22‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 31

حرب المستضعفين 31


إن حالة التخلف السائدة في المنطقة، ونسبة المواليد المرتفعة تجعلان المشاريع الاقتصادية، المماثلة لمشروع (الحلف من أجل التقدم) مجرد مسكنات، لا ترتقي إلى مستوى العلاج الجذري. ويشكل الإصلاح الزراعي الخطوة الأولى، ويأتي التصنيع بعدهوهو مستحيل بدون إيجاد الأسواق، ومحو الأمية، ووجود استثمارات ضخمة، وعلى نطاق واسع لم يُعرف من قبل.

وقبل التفكير في هذه الخطوات العملاقة، لا بد من تغيير سياسي جذري. فطالما أن الولايات المتحدة الأمريكية، متحالفة مع حكومات فاسدة ومستبدة ولا تمثل الشعب، وطالما أنا تدافع عن المصالح المستثمرة في أمريكا اللاتينية، وخاصة المصالح الأمريكية، فإن المرجل سيبقى مغلقاً، وسيزداد الضغط الثوري في داخله، حتى يحدث الانفجار المحتوم.

إن من الممكن حقاً، دعم حكمات ديكتاتورية بالمساعدة الاقتصادية والعسكرية، كما يمكن الحصول على التعاون رالرشوة والإكراه الاقتصادي، وخنق الحركات الثورية في المهد ( وتلك هي اللحظة المناسبة للقضاء عليها )، لكن الظروف تبقى على حالها، وستولد حركات أخرى بالتأكيد.

من هنا نرى، أن من الضروري التصدي لمشكلة العلاقات مع أمريكا اللاتينية، من زاوية جديدة كلياً.

ولكي نبدأ في ذلك، ينبغي التخلي عما يسمى بالعون العسكري – تلك الرشوة المعطاة باسم الدفاع عن نصف الكرة، لاكتساب ود الأوليغارشيه الحاكمة، التي لا تحتاج للدبابات أو الطائرات إلا من أجل تخويف الشعوب، التي تدّعي تمثيلها.

أما الخطوة الثانية – وهي منطقية أيضاً، لكنها شديدة الصعوبة، بسبب الحقائق الداخلية في الولايات المتحدة – فتتمثل بإعلان نظام جديد للتعامل الاقتصادي مع أمريكا اللاتينية، يضع حداً للعلاقات التجارية المخادعة، والأحلاف التجارية وحيدة الجانب، والابتزاز الاقتصادي، التي يستخدمها صناعيو أمريكا الشمالية، من أجل السيطرة على الأسواق والمستهلكين في أمريكا اللاتينية.

أما الخطوة الثالثة، وهي الأكثر راديكالية وصعوبة، فتتمثل في (احتضان الثورة).

إن من المتعذر إلغاء الثورة، ولكن بالإمكان توجيهها، وليس من الخطأ العمل على توجيهها في منحى يجعل أضرارها قليلة ما أمكن.

من المتعارف عليه في أمريكا اللاتينية، أن أبناء الطبقة الوسطى وطبقة المستخدمين من (ذوي الياقات البيض) يمارسون القيادة الثورية أكثر من الحالات، توجيه حركة شعبية نحو طريق بورجوازية أو ليبرالية، تقوم على قاعدة من الاشتراكية المحدودة تقودها حكومة ترفع يافطة الاشتراكية، وتنفيس الضغط الثوري ببعض الإصلاحات الجذرية، التي يعتبر الإصلاح الزراعي أكثرها ضرورة وإلحاحاً.

فإذا لم يتحقق هذا الحل، يبقى الخيار محصوراً بين الاشتراكية الديمقراطية والماركسية – اللينينية بأشكالها المختلفة.

وعندما نتأمل التجربة الكوبية نجد بأنه منذ العام 1958، لم تتخذ الولايات المتحدة في أية مرحلة اختيارات مستقلية خلاقة.

ففي العام 1957، وطوال العام 1958، كان بإمكان واشنطن خنق الثورة الكوبية بالتخلي صراحة عن باتيستا، وبتأييد، بل وبدعم الحركة الديمقراطية البورجوازية الليبرالية، التي كان يقودها فيديل كاسترو، ولو حدث ذلك، لاشتد ساعد العناصر الوطنية والليبرالية التي كانت تدعم كاسترو. وتناقص اعتبار المتطرفين المعادين للولايات المتحدة، وخاصة شيوعي (الحزب الاشتراكي الشعبي)، الذي لم يكن يتمتع آنذاك بشعبية مماثلة لشعبية (حركة 26 تموز).

وكانت إمكانية الخيار موجودة في العام 1959، وخلال جزء كبير من العام 1960. إلا أنه كان من المتأخر جداً إجهاض الثورة. وكانت الإجراءات الأمريكية الإيجابية آنذاك تتطلب تضحية بمصالح مالية كبيرة، على اعتبار أن تطبيق الإصلاح الزراعي من قبل الفيديليين كان ضرورة جلية، وتنفيذاً لوعد لم يكن بالإمكان التخلي عنه. ولو أن واشنطن ساعدت ذلك العمل بدلاً من الوقوف في سبيله، لكان تصرفها دليلاً على الفطنة. وقد كان من الممكن أن يتم الاستيلاء على ممتلكات أمريكية أخرى. ولكن إضفاء الطابع الاشتراكي على الاقتصاد الكوبي، كان سيؤدي – في أسوأ الحالات – إلى خسارة مالية محدودة، بينما تبقى مصالح هامة أخرى سليمة، كالحفاظ على سوق كانت بالنسبة للأمريكيين آنذاك في المرتبة السادسة من حيث الأهمية والحفاظ على علاقات تجارية ومصرفية مجزية جداً، وبالإضافة إلى تموين بالسكر ثابت ومضمون، وأخيراً وبشكل خاص، الحفاظ في بحر الأنتيل على جار ودود، بدلاً من خلق قاعدة معادية للحرب الباردة.

إن الاندفاع في حملة الخنق الاقتصادي والديبلوماسي، لم يؤد إلى الانقطاع عن كوبا فحسب، بل أدى أيضاً إلى دفعها في الاتجاه الوحيد الذي بقي أمامها، وهو اتجاه الارتباط المباشر الوثيق بالاتحاد السوفياتي. وقد يقال بأن كاسترو وأنصاره كانوا يرغبون في السير على هذا الاتجاه، لكن ذلك لا يغير شيئاً من الحقيقة القائلة بأنه كان بالإمكان تغيير مسار الأمور، وكل الاعتبارات الجغرافية والاقتصادية تقود بالضرورة إلى هذه النتيجة.

فغداً، أو في السنة القادمة أو في السنة التي تليها، قد تتواجد خيارات مماثلة (وهي تبدو في الأفق منذ الآن) – في بلاد نصف الكرة التي تعتبرها الولايات المتحدة وكأنها لها. ومن المؤكد أن الثورة لن تقتصر على بلد واحد أو بضعة بلدان، فهي في طور المخاض في كل بلدان العالم الثالث النامي، وكل شيء يتحرك في الاتجاه ذاته، بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وتحت تأثير الضرورة السياسية.

فإما أن تلجأ الولايات المتحدة إلى التفاهم الضروري مع قوى الثورة، وإما أن تخاطر في النهاية بتدمير نفسها. ولا يعني التفاهم الضروري مع قوى الثورة، وإما أن تخاطر في النهاية بتدمير نفسها. ولا يعني التفاهم قبول المحتوم فحسب، بل يعني أيضاً مشاركته وذلك يتضمن:

إعلان حرب ديبلوماسية واقتصادية على الاوليغارشيات الأمريكية اللاتينية ( الزمر العسكرية الحاكمة في أمريكا اللاتينية )، كالحرب التي أعلنها على كوبا، وقطع الصلات مع الاوليغرشيات التي تقاوم ذلك أو تقوم بالرد عليه.

تقديم مساعدة فعالة إلى المجموعات الثوريةالمختارة بشكل مناسب – بالأسلحة والأموال والمستشارين انطلاقاً من المبدأ القائل، أنه إذا كان برنامجنا الحالي الخاص بتقديم الدعم العسكري للديكتاتوريات، قيامنا بإسقاط الأسلحة بالمظلات في الاسكامبري، وإنزالنا في خليج الخنازير، عبارة عن أعمال تنسجم مع القانون الدولي، أو تشكل خرقاً مبرراً له، فإن بالإمكان تبريرها بشكل أفضل، عندما تتم الخدمة قضية أفضل.

أن نعلن بصراحة تأييدنا للثورة، حتى نسحب البساط من تحت أقدام موسكو وبكين، ونقدم للعالم الثالث الوليد خياراً آخر غير نظام الماركسية – اللينينية، وغير الامبريالية الغربية (التي تدعى قيادة العالم الحر).

ولا يزال هذا التوجه قابلاً للتطبيق بالنسبة إلى كوبا وحتى الآن. إننا نساعد تيتو، فلماذا لا نساعد كاسترو؟ وقد يبدو في ذلك تناقض لا بد من السعي إلى تبديده. من المؤكد أنه لم يكن لدى تيتو قواعد للصواريخ الذرية، لكنه لم يتعرض مطلقاً للاجتياح، ولم يكن بالتالي بحاجة إليها.

قد يكون بالإمكان ترك كاسترو وشأنه، على اعتبار أن كوبا المعزولة هي منزوعة السلاح. ولكن كوبا شيء وأمريكا اللاتينية شيء آخر. إنها قارة أكبر مساحة من قارتنا وأكثر سكاناً. وسيؤدي تخمرها عند استمراره إلى انجارات كاسحة.

إن التصدي للثورة في نصف الكرة الغربي يعني التورط في حرب طويلة الأمد، وغير مجدية، ولا يمكن كسبها. وهو يعني اختيار أعمال الشغب، والاضرابات، وأعمال التخريب، والانتفاضات الدامية، والفوضى السياسية والاقتصادية على نطاق لم يسبق له مثيل، والتي ستبلغ أوجها حتماً بمجموعة من حروب العصابات، تمتد من المكسيك إلى الأرجنتين، وتتطلب مواجهتها زج إعداد أكبر فأكبر من الجنود الأمريكيين، في هجمات عديمة الأهداف، ومعارك بلا انتصارات، وتضحيات بلا مقابل، تنتهي في آخر المطاف بهزيمة باهظة التكاليف.

إن مصالحة الثورة تعني التخلي عن الجزء الأعظم من العشرين مليار دولار المستثمرة في أمريكا اللاتينيةذلك هو المتوقع. كما أنها تعني التضحية بكثير من المميزات التي نحصل عليها، بفضل الاتفاقيات التجارية المخادعة، واليد العاملة المحلية التي يقوم عليها جزء كبير من رخائنا.

بيد أن بالإمكان اعتبار الخسارة المحتملة وكأنها نوع آخر من الاستثمارات، تعوض العشرين مليار دولار المخصصة لصالح ( الحلف من أجل التقدم ). وعلى المدى الطويل، تصبح المكاسب أعظم بكثير من أية كمية من الدولارات. وهي تتضمن قبل كل شيء الاحتفاظ بمدخل مضمون للمواد الأولية التي تعتمد عليها الصناعة الأمريكية بشكل كامل.

أما التجارة القائمة على قاعدة أكثر إنصافاً فإنها ستكون مضمونة، وسترافقها أمكانية توسيع الأسواق لمنتجاتنا المصنعة والزراعية، نظراً لارتفاع الأجور، وازدياد استهلاك الملايين من البشر المتحررين من العبودية والواصلين فعلاً إلى القرن العشرين..

إن كل هذا سيوفر عنصر الأمن الذي يبدو أنه يشغل بال صانعي سياستنا، فمن غير المعقول أن ترغب الولايات المتحدة في العيش داخل قارة مجزأة، يكُنُّ لها نصف سكانها العداء. إن الأمن الوحيد المحتمل يكمن في رخاء متبادل حقيقي، يقوم بالضرورة على عدالة اجتماعية، تكون الثورة في أمريكا اللاتينية.


إن أمامنا سبيلين: التقدم والرخاء والأمن من جهة، والكارثة الأكيدة من جهة أخرى. وليس لحرب العصابات سوى منفذ واحد هو الثورة، وليس لها سوى علاج واحد هو السلام. وقد يقول البعض أنه استسلام. وحتى لو صح ذلك، فإنه سيكون استسلام القوة أمام العقل. وهو استسلام قائم على الاعتراف بحقيقة راسخة، هي أنه لا يمكن استعباد أي شعب، إذا كان يعارض ذلك.

حرب المستضعفين 30

حرب المستضعفين 30



ما هو مستقبل حركات العصابات الثورية في الأنحاء الأخرى من العالم؟ لقد ظهر في البداية، في أفريقيا السوداء أن نهاية الاستعمار الأوروبي وولادة الجمهوريات تشكلان افتتاح عهد من التقدم السلمي. ثم تبيّن فيما بعد أن اختفاء الاستعما الأجنبية، الغربية على الأقل.

وكثير من الأمم الأفريقية الجديدة، إن لم يكن معظمها، بقي مؤقتاً ضمن الفلك الغربي. أي أن هذه الأمم بقيت خاضعة للنفوذ أو للإشراف السياسي والاقتصاد لأسيادها الاستعماريين القدامى، أو الكتلة الصناعية الغربية بمجموعها، وبقية حكوماتها، في الوقت الحاضر، مؤيدة للاتفاقات التي تسمح للغرب الصناعي باستغلال الموارد الطبيعية والبشرية في أفريقيا.

وفي أمكنة أخرى من القارة، استمرت أقليات استعمارية على تقلد زمام الحكم.

وفي الدول الأفريقية كلها، بلا استثناء، يبدو أنه من الممكن أن نؤكد، بأن انتشار الثورة بواسطة حرب العصابات، كالنار تحت الرماد، ليس عبارة عن احتمال فقط، بل هو شبه حقيقية، وذلك بقدر ما تكتشف الشعوب البدائية، التي تشكل الغالبية العظمى، أثناء خروجها من مرحلة القبلية، بأنها لا يمكن أن تُحكم، أو أن تستغل بدون رضاها.

وما هو صحيح بالنسبة إلى أفريقيا السوداء، ينطبق أيضاً على الجزء الأعظم من آسيا، وعلى البلاد العربية، والأهم من ذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة هو أنه ينطبق على أمريكا اللاتينية كلها تقريباً.

وتحتوي المناطق النامية من الكرة الأرضية، على أهم الموارد المادية العالمية غير المستغلة، المواد الأولية الضرورية للصناعة. ولذلك تقوم القوى الصناعية بالتنازع عليها. وتحتوي هذه المناطق أيضاً على الجزء الأعظم من سكان العالم، وأكثر سكان الأرض جوعاً. وتتزايد بالتالي متطلباتهم عاماً بعد عام.

كيف يمكن فرض الوصاية على هؤلاء السكان المتزايدين، والذين يزداد جوعهم أكثر فأكثر، والذين يعون بشكل متزايد حقيقة الثروات المحيطة بهم، ويتعلمون دروس حرب العصابات – وهم يتعلمونها – بسرعة؟ إن فرض الوصاية في هذه الحالة غير ممكن.

وفي الماضي، كان أي استعمار، أو أي حاكم محلي، أو أي قوة من الدرك قادراً على القيام بذلك. ولقد برهنت الثورة الكوبية بأنه لا يمكن فعل ذلك أبداً، بعد أن تنمو حركة حركة عصابات ثورية مصممة، وحتى الجيوش الممكنة للدول الصناعية فإنها غير قادرة. وقد ظهر البرهان على ذلك في فيتنام والجزائر. وتسهل الأرض، وتوزيع السكان، وطبيعة الصراع المحددة بأهداف الصراع ذاتها، عمل الثوريين الموجودين بحكم القوة.

وغداً، ستنبثق في أفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا، جيوش العصابات، من جموع المعدمين، والفلاحين الجائعين وسكان الأكواخ المدينية، أي من بين أولئك الذين يمتلكون الشرط الأول لحرب العصابات: وهو: أنهم لا يملكون شيئاً يفقدونه إلا حياتهم.

وسينطلقون من اليد العاملة المنتجة في البلدان الخاضعة أكثر من غيرها للاستغلال. وهنا تكون المعركة نصف ظافرة، سلفاً، لأن من المتعذر الحصول على العمل بقتل العمال.

وسيقاتل الثوار على أرض يعرفونها جيداً، وتلائم نشاطاتهم الثورية في الجبال والغابات، والمستنقعات، حيث ليس للدبابات والمدافع والطائرات سوى أثر ضئيل. وسيتوافر لديهم التمويه الطبيعي، ومصدر التموين، ومصلحة استخبارات من السكان الذين ينتمون إليهم، وحيث لا يمكن القضاء عليهم بدون إبادة الاقتصاد والموارد، التي تشكل بالضبط غايات الصراع.

كيف نقاتل ثوار العصابات المنتشرين في كل مكان؟

لو استطاع التفوق التكنولوجي أن يفعل ذلك، لانتهت الحرب في فيتنام منذ أمد طويل. فالولايات المتحدة تنفق فيها مبالغ خيالية، وهي تخسر الآن هذه الحرب، أمام عدو أقل عدداً، ومجهز بشكل سيء، لأن الغنى التكنولوجي، على القوى الشعبية، التي تستعمل تكتيك حرب العصابات، على أرض مألوفة لديها، وبين سكان يؤيدونها.


  


وعلى كل حال، فإن فيتنام لا تمثل إلا مسرحاً محدوداً. ومع هذا، فإن كلفة الحرب فيها مرتفعة جداً، فماذا يحدث لو امتد الحريق إلى كل جنوبي شرقي أسيا، واشتعلت في أفريقيا بسكانها المائتين والخمسين مليوناً من السكان، ووصلت إلى أمريكا اللاتينية، حيث يتواجد نفس المقدار من الجائعين والهائجين؟

وتشكل أمريكا اللاتينية، أو لا بد أن تشكل، والهم الأساسي للولايات المتحدة. فهي تحتوي بشكل كامن، على كل عناصر الثورة، التي يمكن أن تؤثر جذرياً على اقتصاد أمريكا الشمالية، ومكانة الولايات المتحدة بين الدول العظمى، في السنوات القليلة المقبلة.

فعلى بابها الخلفي، وعلى ما يقرب من عشرة آلاف كيلومتر، من ( ريوغراند ) إلى، ( أرض النار )، تمتد ساحة معركة الغد، أنها قارة من الدغلات الكثيفة، والغابات العذراء، والجبال الشاهقة، والسهول القاحلة، والأكواخ المدينية، التي تضم كل العنـاصر – الاجتماعية والسياسية والايديولوجية والاقتصادية والديموغرافية – اللازمة لثورة عنيفة.

فإذا كانت الأسلحة الأمريكية عاجزة عن سحق الانتفاضة في فيتنام الجنوبية، حيث يعيش ستة عشر مليون نسمة فقط، فكيف بإمكانها أن تتفوق في البرازيل على سبيل المثال؟ حيث يتجاوز عدد السكان 75 مليون نسمة، حيث تغطي الغابات العذراء نصف مساحة البلاد، التي لا تقل عن 8.215.680 كيلومتراً مربعاً.. وليست المسألة أكاديمية تماماً، فلقد وصلت البرازيل سابقاً إلى عتبة الثورة، ولدى جيرانها نفس القوة التفجيرية الكامنة.

وإذا كانت الولايات المتحدة عاجزة عن جمع الأعداد الكافية لاحتلال جنوبي شرقي آسيا – ويدل الاحتجاج المنبعث في الكونغرس، عند كل إعلان عن خسائر عسكرية جديدة، على المأزق السياسي – فكيف يكون بإمكانها احتلال جبال ( الأنديز )، التي يبلغ طولها 6500 كيلومتر؟ ومع ذلك، فإن هذا ما يجب عليها مواجهته، إذا انتشرت الأفكار السائدة في جنوبي شرقي آسيا، إلى منطقة أشد قرباً منها، وأكثر حيوية بالنسبة إليها.

وتوجد نفس الخمائر الثورية، لكن بدرجات متفاوتة، في جمهوريات أمريكا اللاتينية العشرين، من المكسيك حتى الأرجنتين، كما توجد نفس التفاوتات الفاضحة في توزيع الثروات، ونفس الأكواخ البغيضة، والبطالة، وفساد الحكومات التي تدّعي الديمقراطية، ونسبة مواليد مرتفعة تفوق كثيراً معدل التقدم الاقتصادي. وفي كل مكان، تشكل الرغبة الشعبية الواسعة في التقدم، الدافع الأقوى للعمل السياسي.

فالهنود الحمر في غواتيمالا – الذين لا يمتلكون الاسبانية أو بعضاً منها الذين يعيشون في أدنى مستوى – يشكلون ثلثي السكان. ويسيطر الملاك العقاريون والاقطاعيون، ومن بينهم ( شركة الفواكه المتحدة الأمريكية )، على كل الزراعة التجارية في البلاد. أما الجيش الذي يحمل ثلث ضباطه رتبة عقيد ( أعلى رتبة عسكرية عندهم )، فإنه يقوم بقمع أعمال الشغب الطلابية، والتي تنفجر من آن لآخر في العاصمة، فتمتلئ السجون بالمعتقلين السياسيين.

أما الانقلاب الموحى به من قبل الولايات المتحدة، والذي أدى إلى قلب حكومة ( جاكوبو أربينز ) في العام 1954، فقد ألغى الاصلاحات الاجتماعية، البسيطة التي كان قد بدأها النظام يساري – ولكن لم يحمل أي علاج للآفات اندلعت حرب العصابات في البلاد.

وفي السلفادور، تحتل بضع ملكيات شاسعة، من مزارع الموز والبن، نصف الأراضي القابلة للزراعة و80% من المزارع الصغيرة التي تقل مساحة الواحدة منها عن ستة هكتارات، أما المائتا ألف فلاح الذين يعيشون فيها، فإنهم يحصلون منها بصعوبة على ما يسد رمقهم.

وفي عام 1954، قدّر الدخل السنوي الفردي في الأكوادور بثمانمائة فرنك (فرنسي)، لكن ثاثي العائلات كانت تكسب أقل من ستمائة فرنك. أما في تشيلي الغنية بالموارد المنجمية، فإن أكثر من نصف السكان الريفيين يعيشون على دخل عائلي سنوي يتراوح بين 500 و 580 فرنكاً. وفي الأقليم الشمالي من البرازيل، حيث يسود الجفاف، فإن الدخل الفردي يصل إلى 375 فرنكاً.

وفي أمريكا اللاتينية كلها، انتشر الاحتكار بشكل جعل 10% من الملاك يمتلكون 90% من الأرض. وتصل مساحات (اللاتيفونديا) ( المزارع الشاسعة ) إلى عدة آلاف من الهكتارات، يزرعها عاملون يعيشون في أكواخ وبيوت صغيرة، ويتقاضون أجوراً زهيدة، هذا إذا دفعت لهم. أما العشرة بالمائة الباقية من الأرض، فهي مجزأة إلى عشرات الألوف من (المينيفونديا) ( المزارع الصغيرة )، وهي صغيرة بحيث لا يمكن أن تعطي ربحاً فائضاً يسمح بشراء الأسمدة، أو الآلات الزراعية أو الوسائل الأخرى اللازمة لتحسين الإنتاج.

ويعيش ملايين الريفيين في جنوب أمريكا دون أن يبيعوا أو يشتروا، وعلى هامش مجتمع ليس لهم فيه حصة أو صوت. أما في الغابات الاستوائية، حيث يعيش مئات الألوف من الناس على إحراق جزء آخر بعد أن تفقد الأرض الأولى خصوبتها، وذلك طبقاً لقاعدة قديمة استخدمت قبل قدوم الفاتحين بزمن طويل.

ويدفع النمو السكاني (الديموغرافي) والمجاعة مئات الألوف من الفلاحين للبحث عن عمل في المدن، وينشأ عن ذلك شكل جديد من المعدمين. وفي ريو دو جانيرو، يطلقون اسم (فافيلاس) على الجحور القائمة على حافة المرتفعات المحيطة بالمدينة، وهي منضدة بعضها فوق البعض الآخر، ولا ماء فيها، وتحتوي على مائتين وخمسين ألفاً من السكان، وتشكل غابة بشرية، لا تجرؤ الشرطة على دخولها. وتدعى الجحور في سانتياغو دو تشيلي (كالامباس) أي الفطر. أما في ليما (البيرو)... ، واسمها في كاراكاس (فنزويلا) هو (رانشوز). وكل هذه المصطلحات تعني تجمعات بائسة، تجتاحها الأمراض، وتعبث فيها الجرذان، ويعيش بدون قانون، وفي مستوى إنساني متدنٍ، وليس لها أي مستقبل أو أمل، سوى الأمل بانلاع الثورة.

ولا تولد الثورة من مجرد الفقر، ولكن التقدم، يؤدي إلى تشكيل مزيج جديد، هو الأمل بتغير اجتماعي. ويتعزز هذا الأمل بفضل التعليم الأولي، فيولد عن ذلك عنصر اجتماعي جديد، هو الفقير الطموح، الفقير الرافض المتمرد. ومن هؤلاء الفقراء تشكل كوادر الثورة التي ليس لديها ما تفقده وترى حولها الكثير مما يمكنها أن تكسبه.

فبدون شعارات ثورية واضحة، وبدون قادة محركين ومقنعين، وبدون تنظيم سياسي، عاشت أجيال من سكان الأكواخ، وماتت في البؤس، وحرثت أجيال من الفلاحين الأرض، ولم يندلع سوى عدد قليل من الثورات الحقيقية.

ماذا تغير في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين؟

أولاً، لقد أضحى الفقراء أشد فقراً، وأكثر عدداً وأكثر يأساً. وحدثت زيادة في السكان لا مثيل لها، وكانت في الحقيقة انفجاراً سكانياً، أدى إلى تناقص الدخل الفردي وإمكانات السكن، ونقصان السلع الاستهلاكية، وفرص العمل، وماء الشرب. ففي فنزويلا مثلاً، وصلت الزيادة في السكان خلال 10 سنوات، إلى مليون ونصف من البشر، أي بمعدل 30%. وفي البرازيل ارتفع عدد السكان في الفترة (1945-1955) من 25 مليوناً إلى سبعين مليوناً، ثم وصل في العام 1963، إلى 75 مليوناً، أي أن الزيادة وصلت إلى 44% خلال 18 عاماً. ومن العام 1951 إلى العام 1961، ازداد عدد سكان جمهوريات أمريكا اللاتينية العشرين، من 163 مليوناً إلى 206 ملايين نسمة تقريباً، أي بمعدل أربعة ملايين كل سنة، ومن المقدر أن يصل عدد السكان إلى 265 مليوناً في العام 1970

أما التوسع الاقتصادي، فلقد بقي متخلفاً جداً، إذ ازداد الانتاج العام سنة 1960، بمقدار 0.3% فقط، ونقص الانتاج الزراعي بنسبة 2%، بينما ازداد عدد السكان بمقدار 2.8%.

وتغنينا هذه الأرقام عن التعليقات. ففي أمريكا اللاتينية، وفي كل يوم، هناك أفواه جائعة أكثر، لا بد من إطعامها بكمية من الغذاء أقل نسبياً. ومع ذلك، وهذا هو الغريب في الأمر، فإن طلبات الناس تزداد بدلاً من أن تنقص.

ويرجع ذلك إلى أن الفقراء قد ازدادوا فقراً، إلا أنهم ازدادوا وعياً، بالثروات التي تحيط بهم وبالامكانات التي يمكنهم اقتسامها.

وفي نفس الوقت الذي حصل فيه الانفجار السكاني، حدثت ثورة في وسائل الاتصال، ونتج عن ذلك ما سُمي ( بثورة الآمال المتزايدة ). ففي ريو دي جانيرو انتصبت غابة من هوائيات التلفزيون فوق الأكواخ. صحيح أن سكان الجحور بائسون، لكن ذلك لم يمنعهم من رؤية التطورات الصناعية الهامة التي تحيط بهم، أو من سماع الوعود التي تمنحها لهم البرامج المعدّة باسمهم. ولقد بدأوا يفقدون صبرهم، لأن هذه الوعود لا تتحقق.

ففي معسكرات العاملين في الجزء الشمال الشرقي من البرازيل، تحدثهم الإذاعة عن الثورة الكوبية، وعن المعارك في فيتنام الجنوبية، وعن أعمال الشغب في بناما وهارلم. والعاملون في المزارع الكبرى فقراء، لكنهم لا يجهلون ما يمكن لرجال مثلهم أن يفعلوا، وما يمكن أن يحققوا من نتائج.

ولا يخلق ذلك الوعي طبقة ثورية، بل قاعدة ثورية. والتقدم الاقتصادي – وإن كان محدوداً – يشكل في حد ذاته قوة ثورية. والتثقيف الشعبي الذي ينتشر ببطء، يحفز الطموح والتنافس الاجتماعيين. كما أن التجارة والصناعة، حتى لو كانتا على نطاق محدود، فإنهما تسببان حركة اجتماعية. ويناصل أغنياء جدد، إلى جانب النخبة القديمة، من أجل الوصول إلى السلطة. وتتشكل طبقة وسطى. ويظهر القادة الثوريون قبل كل شيء، بين موظفي المكاتب والمستخدمين المحتقرين من الطبقة الوسطى والنخبة معاً. وبما أنهم غير قادرين على الانضمام إلى قضيتهما، أو الطموح إلى ميزاتها، فإنهم يتبعون الطريقة الوحيدة المفتوحة أمام طموحهم: المعارضة الاشتراكية، ويجعلون من أنفسهم مدافعين عن الفقراء والمحرومين.


وهكذا يخلق انتشار الفقر قاعدة ثورية، ويقدم التطور القادة ودوافع العمل، وتبرز من جراء ذلك، منظمات سياسية، وتمدها الظروف الاجتماعية بالشعارات. ونظراً لوجودالقهر الاجتماعي والاقتصادي الذي يسود أمريكا اللاتينية، فإننا لن نفاجأ عندما نلاحظ بأن القاعدة الايديولوجية (الفكرية) لمعظم حركات المعارضة هي ماركسية وقومية في الوقت ذاته، ومعادية للولايات المتحدة.

ونظراً لما للولايات المتحدة من استثمارات، ولسيطرتها على الصناعات الحيوية – من حيث سعر المبيع للمواد الأولية وسعر شراء المنتجات المصنعةولتدخلاتها المتعددة في السياسة الأمريكية اللاتينية، فإنها تلعب دور (القبيح).

وبالإضافة إلى ذلك، فقد كشفت واشنطن بوضوح عداءها لحركات التحرر، منذ اندلاع الثورة الكوبية، عندما أعلنت عن نيتها بالتدخل عسكرياً إذا لزم الأمر، لمنع الشيوعيين من (استلام السلطة)، في نصف الكرة الغربي.

ويعرف الأمريكيون اللاتينيون جيداً، بأن كل تغير قادر على الإساءة إلى المصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية الأمريكية، سيعتبر بمثابة استيلاء على السلطة، من قبل الشيوعيين – نظراً لأن تعابير الشيوعية، والاشتراكية، ومعاداة الامبريالية، متشابهة تقريباً في مفردات لغة الشمال الأمريكي – ولذلك يبدو واضحاً بأن الحرب قد أُعلنت.

ولقد حدثت المناوشات الأولى فعلاً. فحركات حرب العصابات موجودة، منذ زمن طويل في فنزويلا وغواتيمالا وكولومبيا، وهي تشتد حيناً وتضعف حيناً آخر. ولقد أُشير إلى عدة اضطرابات في بوليفيا والتشيلي والبيرو، وفي الأرجنتين، وستتلوها حوادث أخرى حتماً. فالمليونان من بطاقات الاقتراع، البيرونية، في الأرجنتين، خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لا يمكن اعتبارها بمثابة أصوات ثقة، في مراكز السلطة التي توجهها الولايات المتحدة أو في أوساط ( الحلف من أجل التقدم )، وهو حلف طموح، ولكنه بطيء في أفعاله، رغم كل نواياه الحسنة.

إن القول: بأن أمريكا اللاتينية تقف اليوم على عتبة الثورة، قول فيه شيء من المبالغة. فلقد كان للحلف من أجل التقدم (رفم أخطائه) أثر نافع في بعض المناطق، كما أن التدخل الأمريكي، نجح مؤقتاً في منع البرازيل من الانزلاق، نحو اليسار. والشيوعيون الأمريكيون اللاتينيون منقسمون، مثل الأحزاب الشيوعية الوطنية في العالن الغربي. وقد كان من المتوقع، أن يقدم الشيوعيون قادة للحركات العمالية، والفلاحية، لكنهم مشلولون بسبب واقعهم المحافظ، وقصورهم، ودوغمانيتهم. ولقد تفاهموا في كثير من الحالات من الحكومات القائمة واكتفوا بالحد الأدنى من النشاط. أما التجاوب الذي حصل عليه الفيدليون في البداية، فلقد خبا تدريجياً لأن الثورة الكوبية لم تحقق كل وعودها. وكثير من الذين كانوا يتعاطفون مع فيديل كاسترو لأنه تحدى العملاق الأمريكي، ويتعاطفون مع المحن التي عانت منها الجزيرة المحاصرة، ابتعدوا عن كاسترو بسبب تحالفه مع موسكو، ومساهمته في الحرب الباردة. وكانت أزمة الصواريخ في تشرين أول 1962، بمثابة درس جيد في هذا المضمار. وقد خاب أمل الطبقة الوسطى في أمريكا اللاتينية، بعد أن رأت ما حلّ بالطبقة الوسطى في كوبا، بعد الانتصارات الأولى للثورة.

ومع هذا، فإن وجود قاعدة وخمائر ثورية في أمريكا اللاتينية حقيقة لا جدال حولها. فبذور الانتفاضة الشعبية منتشرة في كل الاتجاهات، ويستطيع الناس جميعاً أن يتعلموا تقنياتها. وقد لا تكون الثورة على نطاق واسع، وشيكة الوقوع، لكنه من الممكن القول بأن الولايات المتحدة، ستجد نفسها، خلال السنين العشرة القادمة، أمام معارضات جسيمة لاتجاهها السياسي، وأمام تهديدات لمصالحها الاقتصادية، وربما كذلك لأمنها في نصف الكرة الغربي... وفي مختلف أنحاء العالم الثالث. وقد تصبح أمريكا الوسطى فيتناماً أمريكية منذ الغد، كما قد تنقلب البرازيل إلى كونغو، وتتحول فنزويلا إلى جزائر، وتصبح جبال الأنديز ( حسب تعبير فيديل كاسترو ) (سييرا ماسترا) أكثر اتساعاً.


فكيف نمنع ذلك؟

حرب المستضعفين 29

حرب المستضعفين 29



الفصل الثاني عشر

حرب العصابات
في العالم الثالث
والسياسة الأمريكية الجديدة


حرب العصابات في العالم الثالث القاعدة الثورية
التوقعات المستقبلية للولايات المتحدة – مقترحات حول
سياسة أمريكية جديدة في أمريكا اللاتينية.

 

عندما نأخذ في الاعتبار مختلف الوجوه التاريخية والنظرية والعملية لحرب العصابات، يتضح لنا رسوه نقطتين:

النقطة الأولى، هي أن حرب البرالبرغوث بشكلها الحالي، ليست فقط حرباً شعبية، بل أنها أيضاً حرب المعدمين في العالم، وهي السلاح المتاح بشكل طبيعي للشعوب المقهورة الخاضعة للاستغلال. أي أنها في الخلاصة سلاح ثوري.

أما النقطة الثانية، فهي أن الولايات المتحدة بحكم سيطرتها، تجد نفسها – شاءت أم أبت – تلعب دوراً مضاداً للثورة. وبما أن الولايات المتحدة هي أكبر قوة في العالم اقتصادياً وعسكرياً، وبلد أكبر رجالات المصارف والصناعة وحراس النظام الرأسمالي للاقتصاد الحر ( الذي تشكل الديمقراطية الليبرالية، والحكومة الدستورية، جزءاً منه )، فإنها بالطبيعة والضرورة، حليفة للمصرفين والملاك العقاريين ولمن وظفوا أموالهم في كل مكان. وبالرغم من تقاليدها وتشدقها الكلامي، فإن سياستها الخارجية الرامية إلى بقاء الوضع الراهن، والراغبة في التطور الاجتماعي الهادئ، والمتعارضة مع الثورة الراديكالية، هي سياسة معادية للشعوب، في كل مرة تهدد فيها الحركات الثورية المصالح الموظّفة. وإذا صدف أحياناً وعارضنا مثل هذه المصالح، فإن ذلك لا يكون إلا من أجل تسهيل مصالح أشد أهمية.. هي مصالحنا.

وتؤكد الحرب الباردة ذلك. فقد تصدت الولايات المتحدة للشيوعية لتدافع عن الملكية الخاصة والاقتضاد الحر من جهة، ولأن الشيوعية تشكل عاملاً للتوسعية الصينية والسوفياتية من جهة أخرى. ولقد اعتُبرت الكتلتان الصينية والروسية منافستين من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وتشكلان تهديدات عسكرية محتملة.

ومعظم الحركات الثورية التي تنفجر في العالم، هي إما شيوعية تماماً، أو ذات ايديولوجية ماركسية – لينينية، أو على الأقل ذات ميول اشتراكية ( أي أنها تهديد للاقتصاد الحر ) ولذا فإنه من غير المدهش أن نرى الولايات المتحدة تتصدى لها. والمثلان الرئيسيان على ذلك هما فيتنام والكونغو. وحتى عندما لا يكون الهدف الثوري هو الاشتراكية، بل الاستقلال الاقتصادي أو عدم التبعية السياسية، فإن الولايات المتحدة، الراغبة في ضمان استثماراتها وتوسيع نفوذها وأسواقها، لا نستقبل أي ثورة بالترحاب .

والنتيجة: أن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها، تصطدمان مع ثورة الجماهير المسحوقة في البلدان النامية. والنهاية المنطقية هي تماماً ما حدث في فيتنام، أي المواجهة بين الغنى والنفوذ والقدرة الصناعية التسلح الحديث، وبين حركات حرب العصابات في كل المناطق، حيث تتواجد مصالح أمريكية هامة.

وتقودنا دراسة حركات حرب العصابات، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الاستنتاج التالي: إن الولايات المتحدة تتقدم ببطءنحو نزاع عالمي الطابع، لا يمكن أن تربحه.

وليست أسباب هذا الاستنتاج غامضة.

إن حرب العصابات، كما رأينا، حرب شعبية بشكل أو بأخر. إنها صراع الأمم ضد المعتدين الأجانب، كما رأينا، أو أنها أجزاء ثائرة من مجتمع ضد الطبقات الحاكمة، نزاع بين المستَغلين والمستغِلين، بين المحكومين والحاكمين.

ففي قبرص مثلاً يمكن أن نرى بشكل سطحي، أن غريفاس حصل على جلاء البريطانيين بواسطة الابتزاز، وأنه لم يجبرهم على الرحيل. إن ذلك صحيح إذا نظرنا إلى مسألة من اتجاه معين، لكن يجب رؤية الأمور جيداً، ومن جميع الزوايا. إن غريفاس ومجموعته الصغيرة من الإرهابيين لم يكونوا ليقدروا على تحقيق تلك النتيجة، دون المعونة الإيجابيةوالسلبية للأغلبية العظمى من القبارصة، ولقد كانت ( إيوكا ) تشكل تعبيراً عن الإرادة الشعبية، لذا فإنه لم يكن بوسع البريطانيين البقاء، إلا إذا شنوا الحرب على كل السكان. ففضلوا الرحيل، تماماً كما حصل في ايرلنده.

وناه أمثلة أخرى أكثر وضوحاً. فلم يكن باتيستا قادراً على قتال الثوار دون أن يقاتل الشعب الكوبي. وفي النهاية، ظهرت موارده غير كافية لهذا العمل، فانهار نظامه.

ولقد حاول الفرنسيون الاحتفاظ بمصالحهم في الهند الصينية والجزائر، فحملوا السلاح ضد الإرهابيين، ووجدوا أنفسهم في كلتا الحالتين، يشنون معارك خاسرة مسبقاً، ضد المد الصاعد للانتفاضة الشعبية. وكان بإمكانهم من الناحية النظرية إخضاع الجزائر ( كما جرى ذلك قبل قرن )، عن طريق إنفاق مال أكثر، وتجنيد قوات أعظم، وتبنى أساليب أكثر صرامة. ولكن هل كان بإمكانهم فعل ذلك في العام 1962؟ كلا، لأسباب اقتصادية وسياسية داخلية، وبسبب الموقف العالي. ويمكننا أن نتساءل: ترى هل كلن النجاح يستحق العناء المطلوب لتحقيقه، حتى لو كانت الإرادة والوسائل متوافرة لتحقيقه.

هنا تكمن المسألة الحاسمة في عصرنا، في كل النزاعات بين القدرة العسكرية والانتفاضة الشعبية. وتواجه الولايات المتحدة اليوم هذه المسألة، أو أنها ستواجهها غداً.

إن سيطرة دولة ما على مستعمرة، يستهدف استغلال هذه المستعمرة اقتصادياً، أو الإفادة منها لخدمة هدف سياسي. ولا تقوم أي دولة بدعم نظام سياسي أو اقتصادي ضد آخر، إلا لأنها تنتظر الحصول على فوائد من النظام المدعوم. فالحكم هو جمع ثمار السلطة السياسية، مهما كانت طبيعة هذه الثمار.

ومع ذلك، وفي عصرنا هذا، لم يعد بالإمكان استعمار أو حكم بلد ما، أو تكريس سلطة حكومية محلية عملية – وبقول آخر استغلالها – دون موافقة المستغلين، فبقتلهم يقهر المستعمر نفسه، في حين أن استعبادهم صعب، إن لم يكن مستحيلاً في إطار الحقائق السياسية والاقتصادية الحالية. وهذا هو ما يضمن نجاح أية حركة تحرير شعبية بعد انطلاقها. وهذا هو أيضاً المأزق الذي يجد واضعوا السياسة الأمريكية أنفسهم فيه، منذ بدء تعاملهم مع حروب العصابات المعادية للولايات المتحدة.

ففي القرن الماضي، استطاعت الحكومة سحق القبائل الهندية في أمريكا الشمالية، لأن هذه القبائل لم تكن تتمتع بأي وزن سياسي أو اقتصادي، كما أنها كانت تشكل أقلية غير ذات أهمية، وبعيدة عن السكان البيض من كل وجهات النظر. فقد كان المطوب هو الحصول على أراضي الهنود وليس على يدهم العاملة أو تجارتهم أوتعاونهم. وأمكن في النتيجة القضاء عليهم بدون أي ضرر. لقد كان ذلك مطلوباً حقاً، من وجهتي النظر الاقتصادية والسياسية، ولهذا تحقق.

بيد أن الأمور تغيرت. والمطلوب اليوم هو اليد العاملة، وما تنتجه. وليس للمواد الأولية، الموجودة في المناطق النامية، أية فائدة بالنسبة إلى الدول الصناعية الكبرى، بدون الجهد البشري الذي يجعلها قابلة للاستعمال (النحاس في تشيلي والنفط في فنزويلا بالنسبة للولايات المتحدة مثلاً). وتتطلب القواعد الاستراتيجية خدمات السكان المحليين وتعاونهم، كما أن الصناعة بحاجة إلى أعداد هائلة من اليد العاملة، وإلى أسواق هامة ومتزايدة أكثر فأكثر حتى تصرف منتجاتها.

في مثل هذه الظروف، يكون إخماد تحركات المقاومة الشعبية بالقوة عملاً ضاراً. فإذا كانت القوة غير كافية نمت المقاومة، وإذا تجاوزت الحد الضروري أدت إلى تدمير غايتها، وكانت أشبه بقتل الحصان لأنه رفض أن يجر العربة.

وعند تبني حل التدمير، فإن ذلك لا يكون إلا لسبب هو: حرمان طرف ثالث من هدف النزاع. وينطبق هذا الوضع على فيتنام الجنوبية، التي لا تمثل في حد ذاتها، قيمة الولايات المتحدة، إلا إذا كانت قيمة سلبية، باعتبارها إهراء للأرز الذي لا بد من منعه عن الصينيين الجائعين.

إن الخيار القائم في فيتنام واضح تماماً: إذا تعذر علينا إقناع السكان الثائرين يتبنى حل مقبول من الأمريكيين ( والأمل في تحقيق ذلك معدوم تقريباً )، لا يعود أمامنا سوى أن نخوض حرب اسعباد ضد الشعب الفيتنامي، بالاشتراك مع من بقي من عناصره حليفاً لنا، أو أن نبحث عن حل يقبله هذا الشعب، وذلك بأن نمهد للمفاوضات مع الفيتكونغ، أو أن نبحث عن حل يقبله هذا الشعب، وذلك بأن نمهد للمفاوضات مع الفيتكونغ، أو أن نترك كل شيء نهائياً، فيجد الفيتناميون الحل بأنفسهم.

وهناك احتمال رابع، وهو في جوهره بديل مضخَّم عن الأول وتستطيع الولايات المتحدة بموجبه أن تغير صفة الحرب، أو على الأقل صفتها الظاهرية، وذلك عن طريق توسيعها، الأمر الذي يعني الهجوم على هانوي وبالتالي على الصين. فإذا ما شنت الولايات المتحدة هذه الحرب، وبعد إعطائها التقديم المناسب، فقد تبدو عندما مبررة أمام الشعب الأمريكي وحلفائه، وبالرغم من المخاطر الضخمة والنفقات التي يتطلبها ذلك، على حين لا يمكن تبرير حرب تسير إلى الضياع وعلى مسرح فيتنام الضيق. ففي إطار حرب عامة، لا شك أن شطري فيتنام الشمالي والجنوبي سيصبحان محتلين، وموضوعين تحت الحكم العرفي، وعندما يمكن تصفية الحركة الشيوعية بقوة عسكرية ساحقة.

وماذا بعد ذلك؟ إن احتلال جنوبي شرقي آسيا ( لأنه لا يمكن الاقتصار على فيتنام ) يشكل، من حيث الأعداد والوسائل التي يتطلبها، عبثاً لا يمكن أن يحتمل، بالنسبة إلى الاقتصار والناخبين في الولايات المتحدة، ولن تكون أية فائدة معقولة باستثناء إمكانية استخدام جنوبي شرقي آسيا كقاعدة ضد الصين في الحرب التي ستلي ذلك. ولم الحرب، ولأية غاية؟ إن النزاع الهائل، والطويل، والعبثي، الذي ينتج عنها، حتى لو فرضنا أنه بقي محصوراً في آسيا – الأمر الذي لا يمكن التأكد منه – نزاع يتجاوز التصور، ولو قارناه بالحرب الكورية الدامية وال ر من معظم أجزاء القارة، لم يكن النهاية، بل كان بداية النزاع الثوري، الذي يهدف إلى تدمير كل المصالح مكلفة، لبدت أحداث كوريا، كلعبة أطفال.