18‏/03‏/2015

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 21

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد بن حنبل 21


الفصل الثالث : في مسالك الترجيح عند الاختلاف في المذهب
وفيه أربعة أبحاث: المبحث الأول: أنواع الاختلاف في المذهب. المبحث الثاني: مسالك الترجيح عند الاختلاف المبحث الثالث: معرفة المرجحات. المبحث الرابع: من له حق الاختياروالترجيح في المذهب. المبحث الخامس: معرفة مصطلحاتهم في حكاية الخلاف والترجيح.

المبحث الأول: أنواع الاختلاف في المذهب
مع التسليم بأنه لا يجوز للمجتهد أن يقول قولين مختلفين في وقت واحد، لشخص واحد، لكن يمكن أن يكون له في المسألة الواحدة قولان مختلفان في وقتين مختلفين، وهذا موجود لدى كل إمام في كل مذهب ، فاعلم أنه في ضوء الفصلين السابقين عن طرق معرفة الأحكام الفرعية الاجتهادية من فقه الإمام أو فقه الأصحاب في إطار المذهب؛ يتبين وقوع الخلاف في الفرع الواحد، على واحد من وجوه أربعة: 1- الاختلاف بين روايات الإمام. 2- الاختلاف بين الرواية عن الإمام وتخريج الأصحاب. 3- الاختلاف بين تخاريج الأصحاب. 4- وقد يكون في المذهب رواية واحدة، لكن اختلف الأصحاب في تفسيرها. فما الموقف السليم للفقيه أمام قضايا المذهب وأحكامه الاجتهادية، سواء كانت على رواية واحدة، أو وجه واحد، أم حصل فيها خلاف في المذهب؟

المبحث الثاني: مسالك الترجيح عند الاختلاف
1- أصل الأصول، ومعقد الفصول: رَدُّ كل قول فقيه إلى " الدليل ". وما عضده الدليل، فهو حقيقة المذهب، وإن خالف الرواية عن الإمام، أو التخريج عن الأصحاب، لقول كل إمام: " إذا صح الحديث فهو مذهبي. فالقول به، ونسبته إلى المذهب بهذا الاعتبار صحيحة؛ لأَنه مأذون به من قبل الإمام، ولأَن مقتضى أُولى قواعد المذهب: الأخذ بالدليل 2- إذا لم يكن في المذهب إلا رواية واحدة ثابتة عن الإمام ولم يحصل له رجوع عنها، فهي المذهب نَصَّا ولا مجال للنظر في التراجيح المذهبية. 3- إذا لم يكن في المذهب رواية عن الإمام، فالمذهب فيها ما كان من تخريج لأَحد الأصحاب. 4- إذا لم يكن في المسألة رواية ولا تخريج، فللمتأهل في المذهب تخريج الحادثة على أصول المذهب، وقواعده، وضوابطه.

5- إذا كان في المسألة روايتان فأكثر عن الإمام نَصًّا، أو تنبيهًا فللفقيه في تنقيح المذهب، أن يتعامل مع الروايتين فأكثر، كما لو كان أمامه دليلان: الجمع بين الروايتين بحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، أو من باب اختلاف الفتيا باختلاف الأحوال والأَشخاص والأَزمان، ونحو ذلك من وجوه الجمع المعلومة أولًا، فإن لم يكن الجمع، فالترجيح، فإن لم يكن الجمع ولا الترجيح، وعُلم التاريخ، فالأخير مذهبه، فإن جُهل التاريخ فمذهبه أقرب الروايتين أو الروايات إلى الدليل، أو قواعد مذهبه. وفي هذا النوع خلاف في بعض مراحله، وتفصيلات، وشروط وضوابط، تراها في: " تصحيح الفروع: 1/ 64- 66 " ومقدمة: " الِإنصاف: 1/ 10، 11، 17، 18 " ، و " خاتمته: " 12/ 241- 242 " و: " المدخل: 48- 50 " و" ذيل الطبقات: 1/360- 361 ". والجدير بالنظر هنا هو " معرفة المرجحات " وقد عقدت لها بحثًا مستقلًا بعد هذا. 6- إذا كان الخلاف بين الرواية والتخريج، قدمت الرواية على التخريج؛ لأَن الرواية الثابتة مجزوم بأنها هي مذهب الإمام، والتخريج بوجه، ونحوه، ليس مذهبًا له على الصحيح. 7- إذا كان الخلاف بين فقه الأصحاب، بين وجهين فأكثر؛ كان الراجح الأقرب للدليل، أو إلى أصول أحمد، وقواعده، والمخرج

عليه من فروع مذهبه. 8- اختلاف بسبب اختلاف الأصحاب في تفسير مصطلح الإمام أحمد في جوابه، كحمل اصطلاحه في جوابه في مسألة على الوجوب أو الاستحباب؟ وهكذا. فالذي يرفع الخلاف هنا تهذيب اصطلاحه، وتنقيحه من الاختلاف فى فهم معناه، كما تقدم في: " الفصل الأول " .

المبحث الثالث: المرجحات
التراجيح هنا فيما إذ وقع الخلاف في المذهب عند تعدد الرواية عن الإمام، نَصّا، أو تنبيهًا؛ فَيُعْمَلُ طَلَب المرجحات لِإحدى الروايتين، أو الروايات، ومنها: أولاَ: الترجيح من جهة الرواة عن الإمام أحمد: أ- الراجح رواة، كتقديم ما رواه السبعة، ويقال: الجماعة، على ما رواه غيرهم، ثم ما كان في: " جامع المسائل " للخلال، ثم ما كان فيه رواية أحد السبعة على ما لم تكن فيه رواية أحد منهم. ب- الترجيح بالكثرة. ج- الترجيح بالشهرة د- الترجيح برواية الأعلم هـ- الترجيح برواية الأوْرَع و- أن يكون المذهب المختار في المسألة ظاهرا مشهورًا. ز- أن يرجح الرواية أحد أئمة المذهب في عصر الرواية، مثل الخرقي، والخلال، وغلامه، والشيخ ابن حامد، والترجيح بالرواة هو طريق معرفة المذهب عند المتقدمين. ثانيًا: الترجيح من جهة شيوخ المذهب: وظهور هذا المرجح برَزَ في طبقة المتوسطين من تلاميذ الحسن ابن حامد، المتوفى سنة (403 هـ) وتلامذتهم، وكافة طبقتهم، والترجيح من جهتهم بما يلي: أ- الترجيح باختيار جمهور الأصحاب، وجعلهم له منصوراً. ب- ويكون الترجيح بما اختاره: القاضي أبو يعلى، والشريفان، والسرَّاج، وأبو الخطاب، وأبو الوفاء ابن عقيل، وكبار أقرانهم، وتلامذتهم ممن اشتهروا بتنقيح المذهب وتحقيقه. ج- الترجيح بما اختاره الموفق، والمجد، والشمس ابن أبي عمر، والشمس ابن مفلح، وابن رجب، والدجيلي، وابن حمدان، وابن عبد القوي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن عبدوس في تذكرته . د- والترجيح إن اختلف هؤلاء، فيما قدمه صاحب الفروع الشمس ابن مفلح، فإن لم يرجح فما اتفق عليه الشيخان: الموفق، والمجد، فإن اختلف الشيخان، فالراجح ما وافق فيه ابن رجب، أو شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، أو الموفق في كتابه: " الكافي " ،

أو المجد. ثالثاَ: الترجيح من جهة كتب المذهب: والترجيح بالكتب، لأَهل كل طبقة باعتبار كتب المذهب المؤلفة إلى زمانهم، وهي في أواخر طبقة المتوسطين والمتأخرين، أظهر ومنها: أ- إذا اختلف المحرر والمقنع، فالمذهب مما قاله ابن قدامة في: الكافي ب- ما رجحه أبو الخطاب في: " رؤوس المسائل ". ب- ما رجحه الموفق في: " المغني " . د- ما رجحه المجد في: " شرح الهداية " . هـ- وفي طبقة المتأخرين: اختيار ما في: " الِإقناع " و " المنتهى، وإن إختلفا فالراجح ما في: " غاية المنتهى ". واعلم أن الترجيح باعتبار الشيوخ المعتمدين فيه والكتب المعتمدة في المذهب: قد قال كل في هذا الباب قولا فَسمَّى شيخًا، أو شيوخًا، وعَين كتابًا، أو كتُبًا، وهي تكتسب الانتقال من شيخ إلى آخر ومن كتاب إلى آخر وذلك بالنسبة للزمان من فترة إلى أخرى، في طباق الأصحاب

وهذا التعيين لأَعيان العلماء المعتمد ترجيحهم في المذهب، ولأَسماء الكتب المعتمدة فيه، هو معتمد من حيث الجملة، وفي الغالب، لكنه غير مطرد؛ بل قد يكون ما صححه الشيخ المسمَّى غير صحيح في المسألة، والمسألتين، والصحيح ما صححه غيره، وإن كان دونه، وهكذا في الكتب. ولهذا فإن شيخ المذهب في زمانه العلاء المرداوي المتوفى سنة (885 هـ) لما سَمَّى طَرَفًا من ذلك في مقدمة " تصحيح الفروع: 1/ 50- 51 " قال: " وهذا الذي قلته من حيث الجملة، وفي الغالب، وإلا فهذا لا يطرد البتة، بل قد يكون المذهب ما قاله أحدهم في مسألة، ويكون الصحيح من المذهب ما قاله الآخر، أو غيره في أخرى، وإن كان أدنى منه منزلة باعتبار النصوص، والأَدلة، والعلل، والمآخذ، والاطلاع عليها، والموافق من الأَصحاب، وربما كان الصحيح مخالفا لما قاله الشيخان، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم هذا ما ظهر لي من كلامهم، ويؤيده كلام المصنف في إِطلاق الخلاف ويظهر ذلك بالتأمل لمن تتبع كلامهم، وعرفه " انتهى. ومحصل كلامهم أن معرفة المعتمد في المذهب تحقيقا وتصحيحًا، وتدقيقا وترجيحاَ، تُعرف من جهتين: الشيوخ المعتمدين، والكتب المعتمدة

وهذا بيانها: شيوخ المذهب المعتمدين في التصحيح. مضى في ذكر علماء المذهب وطبقاتهم تسمية المجتهد المطلق، ومجتهدي المذهب وأهل التخريج، لذا فإن من وصف بذلك فقوله مقدم، وتصحيحه معتمد، وهكذا من توفرت منه صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بآرائهم؛ من العدالة، والِإحاطة بأدلة الشريعة، ولمذهب إمامه تأصيلًا وتفريعاً. ويأتي في تعيين طبقات علماء المذهب من: " المدخل السابع " معرفة مجتهدي المذهب والمجتهدين بإِطلاق. ثانيًا: معرفة الكتب المعتمدة في المذهب. وانظر تسميتها في: " المبحث الثاني " أواخر " المدخل الثامن " ويمكن أن نشير هنا إلى جُمل من كلامهم في معرفة المعتمد من جهة الشيوخ، ومن جهة الكتب، وهي على ما يأتي: جاء في: " مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية " : (20/227 - 230) ما نصه: " وسُئل رحمه الله: أن يشرح ما ذكره نجم الدين ابن حمدان في آخر " كتاب الرعاية " وهو قوله: " من التزم مذهبًا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر آخر " ويبين لنا ما أشكل علينا من كون بعض المسائل يذكر فيها في " الكافي " و " المحرر " و " المقنع و " الرعاية " و " الخلاصة " و " الهداية " روايتان، أو وجهان؛ ولم يذكر الأصح والأرجح، فلا ندري بأيهما نأخذ؟ وإن سألونا عنه أشكل علينا؟ فاجاب: الحمد لله. أما هذه الكتب التي يذكر فيها روايتان أو وجهان

ولا يذكر فيها الصحيح: فطالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أخرى؛ مثل كتاب " التعليق " للقاضي أبي يعلى، و " الانتصار " لأبي الخطاب، و " عمد الأدلة " لابن عقيل . وتعليق القاضي يعقوب البرزبيني، وأبي الحسن ابن الزاغوني، وغير ذلك من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف، ويذكر فيها الراجح. وقد اختصرت رؤوس مسائل هذه الكتب في كتب مختصرة، مثل: رؤوس المسائل للقاضي أبي الحسين، وقد نقل عن الشيخ أبي البركات صاحب المحرر أنه كان يقول لمن يسأله عن ظاهر مذهب أحمد: أنه ما رجحه أبو الخطاب في رؤوس مسائله. ومما يعرف منه ذلك كتاب المغني للشيخ أبي محمد وكتاب " شرح الهداية " لجدنا أبي البركات، وقد شرح " الهداية " غير واحد، كأبي حليم النهرواني، وأبي عبد الله ابن تيمية، صاحب التفسير الخطيب عم أبي البركات، وأبي المعالي بن المنجا، وأبي البقاء النحوي لكن لم يكمل ذلك. وقد اختلف الأصحاب فيما يصححونه، فمنهم من يصحح رواية ويصحح آخر رواية فمن عرف ذلك نقله، ومن ترجح عنده قول واحد على قول آخر اتبع القول الراجح، ومن كان مقصوده نقل مذهب أحمد نقل ما ذكروه من اختلاف الروايات والوجوه والطرق، كما ينقل أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ومالك مذاهب الأئمة؛ فإنه في كل مذهب من اختلاف الأقوال عن الأئمة، واختلاف أصحابهم في معرفة مذهبهم، ومعرفة الراجح شرعًا: ما هو معروف. ومن كان خبيرًا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في

عامة المسائل، وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع؛ وأحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ ولهذا لاي كاد يوجد له قول يخالف نصًا كما يوجد لغيره، ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى، وأكثر مفاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحاً، كقوله بجواز فسخ الِإفراد والقران إلى التمتع، وقبوله شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة، كالوصية في السفر وقوله بتحريم نكاح الزانية حتى تتوب، وقوله بجواز شهادة العبد، وقوله بأن السنة للمتيمم أن يمسح الكوعين بضربة واحدة. وقوله في المستحاضة بأنها تارة ترجع إلى العادة، وتارة ترجع إلى التمييز؛ وتارة ترجع إلى غالب عادات النساء؛ فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثلاث سنن؛ عمل بالثلاثة أحمد دون غيره. وقوله بجواز المساقاة والمزارعة على الأرض البيضاء والتي فيها شجر وسواء كان البذر منهما أو من أحدهما، وجواز ما يشبه ذلك وإن كان من باب المشاركة ليس من باب الِإجارة ولا هو على خلاف القياس، ونظير هذا كثير. وأما ما يسميه بعض الناس مفردة لكونه انفرد بها عن أبي حنيفة والشافعي، مع أن قول مالك فيها موافق لقول أحمد أو قريب منه، وهي التي صنف لها الهراسي ردًا عليها، وانتصر لها جماعة كابن عقيل والقاضي أبي يعلى الصغير وأبي الفرج ابن الجوزي، وأبي محمد بن المثنى: فهذه غالبها يكون قول مالك وأحمد أرجح من القول الأخر وما يترجح فيها القول الآخر يكون مما اختلف فيه قول أحمد، وهذا: كإبطال الحيل

المسقطة للزكاة والشفعة، ونحو ذلك الحيل المبيحة للربا والفواحش، ونحو ذلك، وكاعتبار المقاصد والنيات في العقود، والرجوع في الأيمان إلى سبب اليمين وما هيجها مع نية الحالف؛ وكإقامة الحدود على أهل الجنايات، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يقيمونها، كما كانوا يقيمون الحد على الشارب بالرائحة والقيء ونحو ذلك، وكاعتبار العرف في الشروط، وجعل الشرط العرفي كالشرط اللفظي، والاكتفاء في العقود المطلقة بما يعرفه الناس، وإن ما عده الناس بيعًا فهو بيع، وما عدوه وقفًا فهو وقف، لايعتبر في ذلك لفظ معين، ومثل هذا كثير " انتهى. وقال المرداوي- رحمه الله تعالى- في مقدمة: " الِإنصاف: 1/16 - 18 " : " واعلم أن من أعظم هذه الكتب نفعًا، وأكثرها علمًا وتحريرًا وتحقيقًا وتصحيحا للمذهب: كتاب الفروع، فإنه قصد بتصنيفه: تصحيح المذهب وتحريره وجمعه، وذكر فيه: أنه يقدم غالبًا المذهب، وإن اختلف الترجيح أطلق الخلاف إلا أنه- رحمه الله تعالى- لم يبيضه كله، ولم يقرأ عليه، وكذلك الوجيز فإنه بناه على الراجح من الروايات المنصوصة عنه، وذكر أنه عرضه على الشيخ العلامة أبي بكر عبد الله بن الزريراني فهذبه له، إلا أن فيه مسائل كثيرة ليست المذهب، وفيه مسائل كثيرة تابع فيها المصنف على اختياره، وتابع في بعض المسائل صاحب المحرر والرعاية، وليست المذهب . وسيمر بك ذلك إن شاء الله. وكذلك التذكرة لابن عبدوس، فإنه بناها على الصحيح من الدليل . وكذلك ابن عبد القوي في " مجمع البحرين " فإنه قال فيه: " أبتدئ بالأصح في المذهب نقلًا أو الأقوى دليلاً. وإلا قلت مثلًا: روايتان، أو وجهان وكذا

قال في نظمه: " ومهما تأتَّى الابتداء براجح ... فإني به عند الحكاية أبتدي " وكذلك ناظم المفردات، فإنه بناها على الصحيح الأشهر وفيها مسائل ليست كذلك. وكذلك الخلاصة لابن منجا، فإنه قال فيها: " أبين الصحيح من الرواية والوجه وقد هذب فيها كلام أبي الخطاب في الهداية . وكذلك الإفادات بأحكام العبادات لابن حمدان، فإنه قال فيها: " أذكر هنا غالبًا صحيح المذهب ومشهوره، وصريحه ومشكوره، والمعمول عندنا عليه، والمرجوع غالبًا إليه ". تنبيه: اعلم- وفقك الله تعالى وإيانا- أن طريقتي في هذا الكتاب: النقل عن الإمام أحمد والأصحاب، أعزو إلى كل كتابا ما نقلت منه، وأضيف إلى كل عالم ما أروي عنه، فإن كان المذهب ظاهرا أو مشهورًا، أو قد اختاره جمهور الأصحاب وجعلوه منصورًا، فهذا لا إشكال فيه، وإن كان بعض الأصحاب يدعي أن المذهب خلافه. وإن كان الترجيح مختلفا بين الأصحاب في مسائل متجاذبة المأخذ؛ فالاعتماد في معرفة المذهب من ذلك على ما قاله المصنف، والمجد، والشارح، وصاحب الفروع، والقواعد الفقهية، والوجيز والرعايتين، والنظم، والخلاصة، والشيخ تقي الدين، وابن عبدوس في تذكرته، فإنهم هذبوا كلام المتقدمين، ومهدوا قواعد المذهب بيقين. فإن اختلفوا؛ فالمذهب: ما قدمه صاحب الفروع فيه في معظم مسائله، فإن أطلق الخلاف، أو كان من غير المعظم الذي قدمه؛ فالمذهب: ما اتفق عليه الشيخان- أعني المصنف، والمجد- أو وافق أحدهما الآخر في أحد اختياريه، وهذا ليس على إطلاقه، وإنما هو في

الغالب، فإن اختلفا، فالمذهب مع من وافقه صاحب القواعد الفقهية، أو الشيخ تقي الدين وإلا فالمصنف، لاسيما إن كان في الكافي، ثم المجد وقد قال العلامة ابن رجب في طبقاته في ترجمة ابن المنّي: " وأهل زماننا ومن قبلهم إنما يرجعون في الفقه من جهة الشيوخ والكتب إلى الشيخين: الموفق والمجد " انتهى. فإن لم يكن لهما ولا لأَحدهما في ذلك تصحيح؛ فصاحب القواعد الفقهية، ثم صاحب الوجيز، ثم صاحب الرعايتين، فإن اختلفا فالكبرى، ثم الناظم، ثم صاحب الخلاصة، ثم تذكرة ابن عبدوس، ثم من بعدهم، أذكر من قدم، أوصحح، أو اختار إذا ظفرت به، وهذا قليل جدًا. وهذا الذي قلنا من حيث الجملة، وفي الغالب، وإلا فهذا لا يطرد البتة، بل قد يكون المذهب ما قاله أحدهم في مسألة، ويكون المذهب ما قاله الآخر في أخرى، وكذا غيرهم باعتبارالنصوص والأَدلة والموافق له من الأصحاب. هذا ما ظهر لي من كلامهم، ويظهر ذلك لمن تتبع كلامهم وعرفه، وسننبه على بعض ذلك في أماكنه. وقد قيل: إن المذهب - فيما إذا اختلف الترجيح - ما قاله الشيخان، ثم المصنف، ثم المجد، ثم الوجيز، ثم الرعايتان. وقال بعضهم: إذا اختلفا في المحرر والمقنع، فالمذهب ما قاله في الكافي. وقد سئل الشيخ تقي الدين عن معرفة المذهب في مسائل الخلافُ فيها مطلق في الكافي والمحرر والمقنع والرعاية والخلاصة والهداية وغيرها؟ فقال: " طالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أُخر مثل كتاب

التعليق للقاضي، والانتصار لأَبي الخطاب، وعُمُد الأَدلة لابن عقيل، وتعليق القاضي يعقوب، وابن الزاغوني . وغير ذلك من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف، ويذكر فيها الراجح، وقد اختُصِرت هذه الكتب في كتب مختصرة، مثل رؤوس المسائل للقاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، ولأَبي الخطاب، وللقاضي أبي الحسين، وقد نقل عن أبي البركات - جدنا - أنه كان يقول لمن يسأله عن ظاهر المذهب: إنه ما رجحه أبو الخطاب في رؤوس مسائله. قال: ومما يعرف منه ذلك: المغني لأَبي محمد، وشرح الهداية لجدنا. ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح من مذهبه في عامة المسائل ". انتهى كلام الشيخ تقي الدين، وهو موافق لما قلناه أولا، ويأتي بعض ذلك في أواخر كتاب القضاء، واعلم - رحمك الله - أن الترجيح إذا اختلف بين الأصحاب إنما يكون ذلك لقوة الدليل من الجانبين، وكل واحد ممن قال بتلك المقالة إمام يقتدى به، فيجوز تقليده والعمل بقوله، ويكون ذلك في الغالب مذهَبًا لِإمامه؛ لأَن الخلاف إن كان للإمام أحمد فواضح، وإن كان بين الأصحاب، فهو مقيس على قواعده وأصوله ونصوصه وقد تقدم أن " الوجه " مجزوم بجواز الفتيا به . والله سبحانه وتعالى أعلم " انتهى. تنبيه: قول المصنف . " واعلم - رحمك الله - أن الترجيح ... إلخ " نقله البهوتي ت سنة (1051 هـ) - رحمه الله تعالى- في مقدمة: " كشاف القناع: 1/ 12 " بنصه بعنوان: " فائدة " . وقال السفاريني . ت سنة (1188 هـ) - رحمه الله تعالى-: " عليك بما في: " الإقناع " و " المنتهى " فإذا اختلفا فانظر ما يُرجحه صاحب: " غاية المنتهى " انتهى.

المبحث الرابع: من له حق الترجيح في المذهب
اعلم أن المرجع في معرفة التصحيح والترجيح في كل مذهب إلى أصحابه المختصين به، المتأهلين لمعرفته، و إلى الكتب المعتمدة فيه، بتعيين محققيه لها. والأَصل في تحصيل الفقيه مرتبة الترجيح على مراتب أربع: المرتبة الأولى: المتأهل: من المنتسبين للمذهب، المتأهلين للاختيار والترجيح، والتدليل والتصحيح، هو الذي يتولى تصحيح مَا يَمُرُّ به من المسائل حسب أصول المذهب وقواعده، في المذهب، ثم يترقى إلى تصحيح المسألة على الدليل. المرتبة الثانية: غيرالمتأهل، يرجع إلى المتأهل للترجيح: فإن لم يكن المنتسب كذلك، أو كان متأهلا لكن لم تستكمل لديه الأدلة، كأن تكون كتب المذهب وقت المسألة ليست في يده، وَجَدَ في زمانه متأهلا لذلك رجع إليه. المرتبة الثالثة: الرجوع إلى الكتب المعتمدة، والشيوخ المعتمدين: فإن لم يكن رجع إلى من وقعت تسميته من الشيوخ المعتمد ترجيحهم وتصحيحهم، وإلى كتبهم المعتمدة في ذلك، ملاحظًا في هذه الحالة والتي قبلها، تقديم من زادت أوصافه في العلم والثقة . والعمل، مراعيًا ما درج عليه الأَكثر تحقيقا. المرتبة الرابعة: التوقف لمن فقد هذه المراتب الثلاث.

المبحث الخامس: اصطلاح الأصحاب في حكاية الخلاف مع الترجيح أو حكاية الترجيح للأصحاب مصطلحات شتى في: نقلهم الخلاف المطلق في المذهب بلا ترجيح، أو حكايتهم الخلاف مع الترجيح، أو النص على الراجح دون ذكر الخلاف، ولهم مصطلحات في الترجيح، وفي بيان القول الضعيف في المذهب. ويمكن سياقها في قسمين: - القسم الأول: مصطلحات في نقل الخلاف في المذهب بلا ترجيح: وهذا كثير لدى عامة المؤلفين في المذهب وَلكُل غَرض يقصده. * فالموفق في: " المقنع " يطلق الخلاف؛ لاختبار ذهن القارئ، وتمرينه على الاختيار والترجيح. وقد جَلاَّه المرداوي في مقدمة الإنصاف، الذي أَلَّفه لتحرير ما أطلقه الموفق في المقنع من الخلاف، فقال في مقدمته: (1/ 4) : " فإنَّه - أي الموفق في المقنع - تارة يُطلق الروايتين، أو

الروايات، أو الوجهين، أو الوجه، أو الأَوجه، أو الاحتمالين، أو الاحتمالات بقوله: فهل الحكم كذا؟ على روايتين، أو على وجهين، أو فيه: روايتان، أو وجهان، أو احتُمِل كذا، واحتمل كذا، أو نحو ذلك، فهذا وشبهه، الخلاف فيه مطلق. والذي يظهر أَنَّ إِطلاق المصنف وغالب الأصحاب، ليس هو لقوة الخلاف من الجانبين، وإنما مرادهم: حكاية الخلاف من حيث الجملة، بخلاف من صرح باصطلاح ذلك كصاحب الفروع، ومجمع البحرين، وغيرهما " انتهى. * وابن مفلح في: " الفروع " قال: " وأُقدم غالبًا الراجح في المذهب، فإِذا اختلف الترجيح أَطلقت الخلاف " أَي: فإِن اختلف الترجيح بين الأَصحاب أَطلقته؛ لعدم الوقوف على الصحيح منه. وهذه أيضا طريقة الحجاوي في: " الِإقناع " فإِنَّه قال في مقدمته له: " وربما أَطلقت الخلاف لعدم مصحح " انتهى. ثم إن المرداوي- رحمه الله تعالى- ساق في مقدمة تصحيح الفروع: (1/ 29- 36) وفي مقدمة الإنصاف: (1/ 4- 6) مجموعة من الاصطلاحات الدالة على إطلاق الخلاف عند الموفق في: " المقنع " وعند ابن مفلح في: " الفروع " . منها: إذا قالا: قيل كذا،

وقيل كذا، أَو: قيل وقيل. أَو: الحكم كذا، أَو: وعنه كذا. أَو قال فلان كذا، وقال فلان كذا. وهكذا في صيغ كثيرة، متقاربة، جميعها تدل على الخلاف المطلق بلا ترجيح في كتابيهما، وهي لا تخفى على المتفقه- بحمد الله تعالى- وقد عد من إِطلاق الخلاف في " الفروع " ، وفي " المقنع " : قَول: الْحُكْمُ كَذَا في إِحدى الروايتين، أو الروايات، أو الوجهين، أو الأَوجه، أو الاحتمالين، أو الاحتمالات. فالخلاف بهذه الصيغة مطلق لا يدل على ترجيح بعض على بعض. وهذا من عمل صاحب " الفروع " فيه، قاله المرداوي في مقدمة " تصحيحه " له، وقال: " والخلاف بهذه الصيغه مطلق، وقد قيل في مثلها في كتاب المقنع " : إنَّه تقديم، ونقل عن الشيخ أَنه قال ذلك، وهو مصطلح جماعة من الأصحاب " . " وَقَدْ عُدَّ من إطلاق الخلاف: " طي الخلاف في حكاية نهايته ". وهذا من الاختصار في حكاية الخلاف، كقول ابن مفلح في " باب

الهبة " من " الفروع " كما نبه عليه المرداوي في " تصحيحه " فقال: " وهل يفعل: ثالثها الفرق كما ذكره في باب الهبة، وهذه العبارة في غاية الاختصار أو يقول: في كذا روايات - الثالثة كذا، كما ذكره في باب الاستطابة، وغيره... " إِلخ. إلى آخر كلامه المنتهي بأَنه من إِطلاق الخلاف * وَقَدْ عُدَّ من إِطلاق الخلاف مع الِإشارة إلى قوة الرواية الأخرى: أَن يُقال في إِحدى الروايتين أو الروايات: اختارها الأصحاب، ففي هذا إِشارة إلى قوة الرواية الأخرى . وهذه طريقة لابن مفلح في الفروع، نبه عليها المرداوي في " تصحيح الفروع " : (1/ 52 - 53) وذكر أَنها مثل قوله: " فعنه كذا، والمذهب، أو الأَشهر كذا ". " وَقَدْ عُدَّ من إِطلاق الخلاف: حكاية القولين فأكثر ثم يقال: والأَشهر كذا، أو المشهور كذا، ونحوه. فهو إِشارة إلى إطلاق الخلاف، واختلاف الأصحاب في الترجيح، لكن بعضه أَشهر. وهذه طريقة لابن مفلح في: " الفروع " نبَّهَ عليها المرداوي في: " تصحيحه " : (1/53-54) . وقد عُدَّ من إطلاق الخلاف: إتباعه بقوله: والترجيح مختلف.

أَي: لا فضل لِأَحد الترجيحين على الآخر. ولهذا ذِكْرٌ في " الفروع " لابن مفلح، نبه عليه المرداوي في: " تصحيحه " (1/54) . وَقَدْ عُدَّ مِن إِطلاق الخلاف: حكايته مَعْزُوًّا إلى فلان، أو كتابه، وأَن هذا لا دخل له في الترجيح. وهذه طريقة لابن مفلح في: " الفروع " كما نبه عليها المرداوي في: " تصحيحه " : (1/55-56) وقال البهوتي في مقدمة " كشاف القناع " : (1/10) : شرحًا لقول الحجاوي في مقدمة الِإقناع: (وعزوت حكمًا إلى قائله) : " وربما عزوت أي نسبت حكمًا إلى قائله من العلماء خروجًا من تبعته ... وقد يكون عزو القول لقائله ارتضاءً له، وموافقة، كما هو شأن أَئمة المذهب، وصرَّح به ابن قندس في حاشية الفروع " انتهى. * وقد عُدَّ من الخلاف المطلق مع نوع إِشارة إلى ترجيح الأول: ما استقرأه المرداوي في مقدمة: " الِإنصاف " (1/ 4) من عمل الموفق في المقنع، فقال: " وتارة يطلق الخلاف بقوله مثلًا: " جاز " ، أَو: لم يجز أَو صح، في إِحدى الروايتين، أو الروايات، أو الوجهين، أو الوجوه " أو بقوله: " ذلك على إِحدى الروايتين، أو الوجهين " والخلاف في هذا أيضا مطلق، لكن فيه إشارة مّا إلى ترجيح الأول

وقد قيل: إِنَّ المصنف قال: " إِذا قلت ذلك، فهو الصحيح. وهو ظاهر مصطلح الحارثي في شرحه " وفيه نظر. فإِن في كتابه مسائل كثيرة يطلق فيها الخلاف بهذه العبارة، وليست المذهب، ولا عزاها أَحد إلى اختياره، كما يمر بك ذلك إِن شاء الله تعالى، ففي صحته عنه بعد، وربما تكون الرواية، أو الوجه المسكوت عنه مقيدًا بقيد، فأَذكره، وهو في كلامه كثير. وتارة يذكر حكم المسألة مفصلا فيها، ثم يطلق روايتين فيها، ويقول: " في الجملة " بصيغة التمريض، كما ذكره في آخر الغصب، أو يحكى بعد ذكر الحكم إِطلاق الروايتين عن الأصحاب، كما ذكره في باب الموصَى له. ويكون في ذلك أيضا تفصيل، فنبينه إِن شاء الله تعالى " انتهى. - القسم الثاني: اصطلاحات في مقام الترجيح، والاختيار والتصحيح، والتضعيف. واختص بهذا النوع من قَوِيَ عليه من فقهاء المذهب، منهم: ابن مفلح في: " الفروع " والمرداوي في: " تصحيح الفروع " ولقد حقق فيها ودقق، كأَنما استظهر الفروع، فأَتى بالعجائب والزركشي في: " شرح الخِرَقي " وأَبو بكر الجراعي في " غاية المطلب " والمرداوي في: " الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف " وفي ملخصه: " التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع " والشويكي

في " التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح " و الفتوحي ابن النجار في: " شرح المنتهى " ، والبهوتي في: " كشاف القناع " في آخرين. وللحواشي، وكتب التصحيح، والزوائد في هذا: نصيب وافر. ولهم في هذا جملة أَلفاظ في الترجيح بين الروايات عن الإمام، وفي الترجيح بين الأَوجه، والتخاريج، والاحتمالات عن الأصحاب. ومن هذه الأَلفاظ: رواية واحدة. وجهًا واحدًا بلا خلاف في المذهب. بلا نزاع. نصًّا. نص عليه . نص عليه وهو اختيار الأصحاب . المنصوص كذا. هذا هو المذهب المنصوص. الأَصح. في الأصح. على اللأصح. الصحيح كذا. في الصحيح من المذهب. في الصحيح عنه . في أَصح القولين، أو الأقوال، أو الوجهين، أو الأَوجه. والأول أَصح. هي أَصح. الأول أَقيس وأَصح. هذا صحيح عندي * المشهور. الأَشهر. في المشهور عنه. الأَظهر كذا. على الأَظهر. على أَظهرهما. أو أَظهرهما. في الأَظهر. في أَظهر الوجهين، أو الأَوجه. * أولاهما كذا. الأولى كذا. هو أولى. * الأقوى كذا. الأقوى عندي كذا. يُقَوَّى.

* الأول أَحسن. * وعندي كذا. * متجه . ويتوجه. * نَصبها فلان. * اختاره شيوخناه اختاره عامة الأصحاب * المذهب كذا المذهب الأول * القياس كذا. في قياس المذهب . قياس المذهب كذا. * الأول أَقيس * ومن أَلفاظهم الاصطلاحية في التضعيف: * لا عمل عليه. وهو بعيد. هذا قول قديم رجع عنه. * غريب . قول غريب. هو قول غريب . وُجيه . ولنا وجيه . في وُجيه آخر. قويل. هو قُويل . ولنا قُويل آخر * المقدم خلافه وقد أَلف ابن فيروز الأَحسائي. ت سنة (1205 هـ) كتابًا باسم: " إِبداء المجهود في جواب سؤال ابن داود " وابن داود هو تلميذه عبد الله بن داود الزبيري . ت سنة (1225 هـ) فإنه سأله عن القول المرجوح، وعن المُقَلِّدِ المذهبي، وعن الناقل المجرد، فأجاب بهذا المؤلف

وهذه الأَلفاظ بقدر مما تفيده في مقام التصحيح والترجيح، أو التضعيف، فجلها يشير إلى وجود خلاف في المذهب، لكنه خلاف الراجح عند المرجح. والله أعلم ثم إِن الأصحاب قد يختلفون في الترجيح، كما يكون لدى غيرهم من علماء الفنون الأخرى. وقد ختم المرداوي - رحمه الله تعالى- مقدمة الِإنصاف: (1/18) وعنه البهوتي في خاتمة مقدمته لكتابه: " كشاف القناع " (1/12) بفائدة في ذلك هذا نصها: " فائدة: واعلم- رحمك الله- أن الترجيح إذا اختلف بين الأصحاب، إنما يحكون ذلك لقوة الدليل بين الجانبين، وكل واحد ممن قال بتلك المقالة إمام يُقتدى به فيجوز تقليده، والعمل بقوله، ويكون ذلك في الغالب مذهبًا لِإمامه؛ لأن الخلاف إن كان للِإمام أحمد فواضح، وإن كان بين الأصحاب، فهو مقيس على قواعده، وأصوله، ونصوصه، وقد تقدَّم أن: الوجه مجزوم بجواز الفُتيا به، والله - سبحانه وتعالى- أعلم " انتهى. وهذه الأَلفاظ واضحة في المراد، وقد نص من تقدم ذكرهم على بيان اصطلاحهم فيها في مقدمات كتبهم المذكورة، لكن بعضها يحتاج إلى بيان، وهي: بلا نزاع. في وجه . قُويل. المنصوص كذا. نصُّا. وُجيه . ونصبها

فلان . ويتوجه . يقوى. فإلى بيانها: - بلا نزاع: قال العلاَّمة ابن جبرين: " عاشرًا: قولهم بعد المسألة: " بلا نزاع " أي بين فقهاء المذهب، ولايلزم عدم النزاع بينهم وبين أهل المذاهب الأخرى، والنزاع: هو الاختلاف المطلق وإن لم يحصل معه مناظرات أو محاجة أو تعصب " . - في وجه: قال ابن النجار الفتوحي في مقدمة: " الكوكب المنير في اختصار التحرير " : " ومتى قلت: في وجه؛ فالمقدم غيره، أو في قول، أو على قول؛ كان إذا قوي الخلاف أو اختلف الترجيح مع إِطلاق القولين أو الأقوال، إذا لم أطلع على مصرح بالتصحيح " انتهى. - قُويل (2) : و: هو قويل. أَو: لنا قويل آخر: تصغير قول. هذا من مصطلحات الزركشي في كتابه المسمى:

" شرح الزركشي على مختصرالخِرَقي " وهو تصغير يفيد ضعفه. وهو بمنزلة قول غيره من الفقهاء: قول غريب، أَو هو قول غريب. - المنصوص كذا: إِذا قاله ابن مفلح في: " الفروع " فهو إِشارة إلى أَن ثَمَّ قول آخر. - نصا. نص عليه. هذا هو المذهب المنصوص (1) : قولهم في كتب المذهب: " نصًّا " معناه: نسبته إلى الِإمام أَحمد - رحمه الله تعالى-. وأَما قول ابن مفلح في: " الفروع " : " المنصوص " فهو اصطلاح له للِإشارة إلى أَن ثم قول آخر وانظر في حرف الميم: المنصوص. - وُجيه: و: لنا وُجيه . و: هو وُجيه آخر تصغير وَجْه، وهو من اصطلاح الزركشي في شرحه على الخِرَقي. قال محققه: إِن تصغيره يفيد ضعفه فهو بمنزلة قول غيره من الفقهاء: هو وجه ضعيف. - ونصبها فلان: أَي بدأ فلان بهذه الرواية وقدمها. ففي مقدمة تحقيق الزركشي ما نصه: " تاسعًا: يتكرر قولهم في

بعض المسائل: ونصبها القاضي في كذا، أو أَبو الخطاب في " الهداية " ونحوه، أَي: بدأ بهذه الرواية وقدمها، أو اقتصر عليها مما يفيد أَرجحيتها عنده. وقد يقولون أَحيانًا: وَنَصَّها، أَي: صَرَّح بها ". - ويتوجه: من اصطلاح ابن مفلح في: " الفروع " أَي: يتوجه عنده. - يقوى: من اصطلاح ابن مفلح في " الفروع " أَي: يقوى عند ابن مفلح. ثم اصطلاحهم في هذا القسم على أَربعة أَنواع هى: - النوع الأول: تقديم الراجح: ولهم في ذلك مسلكان: 1- الاقتصار على الراجح دون ذكر الخلاف. وهذه طريقة أَصحاب المتون التي تُساق على رواية واحدة، وبخاصة المختصرات منها، مثل: العمدة، والإقناع، وزاد المستقنع، وكافي المبتدي، وأَخصر المختصرات، وغيرها. وعلى هذه الطريقة جرى البهوتي في شرحه للإقناع: كشاف القناع. 2- ذكر الخلاف في المذهب مع تقديم الراجح، وإن اختلف

الترجيح أطلق الخلاف . وهذه طريقة ابن مفلح في: " الفروع " وشرطه في كتابه كما في مقدمته: 1/63 . - النوع الثاني: تقرير الراجح بعد تقديم المرجوح: وهذا من عمل ابن مفلح في: " الفروع " فقد علمت أَن شرطه تقديم الراجح، لكن قد يقدم غيره ثم يقول: والمذهب، والمشهور، أو: والأَشهر أو: والأصح، أو: والصحيح: كذا. وهذا في كتابه كثير كما نبه عليه المرداوي في " تصحيحه " له: (1/23) . - النوع الثالث: تعيين الراجح مع الإشارة إلى قوة المرجوح: سلك ابن مفلح هذا الطريق في: " الفروع " كما وضحه المرداوي في: " تصحيحه " : (1/ 27- 28) فإنه يسوق الخلاف بلفظ: فعنه كذا، وعنه كذا، ثم يقول بعدها: والمذهب، أو: والمشهور، أَو: والأَشهر أو والأَصح كذا، ونحوه. فهذا يفيد أَمرين: تعيين الراجح عنده " والِإشارة إلى قوة في القول الآخر. - النوع الرابع: الِإشارة إلى منزلة الخلاف قوة وضعفًا، بواحد من " حروف الخلاف في المذهب " وهي ثَلاَثَة (1) : " ولو " : ويُشار به إلى الخلاف القوي __________ (1) ومضى حرف رابع هو " أو " وفي آخر حرف الألف من الفصل الثالث في: " المدخل السادس " .

" حَتَّى " يُشار به إلى الخلاف المتوسط. " وإن " يُشار به إلى الخلاف الضعيف. وهذا النوع يحتاج إلى بحث وتحرير، فأَقول: أَول من رأيته أَفاد عنها العلاَّمة ابن بدران- رحمه الله تعالى- في " المدخل " : (ص: 213) مبينا أَنها تشير إلى وجود الخلاف فقال: " متى قال فقهاؤنا : " ولو كان كذا " ونحوه كان إشارة إلى الخلاف وذلك كقول صاحب الِإقناع، وغيره، في باب الأذان: " ويكرهان - يعني: الأذان والِإقامة - للنساء، ولو بلا رفع صوت " فإِنَّهم أَشاروا بلو إلى الخلاف في المسألة، ففي " الفروع " : وفي كراهتهما يعني: - الأذان والِإقامة للنساء - بلا رفع صوت، وقيل: مطلقا، روايتان وعَنه: يُسن لهن الِإقامة وفاقا للشافعي، إلَّا الأذان خلافًا لمالك " انتهى. فقوله: ولو بلا رفع صوت، إِشارة إلى الرواية الثانية. وقالوا أيضا: ولا يُكره ماء الحمام، ولو سخن بنجس. وفي هذه المسألة خلاف أيضا، فقد قال في: " الفروع " : وعنه: يكره ماء الحمام؛ لعدم تحري من يدخله، فاحفظ هذه القاعدة فإِنَّها مهمة جدّا " انتهى. فأفاد كلامه إفادة هذا الحرف: " ولو " للخلاف، ولم يشر إلى أنه للقوي أو دونه.

وقد تناقل بعض طلبة العلم في عصرنا أَن " حتى " للخلاف القوي، " ولو " للخلاف الضعيف، وقيل بالعكس فيهما، و " وإن " للخلاف المتوسط . وهذا لا يُعَوَّل عليه. ولم أَرَ قيد ذلك في كتاب سوى إِشارات لبعض علماء عصرنا، منهم الشيخ محمد بن إبراهيم- رحمه الله تعالى- في تقرير له كما في: " فتاويه " : (2/ 260) إذ قال: " حتى: للخلاف المتوسط " انتهى . والشيخ علي الهندي- أَثابه الله- في رسالته " مقدمة في بيان مصطلحات الفقه الحنبلي " : (ص/ 42) وفي طبعتها الثانية باسم: " التحفة السنية " : ص/ 92 حكاها على أن: " حتى " للخلاف القوي " وإن " للمتوسط " ولو " للضعيف، وتابعه على غلطه من نقل عنه. وفي: " الشرح الممتع لزاد المستقنع " للشيخ محمد بن صالح ابن عثيمين: (4/ 181) قال ما نصه: " وقد ذكر بعض المتأخرين: أنهم إذا قالوا: " ولو كذا " فالخلاف قوي، وإذا قالوا: " وإن كذا " فالخلاف أقل، وإذا قالوا: " حتى " فالخلاف ضعيف " انتهى. وأنت ترى اضطرابهم في منزلتها الحكمية في الخلاف ؟ والذي أراه أن هذا حكم ينبني على الاستقراء التام، ولا أراه يطرد، وإنما هي: " حروف للخلاف في المذهب " فقط، بل منهم من يستعمل

بعضها في غير خلاف وإنما لدفع الإيهام، أي: إِيهام الخلاف، كقول صاحب " زاد المستقنع " في: " باب الرجعة،: " فله رجعتها في عدتها ولو كرهت " يعني لا اعتبار لكراهتها، وهذا بإجماع المسلمين؛ لنص القرآن الكريم . وقال صاحب " زاد المستقنع " أيضا في: " باب صوم التطوع " : " ويحرم صوم العيدين ولو في فرض " والتحريم لا خلاف فيه في المذهب. وقال أيضا في " باب الآنية " : " يُباح استعماله... ولو على أنثى " . وهذا لا خلاف فيه في المذهب. والخلاصة: أَن هذه الحروف الثلاثة: " حتى، ولو وإن " يستعملها الأَصحاب للإشارة إلى الخلاف في المذهب، وقد تأتي لتحقيق الحكم، ونفي الاشتباه والإيهام، وما سوى ذلك مما ذكر تحكم. والله أعلم ولِإشارة هذه الحروف إلى مطلق الخلاف تجد لدى المالكية منها حرفين: " ولو " ، " وإِن " كما في " شرح الخرشي: 1/48 " و " جواهر الِإكليل للأُبي: 1/ 5 " و " مواهب الجليل للحطاب: 1/39 ".


 

0 التعليقات: