22‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 30

حرب المستضعفين 30



ما هو مستقبل حركات العصابات الثورية في الأنحاء الأخرى من العالم؟ لقد ظهر في البداية، في أفريقيا السوداء أن نهاية الاستعمار الأوروبي وولادة الجمهوريات تشكلان افتتاح عهد من التقدم السلمي. ثم تبيّن فيما بعد أن اختفاء الاستعما الأجنبية، الغربية على الأقل.

وكثير من الأمم الأفريقية الجديدة، إن لم يكن معظمها، بقي مؤقتاً ضمن الفلك الغربي. أي أن هذه الأمم بقيت خاضعة للنفوذ أو للإشراف السياسي والاقتصاد لأسيادها الاستعماريين القدامى، أو الكتلة الصناعية الغربية بمجموعها، وبقية حكوماتها، في الوقت الحاضر، مؤيدة للاتفاقات التي تسمح للغرب الصناعي باستغلال الموارد الطبيعية والبشرية في أفريقيا.

وفي أمكنة أخرى من القارة، استمرت أقليات استعمارية على تقلد زمام الحكم.

وفي الدول الأفريقية كلها، بلا استثناء، يبدو أنه من الممكن أن نؤكد، بأن انتشار الثورة بواسطة حرب العصابات، كالنار تحت الرماد، ليس عبارة عن احتمال فقط، بل هو شبه حقيقية، وذلك بقدر ما تكتشف الشعوب البدائية، التي تشكل الغالبية العظمى، أثناء خروجها من مرحلة القبلية، بأنها لا يمكن أن تُحكم، أو أن تستغل بدون رضاها.

وما هو صحيح بالنسبة إلى أفريقيا السوداء، ينطبق أيضاً على الجزء الأعظم من آسيا، وعلى البلاد العربية، والأهم من ذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة هو أنه ينطبق على أمريكا اللاتينية كلها تقريباً.

وتحتوي المناطق النامية من الكرة الأرضية، على أهم الموارد المادية العالمية غير المستغلة، المواد الأولية الضرورية للصناعة. ولذلك تقوم القوى الصناعية بالتنازع عليها. وتحتوي هذه المناطق أيضاً على الجزء الأعظم من سكان العالم، وأكثر سكان الأرض جوعاً. وتتزايد بالتالي متطلباتهم عاماً بعد عام.

كيف يمكن فرض الوصاية على هؤلاء السكان المتزايدين، والذين يزداد جوعهم أكثر فأكثر، والذين يعون بشكل متزايد حقيقة الثروات المحيطة بهم، ويتعلمون دروس حرب العصابات – وهم يتعلمونها – بسرعة؟ إن فرض الوصاية في هذه الحالة غير ممكن.

وفي الماضي، كان أي استعمار، أو أي حاكم محلي، أو أي قوة من الدرك قادراً على القيام بذلك. ولقد برهنت الثورة الكوبية بأنه لا يمكن فعل ذلك أبداً، بعد أن تنمو حركة حركة عصابات ثورية مصممة، وحتى الجيوش الممكنة للدول الصناعية فإنها غير قادرة. وقد ظهر البرهان على ذلك في فيتنام والجزائر. وتسهل الأرض، وتوزيع السكان، وطبيعة الصراع المحددة بأهداف الصراع ذاتها، عمل الثوريين الموجودين بحكم القوة.

وغداً، ستنبثق في أفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا، جيوش العصابات، من جموع المعدمين، والفلاحين الجائعين وسكان الأكواخ المدينية، أي من بين أولئك الذين يمتلكون الشرط الأول لحرب العصابات: وهو: أنهم لا يملكون شيئاً يفقدونه إلا حياتهم.

وسينطلقون من اليد العاملة المنتجة في البلدان الخاضعة أكثر من غيرها للاستغلال. وهنا تكون المعركة نصف ظافرة، سلفاً، لأن من المتعذر الحصول على العمل بقتل العمال.

وسيقاتل الثوار على أرض يعرفونها جيداً، وتلائم نشاطاتهم الثورية في الجبال والغابات، والمستنقعات، حيث ليس للدبابات والمدافع والطائرات سوى أثر ضئيل. وسيتوافر لديهم التمويه الطبيعي، ومصدر التموين، ومصلحة استخبارات من السكان الذين ينتمون إليهم، وحيث لا يمكن القضاء عليهم بدون إبادة الاقتصاد والموارد، التي تشكل بالضبط غايات الصراع.

كيف نقاتل ثوار العصابات المنتشرين في كل مكان؟

لو استطاع التفوق التكنولوجي أن يفعل ذلك، لانتهت الحرب في فيتنام منذ أمد طويل. فالولايات المتحدة تنفق فيها مبالغ خيالية، وهي تخسر الآن هذه الحرب، أمام عدو أقل عدداً، ومجهز بشكل سيء، لأن الغنى التكنولوجي، على القوى الشعبية، التي تستعمل تكتيك حرب العصابات، على أرض مألوفة لديها، وبين سكان يؤيدونها.


  


وعلى كل حال، فإن فيتنام لا تمثل إلا مسرحاً محدوداً. ومع هذا، فإن كلفة الحرب فيها مرتفعة جداً، فماذا يحدث لو امتد الحريق إلى كل جنوبي شرقي أسيا، واشتعلت في أفريقيا بسكانها المائتين والخمسين مليوناً من السكان، ووصلت إلى أمريكا اللاتينية، حيث يتواجد نفس المقدار من الجائعين والهائجين؟

وتشكل أمريكا اللاتينية، أو لا بد أن تشكل، والهم الأساسي للولايات المتحدة. فهي تحتوي بشكل كامن، على كل عناصر الثورة، التي يمكن أن تؤثر جذرياً على اقتصاد أمريكا الشمالية، ومكانة الولايات المتحدة بين الدول العظمى، في السنوات القليلة المقبلة.

فعلى بابها الخلفي، وعلى ما يقرب من عشرة آلاف كيلومتر، من ( ريوغراند ) إلى، ( أرض النار )، تمتد ساحة معركة الغد، أنها قارة من الدغلات الكثيفة، والغابات العذراء، والجبال الشاهقة، والسهول القاحلة، والأكواخ المدينية، التي تضم كل العنـاصر – الاجتماعية والسياسية والايديولوجية والاقتصادية والديموغرافية – اللازمة لثورة عنيفة.

فإذا كانت الأسلحة الأمريكية عاجزة عن سحق الانتفاضة في فيتنام الجنوبية، حيث يعيش ستة عشر مليون نسمة فقط، فكيف بإمكانها أن تتفوق في البرازيل على سبيل المثال؟ حيث يتجاوز عدد السكان 75 مليون نسمة، حيث تغطي الغابات العذراء نصف مساحة البلاد، التي لا تقل عن 8.215.680 كيلومتراً مربعاً.. وليست المسألة أكاديمية تماماً، فلقد وصلت البرازيل سابقاً إلى عتبة الثورة، ولدى جيرانها نفس القوة التفجيرية الكامنة.

وإذا كانت الولايات المتحدة عاجزة عن جمع الأعداد الكافية لاحتلال جنوبي شرقي آسيا – ويدل الاحتجاج المنبعث في الكونغرس، عند كل إعلان عن خسائر عسكرية جديدة، على المأزق السياسي – فكيف يكون بإمكانها احتلال جبال ( الأنديز )، التي يبلغ طولها 6500 كيلومتر؟ ومع ذلك، فإن هذا ما يجب عليها مواجهته، إذا انتشرت الأفكار السائدة في جنوبي شرقي آسيا، إلى منطقة أشد قرباً منها، وأكثر حيوية بالنسبة إليها.

وتوجد نفس الخمائر الثورية، لكن بدرجات متفاوتة، في جمهوريات أمريكا اللاتينية العشرين، من المكسيك حتى الأرجنتين، كما توجد نفس التفاوتات الفاضحة في توزيع الثروات، ونفس الأكواخ البغيضة، والبطالة، وفساد الحكومات التي تدّعي الديمقراطية، ونسبة مواليد مرتفعة تفوق كثيراً معدل التقدم الاقتصادي. وفي كل مكان، تشكل الرغبة الشعبية الواسعة في التقدم، الدافع الأقوى للعمل السياسي.

فالهنود الحمر في غواتيمالا – الذين لا يمتلكون الاسبانية أو بعضاً منها الذين يعيشون في أدنى مستوى – يشكلون ثلثي السكان. ويسيطر الملاك العقاريون والاقطاعيون، ومن بينهم ( شركة الفواكه المتحدة الأمريكية )، على كل الزراعة التجارية في البلاد. أما الجيش الذي يحمل ثلث ضباطه رتبة عقيد ( أعلى رتبة عسكرية عندهم )، فإنه يقوم بقمع أعمال الشغب الطلابية، والتي تنفجر من آن لآخر في العاصمة، فتمتلئ السجون بالمعتقلين السياسيين.

أما الانقلاب الموحى به من قبل الولايات المتحدة، والذي أدى إلى قلب حكومة ( جاكوبو أربينز ) في العام 1954، فقد ألغى الاصلاحات الاجتماعية، البسيطة التي كان قد بدأها النظام يساري – ولكن لم يحمل أي علاج للآفات اندلعت حرب العصابات في البلاد.

وفي السلفادور، تحتل بضع ملكيات شاسعة، من مزارع الموز والبن، نصف الأراضي القابلة للزراعة و80% من المزارع الصغيرة التي تقل مساحة الواحدة منها عن ستة هكتارات، أما المائتا ألف فلاح الذين يعيشون فيها، فإنهم يحصلون منها بصعوبة على ما يسد رمقهم.

وفي عام 1954، قدّر الدخل السنوي الفردي في الأكوادور بثمانمائة فرنك (فرنسي)، لكن ثاثي العائلات كانت تكسب أقل من ستمائة فرنك. أما في تشيلي الغنية بالموارد المنجمية، فإن أكثر من نصف السكان الريفيين يعيشون على دخل عائلي سنوي يتراوح بين 500 و 580 فرنكاً. وفي الأقليم الشمالي من البرازيل، حيث يسود الجفاف، فإن الدخل الفردي يصل إلى 375 فرنكاً.

وفي أمريكا اللاتينية كلها، انتشر الاحتكار بشكل جعل 10% من الملاك يمتلكون 90% من الأرض. وتصل مساحات (اللاتيفونديا) ( المزارع الشاسعة ) إلى عدة آلاف من الهكتارات، يزرعها عاملون يعيشون في أكواخ وبيوت صغيرة، ويتقاضون أجوراً زهيدة، هذا إذا دفعت لهم. أما العشرة بالمائة الباقية من الأرض، فهي مجزأة إلى عشرات الألوف من (المينيفونديا) ( المزارع الصغيرة )، وهي صغيرة بحيث لا يمكن أن تعطي ربحاً فائضاً يسمح بشراء الأسمدة، أو الآلات الزراعية أو الوسائل الأخرى اللازمة لتحسين الإنتاج.

ويعيش ملايين الريفيين في جنوب أمريكا دون أن يبيعوا أو يشتروا، وعلى هامش مجتمع ليس لهم فيه حصة أو صوت. أما في الغابات الاستوائية، حيث يعيش مئات الألوف من الناس على إحراق جزء آخر بعد أن تفقد الأرض الأولى خصوبتها، وذلك طبقاً لقاعدة قديمة استخدمت قبل قدوم الفاتحين بزمن طويل.

ويدفع النمو السكاني (الديموغرافي) والمجاعة مئات الألوف من الفلاحين للبحث عن عمل في المدن، وينشأ عن ذلك شكل جديد من المعدمين. وفي ريو دو جانيرو، يطلقون اسم (فافيلاس) على الجحور القائمة على حافة المرتفعات المحيطة بالمدينة، وهي منضدة بعضها فوق البعض الآخر، ولا ماء فيها، وتحتوي على مائتين وخمسين ألفاً من السكان، وتشكل غابة بشرية، لا تجرؤ الشرطة على دخولها. وتدعى الجحور في سانتياغو دو تشيلي (كالامباس) أي الفطر. أما في ليما (البيرو)... ، واسمها في كاراكاس (فنزويلا) هو (رانشوز). وكل هذه المصطلحات تعني تجمعات بائسة، تجتاحها الأمراض، وتعبث فيها الجرذان، ويعيش بدون قانون، وفي مستوى إنساني متدنٍ، وليس لها أي مستقبل أو أمل، سوى الأمل بانلاع الثورة.

ولا تولد الثورة من مجرد الفقر، ولكن التقدم، يؤدي إلى تشكيل مزيج جديد، هو الأمل بتغير اجتماعي. ويتعزز هذا الأمل بفضل التعليم الأولي، فيولد عن ذلك عنصر اجتماعي جديد، هو الفقير الطموح، الفقير الرافض المتمرد. ومن هؤلاء الفقراء تشكل كوادر الثورة التي ليس لديها ما تفقده وترى حولها الكثير مما يمكنها أن تكسبه.

فبدون شعارات ثورية واضحة، وبدون قادة محركين ومقنعين، وبدون تنظيم سياسي، عاشت أجيال من سكان الأكواخ، وماتت في البؤس، وحرثت أجيال من الفلاحين الأرض، ولم يندلع سوى عدد قليل من الثورات الحقيقية.

ماذا تغير في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين؟

أولاً، لقد أضحى الفقراء أشد فقراً، وأكثر عدداً وأكثر يأساً. وحدثت زيادة في السكان لا مثيل لها، وكانت في الحقيقة انفجاراً سكانياً، أدى إلى تناقص الدخل الفردي وإمكانات السكن، ونقصان السلع الاستهلاكية، وفرص العمل، وماء الشرب. ففي فنزويلا مثلاً، وصلت الزيادة في السكان خلال 10 سنوات، إلى مليون ونصف من البشر، أي بمعدل 30%. وفي البرازيل ارتفع عدد السكان في الفترة (1945-1955) من 25 مليوناً إلى سبعين مليوناً، ثم وصل في العام 1963، إلى 75 مليوناً، أي أن الزيادة وصلت إلى 44% خلال 18 عاماً. ومن العام 1951 إلى العام 1961، ازداد عدد سكان جمهوريات أمريكا اللاتينية العشرين، من 163 مليوناً إلى 206 ملايين نسمة تقريباً، أي بمعدل أربعة ملايين كل سنة، ومن المقدر أن يصل عدد السكان إلى 265 مليوناً في العام 1970

أما التوسع الاقتصادي، فلقد بقي متخلفاً جداً، إذ ازداد الانتاج العام سنة 1960، بمقدار 0.3% فقط، ونقص الانتاج الزراعي بنسبة 2%، بينما ازداد عدد السكان بمقدار 2.8%.

وتغنينا هذه الأرقام عن التعليقات. ففي أمريكا اللاتينية، وفي كل يوم، هناك أفواه جائعة أكثر، لا بد من إطعامها بكمية من الغذاء أقل نسبياً. ومع ذلك، وهذا هو الغريب في الأمر، فإن طلبات الناس تزداد بدلاً من أن تنقص.

ويرجع ذلك إلى أن الفقراء قد ازدادوا فقراً، إلا أنهم ازدادوا وعياً، بالثروات التي تحيط بهم وبالامكانات التي يمكنهم اقتسامها.

وفي نفس الوقت الذي حصل فيه الانفجار السكاني، حدثت ثورة في وسائل الاتصال، ونتج عن ذلك ما سُمي ( بثورة الآمال المتزايدة ). ففي ريو دي جانيرو انتصبت غابة من هوائيات التلفزيون فوق الأكواخ. صحيح أن سكان الجحور بائسون، لكن ذلك لم يمنعهم من رؤية التطورات الصناعية الهامة التي تحيط بهم، أو من سماع الوعود التي تمنحها لهم البرامج المعدّة باسمهم. ولقد بدأوا يفقدون صبرهم، لأن هذه الوعود لا تتحقق.

ففي معسكرات العاملين في الجزء الشمال الشرقي من البرازيل، تحدثهم الإذاعة عن الثورة الكوبية، وعن المعارك في فيتنام الجنوبية، وعن أعمال الشغب في بناما وهارلم. والعاملون في المزارع الكبرى فقراء، لكنهم لا يجهلون ما يمكن لرجال مثلهم أن يفعلوا، وما يمكن أن يحققوا من نتائج.

ولا يخلق ذلك الوعي طبقة ثورية، بل قاعدة ثورية. والتقدم الاقتصادي – وإن كان محدوداً – يشكل في حد ذاته قوة ثورية. والتثقيف الشعبي الذي ينتشر ببطء، يحفز الطموح والتنافس الاجتماعيين. كما أن التجارة والصناعة، حتى لو كانتا على نطاق محدود، فإنهما تسببان حركة اجتماعية. ويناصل أغنياء جدد، إلى جانب النخبة القديمة، من أجل الوصول إلى السلطة. وتتشكل طبقة وسطى. ويظهر القادة الثوريون قبل كل شيء، بين موظفي المكاتب والمستخدمين المحتقرين من الطبقة الوسطى والنخبة معاً. وبما أنهم غير قادرين على الانضمام إلى قضيتهما، أو الطموح إلى ميزاتها، فإنهم يتبعون الطريقة الوحيدة المفتوحة أمام طموحهم: المعارضة الاشتراكية، ويجعلون من أنفسهم مدافعين عن الفقراء والمحرومين.


وهكذا يخلق انتشار الفقر قاعدة ثورية، ويقدم التطور القادة ودوافع العمل، وتبرز من جراء ذلك، منظمات سياسية، وتمدها الظروف الاجتماعية بالشعارات. ونظراً لوجودالقهر الاجتماعي والاقتصادي الذي يسود أمريكا اللاتينية، فإننا لن نفاجأ عندما نلاحظ بأن القاعدة الايديولوجية (الفكرية) لمعظم حركات المعارضة هي ماركسية وقومية في الوقت ذاته، ومعادية للولايات المتحدة.

ونظراً لما للولايات المتحدة من استثمارات، ولسيطرتها على الصناعات الحيوية – من حيث سعر المبيع للمواد الأولية وسعر شراء المنتجات المصنعةولتدخلاتها المتعددة في السياسة الأمريكية اللاتينية، فإنها تلعب دور (القبيح).

وبالإضافة إلى ذلك، فقد كشفت واشنطن بوضوح عداءها لحركات التحرر، منذ اندلاع الثورة الكوبية، عندما أعلنت عن نيتها بالتدخل عسكرياً إذا لزم الأمر، لمنع الشيوعيين من (استلام السلطة)، في نصف الكرة الغربي.

ويعرف الأمريكيون اللاتينيون جيداً، بأن كل تغير قادر على الإساءة إلى المصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية الأمريكية، سيعتبر بمثابة استيلاء على السلطة، من قبل الشيوعيين – نظراً لأن تعابير الشيوعية، والاشتراكية، ومعاداة الامبريالية، متشابهة تقريباً في مفردات لغة الشمال الأمريكي – ولذلك يبدو واضحاً بأن الحرب قد أُعلنت.

ولقد حدثت المناوشات الأولى فعلاً. فحركات حرب العصابات موجودة، منذ زمن طويل في فنزويلا وغواتيمالا وكولومبيا، وهي تشتد حيناً وتضعف حيناً آخر. ولقد أُشير إلى عدة اضطرابات في بوليفيا والتشيلي والبيرو، وفي الأرجنتين، وستتلوها حوادث أخرى حتماً. فالمليونان من بطاقات الاقتراع، البيرونية، في الأرجنتين، خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لا يمكن اعتبارها بمثابة أصوات ثقة، في مراكز السلطة التي توجهها الولايات المتحدة أو في أوساط ( الحلف من أجل التقدم )، وهو حلف طموح، ولكنه بطيء في أفعاله، رغم كل نواياه الحسنة.

إن القول: بأن أمريكا اللاتينية تقف اليوم على عتبة الثورة، قول فيه شيء من المبالغة. فلقد كان للحلف من أجل التقدم (رفم أخطائه) أثر نافع في بعض المناطق، كما أن التدخل الأمريكي، نجح مؤقتاً في منع البرازيل من الانزلاق، نحو اليسار. والشيوعيون الأمريكيون اللاتينيون منقسمون، مثل الأحزاب الشيوعية الوطنية في العالن الغربي. وقد كان من المتوقع، أن يقدم الشيوعيون قادة للحركات العمالية، والفلاحية، لكنهم مشلولون بسبب واقعهم المحافظ، وقصورهم، ودوغمانيتهم. ولقد تفاهموا في كثير من الحالات من الحكومات القائمة واكتفوا بالحد الأدنى من النشاط. أما التجاوب الذي حصل عليه الفيدليون في البداية، فلقد خبا تدريجياً لأن الثورة الكوبية لم تحقق كل وعودها. وكثير من الذين كانوا يتعاطفون مع فيديل كاسترو لأنه تحدى العملاق الأمريكي، ويتعاطفون مع المحن التي عانت منها الجزيرة المحاصرة، ابتعدوا عن كاسترو بسبب تحالفه مع موسكو، ومساهمته في الحرب الباردة. وكانت أزمة الصواريخ في تشرين أول 1962، بمثابة درس جيد في هذا المضمار. وقد خاب أمل الطبقة الوسطى في أمريكا اللاتينية، بعد أن رأت ما حلّ بالطبقة الوسطى في كوبا، بعد الانتصارات الأولى للثورة.

ومع هذا، فإن وجود قاعدة وخمائر ثورية في أمريكا اللاتينية حقيقة لا جدال حولها. فبذور الانتفاضة الشعبية منتشرة في كل الاتجاهات، ويستطيع الناس جميعاً أن يتعلموا تقنياتها. وقد لا تكون الثورة على نطاق واسع، وشيكة الوقوع، لكنه من الممكن القول بأن الولايات المتحدة، ستجد نفسها، خلال السنين العشرة القادمة، أمام معارضات جسيمة لاتجاهها السياسي، وأمام تهديدات لمصالحها الاقتصادية، وربما كذلك لأمنها في نصف الكرة الغربي... وفي مختلف أنحاء العالم الثالث. وقد تصبح أمريكا الوسطى فيتناماً أمريكية منذ الغد، كما قد تنقلب البرازيل إلى كونغو، وتتحول فنزويلا إلى جزائر، وتصبح جبال الأنديز ( حسب تعبير فيديل كاسترو ) (سييرا ماسترا) أكثر اتساعاً.


فكيف نمنع ذلك؟

0 التعليقات: