10‏/03‏/2015

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 6

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 6


المبحث الخامس: الاجتهاد في الفقه الإسلامي وأثره في الثروة الفقهية في كل مذهب

معلوم في مطالع الشرع المطهَّر صلاحيته لكل زمان ومكان، إِذْ جاءت أَحكامه رحمة للناس مبنية على رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ورفع الحرج والمشقة عَن مَنْ أتم الله عليهم النعمة بالإيمان بها، غاية في إقامة القسط والعدل: العدل الذي ترسم معالمه الشريعة ذاتها، لا على التفلسف، والملاينة، والنزول على الرغبات، ومجاراة الناس، وتسويغ أعمالهم

الأَصل في شأن الفقيه: أن يكون مستقلاً لا يتقيد بمذهب معين، إنما يتقيد بنصوص الكتاب والسنة وما يؤدِّيه إِليه اجتهاده المقبول، وهو مأجور أَخطأ أَم أَصاب . وهذا كما أَنه عين الطواعية لله ورسوله، فهو من أَعظم الأَسباب لِإثراء الفقه، وتنميه الملكات الفقهية، والنشوء والتربية على مبدأ البحث واستقلال الفكر سَيْرا على منهاج النبوة.
وعليه فقد انعقدَ الإجماع على أَنَّه لا يجوز لِعَالِم أَن يُقلِّد غيره

وقد عُلِمَ على سبيل اليقين والقطع ضرورة الحياة وسياسة العمران إلى قيام منصب الاجتهاد الفقهي، إذْ الواقعات متجددة لا تقبل الحصر والنص لم يرد في كل حادثة، وهي غير متناهية، فصار نصب القياس والتفقه واجباً، وهذا الواجب لا يتم إلَّا بأَن يسعى مَنْ بَسَطَ الله يده إلى سبل التعلم التي تؤهل الكفاءات العلمية في مهد عنايتها، وتنمية مداركهم على يد من استقامت موازينهم وخلصت نِيَّاتُهم، لاسيما والآلات العلمية متوفرة في هذا الزمن أكثر وأَسهل من ذي قبل ، فالشأن في التوجيه لحملها على سنن الشرع، وبهذا يكون في ساحة المسلمين واحدة من كبرى الضمانات التي تعصمهم من التموج والأَهواء والاضطراب في أَمر الدِّين والدّنيا.

وقد صَنَّفَ أهل العلم: أَصْحَابَ المدارِك الفقهية إلى طبقات ومراتب بين الاجتهاد والتقليد، على اختلاف بينهم، فمنهم من جعلهم ثلاث طبقات
1- طبقة المجتهدين، ويقال: بإطلاق.
2- طبقة المجتهدين في المذهب.
3- طبقة أَرباب الترجيح.
ومنهم من زاد:
4- طبقة المحافظين في المذهب.
5- طبقة المقلدة.
إلى غير ذلك مما يُعلم من النظر في تفاريق كلام الأصوليين في أخريات مباحث الاجتهاد والتقليد من كتب الأصول
والمتعين على أهل العلم والإيمان أَن يقولوا من حيث يعلمون وأَن يكفوا عما لا يعلمون، وأن يسيروا في الأُمة سيرة سلفهم الصالح في رعاياهم، وَمَنْ لم تنبسط حاله في الفقه فإنه يقف عند حده ولا يتجاوز طوره. والمتأهل ينزل في الساحة ولا يتخلى عنها لمتعالم يُفسِد على الناس دينهم ودنياهم

الأَحكام تدور في قالبين:
* الأول: ما كان من كتاب أو سنة أو إِجماع قطعي الثبوت والدلالة، أو معلوماً من الدِّين بالضرورة، كمسائل الاعتقاد وأَركان الإسلام، والحدود، والفضائل، والمقدرات كالمواريث، والكفارات ... ونحو ذلك. فهذه لا مسرح للاجتهاد فيها بإِجماع، وطالما أَنَّها ليست محلاً للاجتهاد فلا يُقال فيها: كل مجتهد مصيب، بل المجتهد فيها مقطوع بخطئه وإثمِه، بل وكفره في مواضع.
* الثاني: ما سوى ذلك؛ وهو ما كان بنص قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو عكسِهِ، أو طرفاه ظنيان، أو لا نص فيه مطلقاً من الواقعات والمسائل، والاقضيات المستجدة، فهذه محل الاجتهاد في أُطرِ الشريعة، وعلى هذا معظم أَحكام الشريعة؛ فهذا محل الاجتهاد ومجاله.
ولا يسبق إلى فهمك هنا أَنَّ المراد بالقطعي: " الحديث المتواتر " وبالظني: " حديث الآحاد " على ما دَرَجَ عليه عامة أهل الأصول؛ كلا، ثم كلا، لأنَّهم بهذا يُفرِّقون بين شرعي وشرعي،

و لكن أريد بالظنِّي هنا " ما وقع فيه خلاف له حظ من النظر بين التحسين والتضعيف، أَو الحديث الضعيف ضعف حفظ و ما جرى مجرى ذلك.. والله أعلم


* وهناك قالب ثالث: هو مجال لنظر الفقيه، وذلك في فهم النص ومدى انطباقه على الواقعة، ومن جهة ما يرد عليه من إِطلاق أو تقييد، أو ربطه بعلة وتحرير قيامها أو زوالها، وهل النص مما سار فيه النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى العادة أو الجِبلة أو لاَ؟ أو أن النصّ مما قام الدليل على اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم به أو لا؟ إلى غير ذلك من وجوه التفقُه في الأدلَّة، وما ترمي إليه مقاصد الشرع من حفظ

المصالح ودرء المفاسد في مصادره الأَصليّة، وقواعده الكليّة، ومصادره التبعيّة: كالاستحسان، والاستصلاح، والعرف، والمصالح المرسلة، وسدّ الذرائع. ونحوها من مسالك التفقُّه المقدَّرة بميزان الشرع الصحيح لا بالهوى والتشهِّي.

وإذْ قَدْ تَمهدت هذه الجمل المهمة في تحرير محل الخلاف مما لا يقبل الخلاف، وأَن أَصل التشريع لا خلاف فيه البتة، وأَن الخلاف الحاصل إِنَّما جاء في بعض الفروعيات من قبل اختلاف " فهوم المجتهدين "

من معاقد الِإيمان: التسليم بنسخها لجميع الشرائع، وصلاحيتها لكل زمان وجنس ومكان، وأَنها وافية شاملة لجميع المستجدات والجزئيات، لا يعزب عن حكم الله فيها ذرة في الأَرض ولا في السموات.

وَأَنَ مَنْ لَمْ يُشْرق في قلبه نور هذه الشريعة؛ فهو في موت وظلمة وضلالة، وكُفر و عِمَايَة

0 التعليقات: