20‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 18

حرب المستضعفين 18

واحتل ايرلنده ثلاثة وأربعون ألف جندي بريطاني، بالاضافة إلى عشرة آلاف دركي. وعُزِّز هؤلاء بسرعة بآلاف من ( البلاك والتانز ) ( وهو لقب مستوحى من لباسهم الكاكي ومن اللون الأسود لواقيات قبعاتهم وأحذيتهم وأحزمتهم وجعبهم )، وبألف وخمسمائة من الطلبة المؤقتين التابعين للدرك المساعد. ولم يكف العدد لاحتلال الخمسة وستين ألف كيلو متر مربع من جنوبي ايرلنده الثائرة.

وكانت الأرض مناسبة بشكل رائع لحرب العصابات: فالريف مزروع وعر ومحروم من الطرقات في كثير من الأمكنة، بحيث لا يمكن اجتيازه بالعربات ذات المحركات في وقت ممطر، أي في كل الأوقات تقريباً. وقد وجد رجال الجيش الجمهوري الايرلندي ملاجئ حصينة في المستنقعات والمرتفعات الحرجية، وبقوا على مقربة من المدن وخطوط المواصلات الرئيسية، لتنفيذ إغارتهم تحت ستار الظلام. وكان أعضاء الجيش الجمهوري الايرلندي في المدينة مندمجين مع السكان، ويحتلون جميعهم تقريبا وظائف مدنية، لذا كانت العمليات تجري ليلاً فقط في مقاطعتي دبلن وكورك، إذ لم يكن العدد كافياً للقيام بها أثناء النهار.

واشتملت هذه العمليات خاصة على مهاجمة مستودعات الأسلحة، وعلى الكمائن المنصوبة للقوافل العسكرية في الريف أو للدوريات الصغيرة في المدن. ومن جهة أخرى كرست ( فصيلة خاصة ) في دبلن نشاطها لاغتيال عناصر المخابرات والشخصيات السياسية.

وقد بقي الجزء الأكبر من هذا النشاط بدون قيمة من وجهة النظر العسكرية. وكان حبر الطباعة يجري بغزارة أكثر من الدم. وكان الرماة الايرلنديون يخطئون أهدافهم أكثر مما يصيبونها. وغالباً ما كانت الثكنات المحروقة فارغة، ولم يكن لتخريبها إلا صفة رمزية. وكثيراًما اندحر المهاجمون بعد أن أنفقوا من الذخيرة أكثر مما حسبوا. وكانت ضحايا الاغتيالات الايرلنديون ( مخبرين، متعاونين، .. إلخ ) أكثر من الانجليز.

ولم يكن الجيش الجمهوري الايرلندي بشن حربا عسكرية بل سياسية. وكانت الآثار الحقيقية للرعب ذات طبيعة نفسية، فانخفض التطوع في جهاز الدرك، وكثرت الاستقالات بانخفاض المعنويات. وفي الثكنات كان الجنود ( أجانب في بلد معاد ) يعيشون في توتر أكبر مما لو كانوا في الخنادق. هكذا مان يقول الجنود القدماء. وبلغ الخوف من قتلة الجيش الجمهوري الايرلندي درجة من الشدة دفعت الحكومة إلى لصق إعلانات تحذر بإطلاق النار على كل مدني يمشي ويديه في جيبيه، لأنهما قد تكونان ممسكتين بسلاح.

وربما لم تكن لمهاجمة الثكنات والقوافل نتيجة عسكرية، لكنها كانت مؤثرة على اقتصاد وإدارة البلاد التي انغمست في الفوضى. فاحتمال غارة أو كمين، في أي زمان ومكان، كان كافياً لإبطاء المواصلات، وإنقاص الإنتاج، وإجبار العسكريين على البقاء دوماً في حالة الإنذار، وعلى حراسة كل الثكنات والقوافل والمباني العامة، ومنع التجول إلا اضطرارياً، والتفتيش المستمر للتأكد من هويات المدنيين، وإزعاج الحياة اليومية بمختلف الأشكال. وكان ذلك كله يكلف كثيراً، بالنسبة إلى الحكومة، ودافعي الضرائب البريطانيين، والملاك العقاريين، والمصارف، وكل أولئك الذين راهنوا على ايرلنده المنظمة والمنتجة. وكان كل حادث بمثابة ضربة جديدة للسمعة البريطانية في الخارج، وللمعنويات في الداخل، ويخدم جنوبي العمال والأحرار البريطانيين، ويساعدهما على إزعاج حكومة المحافظين. وربما كان بإمكان العسكريين تحمل ذلك التوتر، الأمر الذي لا ينطبق على الحكومة في داونينغ ستريت.

ولقد بذلت جهود عدة لتحسين الموقف، لكنها زادته خطورة. فجماعات ( البلاك والتانز )، التي ظهرت، في بداية العام 1920، كانت بمثابة هدية من العناية الإلهية للثوار. فكل عمل يقوم به الجيش الجمهوري الايرلندي كان يدفعها إلى رد فعل عنيف. وكان العمل الأول يعتبر في البلادجزءاً من النضال المقدام من أجل الحرية، في حين كان رد الفعل يثير السخط، ويزيد اتحاد الايرلنديين ضد ( التاج).

واستفادت الدعاية الايرلندية كثيراً من أعمال القمع، وعرضت أعمال بعض الدكاكين أو المنازل وكأنها مجزرة لقرية كاملة، كما عرضت إعدام أعضاء ( السين فين ) أو المشبوهين، وكأنها مذابح ترتكب دون تمييز. ولقد قال أحد قادة الدرك لرجاله: ( أطلقوا النار أولاً ثم اسألوا ). فبدلت صحيفة الثوار السرية جملته، ونسبت إليه أنه قال:

(
إذا أُحرقت إحدى ثكناتكم، أو كانت غير مناسبة، فخذوا أجمل منزل في الناحية، واقذفوا بقاطنيه إلى الشارع وليموتوا فيه كالكلاب. وكلما زاد عدد موتاهم كان أفضل. وعلى الجنود ورجال الدرك القيام بدورياتهم الريفية خمس ليالٍ في الأسبوع على الأقل، وألا يكتفوا بالسير على الطرقات الكبرى، بل عليهم أن يذهبوا إلى الحقول، وينصبوا الكمائن. وعند مشاهدتهم لمدنيين يقتربون عليهم أن يصيحوا: ارفعوا أيديكم. فإذا لم ينفذوا الأمر فوراً، أطلقوا النار، وأطلقوا جيداً. وإذا اقترب المدنيون وأيديهم في جيوبهم، أو بدوا مشبوهين بشكل ما، فاقتلوهم. وقد تقترفون أخطاء أو تقتلون أبرياء، فذلك لا يمكن تجنبه، ولكنكم قد تصيبون أحياناً. وكلما قتلتم عدداً أكبر من الأشخاص، ازداد تقديري لكم، وإنني لأؤكد لكم، بأن أي جندي منكم لن يلق متاعب لأنه جندل شخصاً ).

وطبيعي أن هذه الأحاديث قد كذبت، لكن ذلك لم يغير شيئاً. وكان يقال أيضاً بأن ( البلاك والتانز ) كانوا يخترقون القرى بشاحناتهم، وهم يغنون ( ويطلقون النار عشوائياً، مجازفين بحياة الذين يتواجدون في طريقهم ).

وليس مهماً أن نعرف ما إذا كانوا حقاً يغنون. لكن المهم، ذلك الصيت السيء الذي صنعوه بالقتل والحرق والنسف والسلب، سواء جرى ذلك وهم يغنون، أم لا، مما أثار في انجلترا، فضيحة خدمت فعلاً القضية الايرلندية. وقد أتهمت الديلي نيوز الحكومة ( بالتوطؤ الضمني مع أعمال الانتقام الهمجية التي تطبق الآن بمنهجية )، وكتبت التايمز المحافظة: ( تزداد الأنباء الآتية مع ايرلنده، سوءاً، يوماً بعد يوم. فقصص الحرق والتخريب يجب أن تثير شعوراً بالخجل لدى كل القراء الانجليز، لقد تلوثت سمعة انجلترا في كل الامبراطورية والعالم قاطبة، بسبب هذه الهمجية التي لا تستطيع الحكومة، رغم جهودها، أن تتملص من مسؤوليتها ).


وقد تقزز الجمهور البريطاني من الإرهاب المضاد لمجموعة ( البلاك والتانز ) والمتطوعين المساعدين، وأدى استشهاد الأبطال الايؤلنديين ( مثل ترنس ماك سويني، محافظ كورك الذي شنق في دبلن لأنه قتل جندياًبريطانياً ) إلى استقطاب تعاطف الملايين من اتباع ( جلالته ) المخلصين.

ولم يكن الجيش الجمهوري الايرلندي قوياً بشكل يسمح له التغلب على أعدائه العسكريين في اشتباك على درجة من الأهمية. وقد قدّر لورد فرنش، نائب الملك البريطاني، عدد الجيش الجمهوري الايرلندي بمائة ألف رجل. وتحجث الوزير لشؤون ايرلندا عن مائتي ألف رجل. وقد حدد مايكل كولنز فيما بعد هذا الرقم بثلاثة آلاف من العناصر العاملين.

لكن الانتفاضة الايرلندية كانت احتجاجاً ذا طابع سياسي أكثر منه عسكري. وعندما انتهت في العام 1921 بهدنة، كانت هذه الهدنة انتصاراً سياسياً أبعد ضرورة الحل العسكري. ولم يتطلب انتزاع هذا النصر أكثر من ثلاثة آلاف رجل، قاموا بدور المستقطب المكثف أكثر من قيامهم بدور العنصر الفاعل، وحصلوا من عملهم على نتيجتين جوهريتين هما:

1- فتور الشعب إلى عداء فعال للتسلط البريطاني، مما خلق مقاومة جماعية لم يستطع الانجليز قهرها سياسياً أو اقتصادياً.
2- دفع الخصم إلى ممارسة الإرهاب المضاد الذي أدى ( لأسباب سياسية ) إلى غاية مناقضة للغاية التي بدأ من أجلها. ولم يتوصل الايرلنديون إلى قذف الانجليز في البحر عبر نضال طويل ومتقطع. لكنهم فعلوا بمقاومتهم شيئاً أفضل وأكثر اقتصاداً. فقد سلبوا الاستعمار مكاسبه، وجعلوا بلادهم عبئاً على المحتلين، وانتهوا بأن أقنعوا هؤلاء بالانسحاب.

ولم تكن الوسائل التي استخدمها الارهابيون جديدة، فلقد أشعلوا النار في المباني العامة، ورفعوا الأعلام الايرلندية، وفخخوها لإلحاق الأذى بمن سينتزعونها، وخلعوا الألواح الأردواز من سقوف مراكز الشرطة، ليصبوا فيها البنزين، ويشعلوها، ونسفوا الجسور، واقتلعوا قضبان السكك الحديدية، ووضعوا سكراً في مستودعات وقود السيارات، كما وضعوا الرمل ومسحوق الضفرة في مسننات الآلات.

وكانت هذه الوسائل شديدة البساطة، وسببت أضراراً قليلة الأهمية نسبياً. وكان المهم حقاً، هو كلفة القمع، أولاً، ثم الأثر السياسي الذي وحَّد الايرلنديين، وقادهم إلى العمل، وأدى في الوقت ذاته إلى تقسيم الانجليز وشلهم.


هل كان بإمكان الانجليز الفوز في ايرلندا، عن طريق زج جيش أكثر عدداً، وشن حرب إبادة، بأسلوب كرومويل؟ إن مثل هذا السؤال عبثي في القرن العشرين. ولو واجه الرأي العام البريطاني مثل هذا الحل لما تحمله، على الأقل لأسباب اقتصادية. وبعد جيل من ذلك، منح الرأي العام العالمي تطبيق ذلك الحل في فلسطين، وقبرص، وحملة السويس ، حيث كان للإنزال البريطاني الفرنسي عام 1956 مضاعفات عالمية.

فالحلول التعسفية إذن غير ممكنة، إلا في حالة العزلة، وفي عالم لا مبالٍ، وكذلك عند مواجهة شعب لا يمتلك إرادة المقاومة الصلبة.

0 التعليقات: