حرب المستضعفين 29
عندما نأخذ في الاعتبار مختلف الوجوه التاريخية والنظرية والعملية لحرب العصابات، يتضح لنا رسوه نقطتين:
النقطة الأولى، هي أن حرب البرالبرغوث بشكلها الحالي، ليست فقط حرباً شعبية، بل أنها أيضاً حرب المعدمين في العالم، وهي السلاح المتاح بشكل طبيعي للشعوب المقهورة الخاضعة للاستغلال. أي أنها في الخلاصة سلاح ثوري.
أما النقطة الثانية، فهي أن الولايات المتحدة بحكم سيطرتها، تجد نفسها – شاءت أم أبت – تلعب دوراً مضاداً للثورة. وبما أن الولايات المتحدة هي أكبر قوة في العالم اقتصادياً وعسكرياً، وبلد أكبر رجالات المصارف والصناعة وحراس النظام الرأسمالي للاقتصاد الحر ( الذي تشكل الديمقراطية الليبرالية، والحكومة الدستورية، جزءاً منه )، فإنها بالطبيعة والضرورة، حليفة للمصرفين والملاك العقاريين ولمن وظفوا أموالهم في كل مكان. وبالرغم من تقاليدها وتشدقها الكلامي، فإن سياستها الخارجية الرامية إلى بقاء الوضع الراهن، والراغبة في التطور الاجتماعي الهادئ، والمتعارضة مع الثورة الراديكالية، هي سياسة معادية للشعوب، في كل مرة تهدد فيها الحركات الثورية المصالح الموظّفة. وإذا صدف أحياناً وعارضنا مثل هذه المصالح، فإن ذلك لا يكون إلا من أجل تسهيل مصالح أشد أهمية.. هي مصالحنا.
وتؤكد الحرب الباردة ذلك. فقد تصدت الولايات المتحدة للشيوعية لتدافع عن الملكية الخاصة والاقتضاد الحر من جهة، ولأن الشيوعية تشكل عاملاً للتوسعية الصينية والسوفياتية من جهة أخرى. ولقد اعتُبرت الكتلتان الصينية والروسية منافستين من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وتشكلان تهديدات عسكرية محتملة.
ومعظم الحركات الثورية التي تنفجر في العالم، هي إما شيوعية تماماً، أو ذات ايديولوجية ماركسية – لينينية، أو على الأقل ذات ميول اشتراكية ( أي أنها تهديد للاقتصاد الحر ) ولذا فإنه من غير المدهش أن نرى الولايات المتحدة تتصدى لها. والمثلان الرئيسيان على ذلك هما فيتنام والكونغو. وحتى عندما لا يكون الهدف الثوري هو الاشتراكية، بل الاستقلال الاقتصادي أو عدم التبعية السياسية، فإن الولايات المتحدة، الراغبة في ضمان استثماراتها وتوسيع نفوذها وأسواقها، لا نستقبل أي ثورة بالترحاب .
والنتيجة: أن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها، تصطدمان مع ثورة الجماهير المسحوقة في البلدان النامية. والنهاية المنطقية هي تماماً ما حدث في فيتنام، أي المواجهة بين الغنى والنفوذ والقدرة الصناعية التسلح الحديث، وبين حركات حرب العصابات في كل المناطق، حيث تتواجد مصالح أمريكية هامة.
وتقودنا دراسة حركات حرب العصابات، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الاستنتاج التالي: إن الولايات المتحدة تتقدم ببطءنحو نزاع عالمي الطابع، لا يمكن أن تربحه.
وليست أسباب هذا الاستنتاج غامضة.
إن حرب العصابات، كما رأينا، حرب شعبية بشكل أو بأخر. إنها صراع الأمم ضد المعتدين الأجانب، كما رأينا، أو أنها أجزاء ثائرة من مجتمع ضد الطبقات الحاكمة، نزاع بين المستَغلين والمستغِلين، بين المحكومين والحاكمين.
ففي قبرص مثلاً يمكن أن نرى بشكل سطحي، أن غريفاس حصل على جلاء البريطانيين بواسطة الابتزاز، وأنه لم يجبرهم على الرحيل. إن ذلك صحيح إذا نظرنا إلى مسألة من اتجاه معين، لكن يجب رؤية الأمور جيداً، ومن جميع الزوايا. إن غريفاس ومجموعته الصغيرة من الإرهابيين لم يكونوا ليقدروا على تحقيق تلك النتيجة، دون المعونة الإيجابيةوالسلبية للأغلبية العظمى من القبارصة، ولقد كانت ( إيوكا ) تشكل تعبيراً عن الإرادة الشعبية، لذا فإنه لم يكن بوسع البريطانيين البقاء، إلا إذا شنوا الحرب على كل السكان. ففضلوا الرحيل، تماماً كما حصل في ايرلنده.
وناه أمثلة أخرى أكثر وضوحاً. فلم يكن باتيستا قادراً على قتال الثوار دون أن يقاتل الشعب الكوبي. وفي النهاية، ظهرت موارده غير كافية لهذا العمل، فانهار نظامه.
ولقد حاول الفرنسيون الاحتفاظ بمصالحهم في الهند الصينية والجزائر، فحملوا السلاح ضد الإرهابيين، ووجدوا أنفسهم في كلتا الحالتين، يشنون معارك خاسرة مسبقاً، ضد المد الصاعد للانتفاضة الشعبية. وكان بإمكانهم من الناحية النظرية إخضاع الجزائر ( كما جرى ذلك قبل قرن )، عن طريق إنفاق مال أكثر، وتجنيد قوات أعظم، وتبنى أساليب أكثر صرامة. ولكن هل كان بإمكانهم فعل ذلك في العام 1962؟ كلا، لأسباب اقتصادية وسياسية داخلية، وبسبب الموقف العالي. ويمكننا أن نتساءل: ترى هل كلن النجاح يستحق العناء المطلوب لتحقيقه، حتى لو كانت الإرادة والوسائل متوافرة لتحقيقه.
هنا تكمن المسألة الحاسمة في عصرنا، في كل النزاعات بين القدرة العسكرية والانتفاضة الشعبية. وتواجه الولايات المتحدة اليوم هذه المسألة، أو أنها ستواجهها غداً.
إن سيطرة دولة ما على مستعمرة، يستهدف استغلال هذه المستعمرة اقتصادياً، أو الإفادة منها لخدمة هدف سياسي. ولا تقوم أي دولة بدعم نظام سياسي أو اقتصادي ضد آخر، إلا لأنها تنتظر الحصول على فوائد من النظام المدعوم. فالحكم هو جمع ثمار السلطة السياسية، مهما كانت طبيعة هذه الثمار.
ومع ذلك، وفي عصرنا هذا، لم يعد بالإمكان استعمار أو حكم بلد ما، أو تكريس سلطة حكومية محلية عملية – وبقول آخر استغلالها – دون موافقة المستغلين، فبقتلهم يقهر المستعمر نفسه، في حين أن استعبادهم صعب، إن لم يكن مستحيلاً في إطار الحقائق السياسية والاقتصادية الحالية. وهذا هو ما يضمن نجاح أية حركة تحرير شعبية بعد انطلاقها. وهذا هو أيضاً المأزق الذي يجد واضعوا السياسة الأمريكية أنفسهم فيه، منذ بدء تعاملهم مع حروب العصابات المعادية للولايات المتحدة.
ففي القرن الماضي، استطاعت الحكومة سحق القبائل الهندية في أمريكا الشمالية، لأن هذه القبائل لم تكن تتمتع بأي وزن سياسي أو اقتصادي، كما أنها كانت تشكل أقلية غير ذات أهمية، وبعيدة عن السكان البيض من كل وجهات النظر. فقد كان المطوب هو الحصول على أراضي الهنود وليس على يدهم العاملة أو تجارتهم أوتعاونهم. وأمكن في النتيجة القضاء عليهم بدون أي ضرر. لقد كان ذلك مطلوباً حقاً، من وجهتي النظر الاقتصادية والسياسية، ولهذا تحقق.
بيد أن الأمور تغيرت. والمطلوب اليوم هو اليد العاملة، وما تنتجه. وليس للمواد الأولية، الموجودة في المناطق النامية، أية فائدة بالنسبة إلى الدول الصناعية الكبرى، بدون الجهد البشري الذي يجعلها قابلة للاستعمال (النحاس في تشيلي والنفط في فنزويلا بالنسبة للولايات المتحدة مثلاً). وتتطلب القواعد الاستراتيجية خدمات السكان المحليين وتعاونهم، كما أن الصناعة بحاجة إلى أعداد هائلة من اليد العاملة، وإلى أسواق هامة ومتزايدة أكثر فأكثر حتى تصرف منتجاتها.
في مثل هذه الظروف، يكون إخماد تحركات المقاومة الشعبية بالقوة عملاً ضاراً. فإذا كانت القوة غير كافية نمت المقاومة، وإذا تجاوزت الحد الضروري أدت إلى تدمير غايتها، وكانت أشبه بقتل الحصان لأنه رفض أن يجر العربة.
وعند تبني حل التدمير، فإن ذلك لا يكون إلا لسبب هو: حرمان طرف ثالث من هدف النزاع. وينطبق هذا الوضع على فيتنام الجنوبية، التي لا تمثل في حد ذاتها، قيمة الولايات المتحدة، إلا إذا كانت قيمة سلبية، باعتبارها إهراء للأرز الذي لا بد من منعه عن الصينيين الجائعين.
إن الخيار القائم في فيتنام واضح تماماً: إذا تعذر علينا إقناع السكان الثائرين يتبنى حل مقبول من الأمريكيين ( والأمل في تحقيق ذلك معدوم تقريباً )، لا يعود أمامنا سوى أن نخوض حرب اسعباد ضد الشعب الفيتنامي، بالاشتراك مع من بقي من عناصره حليفاً لنا، أو أن نبحث عن حل يقبله هذا الشعب، وذلك بأن نمهد للمفاوضات مع الفيتكونغ، أو أن نبحث عن حل يقبله هذا الشعب، وذلك بأن نمهد للمفاوضات مع الفيتكونغ، أو أن نترك كل شيء نهائياً، فيجد الفيتناميون الحل بأنفسهم.
وهناك احتمال رابع، وهو في جوهره بديل مضخَّم عن الأول وتستطيع الولايات المتحدة بموجبه أن تغير صفة الحرب، أو على الأقل صفتها الظاهرية، وذلك عن طريق توسيعها، الأمر الذي يعني الهجوم على هانوي وبالتالي على الصين. فإذا ما شنت الولايات المتحدة هذه الحرب، وبعد إعطائها التقديم المناسب، فقد تبدو عندما مبررة أمام الشعب الأمريكي وحلفائه، وبالرغم من المخاطر الضخمة والنفقات التي يتطلبها ذلك، على حين لا يمكن تبرير حرب تسير إلى الضياع وعلى مسرح فيتنام الضيق. ففي إطار حرب عامة، لا شك أن شطري فيتنام الشمالي والجنوبي سيصبحان محتلين، وموضوعين تحت الحكم العرفي، وعندما يمكن تصفية الحركة الشيوعية بقوة عسكرية ساحقة.
وماذا بعد ذلك؟ إن احتلال جنوبي شرقي آسيا ( لأنه لا يمكن الاقتصار على فيتنام ) يشكل، من حيث الأعداد والوسائل التي يتطلبها، عبثاً لا يمكن أن يحتمل، بالنسبة إلى الاقتصار والناخبين في الولايات المتحدة، ولن تكون أية فائدة معقولة باستثناء إمكانية استخدام جنوبي شرقي آسيا كقاعدة ضد الصين في الحرب التي ستلي ذلك. ولم الحرب، ولأية غاية؟ إن النزاع الهائل، والطويل، والعبثي، الذي ينتج عنها، حتى لو فرضنا أنه بقي محصوراً في آسيا – الأمر الذي لا يمكن التأكد منه – نزاع يتجاوز التصور، ولو قارناه بالحرب الكورية الدامية وال ر من معظم أجزاء القارة، لم يكن النهاية، بل كان بداية النزاع الثوري، الذي يهدف إلى تدمير كل المصالح مكلفة، لبدت أحداث كوريا، كلعبة أطفال.
الفصل الثاني عشر
حرب العصابات
في العالم الثالث
والسياسة الأمريكية الجديدة
حرب العصابات في العالم الثالث القاعدة الثورية –
التوقعات المستقبلية للولايات المتحدة – مقترحات حول
سياسة أمريكية جديدة في أمريكا اللاتينية.
حرب العصابات
في العالم الثالث
والسياسة الأمريكية الجديدة
حرب العصابات في العالم الثالث القاعدة الثورية –
التوقعات المستقبلية للولايات المتحدة – مقترحات حول
سياسة أمريكية جديدة في أمريكا اللاتينية.
عندما نأخذ في الاعتبار مختلف الوجوه التاريخية والنظرية والعملية لحرب العصابات، يتضح لنا رسوه نقطتين:
النقطة الأولى، هي أن حرب البرالبرغوث بشكلها الحالي، ليست فقط حرباً شعبية، بل أنها أيضاً حرب المعدمين في العالم، وهي السلاح المتاح بشكل طبيعي للشعوب المقهورة الخاضعة للاستغلال. أي أنها في الخلاصة سلاح ثوري.
أما النقطة الثانية، فهي أن الولايات المتحدة بحكم سيطرتها، تجد نفسها – شاءت أم أبت – تلعب دوراً مضاداً للثورة. وبما أن الولايات المتحدة هي أكبر قوة في العالم اقتصادياً وعسكرياً، وبلد أكبر رجالات المصارف والصناعة وحراس النظام الرأسمالي للاقتصاد الحر ( الذي تشكل الديمقراطية الليبرالية، والحكومة الدستورية، جزءاً منه )، فإنها بالطبيعة والضرورة، حليفة للمصرفين والملاك العقاريين ولمن وظفوا أموالهم في كل مكان. وبالرغم من تقاليدها وتشدقها الكلامي، فإن سياستها الخارجية الرامية إلى بقاء الوضع الراهن، والراغبة في التطور الاجتماعي الهادئ، والمتعارضة مع الثورة الراديكالية، هي سياسة معادية للشعوب، في كل مرة تهدد فيها الحركات الثورية المصالح الموظّفة. وإذا صدف أحياناً وعارضنا مثل هذه المصالح، فإن ذلك لا يكون إلا من أجل تسهيل مصالح أشد أهمية.. هي مصالحنا.
وتؤكد الحرب الباردة ذلك. فقد تصدت الولايات المتحدة للشيوعية لتدافع عن الملكية الخاصة والاقتضاد الحر من جهة، ولأن الشيوعية تشكل عاملاً للتوسعية الصينية والسوفياتية من جهة أخرى. ولقد اعتُبرت الكتلتان الصينية والروسية منافستين من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وتشكلان تهديدات عسكرية محتملة.
ومعظم الحركات الثورية التي تنفجر في العالم، هي إما شيوعية تماماً، أو ذات ايديولوجية ماركسية – لينينية، أو على الأقل ذات ميول اشتراكية ( أي أنها تهديد للاقتصاد الحر ) ولذا فإنه من غير المدهش أن نرى الولايات المتحدة تتصدى لها. والمثلان الرئيسيان على ذلك هما فيتنام والكونغو. وحتى عندما لا يكون الهدف الثوري هو الاشتراكية، بل الاستقلال الاقتصادي أو عدم التبعية السياسية، فإن الولايات المتحدة، الراغبة في ضمان استثماراتها وتوسيع نفوذها وأسواقها، لا نستقبل أي ثورة بالترحاب .
والنتيجة: أن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها، تصطدمان مع ثورة الجماهير المسحوقة في البلدان النامية. والنهاية المنطقية هي تماماً ما حدث في فيتنام، أي المواجهة بين الغنى والنفوذ والقدرة الصناعية التسلح الحديث، وبين حركات حرب العصابات في كل المناطق، حيث تتواجد مصالح أمريكية هامة.
وتقودنا دراسة حركات حرب العصابات، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الاستنتاج التالي: إن الولايات المتحدة تتقدم ببطءنحو نزاع عالمي الطابع، لا يمكن أن تربحه.
وليست أسباب هذا الاستنتاج غامضة.
إن حرب العصابات، كما رأينا، حرب شعبية بشكل أو بأخر. إنها صراع الأمم ضد المعتدين الأجانب، كما رأينا، أو أنها أجزاء ثائرة من مجتمع ضد الطبقات الحاكمة، نزاع بين المستَغلين والمستغِلين، بين المحكومين والحاكمين.
ففي قبرص مثلاً يمكن أن نرى بشكل سطحي، أن غريفاس حصل على جلاء البريطانيين بواسطة الابتزاز، وأنه لم يجبرهم على الرحيل. إن ذلك صحيح إذا نظرنا إلى مسألة من اتجاه معين، لكن يجب رؤية الأمور جيداً، ومن جميع الزوايا. إن غريفاس ومجموعته الصغيرة من الإرهابيين لم يكونوا ليقدروا على تحقيق تلك النتيجة، دون المعونة الإيجابيةوالسلبية للأغلبية العظمى من القبارصة، ولقد كانت ( إيوكا ) تشكل تعبيراً عن الإرادة الشعبية، لذا فإنه لم يكن بوسع البريطانيين البقاء، إلا إذا شنوا الحرب على كل السكان. ففضلوا الرحيل، تماماً كما حصل في ايرلنده.
وناه أمثلة أخرى أكثر وضوحاً. فلم يكن باتيستا قادراً على قتال الثوار دون أن يقاتل الشعب الكوبي. وفي النهاية، ظهرت موارده غير كافية لهذا العمل، فانهار نظامه.
ولقد حاول الفرنسيون الاحتفاظ بمصالحهم في الهند الصينية والجزائر، فحملوا السلاح ضد الإرهابيين، ووجدوا أنفسهم في كلتا الحالتين، يشنون معارك خاسرة مسبقاً، ضد المد الصاعد للانتفاضة الشعبية. وكان بإمكانهم من الناحية النظرية إخضاع الجزائر ( كما جرى ذلك قبل قرن )، عن طريق إنفاق مال أكثر، وتجنيد قوات أعظم، وتبنى أساليب أكثر صرامة. ولكن هل كان بإمكانهم فعل ذلك في العام 1962؟ كلا، لأسباب اقتصادية وسياسية داخلية، وبسبب الموقف العالي. ويمكننا أن نتساءل: ترى هل كلن النجاح يستحق العناء المطلوب لتحقيقه، حتى لو كانت الإرادة والوسائل متوافرة لتحقيقه.
هنا تكمن المسألة الحاسمة في عصرنا، في كل النزاعات بين القدرة العسكرية والانتفاضة الشعبية. وتواجه الولايات المتحدة اليوم هذه المسألة، أو أنها ستواجهها غداً.
إن سيطرة دولة ما على مستعمرة، يستهدف استغلال هذه المستعمرة اقتصادياً، أو الإفادة منها لخدمة هدف سياسي. ولا تقوم أي دولة بدعم نظام سياسي أو اقتصادي ضد آخر، إلا لأنها تنتظر الحصول على فوائد من النظام المدعوم. فالحكم هو جمع ثمار السلطة السياسية، مهما كانت طبيعة هذه الثمار.
ومع ذلك، وفي عصرنا هذا، لم يعد بالإمكان استعمار أو حكم بلد ما، أو تكريس سلطة حكومية محلية عملية – وبقول آخر استغلالها – دون موافقة المستغلين، فبقتلهم يقهر المستعمر نفسه، في حين أن استعبادهم صعب، إن لم يكن مستحيلاً في إطار الحقائق السياسية والاقتصادية الحالية. وهذا هو ما يضمن نجاح أية حركة تحرير شعبية بعد انطلاقها. وهذا هو أيضاً المأزق الذي يجد واضعوا السياسة الأمريكية أنفسهم فيه، منذ بدء تعاملهم مع حروب العصابات المعادية للولايات المتحدة.
ففي القرن الماضي، استطاعت الحكومة سحق القبائل الهندية في أمريكا الشمالية، لأن هذه القبائل لم تكن تتمتع بأي وزن سياسي أو اقتصادي، كما أنها كانت تشكل أقلية غير ذات أهمية، وبعيدة عن السكان البيض من كل وجهات النظر. فقد كان المطوب هو الحصول على أراضي الهنود وليس على يدهم العاملة أو تجارتهم أوتعاونهم. وأمكن في النتيجة القضاء عليهم بدون أي ضرر. لقد كان ذلك مطلوباً حقاً، من وجهتي النظر الاقتصادية والسياسية، ولهذا تحقق.
بيد أن الأمور تغيرت. والمطلوب اليوم هو اليد العاملة، وما تنتجه. وليس للمواد الأولية، الموجودة في المناطق النامية، أية فائدة بالنسبة إلى الدول الصناعية الكبرى، بدون الجهد البشري الذي يجعلها قابلة للاستعمال (النحاس في تشيلي والنفط في فنزويلا بالنسبة للولايات المتحدة مثلاً). وتتطلب القواعد الاستراتيجية خدمات السكان المحليين وتعاونهم، كما أن الصناعة بحاجة إلى أعداد هائلة من اليد العاملة، وإلى أسواق هامة ومتزايدة أكثر فأكثر حتى تصرف منتجاتها.
في مثل هذه الظروف، يكون إخماد تحركات المقاومة الشعبية بالقوة عملاً ضاراً. فإذا كانت القوة غير كافية نمت المقاومة، وإذا تجاوزت الحد الضروري أدت إلى تدمير غايتها، وكانت أشبه بقتل الحصان لأنه رفض أن يجر العربة.
وعند تبني حل التدمير، فإن ذلك لا يكون إلا لسبب هو: حرمان طرف ثالث من هدف النزاع. وينطبق هذا الوضع على فيتنام الجنوبية، التي لا تمثل في حد ذاتها، قيمة الولايات المتحدة، إلا إذا كانت قيمة سلبية، باعتبارها إهراء للأرز الذي لا بد من منعه عن الصينيين الجائعين.
إن الخيار القائم في فيتنام واضح تماماً: إذا تعذر علينا إقناع السكان الثائرين يتبنى حل مقبول من الأمريكيين ( والأمل في تحقيق ذلك معدوم تقريباً )، لا يعود أمامنا سوى أن نخوض حرب اسعباد ضد الشعب الفيتنامي، بالاشتراك مع من بقي من عناصره حليفاً لنا، أو أن نبحث عن حل يقبله هذا الشعب، وذلك بأن نمهد للمفاوضات مع الفيتكونغ، أو أن نبحث عن حل يقبله هذا الشعب، وذلك بأن نمهد للمفاوضات مع الفيتكونغ، أو أن نترك كل شيء نهائياً، فيجد الفيتناميون الحل بأنفسهم.
وهناك احتمال رابع، وهو في جوهره بديل مضخَّم عن الأول وتستطيع الولايات المتحدة بموجبه أن تغير صفة الحرب، أو على الأقل صفتها الظاهرية، وذلك عن طريق توسيعها، الأمر الذي يعني الهجوم على هانوي وبالتالي على الصين. فإذا ما شنت الولايات المتحدة هذه الحرب، وبعد إعطائها التقديم المناسب، فقد تبدو عندما مبررة أمام الشعب الأمريكي وحلفائه، وبالرغم من المخاطر الضخمة والنفقات التي يتطلبها ذلك، على حين لا يمكن تبرير حرب تسير إلى الضياع وعلى مسرح فيتنام الضيق. ففي إطار حرب عامة، لا شك أن شطري فيتنام الشمالي والجنوبي سيصبحان محتلين، وموضوعين تحت الحكم العرفي، وعندما يمكن تصفية الحركة الشيوعية بقوة عسكرية ساحقة.
وماذا بعد ذلك؟ إن احتلال جنوبي شرقي آسيا ( لأنه لا يمكن الاقتصار على فيتنام ) يشكل، من حيث الأعداد والوسائل التي يتطلبها، عبثاً لا يمكن أن يحتمل، بالنسبة إلى الاقتصار والناخبين في الولايات المتحدة، ولن تكون أية فائدة معقولة باستثناء إمكانية استخدام جنوبي شرقي آسيا كقاعدة ضد الصين في الحرب التي ستلي ذلك. ولم الحرب، ولأية غاية؟ إن النزاع الهائل، والطويل، والعبثي، الذي ينتج عنها، حتى لو فرضنا أنه بقي محصوراً في آسيا – الأمر الذي لا يمكن التأكد منه – نزاع يتجاوز التصور، ولو قارناه بالحرب الكورية الدامية وال ر من معظم أجزاء القارة، لم يكن النهاية، بل كان بداية النزاع الثوري، الذي يهدف إلى تدمير كل المصالح مكلفة، لبدت أحداث كوريا، كلعبة أطفال.
0 التعليقات:
إرسال تعليق