جُهل تاريخهما، أو تاريخ أَحدهما، فهنا يتوقف الأصحاب عن البت برواية له على أَنها هي المذهب.
- النوع الثاني: توقف الأصحاب عند اختلاف القولين له في موضع واحد، وليس هناك ما يدل على اختياره لأَحدهما، وله مثل ذلك في ستة عشر موضعا قالوا: يحتمل أَن يكون قد تعين له الحق منهما، ومات قبل بيانه، ويحتمل أَنه لم يتبين له وكان متوقفاً؛ وإنما ذكرها لتعليم الأصحاب طريق الاجتهاد، واستخراج العلل، وبيان فروق الأَحكام كما تبين الأَحكام.
- النوع الثالث: إذا توقف الإمام أَحمد في مسألة تشبه مسألتين، فأكثر، أحكامهما مختلفة، فهل تُلحق مسألة التوقف بالأخف، أو بالأثقل، أو على التخيير؟ ثلاثة أوجه.
- النوع الرابع: توقف الأصحاب في الترجيح والاختيار في المذهب، وهذا معلوم.

0 التعليقات: