حرب المستضعفين 12
كيف طُبقت - قوانين الحرب الثورية -، المبينة من قبل ماوتسي تونغ، على مستعمرات الدول العظمى؟
لقد سجل التاريخ النتيجة. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يخسر أي شعب حرباً شنها على الاستعار. - لا تشكل ماليزيا والفلبيين إلا استثناءات ظاهرية، وسنتحدث عنهما في الفصول التالية.
ففي أكثر الحالات ملاءمة، سلمت القوة الاستعمارية سلطتها في الوقت المناسب، منحنية أمام رياح التاريخ. وفي الحالات الأخرى، لم يُكتسب الاستقلال إلا بالارهاب والفوضى المدنية، كما في قبرص والمغرب، أو بقوة السلاح، كما في الجزائر والهند الصينية .
ويقدم النضال الذي جرى ضد الفرنسيين في الهند الصينية أهمية خاصة تماماً، إذ نجد فيه المثل المزدوج لحرب ثورية استمرت حتى الحسم العسكري ( على عكس الانتفاضة التي تؤدي إلى الحل السياسي )، وأُديرت بوعي حسب تعاليم ( ماو ). بقول كاتزنباخ:
( إن الحرب التي شنها الفييتمينة في الهند الصينية الشمالية، اتبعتا لتعاليم ( تعاليم ماو ) مرحلة تلو أخرى، مع أن قادتها ادعوا بأنهم حسنوا العقيدة القتالية ).
لقد دامت من العام 1946، في اللحظة التي حمل فيها هوشي منه السلاح ضد الفرنسين ( كان هوشي مينه في الواقع يسيطر عملياً على فيتنام لعام مضى، منذ استسلام اليابان ) وحتى عام 1954، العام الذي قسمت فيه البلاد إلى جزئين، يفصلهما خط العرض 17، في مؤتمر جنيف العـالمي، بعد سقوط موقع ( ديان بيان فو ) الحصين.
وإن لم يكن هذا الانتصار كاملاً لشيوعي الفييتنمية، فقد كان هزيمة كاملة للفرنسيين، حددت نهاية سيطرتهم في الهند الصينية. لقد بقيت الكتلة الرئيسية للقوات الفرنسية المؤلفة من خمسمائة ألف رجل سليمة من الناحية العملية ( 112 ألف قتيل وجريح في خلال 8 سنوات )، لكن معنوياتها كانت محطمة، ولم يستر الحل السياسي حقيقة أن الأسلحة الفرنسية عانت هزيمة مهنية، من قبل ما كان معتبراً بمثابة جيش محلي، يمكن سحقه في أقل من عشرة أسابيع.
وفي خلال تلك السنوات الثماني، أضحى ما كان في البدء عصابات تقوم بعملياتها على مستوى سرية أو فصيلة، عبارة عن جيش نظامي، منظم في فرق تمتلك المدفعية الخفيفة، وقادر على مجابهة أفضل الجند الفرنسيين. ومع أن هذا الجيش قد قاتل خلال المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة الهجوم الاستراتيجية المحددة من قبل ( ماو )، فإن الجزء الأعظم من الحملة الطويلة كان من عمل حرب العصابات.
ولقد عرّف الجنرال فونغوين جياب، بطل ديان بيان فو هذه الحرب مستخدماً تعابير ماو نفسها:
( إن حرب العصابات هي شكل النضال الذي تتبناه جماهير بلد ضعيف سيء التجهيز، للصراع ضد جيش معتد يمتلك تجهيزاً متفوقاً ومستعملاً تقنية أفضل. إنه الأسلوب الملائم للثورة. ويعتمد ثوار العصابات على بطولتهم من أجل الانتصار على الأسلحة الحديثة، وتجنب العدو عندما يكون الأقوى، ومهاجمته عندما يكون الأضعف إنهم يتفوقون أو يجتمعون، لاستنزافه تارة أخرى، ولكنهم يمتلكون دائماً إرادة القتال في كل مكان، بحيث يجد العدو نفسه أينما ذهب. غارقاً في بحر من البشر المسلحين، الذين يهاجمون، ويدمرون معنوياته وينهكون قواه ).
ولحسن حظ قضيته، كان جياب قد تمثل الحكمة التطبيقية لمعلمه، وتعلم بلاغته وقد كان يدرك ما يقول عندما كتب:
( إذا كان من الواجب الانتشار لاستنزاف العدو، فإن من الضروري أيضاً تشكيل قوى هامة، في الأوضاع الملائمة، للحصول على التفوق في مكان وزمن محددين بغية إبادته. وعندما تتراكم النجاحات الصغيرة، فإنها تستنزف جنود العدو تدريجياً وتزيد عدد قواتنا والهدف الأساسي هو إبادة قوات العدو وعلينا ألا نعرض قوانا للدمار من أجل الاحتفاظ بأرض أو احتلالها ).
إن هذا التعريف للهدف عسكري بحت، ففي إطار القتال ضد المستعمر، يكون للآثار السياسية لحرب العصابات ولا شك أهمية أقل من أهميتها في حالة الانتفاضة ضد حكومة بلد نصف مستعمر، مثل كوبا. وكذلك فإن لها أهمية أقل عندما يتعلق الأمر بالدفاع ضد جيش أجنبي يجتاح البلاد، كما كانت حالة الجيش الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية. لكن إذا كان الأمر يتعلق بالتأثير على معنويات الحكومة وعلى الرأي العام العالمي، فقد كان للعمل السياسي، المتضمن تعبئة الشعب في فيتنام نفس الأهمية الحيوية كما في كل مكان. ويعترف بذلك جياب نفسه، فيقول في معرض الحديث عن السنوات الأولى للحرب:
( في البداية كان هناك ميل بألا نأخذ في الحسبان كما ينبغي دور العمل السياسي. ولم يعترف المكلفون به فوراً، بأن التثقيف السياسي والتوجه الايديولوجي كانا يشكلان المهمة الأساسية ).
لكن ( تبين الخطأ، ووجه الانتباه اللازم للمشكلة السياسية الأساسية، المتمثلة في صهر كل القطاعات الإجتماعية للأمة، وتوحيد كل المجموعات الإتنية ( العرقية ) لبلد متعدد القوميات، في النضال ضد التسلط الأجنبي. وقد سعى الخزب للإمساك بكل الفوضى الملائمة لدفع الشعب في ذلك الصراع ) لقد كتب جياب ذلك، كما كتب أيضاً: ( يجيب على جبهة الاتحاد الوطني أن تكون تجمعاً لكل القادرة على الاتحاد، وذلك يتحييد أو تجزئة كل القوى الأخرى ).
ولقد أهملت الطبقة الفلاحية في البدء. لكن هذه الغلطة الفاحشة في بلد من الفلاحين، اكتشفت بسرعة وأصلحت، وأصبح شعار الثورة ( الأرض لمن يزرعها ).
وكتب جياب أيضاً: ( كانت الإمبريالية العدوانية تشكل بالنسبة إلى الأمة الفيتنامية عدواً يجب إسقاطه. وبما أن مصالح هذا العدو قد تلاقت منذ زمن بعيد مع مصالح ملاك الأرض من الإطاعيين، فإن الصراع ضده لم يكن منفصلاً عن الصراع ضدهم. ومن جهة أخرى، وفي بلد مستعمر ومتخلف كبلدنا، حيث يشكل الفلاحون أغلبية السكان، فإن حرباً ثورية هي في جوهرها حرب الفلاحين بقيادة الطبقة العاملة ولم تكن التعبئة العامة للشعب، وإلى حد بعيد، سوى تعبئة الجماهير الريفية ).
ولم يكن ممكناً تشكيل جبهة شعبية واسعة، تضم مختلف الشيع الدينينة، وخاصة البوذية. ولقد دفع الفييتمينة ثمن ذلك غالياً في بداية الصراع في جنوبي فيتنام, وكما ذكرنا سابقاً، فإن أنصار هوشي منه كانوا يسيطرون عملياً على البلاد كلها بعد استسلام اليابانيين إلا أن فرار الشيع الدينية، كان من الأسباب التي جعلت القوات الفرنسية، التي نزلت في جنوبي فيتنام لم تلاق أية معارضة، وسرعان ما استولت على الكوشنشين وعاصمتها سايغون.
وقد كان الضعف العددي – أربعون ألف رجل بقيادة الجنرال لوكير – السبب الذي منع الفرنسيين من مد سيطرتهم على الأراضي المنخفضة لمقاطعتي ( آنام ) و ( تونكين ).
ويقول الدكتور ( برنارد فول ) في كتابه ( شارع بلا فرح والفيتناميين ) : ( لم يخطط الفرنسييون في العام 1946 إلا لحملة استعمارية تقليدية لإعادة الغزو كالحملة التي قادها المارشال ليوتي في منطقة القبائل التابعة لعبد الكريم الخطابي في العشرينات ).
وكانت الطريقة المختارة، هي المسماة ( بقعة الزيت )، وتتضمن إقامة نقطة قوية في منطقة ما، تنطلق منها قوى ( التهدئة ) لتمشيط البلد، والاقتراب من الثوار وإبادته. لكن ما أزعج لوكلير أنه لم يكن لديه عدداً من الشرطة كافياً لتنفيذ هذا التمشيط، مما جعل مجمل الخطة متهافتاً.
وتصرف الفرنسييون تماماً كما يتوقع من قوات نظامية، تعامل ثوار العصابات إما كعدو تقليدي، وإما كقطاع طرق تستطيع أرتال طائرة ( خفيفة سريعة الحركة ) إبادتهم واحد إثر آخر.
وقد توغلت مدرعات لوكلير في العمق، واستولت على الطرق الرئيسية، والمدن الموجودة على مفترقات الطرق، وقدرت بأنها حققت بداية حسنة، بدليل أنها لم تلق مقاومة حازمة في أي مكان.
ولم يفهم الفرنسيون بأن عدوهم، الذي لا يمتلك المدفعية ووسائل النقل، لم يكن بحاجة للطرق، وبأن المراكز المحصنة لا تشرف على شيء، لأن عددهم المتحرك لا يتمسك بالأرض، ولا ينوي الصراع من أجلها.
وكان الفرنسيون يسيطرون على الطرق، وثوار العصابات يمرون بشكل خفي، عبر الأدغال أو مزارع الأرز، على بعد مائة متر من الطرق. وكان الفرنسيون يحتلون المدن دون أن يحفل أعداؤهم بذلك، وكانوا يسعون للإشراف على الأرض عن طريقة إحتلالها، بينما انصب اهتمام أعدائهم فقط على اكتساب السكان. وهذا هو التباين الجوهري بين الحرب التقليدية وحرب العصابات. فالجيش يقاتل للاستيلاء، على الأرض والطرق والمرتفعات الاستراتيجية والمناطق ذات الأهمية الرئيسية، في حين يقاتل ثوار العصابات لتحقيق إشرافهم على السكان، الذين بدون تعاونهم تصبح الأرض عديمة الفائدة لمن يحتلها.
إن تكتيك بقعة الزيت، الأكثر فعالية ضد عصابات المجرمين مما هو ضد العصابات الثورية، كان بوسعه أن يعطي نتائج في الهند الصينية، لو استطاع الفرنسيون أن يكرسوا له قوات أكبر. لكن في الوضع الثوري – وخاصة عندما يجد الجند النظاميون أنفسهم في مواجهة مع ثوار محليين – فإن القمع لا يمكن أن يؤثر إلا محلياً، ولا توجد إلا طريقة واحدة لمنع الانتقاضات الجديدة: ألا وهي: إبادة السكان قاطبة. وخلال ثماني سنوات، كانت خسائر الفيتناميين كبيرة، ويقدرها الدكتور ( فول ) بثلاثة أمثال الخسائر الفرنسية، لكنها أصابت على الأرجح المدنيين الأبرياء أكثر من ثوار العصابات ( انظر الفصل السادس ).
وكان الجهد الفرنسي محكوماً بالفشل منذ
البداية. فالبلد
شاسع، والكثافة السكانية عالية، وكانت هنالك ملاجئ طبيعية كثيرة لثوار العصابات.
وكانت القوات العسكرية أضعف بكثير مما ينبغي.
الفصل الخامس
المقاومة ضد الفرنسيين في الهند الصينية
-التجربة الفيتنامية -
الحرب الاستعمارية والتجربة الفرنسية – استراتيجية وتكتيك
فونغوين جياب – كيف انتصر الفييتمينة في الهند الصينية
المقاومة ضد الفرنسيين في الهند الصينية
-التجربة الفيتنامية -
الحرب الاستعمارية والتجربة الفرنسية – استراتيجية وتكتيك
فونغوين جياب – كيف انتصر الفييتمينة في الهند الصينية
كيف طُبقت - قوانين الحرب الثورية -، المبينة من قبل ماوتسي تونغ، على مستعمرات الدول العظمى؟
لقد سجل التاريخ النتيجة. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يخسر أي شعب حرباً شنها على الاستعار. - لا تشكل ماليزيا والفلبيين إلا استثناءات ظاهرية، وسنتحدث عنهما في الفصول التالية.
ففي أكثر الحالات ملاءمة، سلمت القوة الاستعمارية سلطتها في الوقت المناسب، منحنية أمام رياح التاريخ. وفي الحالات الأخرى، لم يُكتسب الاستقلال إلا بالارهاب والفوضى المدنية، كما في قبرص والمغرب، أو بقوة السلاح، كما في الجزائر والهند الصينية .
ويقدم النضال الذي جرى ضد الفرنسيين في الهند الصينية أهمية خاصة تماماً، إذ نجد فيه المثل المزدوج لحرب ثورية استمرت حتى الحسم العسكري ( على عكس الانتفاضة التي تؤدي إلى الحل السياسي )، وأُديرت بوعي حسب تعاليم ( ماو ). بقول كاتزنباخ:
( إن الحرب التي شنها الفييتمينة في الهند الصينية الشمالية، اتبعتا لتعاليم ( تعاليم ماو ) مرحلة تلو أخرى، مع أن قادتها ادعوا بأنهم حسنوا العقيدة القتالية ).
لقد دامت من العام 1946، في اللحظة التي حمل فيها هوشي منه السلاح ضد الفرنسين ( كان هوشي مينه في الواقع يسيطر عملياً على فيتنام لعام مضى، منذ استسلام اليابان ) وحتى عام 1954، العام الذي قسمت فيه البلاد إلى جزئين، يفصلهما خط العرض 17، في مؤتمر جنيف العـالمي، بعد سقوط موقع ( ديان بيان فو ) الحصين.
وإن لم يكن هذا الانتصار كاملاً لشيوعي الفييتنمية، فقد كان هزيمة كاملة للفرنسيين، حددت نهاية سيطرتهم في الهند الصينية. لقد بقيت الكتلة الرئيسية للقوات الفرنسية المؤلفة من خمسمائة ألف رجل سليمة من الناحية العملية ( 112 ألف قتيل وجريح في خلال 8 سنوات )، لكن معنوياتها كانت محطمة، ولم يستر الحل السياسي حقيقة أن الأسلحة الفرنسية عانت هزيمة مهنية، من قبل ما كان معتبراً بمثابة جيش محلي، يمكن سحقه في أقل من عشرة أسابيع.
وفي خلال تلك السنوات الثماني، أضحى ما كان في البدء عصابات تقوم بعملياتها على مستوى سرية أو فصيلة، عبارة عن جيش نظامي، منظم في فرق تمتلك المدفعية الخفيفة، وقادر على مجابهة أفضل الجند الفرنسيين. ومع أن هذا الجيش قد قاتل خلال المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة الهجوم الاستراتيجية المحددة من قبل ( ماو )، فإن الجزء الأعظم من الحملة الطويلة كان من عمل حرب العصابات.
ولقد عرّف الجنرال فونغوين جياب، بطل ديان بيان فو هذه الحرب مستخدماً تعابير ماو نفسها:
( إن حرب العصابات هي شكل النضال الذي تتبناه جماهير بلد ضعيف سيء التجهيز، للصراع ضد جيش معتد يمتلك تجهيزاً متفوقاً ومستعملاً تقنية أفضل. إنه الأسلوب الملائم للثورة. ويعتمد ثوار العصابات على بطولتهم من أجل الانتصار على الأسلحة الحديثة، وتجنب العدو عندما يكون الأقوى، ومهاجمته عندما يكون الأضعف إنهم يتفوقون أو يجتمعون، لاستنزافه تارة أخرى، ولكنهم يمتلكون دائماً إرادة القتال في كل مكان، بحيث يجد العدو نفسه أينما ذهب. غارقاً في بحر من البشر المسلحين، الذين يهاجمون، ويدمرون معنوياته وينهكون قواه ).
ولحسن حظ قضيته، كان جياب قد تمثل الحكمة التطبيقية لمعلمه، وتعلم بلاغته وقد كان يدرك ما يقول عندما كتب:
( إذا كان من الواجب الانتشار لاستنزاف العدو، فإن من الضروري أيضاً تشكيل قوى هامة، في الأوضاع الملائمة، للحصول على التفوق في مكان وزمن محددين بغية إبادته. وعندما تتراكم النجاحات الصغيرة، فإنها تستنزف جنود العدو تدريجياً وتزيد عدد قواتنا والهدف الأساسي هو إبادة قوات العدو وعلينا ألا نعرض قوانا للدمار من أجل الاحتفاظ بأرض أو احتلالها ).
إن هذا التعريف للهدف عسكري بحت، ففي إطار القتال ضد المستعمر، يكون للآثار السياسية لحرب العصابات ولا شك أهمية أقل من أهميتها في حالة الانتفاضة ضد حكومة بلد نصف مستعمر، مثل كوبا. وكذلك فإن لها أهمية أقل عندما يتعلق الأمر بالدفاع ضد جيش أجنبي يجتاح البلاد، كما كانت حالة الجيش الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية. لكن إذا كان الأمر يتعلق بالتأثير على معنويات الحكومة وعلى الرأي العام العالمي، فقد كان للعمل السياسي، المتضمن تعبئة الشعب في فيتنام نفس الأهمية الحيوية كما في كل مكان. ويعترف بذلك جياب نفسه، فيقول في معرض الحديث عن السنوات الأولى للحرب:
( في البداية كان هناك ميل بألا نأخذ في الحسبان كما ينبغي دور العمل السياسي. ولم يعترف المكلفون به فوراً، بأن التثقيف السياسي والتوجه الايديولوجي كانا يشكلان المهمة الأساسية ).
لكن ( تبين الخطأ، ووجه الانتباه اللازم للمشكلة السياسية الأساسية، المتمثلة في صهر كل القطاعات الإجتماعية للأمة، وتوحيد كل المجموعات الإتنية ( العرقية ) لبلد متعدد القوميات، في النضال ضد التسلط الأجنبي. وقد سعى الخزب للإمساك بكل الفوضى الملائمة لدفع الشعب في ذلك الصراع ) لقد كتب جياب ذلك، كما كتب أيضاً: ( يجيب على جبهة الاتحاد الوطني أن تكون تجمعاً لكل القادرة على الاتحاد، وذلك يتحييد أو تجزئة كل القوى الأخرى ).
ولقد أهملت الطبقة الفلاحية في البدء. لكن هذه الغلطة الفاحشة في بلد من الفلاحين، اكتشفت بسرعة وأصلحت، وأصبح شعار الثورة ( الأرض لمن يزرعها ).
وكتب جياب أيضاً: ( كانت الإمبريالية العدوانية تشكل بالنسبة إلى الأمة الفيتنامية عدواً يجب إسقاطه. وبما أن مصالح هذا العدو قد تلاقت منذ زمن بعيد مع مصالح ملاك الأرض من الإطاعيين، فإن الصراع ضده لم يكن منفصلاً عن الصراع ضدهم. ومن جهة أخرى، وفي بلد مستعمر ومتخلف كبلدنا، حيث يشكل الفلاحون أغلبية السكان، فإن حرباً ثورية هي في جوهرها حرب الفلاحين بقيادة الطبقة العاملة ولم تكن التعبئة العامة للشعب، وإلى حد بعيد، سوى تعبئة الجماهير الريفية ).
ولم يكن ممكناً تشكيل جبهة شعبية واسعة، تضم مختلف الشيع الدينينة، وخاصة البوذية. ولقد دفع الفييتمينة ثمن ذلك غالياً في بداية الصراع في جنوبي فيتنام, وكما ذكرنا سابقاً، فإن أنصار هوشي منه كانوا يسيطرون عملياً على البلاد كلها بعد استسلام اليابانيين إلا أن فرار الشيع الدينية، كان من الأسباب التي جعلت القوات الفرنسية، التي نزلت في جنوبي فيتنام لم تلاق أية معارضة، وسرعان ما استولت على الكوشنشين وعاصمتها سايغون.
وقد كان الضعف العددي – أربعون ألف رجل بقيادة الجنرال لوكير – السبب الذي منع الفرنسيين من مد سيطرتهم على الأراضي المنخفضة لمقاطعتي ( آنام ) و ( تونكين ).
ويقول الدكتور ( برنارد فول ) في كتابه ( شارع بلا فرح والفيتناميين ) : ( لم يخطط الفرنسييون في العام 1946 إلا لحملة استعمارية تقليدية لإعادة الغزو كالحملة التي قادها المارشال ليوتي في منطقة القبائل التابعة لعبد الكريم الخطابي في العشرينات ).
وكانت الطريقة المختارة، هي المسماة ( بقعة الزيت )، وتتضمن إقامة نقطة قوية في منطقة ما، تنطلق منها قوى ( التهدئة ) لتمشيط البلد، والاقتراب من الثوار وإبادته. لكن ما أزعج لوكلير أنه لم يكن لديه عدداً من الشرطة كافياً لتنفيذ هذا التمشيط، مما جعل مجمل الخطة متهافتاً.
وتصرف الفرنسييون تماماً كما يتوقع من قوات نظامية، تعامل ثوار العصابات إما كعدو تقليدي، وإما كقطاع طرق تستطيع أرتال طائرة ( خفيفة سريعة الحركة ) إبادتهم واحد إثر آخر.
وقد توغلت مدرعات لوكلير في العمق، واستولت على الطرق الرئيسية، والمدن الموجودة على مفترقات الطرق، وقدرت بأنها حققت بداية حسنة، بدليل أنها لم تلق مقاومة حازمة في أي مكان.
ولم يفهم الفرنسيون بأن عدوهم، الذي لا يمتلك المدفعية ووسائل النقل، لم يكن بحاجة للطرق، وبأن المراكز المحصنة لا تشرف على شيء، لأن عددهم المتحرك لا يتمسك بالأرض، ولا ينوي الصراع من أجلها.
وكان الفرنسيون يسيطرون على الطرق، وثوار العصابات يمرون بشكل خفي، عبر الأدغال أو مزارع الأرز، على بعد مائة متر من الطرق. وكان الفرنسيون يحتلون المدن دون أن يحفل أعداؤهم بذلك، وكانوا يسعون للإشراف على الأرض عن طريقة إحتلالها، بينما انصب اهتمام أعدائهم فقط على اكتساب السكان. وهذا هو التباين الجوهري بين الحرب التقليدية وحرب العصابات. فالجيش يقاتل للاستيلاء، على الأرض والطرق والمرتفعات الاستراتيجية والمناطق ذات الأهمية الرئيسية، في حين يقاتل ثوار العصابات لتحقيق إشرافهم على السكان، الذين بدون تعاونهم تصبح الأرض عديمة الفائدة لمن يحتلها.
إن تكتيك بقعة الزيت، الأكثر فعالية ضد عصابات المجرمين مما هو ضد العصابات الثورية، كان بوسعه أن يعطي نتائج في الهند الصينية، لو استطاع الفرنسيون أن يكرسوا له قوات أكبر. لكن في الوضع الثوري – وخاصة عندما يجد الجند النظاميون أنفسهم في مواجهة مع ثوار محليين – فإن القمع لا يمكن أن يؤثر إلا محلياً، ولا توجد إلا طريقة واحدة لمنع الانتقاضات الجديدة: ألا وهي: إبادة السكان قاطبة. وخلال ثماني سنوات، كانت خسائر الفيتناميين كبيرة، ويقدرها الدكتور ( فول ) بثلاثة أمثال الخسائر الفرنسية، لكنها أصابت على الأرجح المدنيين الأبرياء أكثر من ثوار العصابات ( انظر الفصل السادس ).
0 التعليقات:
إرسال تعليق