30‏/11‏/2014

حرب العصابات في قبرص 24

حرب العصابات في قبرص 24

       وقد رد ديجينيس على بيان حكومة قبرص بكلمة قصيرة قال فيها : ان المنتصرين لا يستسلمون ابدا واضاف انه اذا كانت السلطات مازالت متمسكة بسياستها , فان قواته سوف تستأنف نشاطها اعتبارا من صباح يوم 28 من أغسطس . .

 لقد ترك رد هاردنج المعادى لعروض الهدنة انطباعا سيئا فى كل مكان . .

 ففى قبرص اشاع البيان خيبة أمل عميقة و اعتبرت شروط هاردنج شروطا مهينة . .

 وعلى الأثر قام بعض طلبة المدارس فأسرجوا حمارا ووضعوا فوق مؤخرته لافتة كبيرة كتبوا عليها العبارة التالية (أنى استسلم أيها المارشال) وتركوا الحمار يطوف شوارع نيقوسيا , ليستقبله الجمهور بعاصفةمن التصفيق والضحك . .

وقد أرادت ايوكا من هذا العمل أن يفهم الرجل العادى أن الاستسلام هو من عادة الحمير .

      حرص ديجينيس على ألا يهاجم رجال ايوكا أحدا من الجنود الفرنسيين مهما بلغ الأمر , بل أوصاهم بمحاولة كسب صداقتهم ما أمكنهم ذلك , وبأن يعرضوا عليهم شراء اسلحة منهم . .

 وقد ارسل ديجينيس نسخة من القسم الأول لهذه الأوامر الى قائد القوات الفرنسية فى قبرص , وبهذا الأجراء سهل للجنود الفرنسيين الانتقال بحرية وارتياد الملاهى واندية الترفيه امعانا منه فى مكايدة البريطانيين الذين كانوا محرومين من هذه الأشياء .

 وقد استفاد من هذا الاجراء عدد كبير من مراسلى الصحف ووكالات الأنباء المنتمين الى جنسيات غير الجنسية الانكليزية , وقاموا برفع لافتات على سيارتهم تحمل جنسياتهم مكتوبة باللغتين اليونانية والانكليزية , حتى لا يتعرضوا لاعتداء من جانب ايوكا .


       قامت قوات المظلات البريطانية والفرنسية ومعها الوحدات لغزو بورسعيد . .

 اما المعدات واأسلحة الثقيلة فكانت تشحن من مالطة بطريق البحر , كما تحركت من مالطة أيضا وحدات قوية من الأسطول

وفى لندن أدلى السير انتونى ايدن بتصريح قال فيه : ان الغرض من العملية البريطانية الفرنسية هو فصل القوات المتحاربة بعضها عن بعض وايجاد منطقة حرام بين الجيش المصرى والجيش الأسرائيلى , حول قناة السويس مما يسهل فى الوقت نفسه حماية القناة من أى حظر قد تتعرض له نتيجة لهذه الحرب . . وفى قبرص صرح الجنرال كيتلى أنه كلما أسرعت مصر الى التذرع بالحكمة بقبولها فكرة الاشراف الدولى المؤقت على القناة نقص عدد الضحايا .

      ظل سلام العالم فى كفة القدر عدة أسابيع . .

وهكذا تراجعت المشكلة القبرصية الى الوراء أمام المشاكل التى هى أشد خطورة و أهمية .

      اضطرت بريطانيا الى سحب عدد كبير من وحداتهم العسكرية فى قبرص , وكانت الطرق التى أمتلأت بالقوافل العسكرية المحملة بالمؤن والجنود , اهدافا سهلة لرجال العصابات . .

 وخلال شهر اكتوبر وحده شنت ايوكا 416 هجوما , وهو أعلى رقم سجلته ثورة التحرير القبرصية فى أى وقت من الأوقات , وراح ضحيته 40 شخصا أغلبهم من رجال الخدمة , وقامت ايوكا بتدمير الطائرات والمصفحات واحراق المستودعات .

       بصرف النظر عن هذا كله فلقد برهنت الأيام السبعة من حرب السويس على عدم صلاحية قبرص كقاعدة حربية ذات قيمة .

      الحقيقة الأخرى التى أكدتها حرب السويس هى ان لا يمكن لأية دولى ان تتخذ لها قاعدة فى بلد يناصبها أهله العداء .

  


حرب العصابات في قبرص 23

حرب العصابات في قبرص 23


   ذروة أيوكا:

       خلال صيف عام 1956 الحاسم وجدت الحكومة البريطانية نفسها أمام مشكلة جديدة أشد خطورة و أكثر أزعاجا من مشكلة قبرص فقد قام الرئيس جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس ,

 وكان ذلك يعد تأكيدا لاستقلال مصر . .

 ولم يكن العامل الجغرافى وحده هو الذى يربط قبرص بذلك الانفجار الجديد لللقومية ,

 ولهذا فان نتيجة ذلك الاجراء لم تكن بذلك الانفجار الجديد للقومية , ولهذا فان نتيجة ذلك الاجراء لم تكن لتمر دون أن تترك اثارها على المستقبل . .
 لقد كانت التكتيكات تتغير بسرعة , وضاعف من ملابستها دخول السوفييت الى ذلك المسرح الذى كان بعد احتكارا  تقليديا للغبر .

       دعا ديجينيس الجميع الى ان يتعمقوا دوروس المعارك الحديثة فقال لهم : اننا نحارب حرب عصابات , وهى حرب تتطلب ان نضع أنفسنا دائما على اجنحة الجيش أو فى مؤخرته كما أخبرهم بوجوبمضاعفة العمليات فى المدن لكى يتيحوا للفرق الجبلية فرصة اعادة تنظيم صفوفها .

       كان الجميع يمثلون رهطا من الأخوة الذين نبذوا كل حطام الدنيا واعتصموا بالجبال ليناضلوا عن حرية وطنهم . .

لقد كانوا وهم يستقلون تحت أشجار الصنوبر يستمعون الى ما كان يقال فيهم من مدح تارة وقدح تارة أخرى .



          بدات الجولة الثانية فى معركة قبرص بسلسلة متزايدة من العمليات الهجومية قامت بها ايوكا فى المدن ضد قوات الامن , ثم فجأة وبشكل مثير اعلن ديجينيس فى يوم 16 من أغسطس الهدنة مع القوات البريطانية .

وجاء فى منشور وزعه ديجينيس توزيع واسع النطاق ما يأتى :

      ان العدو الذى فرض علينا بعناده وصلفه هذه الحرب التحررية يستغل الان كفاحنا ويصفه بأنه حركة مسلحة تقوم على العنف لكى يتخذ من هذا الادعاء ذريعة لرفضة التعامل معنا ..

وانى لاعلن هنا أنه اذا كان عدونا مخلصا حقا فيما يدعيه من تعذر الأتفاق على حل سلمى للمشكلة فى ظل الأوضاع الناتجة عن كفاحنا , فانى على أتم استعداد لوقف نشاط جميع الوحدات التى تعمل تحت امرتى , كما انى على استعداد لانتظار رد فعل مرض من جانب بريطانيا العظمى . .

 يهيئ للقبارصة تحقيق الامانى التى عبر عنها ودعا اليها والتى سوف يدعو اليها ولا شك الأسقف مكاريوس .

     ولقد كان الغرض من وراء الخطوة التى أتخذها ديجينيس هو عدم احراج موقف الحكومة البريطانية أمام الصعوبات التى كانت تلاقيها فعلا فى مصر والأمل فى أن تقدر بريطانيا هذه البادرة وتستجيب لها بصورة مرضية . .

غير أن وزارة المستعمرات نظرت الى هذه البادرة من زاوية مغايرة لما توقعة ديجينيس , اذ رأت فيها دليل ضعف ومحاولة من ايوكا التى كانت تعانى ارهاقا عسيرا , لكسب الوقت واعادة تنظيم صفوفها وقد جاء الرد الرسمى الذى أصدره حاكم قبرص على عروض ايوكا بالرفض .


حرب العصابات في قبرص 22

حرب العصابات في قبرص 22


     فى معركة الحصار التى قامت بها القوات البريطانية على ديجينيس – كان الامر من نسج الخيال – اذ بالطبيعة تتدخل لانقاذ الموقف فقد شبت النار فى الغابة وضاعف من انتشارها حرارة الشمس والرياح الشديدة وجفاف أشجار الصنوبر وكانت النيران تطلق هديرا رهيبا على حين أخذت تتطاير شظايا الأشجار فى كل مكان ,

 واذا بحائط رهيب من النيران يزحف نحو معقل ديجينيس وكان يقع شمال أجيا اركا مباشرة , ولم يبق أمام الثوار الا أن يصلوا لله , وفى تلك اللحظة حدث شئ لم يكن متوقعا , فقد تغير أتجاه الريح وبذلك أخذت النار تتراجع , وفى لحظات قليلة تحولت تلك المنطقة الجبلية الى أتون من النيران ,

فى حين أخذت سحب الدخان المختلطة برائحة أشجار الصنوبر اللاسعه تزحف على الوادى وكانها حمم جهنم . .

 وقد حاصرت النار عشرات من الجنود والعربات العسكرية وامتدت السنه اللهب الى سيارات النقل مسببة انفجارات فى خزانات الوقود , الامر الذى زاد من خطورة الحالة . .

وقد قام الضباط والجنود بما لا طاقة لهم به لانقاذ زملائهم المحاصرين , بل أن بعضهم حاول أن يخترق السنة اللهب والقفز من سياراتهم المشتعلة بالنيران , قبل أن تنفجر خزانات البنزين فتزيد من خطورة الحالة  , وقد تمت أعما لبطولية كثيرة , وبالرغم من ذلك فقد ذهب عشرون جنديا ضحية ذلك الحادث وأصيب كثيرون بحروق بالغة . .

 بقد كانت تلك أعظم كارثة تصيب الجيش البريطانى فى خلال الحملة القبرصية .

     برغم أن حملة صيف 1956 لم تكن تهدف فى أساسها الى أعتقال ديجينيس , بل القضاء على قوة ايوكا , فان ديجينيس أصبح الهدف الرئيسى فى نهاية المطاف .

. ومنذ اليوم أصبح أعتقال ديجينيس مسألة تتعلق بشرف الجيش البريطانى واعتباره العسكرى , وهكذا وصل الجيش خلال العامين والنصف التاليين مطاردة قائد ايوكا بلا هوادة وفى كل مكان من قبرص من القرى الى المدن الى الجبال .


لاحظ ديجينيس فرار الارانب من جحورها , وتكاثر الحيوانات وكانت تجرى كلها فى أتجاه واحد مبتعدة عن مواقع الجنود الزاحفة . .

وخطر لديجينيس ان يسترشد بهذه الحيوانات فى الافلات من قبضة الجيش . 

حرب العصابات في قبرص 21

حرب العصابات في قبرص 21

أن ايوكا كانت تعلم أولا فأولا عما يدبر ضدها , فأخذت تستعد له ,
 ولكنها لم تستطع معرفة الجهة التى سوف تبدأ منها الحملة ,
 أما بسبب معلومات خاطئة قدمت لها عن قصد , وأما بسبب تغيير البريطانيين لخطتهم فى اللحظة الأخيرة ,

فبدلا من أن يأتى الهجوم كما كانت تتوقع أيوكا من سلسلة جبال ترودوس , اذا يبدأ من ناحية الشمال الغربى منها , عبر سلسلة جبال كيكو المكتظة بالغابات . .

 لقد تم سحب بعض الوحدات الى هذه المنطقة , لكى تتمكن وفقا للخطة التى وضعها ديجينيس من التحرش بمؤخرة القوات البريطانية ,

 وقد اخبرنى أحد رجال أيوكا بأنهم لم يتوقعوا قط أن يجدوا القوات البريطانية , وقد أخبرنى أحد رجال أيوكا بأنهم لم يتوقعوا قط أن يجدوا القوات البريطانية فى مؤخرتهم .

 . لقد كانوا يحيطون بنا من كل جانب , ولا يعلم الا الله وحده كيف تمكنوا من اختراق الحصار , ولولا الاودية لتعذر علينا الانسحاب ان هذه الاوديه موجودة بكثرة وكان وجودها فى صالحنا .

     وقد تطور الهجوم البريطانى الى عملية تطويق من ثلاث جهات – من الشمال ومن الجنوب ومن الشرق – فقد تحركت فصيلة جوردون هايلاندرز وفرقة الكوماندو الخامسة والأربعين من منطقة بلاترس واحتلت دير كيكو الذى يقع فى وسط المنطقة .

 وقد شنت القوات البريطانية من ذلك المركز هجمات عدة لارباك فرق العصابات القبرصية فى حين أتخذت الوحدات الاخرى تشق طريقها عبر الاودية , حيث تبلغ درجة الحرارة فى تلك المنطقة فى الصيف مستوى يعادل ما تبلغه فى صحارى ليبيا , وذلك للقيام بحركة التفاف حول القوات القبرصية .


          الجيش والقوات الأحتياطية من السكان الاتراك تستطيع ان تفرض الطاعة بقوة الحديد والنار , ولكنها لا تستطيع ان تفرض الولاء . . فالأحساس بالمرارة والاتهام بالقسوة والتصرفات الأستبدادية كانت تلاحق البريطانيين ملاحقة الظل للأنسان , ولم يكن فى امكانهم التخلص منها . . ولقد كان ديجينيس على حق حين وصف هاردنج بأنه كان أعظم حليف لهم .


       من النادر أن تفشل عملية عسكرية واسعة النطاق كتلك العملية التى قامت بها القوات البريطانية ذلك اليوم ,

فقد وقعت فى الأسر وحدتان من ايوكا بكامل أسلحتها التى كانت مكونة من مدفع برن وثلاثة الاف رصاصة . .

كما صودرت بعض البنادق من بيوت القرويين و أعتبرت حيازتها مخالفة للقانون ,

 كما القت السلطات القبض على عدد من الأشخاص . .

 وعندما أحس ديجينيس بأن الجيش يكاد يطوقه أصدر أمره الى وحداته المقاتلة بالتفرق شارحا لهم الاساليب والطرق التى يجب ان يتبعوها فى حين كان الرسل يروحون ويغدون ناقلين تعليماته الى مختلف الوحدات , وقد أقيمت الحراسة على مداخل ومسالك القرى .

حرب العصابات في قبرص 20

حرب العصابات في قبرص 20



    أخذ ديجينيس يكيل الصاع صاعين للانكليز . . فأصدر أوامره الى قواته بأن تبدأ عملياتها الهجومية ضد القوات البريطانية ,

 وعلى أثر ذلك وزع بيانا قصيرا جاء فيه :
     (( أن على قبرص ان تتخلص وهى سوف تتخلص من الحكم البريطانى . . أن نفى السلطات البريطانية لأسقفنا الارثوذكس , انما هو انعكاس للموقف اليائس الذى يواجهه حاكم قبرص . . وانى لأنذر جميع ضعاف النفوس والذين قد يفكرون فى التعاون مع سلطات الأحتلال بأنهم سيتعرضون الى أقصى العقاب )) .

      شهدت ثلاثة الاسابيع الاخيرة من شهر مارس 246 عملية هجومية شنتها ايوكا ,

 ومثل هذا العدد تقريبا فى شهر أبريل وشملت هذه العمليات الأهداف التالية : رجال البوليس ومراكزهم , والدوريات العسكرية , ومعسكرات الجيش , والمنشات , ومحطات القوى الكهربية ومحطات المياه , ومنازل ضباط الجيش , والبوليس , ودور الحكومة والمعاهد الانجليزية , وحظائر الطائرات , والبواخر والقوارب وعربات النقل كما شملت مستودعات الجيش بنية الاستيلاء على المؤن , وهكذا أخذت ترتفع أرقام الضحايا والمجروحين .

     ليس من حق رجال ايوكا ان يعتبروا انفسهم جنودا مالم يتعلموا طاعة الأوامر . . وقد تلقى افنشيو توبيخا عنيفا بسبب فشله فى حمل رجاله على التقيد بالنظام و اطاعة الأوامر .

      فرضت السلطات البريطانية فى اليوم الثانى نظام حظر التجول فى سبع قرى , بعد تفتيشها تفتيشا دقيقا , غير ان فرق العصابات كانت قد تفرقت واختفت عن الأنظار معتصمى بمخابئها , واعتقلت السلطات الامن نحو عشرين وأخذت فى أستجوابهم , ولكن كالعاده لم يعترف هؤلاء المواطنون بشئ للسلطات , بينما الأشخاص المعنيون قد تحصنوا فى مخابئهم بعيدا عن متناول السلطات , أو أنهم قد تسللوا بين جموع الفلاحين الذين كانوا ينتظرون على أبواب الكنائس .

    وفى المدن كانت الأحداث تمضى بسرعة مخيفه , فما ان ينتهى التحقيق فى حادث من حوادث النسف حتى يقع حادث أخر . . وكانت التطورات تؤكد للسلطات أنه ليس هناك بين القبارصة من يمكن أن تثق فيه , وأدى اغتيال بعض من خيرة عملائها الى أنهيار جهاز المخابرات , فقد كان الجيش والبوليس يعتمدان على بعض القبارصة فى تزويدهم بالمعلومات الخاصة بنشاط ايوكا

, فى الوقت الذى بدأت السلطات تشك فى ان ايوكا بدورها كانت تعتمد على رجال البوليس فى التجسس على حركات الجيش ّ ويبدو أن ايوكا قد تمكنت أخيرا من النفاذ الى الجهاز الادارى للحكومه , الأمر الذى أصبح يقض مضاجع الرؤساء الاداريين . .

 فموظفوا الحكومة الذين عرفوا بأخلاصهم وولائهم للحكومة منذ سنوات , أخذوا يتجسسون على رؤسائهم , او يضعون قنابل فى مكاتبهم لدرجة أن السلطات عثرت على قنبلة تحت سرير الحاكم . . 

ومع أن هذه القنبلة لم تنفجر الا أن ذلك قد اقنع السلطات بأن الاجراءات الوقائية الصارمة التى اتخذتها لم تعد تجدى شيئا . .

 لقد كان الأمر يبدو للسلطات وكأنما هناك شبح مجهول فى كل ادارة ومصلحة يراقب ما يجرى فيها ويرفع عنها التقارير ,

 أو كأنما كان هناك جاسوس على كل موظف من الموظفين الجواسيس بل ان الجهاز الأدارى فى كثير من المناطق قد أصيب بالشلل التام .

. و أصبح يتعذر على الحاكم أن يمارس سلطاته ممارسة فعالة الا بالأستعانة بفرق الجيش .


حرب العصابات في قبرص 19

حرب العصابات في قبرص 19

      فى يوم 2 فبراير سنه 1956 خرج  مكاريوس عن تحفظه , وقبل أن يصدر بيانه استدعى ممثلى الشعب القبرصى من التجار و الحرفيين ونقابات العمال ومنظمات الفلاحين وأطلعهم عليه ,
 وقد وافق الجميع على روح البيان وباركوا مضمونه , وبذلك أصبح الأسقف فى وضع يسوغ له أن يعد بيانه معبرا عن وجهة نظر أغلبية الشعب ,

أن هذا البيان الى جانب رد هاردنج لما يجدر بنا أن نشير اليهما فى أسهاب , ويجب أن يعدا وثيقتين اساسيتين .

     من النقاط ذات الأهمية الخاصة بالنسبة الى مكاريوس , فقد كان الأسقف يدرك تمام الأدراك أن الوعى الدولى القوى لقضية قبرص و أرتفاع مكانته يعودان فى الدرجة الأولى الى منطق السلاح الذى تنادى به ايوكا .

 ولهذا فأن شراء السلطة على حساب ايوكا وترك أعضائها تحت رحمة السلطات تتصيدهم و تزج بهم فى معسكرات الأعتقال والسجون معناه جنايه سافرة للقضية .
     
      اعتقل مكاريوس يوم 9 من مارس 1956 , على حين كان يتأهب لركوب الطائرة الى أثينا لأجراء اتصالات جديدة , ولكنه بدلا من أن يسافر الى أثينا نقل الى احدى طائرات سلاح الطيران البريطانى التى كانت رابضة على أحد مهابط الطائرات
 ولا يجوز لنا القول بأن هذا الحادث قد جاء عرضا , بل فى الحقيقة أنه فى اليوم السابق لنفى الأسقف بعت أحد المواطنين ممن كان أمرا وشيكا
, غير أنه عندما تحدث فى هذا الموضوع مع صديق له أبى أن يأخذه مأخذ الجد , وقال : انه لم يكن يظن أنهم سيقدمون على مثل ذلك الاجراء , وقال الأسقف كرانديوتس , سكرتير المجلس الكنسى : ان احتمالات ذلك تكاد تكون واحدا فى الألف .

       بعد دخول الأسقف الى الطائرة مباشرة وصل الأب بابا ستوفروس , كبير رهبان كنيسة فانرومينى بنقوسيا وأنضم الى مكاريوس .

 وقبل أن يستطيع الأسقف سؤال الأب بابا ستوفروس عن كيفية تمكنه من الوصول لتوديعه اذا به يرى الأسقف كبريانوس برفقة السيد بوليكاريوس ايونيدس , سكرتير المجلس يدخلان عليه فى الطائرة .

       وقد نقل المنفيون الى جزيره صقلية حيث أمضوا فيها 13 شهرا , وهكذا تعد معاملة بريطانيا لمكاريوس كفرد اعترافا له بزعامته للأمة فى واقع الأمر . فبنفيها للأسقف رفعت من مكانته فى نظر الشعب , وخلقت منه رمزا وطنيا .

      وفى اعقاب ذلك اصدر هاردنج بيانا جاء فيه :
(( ان عددا قليلا من القبارصة اليونانيين من يستطيع أن يهاجر برأيه فى مسألة الوحدة – لا خوفا من رصاص ايوكا فحسب , بل خوفا من أن يساء فهمهم ويوصموا بالخيانة )) .

والمعنى فى هذا البيان واضح كل الوضوح :

      ذلك أن كثيرا من التقارير المغرضة التى كانت تقدم الى الحاكم كانت تصله عن طريق المكاتب والمصالح الحكومية المختلفة وعن طريق بعض من ليست لهم دراية ذلك انه من طبيعة الحكومات أن تثق ثقة كبيرة فى تقارير الخبرين والمتزلفين , خصوصا اذا كانت السلطة القائمة فيها سلطة ذات طابع أوتوقراطى ولا تمتلك الوسائل التى تكفل لها تمحيص الرأى العام .

وقد تناقشت فى هذا الموضوع مع عدد من القبارصة وبعد أن أستطلعت رأيهم , أستطيع أن أقرر أن الحكومة كانت تعتقد فعلا أن تأييد الجمهور لايوكا كان مبعثه الخوف .

 صحيح كان هناك خوف ولكن هذا الخوف كان بين أوساط العناصر اللامبالية أو السلبية أو المناهضة للحركة , كما كان بين الخونة ممن كان لهم نشاط ضد الحركة الوطنية , فلم يكن الخوف قاطعا ذلك الذى حول تلاميذذ المدارس ودفع بالشباب الى الأنخراط فى فرق العصابات ولا الذى شجع الجنس اللطيف الى أخفاء المتفجرات تحت الملابس , والكهول الى نقل بريد ايوكا برغم السياط التى كانوا يتعرضون لها من جانب السلطات .


      وبرغم ذلك يبدو أن السلطات اقتنعت اقتناعا تاما بأن ابعاد الأسقف والضربات التى ستتوالى على حركة أيوكا سوف تقضى على ذلك الخوف المزعوم ممهدا الطريق للعناصر المعتدلة , التى لا يمكن تحديد نوعيتها دائما , لكى تتقدم الصفوف دون أن يؤرقها وازع من ضمير لقبول ما يعرض عليها .

حرب العصابات في قبرص 18

حرب العصابات في قبرص 18

الطرف السياسى (المفاوض) :
     وفى اليوم التالى أجتمع هاردنج بالأسقف مكاريوس وتم الأجتماع فى فندق نيقوسيا الرئيسى , ومع كل منهما مستشاروه السياسيون وقد أفاض هاردنج فى الحديث عن أهمية قبرص لحلف شمال الأطلنطى فى مواجهة التهديد الشيوعى للعالم الغربى وعن ضرورة وحدة الحلفاء الغربيين , كما أعرب عن رغبته فى الوصول الى صلح . كل هذا الاجتماع بالنسبة الى هاردنج ذا طابع استطلاعى بحت , اما الاسقف الذى رأى فى هاردنج مفاوضا عنيدا متسلحا بالحجج فقد قال ان كل ما يطلبه شعب قبرص هو منحه فورا حق تقرير المصير .

      كان هاردنج قد عاد من لندن وفى جعبته برنامج شامل للتنمية الأقتصادية والأجتماعية تبلغ تكاليفة نحو 38 مليون جنيه فانه لم يأت معه بأى شئ محدود أو مشجع بالنسبة الى المستقبل السياسى للجزيرة .

مقارنة بين الغريمين :
      على الرغم من أختلاف منبت الرجلين , و أختلاف نظريتهما ونشأتهما فقد كان ثمة أشياء كثيرة تجمع بينهما : فكلاهما ينحدر من أسرة الفقير , فالحاكم هاردنج بدأحياته موظفا فى مصلحة البريد وارتقى الى تلك المرتبة العسكرية بجهده وكفايته , وان كان للحظ فيها دور كبير , أما مكاريوس فقد هجر بيئته الفقيرة وسنة احدى عشرة سنه ليدخل الدير كراهب تحت التمرين .

وقد لعب الحظ والكفاية الشخصية دورهما ايضا فى بلوغه المركز الذى بلغه بين رجال الكنيسة , كما أن كلا الرجلين قضى حياته فى رحاب معهدين بارزين هما الجيش والكنيسة . وكان كل منهما يدرك ما يتطلبه هذان المركزان من الأستقرار فى شئونهما , كما كانا يدركان أن أى فشل يصيبهما فى الحياة السياسية ينبغى ألا يؤثر تأثيرا كبيرا على مسئولياتهم الأخرى .

      وبرغم ما كانت تتسم به حياه الرجلين من تقيد النظام , وبرغم تمرسهما الطويل بأساليب الطاعة والقيادة – فقد احتفظا بذهن متفتح نير , وكان كل منهما يفهم هدفه فهما واضحا : هاردنج كان الرجل العملى الدقيق ذا الأدراك الواسع , ولكنه لم يكن صبورا .

 أما مكاريوس الرجل العميق المتأمل فكان برغم الخبرة التى تجمعت لديه من خلال الدور الذى كانت تلعبه الكنيسة الاغريقية الأرثوذكسية فى الحياة السياسية لقبرص – كان حذرا الى حد الأفراط , بل أذا أقتضت الضرورة كان صبورا الى درجة الخطورة.

       أن الوفاق بين القوى التى تقف وراء كل منهما  كان امرا متعذرا , وقد أخذ هاردنج يلح على مكاريوس بأن يصدر بيانا يستنكر فيه أساليب العنف التى كانت تقوم بها ايوكا .

صرح أحد المسئولين الرسميين :

     أى حل أخر سوف يعنى أننا رضخنا للأرهاب . وربما كان هاردنج يرى الرأى نفسه ومع كل فقد كان هاردنج مخلصا فى اعتقاده بأنه عن طريق ذلك الحل أمكن التغلب على كثير من المشاكل العويصة وأنه هو و الأسقف يستطيعان بعد ذلك أن يتفرغا لمسئوليتهما .

 وما دام الأنفاق قد تم على الخطوط الرئيسية فانه يمكن التفاهم على التفصيلات بصورة تدريجية مع مرور الوقت .

 غير أن عقلية الأسقف كانت من تركيب أخر , فهى قد تعودت التركيز حول التفاصيل ومراقبة الأثر الذى تحدثه على البناء الكلى للمشكلة كما أن الخبرة الطويلة التى ورثها من الكنيسة كانت له دائما بمثابة الذى يذكره بأن الاتفاق على الخطوط العامه لا يصل الى مستوى الأهميه  للأتفاق أو الأختلاف على النقاط الصغيرة أو الغامضة لأية فكرة .

حرب العصابات في قبرص 17

حرب العصابات في قبرص 17


      وكانت الأعلام ترفع كل يوم أحد , والشعارات تكتب على الجدران . وقد يدعو الصوت فى بعض الأحيان أشخاصا معينين ويأمرهم بالكف عن مقاومة ايوكا والامتناع عن ترويج الأشاعات ضدها . و اذا صادف حدوث عملية مسلحة فان ايوكا تقوم باذاعه خبرها على الاهالى . وكان التحذير الذى تصدره ايوكا يصاغ عادة فى العبارات التالية :

    أيها المواطن لا تتكلم (الكلام لا يفيد غير العدو) اذا رأيت شيئا فاكتمه تعقب العملاء والمخبرين , ان أيوكا لا تطالب الشعب بشئ ولا تريد منه شيئا , فلديها كل ما تحتاج اليه ,

 أما القول بأن ايوكا لم تكن تطالب الشعب بشئ أو تريد منه شيئا فهذه حقيقة يشهد بها الجميع فقد كانت دائما تدفع ثمن ما كانت تشتريه وكانت الكنيسة بما تملكه من ثروة طائلة توفر لايوكا كل ما تحتاج اليه من مال لنفقاتها . وقد أصبح لايوكا سواء من الناحية الادارية أو الأخلاقية ,

 رصيد كبير من حسن السمعة فلم يتعرض أى فرد من أفرادها لنقد أو لتهمة تفيد استغلال مركزه فى خدمة اغراضه الشخصية , وقد ضاعف من سمعتها الوطنية ما تحلت به من سلوك حميد ومعاملة نزيهة .

اجراءات الحكومات :

      قام هاردنج بأعادة تنظيم قوات الأمن فأنشأ عددا من الوحدات المدنية والعسكرية لتعزيز قوات الأمن فى كل مقاطعة , وقرر مضاعفة قوات الأمن بحيث يبلغ عددها 3500 رجل وقد وصلت من انكلترا فرقة خاصة من الخبراء فى التفتيش والرقابة العسكرية بالأضافة الى مجموعة من الكلاب البوليسية يصحبها مدربوها ,

 كما شكلت قوة بوليس اضافية من السكان الأتراك وفرقة احتياطية متحركة مزودة بالمعدات ووسائل النقل لاستخدامها فى حالة الطوارئ وفى الظروف المفاجئة . وكذلك أقيمت شيكة واسعة من الأتصال اللاسلكى تربط الكتائب العسكرية ومراكز البوليس القروى والفرق الدورية بمقر القيادة العامة .

          وهكذا تحولت الأجهزة المضادة لحركة أيوكا الى قوة هائلة , وقد بلغ عدد القوات التى كانت على استعداد للقتال بما فيها من القوات الأحتياطية خمسة عشر الف جندى . ومن ناحية أخرى قامت ايوكا ايضا بدعم نشاطها ففى أسبوع واحد من شهر نوفمبر قامت أيوكا  بشن عشر هجمات خسر نتيجتها الانكليز خمسة من جنودهم كما وقع أثنا عشر انفجارا .

 وفى 26 من أكتوبر أعلن الحاكم حالة الطوارئ فى البلاد , وقد خولت المحاكم بمقتضى ذلك القانون حق اصدار احكام الاعدام على كل شخص يطلق النار أو تكون فى حيازته أسلحة نارية أو ذخيرة أو مواد متفجرة , كما أحتفظ الحاكم لنفسه بمقتضى ذلك المرسوم بحق حجز أو نفى أى شخص دون محاكمة وحق فرض الغرامات الجماعية

. والى جانب ذلك أستدعى المخبرون والغيت المنظمات السياسية ووضعت جوائز ضخمة على رءوس الأشخاص المطلوبين وعلى رأسهم ديجينيس الذى خصصت عشرة الاف جنيه ثمنا لرأسه . وأعقب ذلك فرض نظام منع التجول لفترات قصيرة فى عدد من القرى خلال الأشهر التالية . كما قامت سلطات الدولة بفرض الغرامات الجماعية والحملات التفتيشية بشكل واسع النطاق للكنائس وابنيتها من بينها 11 ديرا .

اجراءات القيادة الجديدة :

    الى جانب هذه الاجراءات الفعالة أخذ هاردنج يقوم باجراء مفاوضات شاملة . والواقع أن هاردنج بمجرد وصوله قبرص طلب الاجتماع بالزعماء الاتراك واليونانيين ,
 فأجتمع اولا بالاتراك وأوضح لهم أن مهمة اعادة النظام الى الجزيرة بحكم تجارب الاشهر القليلة الاخيرة مهمة شاقة وأنها عملية طويلة تكلف ارواحا كثيرة وتتطلب أمكانيات واسعة .

 وأن الحل الوحيد للتفادى من النتائج المريرة المترتبة على ذلك هو الوصول الى حل سلمى يقبله جميع الاطراف .

حرب العصابات في قبرص 16

حرب العصابات في قبرص 16


تكتيكات التخفى :

      لقد اظهر ديجينيس فى عملية تخطيطه واختياره للمواقع حصافة عسكرية مدهشة , وكانت تعليماته فى هذا الصدد قاطعة , فقد كان رجال العصابات يلبسون فوق احذيتهم أكياسا من الخيش أو القماش عند دخولهم المخابئ وخروجهم منها حتى لا يتركوا اثار أقدامهم ورائهم . وكانت المسالك المؤدية الى المخابئ تسير فى خطوط متعرجة كما كانت هناك تعليمات مشددة بألا يتركوا الفضلات أو الزبالة خارج المخابئ لأنها تجتذب الطيور . وكان استخدام النار او اى نوع من الاضاءة محظورا حظرا باتا ,

وكان الدخول الى المخابئ لا يتم الا فى ساعات الليل حيث يتعذر اكتشافها من قبل أى أنسان . وكان الثوار يعمدون الى نثر مسحوق الفلفل حول المنطقة لتعطيل حاسة الشم فى الكلاب البوليسية التى كان يطلقها الجيش لاقتفاء اثار الثوار وخصوصا بالقرب من المخابئ وقد سبب هذا ارتفاعا كبيرا فى أسعار الفلفل , وأزاء هذا الوضع وجد تجار قبرص أنهم مضطرون الى ان يوفقوا بين مصلحتهم التجارية وواجبهم الوطنى .

     وكانت العمليات غالبا تبدأ من هذه المخابئ حيث يخرج منها الثوار فرادى وجماعات يتجه كل منها فى أول الأمر الى مستودعات التموين ثم يعودون , فيلتقون فى أماكن يتفقون عليها من قبل وفى وقت معلوم , وكانت العادة أن يعمل أفراد العصابات بعيدا عن مقر سكنهم , وكان من النادر أن يعودوا الى بيوتهم , ويتلقى أفراد العصابات كل الارشادات عن طريق حصولهم على ما يحتاجون اليه من الطعام والمخابئ التى ينبغى أن يلجئوا اليها  فى تنقلاتهم عند الضرورة , والأوقات التى يجب أن يعودوا فيها والاشارات التى قد يتلقونها من قيادتهم .

      وقد يبدو من هذا السرد أن عمل رجال العصابات سهل غير أن ثمة كثيرا من الصعوبات التى ينبغى أن يدخلوها فى حسبانهم : فهناك مثلا قوانين منع التجول والدوريات العسكرية التى تقوم بحراسة مداخل القرى والتى قد تشمل مراقبة مساكن وبيوت المتعاونين مع منظمات الثوار ومؤيديهم مما يجعل بعض المواطنين يترددون فى السماح لافراد العصابات باللجوء الى بيوتهم , وقد يعنى هذا احيانا ان تضطر فرق العصابات الى قطع مسافات طويلة قبل أن يجدوا قرية أو بيتا يأويهم .

      وبالمثل لم يكن الأمر سهلا بالنسبة لسكان القرى , وقد حدث فى أحدى المرات أن دخل رجلان يرتديان أسمالا أحدى القرى وطرقا أحد بيوت القرية , ففتحت فتاة من أهل البيت الباب , ولما رأياها قالا لها : أنهما من اعضاء منظمة أيوكا وقد جاءا هاربين , وطلبا منها ان تسمح لهما بالمبيت فى منزلها ليلة واحدة . فردت عليها الفتاة بأنه ليس فى المنزل سوى شخصين , وهى وأمها وأنه لا متسع بالبيت لايوائهما , ولكن الرجلين عادا يلحان على الفتاة بأن تسمح لهما بالمبيت ليلة واحدة فقط . فأبدت الفتاة أسفها لاستحالة ايوائهما . وقد كانت الفتاة على حق حين رفضت استقبال الطارقين بمنزلهما

. لأن الصوت قد سبق ان حذرهم بعدم ايواء شخص ما لم يكن معروفا لدى أصحاب البيت معرفة شخصية وبألا يقدموا أى شئ من نقود أو طعام أو ملابس , ما لم يكونوا على معرفة بالأشخاص ويثقوا فيه ثقة تامة .


      وكان الصوت هو الرمز للتعليمات التى كانت تصدر للقرويين عامة عن طريق مكبرات الصوت . وقد يحدث أن تنطلق أجراس الكنائس فى بهيم الليل ويكون الغرض من دق الأجراس تحذير أهالى القرية عن خطر محتمل الحدوث , او قد يكون اعلان عن مرور دورية بريطانية او اقترابها من منطقة المخابئ أو أن ثمة أنباء هامة أو موجزا لاخر منشور صدر من ديجينيس سوف يذاع , أو أن هناك مهمة معينة يتحتم القيام بها .

حرب العصابات في قبرص 15

حرب العصابات في قبرص 15

   واقعة مرسناكى قد برهنت لايوكا أن الحماس وحده لا يكفى , وأنه لا بد من توجيه اهتمام أكبر لتدريب الاعضاء وتخطيط العمليات , ومن ان تكون معلوماتها عن تحركات البوليس معلومات دقيقة كما تيقنت وجوب تحسين أجهزة مخابراتها .

       المعركة التى جاءت خاتمة لحياة دراكوس كما رواها لى الجندى البريطانى الذى قتل دراكوس وبرغم أصابته اصابة مميتة فقد استمر دراكوس يطلق النار من مدفعه وذلك ليحمى مؤخرة رفاقه وليمكنهم من الهرب , ثم صوب مسدسه على نفسه .

       قبل تنفيذ حكم الاعدام (على زاكوس ورفاقه) بأيام قليلة كانت ايوكا قد اختطفت شيخا انجليزيا يدعى جون كريمر وكان يعيش فى قبرص منذ عدة سنوات . وقد ألعنت أنه اذا ما نفذ حكم الأعدام فى زاكوس ورفاقه فأنها سوف تنفذ حكم الأعدام فى كريمر مقابل ذلك , لقد كان لهذا التحدى الذى لا مبرر له وقع اليوم لدى الجميع حتى ان زاكوس نفسه قد انزعج منه وطلب الى المحاميين عنه ستليو بافلديس وثاسوس بابادوبولو أن يبدلا أقصى ما فى وسعهم للابقاء على حياة كريمر . وقد تقدم الأثنان برجاء الى ديجينيس بهذا المعنى , وقال زاكوس للمحاميين : ان ما فعلته فعلته بمحض ارادتى وان كريمر برئ وليس على البرئ حرج .

     وقد أذيع الرجاء من محطة الاذاعة , ثم جرت اتصالات عن طريق رجال الكنيسة تعزيزا لذلك , وقد وافق ديجينيس فأطلق سراح كريمر .

      ان تلك البادرة من زاكوس , والزيارة التى قام بها الجندى البريطانى لوالدة دراكوس انما هما ومضات انسانية , لكنها لم تجد لها صدى فى الأوساط العليا .

رساله زاكوس لأخيه قبل الاعدام :
   ( فى اللحظة التى تصلك رسالتى هذه أكون أنا قد أنتهيت ّ وهل نحن خالدون فى هذه الحياة ؟ لأن اللحظات الأخيرة من حياتنا تقترب , غير أننا فى أعماق نفوسنا نشعر بالطمأنينة التامة , اذ فى هذه اللحظات بالذات نحن نستمع الى سيمفونية ارويكا لبيتهوفن , وفى الموقف الذى نحن فيه لا يمكننا حتى بمعاونة المجهر أن نكتشف الجانب الفاجع فى الموت . ولقد كنت سأشعر بالأسى حقا لو كنت استطيع بنجاتى من حبل المشنقة أن أظل شابا وخالدا على مدى الأيام , أما الأن ففى وسعى أن أتصور , ونتيجة لذا الحكم فقط , فأننى سأظل شابا وسأظل خالدا , وعلى ؟أية حال فقد كان لابد لى عاجلا او اجلا أن أموت , ولست أعرف مناسبة أصلح لتحقيق هذه الفكرة من هذه الفرصة . حاول يا أخى أن تشجع أفراد أسرتنا على تحمل هذه المصاب , وبالاضافة الى ذلك أن ترعى والدتنا وتواسيها فمنذ الان ستكون أنت لا أنا – ابنها الاكبر . . أنى اعانقك . اخوك اندرى ) .
  
وصف لحال البلد قبل الاعدام :

      لقد قضت نيقوسيا ليلة خيم فيها الصمت على المدينة , فقد لزم جميع المواطنين ممن لا تزيد سنهم على 27 عاما عقر بيوتهم من غروب الشمس حتى شروقها , وقد شاركهم الكبار أيضا فلم يبارحوا دورهم , وأغلقت الملاهى والمقاهى أبوابها فى وقت مبكر , وقد رابط أكثر من عشرين صحفيا خارج أسوار السجن وكانت أناشيد السجناء تخترق أسوار السجن لتصل الى مسامعهم . وقد اشترك جميع السجناء فى ترديد الأناشيد الحماسية والموكبية والملاحم الشعبية الوطنية . وقد دام هذا الوضع عدة ساعات , وكانت الأصوات تسمع فى معظم أحياء المدينة على حين كانت نساء قبرص يصلين داخل بيوتهن كما كان الرجال يبكون . كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل عندما سمعت أصوات من خلف زنزانات المسجونين تشير الى أنهم فى طريقهم الى ساحة الأعدام , وعلى الفور 700 نزيل من نزلاء السجن , وأخذوا ينشدون نشيد اليونان الوطنى , وحين بلغهم أن السجين الأول قد صعد الى المشنقة توقفوا فجأة وخيم السكون على أرجاء السجن وعلى المدينة كلها .

29‏/11‏/2014

حرب العصابات في قبرص 14

حرب العصابات في قبرص 14

     أكتسب دراكوس بفراره من المعتقل شهرة واسعة لجرأته , وقد خصصت الحكومة جائزة قدرها خمسة الاف جنيه استرلينى لمن يقبض عليه .

     والى جانب ذلك أشتهر دراكوس بأعمال بطولية وتنظيم عمليات تخريبية , وكان عمره يومئذ لا يزيد على ثلاثة وعشرين عاما .

شروط مكان الكمين :

    فى أول محاولة من جانبهم للاشتباك مع الانجليز وكانت أعصابهم متوترة جدا , ان أى شخص له المام بسيط بالمسائل العسكرية سيدهشكل الدهشة من عدممن علم صلاحية هذا المكان لاعداد كمين عسكرى ضد العدو , فمرمى اطلاق النار فيه لا يزيد على 60 درجة بسبب اعتراض التلال له . 

وباستثناء بعض أشجار فان التغطية ليست متوافرة لأية عملية عسكرية , كما ان خط التراجع الوحيد هو شاطىء البحر , ويمر فوق تل . ان هذه منطقة لا يمكن ان يختارها غير الهواة .

    وبعد جدل قصير اتخذ دراكوس موقعه فى نقطة تشرف على جزء هام من الطريق على حين ربض رفاقه الثلاثة أسفل الجسر بمواجهة أحد المنحنيات , وكانت خطتهم تقوم على شن الهجوم أولا بمدافع الاستن ثم أطلاق القنابل اليدوية فى غمرة الاضطراب الذى سينشأ من عملية الهجوم على حين يقوم دراكوس من ناحيته بتغطية الهجوم بمدفعه الرشاش .



    بقد كان الأربعة يربضون فى مواقعهم وبين حين وأخر يحتسون بضع جرعات من الخمر لتنشيط معنوياتهم , ولم تظهر القافلة ألا بعد لأى طويل , ولكن السيارة الأولى التى مرت من هناك التى مرت من هناك كانت تحمل والدة موسكوس فى طريقها الى نيقوسيا , غير أن الأربعة لم يكشفوا عن هويتهم , وهنا صاح موسكوس : ( ان هذا لا يبدو فالا حسنا لنا ) .

      وبعد قليل سمعوا صوت سيارة جيب تتسلق الجبل من الجهة المقابلة ثم استدارت وظهرت أمامهم , وعندئذ أصدر دراكوس تعليماته الى الاخرين باطلاق النار على السيارة مما أضطر سائقها الى أن يطأطئ رأسه . لقد كان الضابط الذى يجلس بجوار المأجور كومب رجلا هادئ الأعصاب سريع البديهة بصورة كانت تحوز أعجاب العدو قبل الصديق . فما كان منه ألا ان تسلم قيادة السيارة بنفسه ومرق بها من بين الرصاص متجها نحو أحد الحفر , ومن هذا المكان أستطاع ان يكر راجعا بها ليصعد التل من الناحية الخلفية , على حين لم يلاحظ خصومه الحركة التى قام بها , فأخذوا يتراجعون فى اتجاه الطريق , وما أن لمحوه يعود حتى أمطروه بنيران من مدافعهم بطريقة عصبية , كما أخذوا يقذفونه ببعض القنايل اليدوية التى كانت تنفجر قبل ان تصل الى أهدافها , و اذ نفدت ذخيرته عاد أدراجه الى سيارته وتناول مدفع سائقه القتيل .


     والغريب فى الأمر ان الثوار لم يفعلوا شيئا لايقافه عند حده مما مكنه من استعادة موقعه على الربوة واطلاق النار عليهم من جديد ! لقد تصرف اليونانيون تصرفا ارعن استنفدوا فيه بسرعة كل ذخيرتهم , وهنا قرر دراكوس أن يقوم بمغامرة , فطلب الى رفاقه ان يستسلموا ظنا منه أنه اذا ما تقدم الضابط للقبض عليهم فانه يستطيع أن يباغته , غير أن الضابط كومب كان جنديا شجاعا ومدربا تدريبا جيدا فعندما رفع زملاء دراكوس أيديهم بالتسليم وأخذوا يتقدمون نحوه لمح هو المدفع الرشاش المصوب أليه من جانب دراكوس فانبطح على الأرض وأطلق عليهم نيران مدفعه فقتل موسكوس وأصاب زاكوس بجراح . 

أما دراكوس الذى جرح هو الاخر فقد استطاع الهرب حاملا مدفعه .

حرب العصابات في قبرص 13

حرب العصابات في قبرص 13
المرحلة الثانية :

      المرحلة الثانية من النضال ! ألا وهى تجنيد قوات البوليس لأن ذلك – ان تحقق – سيرغم السلطات الى الأستعانة بقوات الجيش فى المحافظة على الأمن , وفى هذه الحالة ستضطر الحكومة الى توزيع هذه القوات على جهات متعددة من الجزيرة , الأمر الذى سوف يمهد للمرحلة التالية من النضال وهى الدخول فى معارك سافرة مع القوات البريطانية على أوسع نطاق .

قاعده :
   لا يمكن أية سلطة حكومية أن تنجح ما لم تستند على تأييد الجمهور من ناحية , وولاء الموظفين من ناحية أخرى .

     فى جزيرة قبرص نفسها قد كانت المعركة تسير فى اتجاهين : الهجوم على البوليس من ناحية , وتعقب الخونة والمخربين من ناحية اخرى .

وقد طالبت ايوكا عمداء القرى الذين عينهم الحاكم البريطانى بالأستقالة من وظائفهم , كما أخطرت العملاء البوليسيين بوقف كل نشاط لهم ضد ايوكا .

 ومن ناحية أخرى كانت ايوكا صريحة فى منشوراتها بأن كل من يخون ابناء وطنه ويقدم للسلطات الحاكمة معلومات تمس اعضاء النظمة سوف يطلق عليه الرصاص .

 ان هذه التهديدات لم تكن تهديدات جوفاء , اذ سرعان ما قتل عدد من رجال البوليس ومن المدنيين عقابا لهم على خيانتهما وعبرة لغيرهم , وشيئا فشيئا غلبت قوات البوليس على أمرها وانزوت داخل مراكزها خلف الأسلاك الشائكة .

    وهكذا فى غمرة الخوف المتبادل بين الطرفين تقرر تطبيق مبدأ ( الخضوع ) الرومانى فى محاولة مذعورة يائسة لايجاد حل للمشكلة .

الاستقبال الأول :
    ( اقسم -  بالثالوث المقدس -  أن أكافح بكل ما فى طاقتى من اجل تحرير قبرص من براثن الأستعمار البريطانى , وبألا اضن فى سبيل ذلك يأية تضحية مهما غلت حتى حياتى !
      وبأن أقوم بتنفيذ جميع الأوامر التى تصدرها الى المنظمة دون معارضة , ومهما كانت المهمة التى تستندها الى شاقة وخطيرة .
       و بألا أفشى لكائن من كان سرا من اسرار منظمتنا او اسم زعيمها أو أسماء أعضائها حتى ولو قبض على وتعرضت للتعذيب.

       و بألا أبوح لأى مخلوق بالتعليمات التى تصدر الى من قادتى , و اذا حنثت فى عهدى هذا فأنى أكون مستحقا لكل عقوبة يستحقها خائن مثلى والعار يجللنى الى الأبد ) .


حرب العصابات في قبرص 12

حرب العصابات في قبرص 12

    ان سكان هذه الجزيرة قد سبق لهم ان مروا بتجربة مماثلة بالنسبة للاجراءات الاستبدادية
 ومن هنا فقد هيئوا انفسهم للجولة القادمة. وبالرغم من ذلك فلم يحدث رد فعل مباشر
, بل لم تتخذ فى الحقيقة اى اجراءات مضادة على النحو الذى حدث فى سنة 1931 لا فى تلك الايام ولا خلال المعركة كلها بالرغم من عنف الاستفزازات التى تعرضت لها السلطة البريطانية فى قبرص . 

والسبب ان بريطانيا سنة 1955 تختلف عنها فى سنة 1930 لأنها لو اقدمت على مثل تلاك الاجراءات الفاشسية فان ذلك يعرضها لنقمة الرأى العام ببريطانيا , والنواب البرلمانيين والصحافة , كما أنها ستضر بسمعة بريطانيا فى العالم وتخلق لها متاعب جديدة داخل حلف الاطلنطى , ذلك ان القبارصة لم يكونوا وحدهم فهناك اليونان يقفون الى جانبهم كما كانوا يتوقعون تأييدا معنويا من الولايات المتحدة .

     ولقد كان من مفارقات هذه المعركة أنه ما من مرة فشلت فيها الوسيلة الأولى , وبمضى الوقت أدرك القبارصة أنهم يحاربون دولة ديمقراطية , لا تميل الى أستخدام أقصى قوتها , كما لم تكن تتردد فى أظهار اعجابها ولو فى شكل محدود بما كانوا يبدونه من ضروب البطولة .


       الأعلام ( الرمز ) :
           وقف ضابط مترددا لأول وهلة وهو يراقب تلك الوجوه المتجهمة الصامتة وهى ترمقه من السيارتين ثم قال لهم : ان القانون يحظر حمل أعلام ايوكا , فرد عليه  ستيليو بأن علم اليونان الذى هو شعارنا القومى ليس علما محظورا , ولقد جئنا لاسترداده منكم .

     عندها ابتسم الضابط وطلب الى التلاميذ الانتظار برهة ريثما يتدبر الأمر ومرت لحظات ممضة عاد الضابط بعدها وبرفقته احد الجنود يحمل الأعلام وكانت مطوية طيا أنيقا , وعندما كان يتم تسليمها وقف الضابط رافعا يديه بالتحية .

التواصل :
     رجل البوليس وهو راكب دراجته البخارية , سائق العربة , الطبيب يتفقد مرضاه ؟ الفتاة فى طريقها الى الجبل لمباشرة حديقتها الصغيرة او مشتل لها فى أحد أطراف الوادى , الطالب فى طريقه الى المدرسة , شيخ يزور قريبا له فى أحدى القرى , كل واحد من هؤلاء قد يكون حاملا معه رسالة شفهية او مكتوبة من منظمة أيوكا أو اليها . وقد وضعت ايوكا شفرة خاصة بها لاستخدامها فى نقل تعليماتها بالبريد او بالتليفون , كما كانت تحتفظ بسائقيها الخاصين بها بالرغم من أن تبادل الأسلحة ونقلها كان يتم فى معظم الاحوال بالطرق العادية وتحت ستار برىء لدرجة ان سيارات الشرطة نفسها ومع وجود البوليس المسلح فيها قد تكون محملة ببعض صناديق ذخيرة لايصالها الى رجال منظمة ايوكا حيث يتسلمها أحد أصحاب المقاهى الذى يسلمها بدوره الى أشخاص معينين .


   ويمر شيخ يتوكأ على عصاه ولكن قد يكون فى طرف عصاه بعض كبسولات الديناميت كعصى الراهبين الذين حملوا فى قديم الزمان دودة القز من الصين الى الشام .

وسائل النقل :
     وقد يعهد الى سائق سيارة يعمل فى احدى شركات النقل فى اكسيروس بايصال سله من التوت  الى مورفو ويكون فى جوفها مسدس . وقد تمر امرأتان تسوقان حمارا يحمل على ظهره سلتين من السلال المحلية الطويلة مملوءتين بالسماد الحيوانى – تمران بمجموعة من رجال الأمن مهمتهم تفتيش جميع الداخلين الى القرية والخارجين منها فيقوم رجال هؤلاء بتفتيش السلتين , غير ان الرائحة الكريهة التى تنبعث منها قد تمنعهم من تفتيش السلتين حتى قاعيها مع ان بداخلهما مدفعين رشاشين صغيرين ! كما ان الأدوات الموسيقية وشنط اليد النسائية , وأكياس الدقيق وعلب الفاكهة المحفوظة وأقراص الرغيف – كل هذه الأشياء قد يكون بداخلها شىء او بعض الأسلحة الفتاكة .

خلف خطوط العدو :
    ومن ناحية اخرى كان موقف الصحافة فى قبرص عموما موقفا محايدا مما دعا ديجينيس مرارا وتكرارا الى أن يشكوها الى رياسة المجلس الكنسى , ولعل القوانين الصارمة كانت السبب فى تردد الصحفيين فى ابداء ارائهم مما جعل الأغلبية منهم يكتفون بنشر التقارير الرسمية والنشرات الحكومية . 

ولم يبق من الصحفيين فى الميدان غير شارلس فولى وهو صحفى انكليزى كان يعمل محررا سابقا للشئون الخارجية فى صحيفة الديلى اكسبريس ,وقد ألف هذا الصحفى كتابا عن أوتو سكورزينى بعنوان (الكومندو الفريد) وكان الصحفى الوحيد الذى يستطيع ان يعكس عذر الوقف وخطورته ,

ولما كان هذا الصحفى مؤمنا بأن الحرية للشعوب هى كالماء والطعام للانسان وبأن القبارصة يخوضون كفاحا عادلا فقد منحهم تأييده كله برغم أنه لم يذهب الى قبرص وفى ذهنة نية مبيتة لكى يصبح نيرون الثورة القبرصية .

 كان هذا الصحفى طويل القامة ضامر البنية عليه سيما الرجل المثقف , ومع أنه لم يكن مولعا بحب الظهور والحذلقة البالية التى من خصائص الشعراء , فأن دوره فى معركة قبرص كان دورا مؤثرا , وان كان قد كلفه ذلك الكثير من المعاناة .

 لقد وجد نفسه مضطرا الى مهاجمة حكومة بلده , الامر الذى كاد يعرضه الى قطع صلته بأبناء وطنه القاطنين فى قبرص . لقد خلق منه ضميره الحر حليفا لشعب لم يكن يعرف عن تاريخه ولغته الا النزر اليسير , ولكنه كان قد اختار طريقه الذى لم يكن يزعزعه عنه شىء قط .


      واخيرا افتتح فولى مجلة نصف شهرية باللغة اليونانية , واطلق عليها الاسم الذى كان يطلقه على صحيفته الأنكليزية وكرسها كلها لكفاح قبرص ولمعالجة ادابها وثقافتها .

حرب العصابات في قبرص 11

حرب العصابات في قبرص 11


      لقد كانت حركه التحرير القبرصية حركة ذات مضمون دينى عميق الجذور

 وتتجلى هذه الحقيقة فى الشعارات التى كانت تنادى بها الحركة والتى كانت تتكرر فى العبارات التالية : (اسم الثالوث المقدس) , وبعون الله ونستعين بالله فى اعمالنا فلقد كانت ايوكا شأنها شأن قدماء البيزنطيين تعد الشعب والدين شيئا واحدا لا انفصال لأحدهما عن الاخر

, ومما يدل على ذلك أن الشعب لم يكن ينظر الى مكاريوس كزعيم للكنيسة ورئيس اسقفتها فحسب , بل كزعيم للامه .

 واذا كان هذا المضمون الوحدوى للحركة مصدر قوة ايوكا فانه يمثل نقطة ضعفها فى الوقت نفسه وذلك فيما يتعلق بالروابط السياسية التى تربط اليونانيين بالاتراك .

      كانت الهجمات التى شنتها ايوكا صبيحة الاول من ابريل هجمات واسعة النطاق , وكانت على شىء من التنسيق مما يقطع بأن وراءها قوة موجهة واحدة وأن القائمين بها عناصر لها الالمام والخبرة بالفنون العسكرية , فلم تكن عملا من أعمال الهواة او الاستراتيجيين السياسيين الذين يعتمدون على حماس الأحزاب , كما ان الحرص الشديد الذى أبداه رماة القنابل ومفجرو الالغام للحيلولة دون وقوع خسائر فى الارواح قد فسر وبالأخص من جانب السلطات المسئولة على انه تخطيط يقصد به حقن الدماء خشية ما قد يترتب على ذلك من عواقب وخيمة .

    غير ان الحقيقة انه وراء كل ذلك تكمن خطط محدودة الهدف , منها اثارة اكبر ضجة ممكنة وانزال اكبر ضرر بالممتلكات الحكومية واثاره اقصى ما يمكن من الصعوبات فى وجه الاداه الحكومية املا فى تعدل الحكومه البريطانيه من سياستها وتقوم بمفاوضة القبارصة حول مستقبل بلدهم .

     اجل لقد خيل للقبارصة , على هذا الاساس انهم سيحصلون بدورهم على حقوقهم الوطنيه , غير انهم لم يحصلوا على شىء بمجرد المطالبة به مما اضطرهم الى اتباع الوسائل الحقيقة للظفر بمطالبهم , وهكذا اذا ما سدت الابواب فى وجه الشعوب المكافحة وحيل بينها وبين طريقها الطبيعى فى تحقيق التقدم تجد لسوء الحظ انه لا مناص لها من اللجوء الى الخنجر والمسدس والقنبلة , ففى مثل هذه المواقف تعد القوة مبررا اخلاقيا لتحقيق الهدف الوطنى .

      قد توالت الهجمات على المراكز والمنشات البريطانية وان لم تزد من حيث الشدة والنطاق , بل اصبحت تتم على فترات متقطعة , وكانتتسبب اضرار اقل مما سببته فى الليله الاولى .

      الحماس وحده لا يكفى اعداد الفرد للعمل الثورى , بل لابد من الاعتماد على التدريب والنظام لابقاء الثورة فى ميدان المعركة , وكان هذا ما يشغل بال ديجينيس بصورة رئيسية خلال الشهور التالية .

      لكن البوليس والجيش سرعان ما اكتشفا بعض المخابىء السرية , وصادرا منها كميات من السلاح والمواد المتفجرة كانت مخبأة فيها , وكان منها بعض الاسلحة والمسدسات الاوتوماتيكية بكميات كبيرة .
    ان هذا الحادث بالاضافة الى عدد من الاعتقالات التى قام بها البوليس واكتشافه لاسماء بعض قادة الحركة ارغمت ايوكا الى اللجوء الى الكفاح السرى , كما غرزت الاعتقاد بأن منظمة ايوكا يجب القضاء عليها وهى فى المهد حتى لا تشكل اى خطر , ولم يكن احد يدرك وقتئذ ان تلك العمليات ماهى الا مقدمات , وان الخطط قد وضعت لصراع طويل الاجل وان منظمه ايوكا كانت تمارس نشاطها لتوسيع نطاق عملياتها وتعبئة الشباب والفلاحين على مراى من رجال البوليس .

      من طبيعة الثورات الوطنية ان تترك اثرها على الافراد بصورة اقوى مما تتركه الحروب نفسها , والقضيه تتفرع على وجه التقريب الى اتجاهين واضحى المعالم : الامه فى جانب , والدولة المسيطرة فى جانب آخر , ويصبح قول الشاعر : بلادى وان جارت على عزيزة – هو المتنفس الوحيد لضمير الامة .


     هل ستعمد الحكومة الى فرض الأحكام العرفية وتطبيق نظام حظر الجولان ؟
     هل ستحل الأحزاب ؟
   وهل ستفرض الحظر والرقابة على الصحف ؟

    وأخيرا هل ستعلن الحكم العسكرى وتعطى البوليس صلاحيات أوسع على غرار ما فعلت فى سنة 1930 ؟ 

حرب العصابات في قبرص 10

حرب العصابات في قبرص 10


     تم تحديد آلية ما الذى ستبدأ فيه الحركه عملياتها ضد السلطات البريطانية , وأصر مكاريوس على ان تقتصر العمليات على المراكز الحكوميه والنشأت العسكريه , وعلى ان تتفادى من ايقاع خسائر فى الارواح كما رفض اقتراحا تقدم به ديجينيس لشن نوع من حرب العصابات محتجا بان مثل هذه الحرب سوف تؤدى الى سفك الدماء .

الثورات ليست طريقا مفروشا بالورود

     فى الساعات الاولى من صباح الاول من ابريل سنه 1955 استيقظ سكان المدن الرئيسيه فى قبرص على دوى سلسله من الانفجارات تهزها هزا عنيفا , وقد تبين فيما بعد ان هجمات قد شنت على دور الحكومه والمنشات والمبانى العسكريه ومرتكز البوليس وقدرت الخسائر الناتجه عن تلك الانفجارات وما سببته من الحرائق بنحو 60000 جنيه استرلينى .

     ففى مدينه نيقوسيا شملت الانفجارات محطه الاذاعه ومكتب سكرتير وزاره المستعمرات , ومبنى اداره التعليم وثكنات وولزلى كما هوجمت فى كل من مدينتى لارناكا مراكز البوليس ودور المحاكم , وشهدت اجزاء اخرى من قبرص هجمات مماثله كانت اهدافها الرئيسيه مركز البوليس , والنشات العسكريه . ولم تقع اية خسائر فى الارواح فى جميع هذه العمليات باستثناء احد الشبان القبارصه اليونانيين الذى صعقه التيار الكهربائى عندما كان يحاول قطع احد الاسلاك الكهربيه , وقد عثر على جثته تحت برج الاسلاك الكهربيه .

    
     وفى الوقت نفسه كانت المنشورات توزع فى مدينه نيقوسبا وفى جميع انحاء الجزيره تعلن للشعب بدء الجهاد , وكانت هذه المنشورات تحمل اسم ايوكا وتوقيع ديجينيس , وقد استهلت منظمه ايوكا البيان ( بالابتهال الى الله عز وعلا بان يمدها بالعون والاعراب عن ايمانها المطلق بعداله الكفاح القومى لتحرير البلاد من الحكم البريطانى كما حث البيان شعب قبرص على ان يثبت للعالم انه جدير بتاريخ اسلافه اليونانيين وان يبرهن على ذلك بالاعمال كما اكد البيان للشعب بأن العدالة والحق انما هما فى جانب المناضلين ) .

    ومضى البيان يذكر الدبلوماسيين الدوليين من اعذاء الامم المتحدة بما فعلته ايديهم ويخاطبهم قائلا : ( انه لمن العار فى القرن العشرين ان تجد شعوبا كثيره انها مضطره الى سفك دماء بنائها من اجل الحصول على حريتها , الحريه التى ناضل القبارصه من اجلها جنبا الى جنب مع الدول الديمقراطيه فى صراعها ضد الفاشستيه فى الحرب العالمية الثانية ) .

      واختتم البيان كلمته بالشعار التالى : ( هيا معا الى الامام من اجل حرية قبرص ) .

     كان هذا البيان دعوة صريحة الى الثورة المسلحة
 وكان اول نداء يوجهه مواطن يونانى وضابط فى الجيش اليونانى الى القبارصة فى قبرص وذلك منذ عهد ايفاغوراس ملك سلاميس (المدينة التى كانت قائمة بجوار مدينة فاماجوستا الحلية) والذى قاد حربا استمرت عشرين عاما للاطاحه بحكم الفرس قبل 25 قرنا مضت .


   كان البيان ايذانا ببدء الثوره فى قبرص .