22‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 31

حرب المستضعفين 31


إن حالة التخلف السائدة في المنطقة، ونسبة المواليد المرتفعة تجعلان المشاريع الاقتصادية، المماثلة لمشروع (الحلف من أجل التقدم) مجرد مسكنات، لا ترتقي إلى مستوى العلاج الجذري. ويشكل الإصلاح الزراعي الخطوة الأولى، ويأتي التصنيع بعدهوهو مستحيل بدون إيجاد الأسواق، ومحو الأمية، ووجود استثمارات ضخمة، وعلى نطاق واسع لم يُعرف من قبل.

وقبل التفكير في هذه الخطوات العملاقة، لا بد من تغيير سياسي جذري. فطالما أن الولايات المتحدة الأمريكية، متحالفة مع حكومات فاسدة ومستبدة ولا تمثل الشعب، وطالما أنا تدافع عن المصالح المستثمرة في أمريكا اللاتينية، وخاصة المصالح الأمريكية، فإن المرجل سيبقى مغلقاً، وسيزداد الضغط الثوري في داخله، حتى يحدث الانفجار المحتوم.

إن من الممكن حقاً، دعم حكمات ديكتاتورية بالمساعدة الاقتصادية والعسكرية، كما يمكن الحصول على التعاون رالرشوة والإكراه الاقتصادي، وخنق الحركات الثورية في المهد ( وتلك هي اللحظة المناسبة للقضاء عليها )، لكن الظروف تبقى على حالها، وستولد حركات أخرى بالتأكيد.

من هنا نرى، أن من الضروري التصدي لمشكلة العلاقات مع أمريكا اللاتينية، من زاوية جديدة كلياً.

ولكي نبدأ في ذلك، ينبغي التخلي عما يسمى بالعون العسكري – تلك الرشوة المعطاة باسم الدفاع عن نصف الكرة، لاكتساب ود الأوليغارشيه الحاكمة، التي لا تحتاج للدبابات أو الطائرات إلا من أجل تخويف الشعوب، التي تدّعي تمثيلها.

أما الخطوة الثانية – وهي منطقية أيضاً، لكنها شديدة الصعوبة، بسبب الحقائق الداخلية في الولايات المتحدة – فتتمثل بإعلان نظام جديد للتعامل الاقتصادي مع أمريكا اللاتينية، يضع حداً للعلاقات التجارية المخادعة، والأحلاف التجارية وحيدة الجانب، والابتزاز الاقتصادي، التي يستخدمها صناعيو أمريكا الشمالية، من أجل السيطرة على الأسواق والمستهلكين في أمريكا اللاتينية.

أما الخطوة الثالثة، وهي الأكثر راديكالية وصعوبة، فتتمثل في (احتضان الثورة).

إن من المتعذر إلغاء الثورة، ولكن بالإمكان توجيهها، وليس من الخطأ العمل على توجيهها في منحى يجعل أضرارها قليلة ما أمكن.

من المتعارف عليه في أمريكا اللاتينية، أن أبناء الطبقة الوسطى وطبقة المستخدمين من (ذوي الياقات البيض) يمارسون القيادة الثورية أكثر من الحالات، توجيه حركة شعبية نحو طريق بورجوازية أو ليبرالية، تقوم على قاعدة من الاشتراكية المحدودة تقودها حكومة ترفع يافطة الاشتراكية، وتنفيس الضغط الثوري ببعض الإصلاحات الجذرية، التي يعتبر الإصلاح الزراعي أكثرها ضرورة وإلحاحاً.

فإذا لم يتحقق هذا الحل، يبقى الخيار محصوراً بين الاشتراكية الديمقراطية والماركسية – اللينينية بأشكالها المختلفة.

وعندما نتأمل التجربة الكوبية نجد بأنه منذ العام 1958، لم تتخذ الولايات المتحدة في أية مرحلة اختيارات مستقلية خلاقة.

ففي العام 1957، وطوال العام 1958، كان بإمكان واشنطن خنق الثورة الكوبية بالتخلي صراحة عن باتيستا، وبتأييد، بل وبدعم الحركة الديمقراطية البورجوازية الليبرالية، التي كان يقودها فيديل كاسترو، ولو حدث ذلك، لاشتد ساعد العناصر الوطنية والليبرالية التي كانت تدعم كاسترو. وتناقص اعتبار المتطرفين المعادين للولايات المتحدة، وخاصة شيوعي (الحزب الاشتراكي الشعبي)، الذي لم يكن يتمتع آنذاك بشعبية مماثلة لشعبية (حركة 26 تموز).

وكانت إمكانية الخيار موجودة في العام 1959، وخلال جزء كبير من العام 1960. إلا أنه كان من المتأخر جداً إجهاض الثورة. وكانت الإجراءات الأمريكية الإيجابية آنذاك تتطلب تضحية بمصالح مالية كبيرة، على اعتبار أن تطبيق الإصلاح الزراعي من قبل الفيديليين كان ضرورة جلية، وتنفيذاً لوعد لم يكن بالإمكان التخلي عنه. ولو أن واشنطن ساعدت ذلك العمل بدلاً من الوقوف في سبيله، لكان تصرفها دليلاً على الفطنة. وقد كان من الممكن أن يتم الاستيلاء على ممتلكات أمريكية أخرى. ولكن إضفاء الطابع الاشتراكي على الاقتصاد الكوبي، كان سيؤدي – في أسوأ الحالات – إلى خسارة مالية محدودة، بينما تبقى مصالح هامة أخرى سليمة، كالحفاظ على سوق كانت بالنسبة للأمريكيين آنذاك في المرتبة السادسة من حيث الأهمية والحفاظ على علاقات تجارية ومصرفية مجزية جداً، وبالإضافة إلى تموين بالسكر ثابت ومضمون، وأخيراً وبشكل خاص، الحفاظ في بحر الأنتيل على جار ودود، بدلاً من خلق قاعدة معادية للحرب الباردة.

إن الاندفاع في حملة الخنق الاقتصادي والديبلوماسي، لم يؤد إلى الانقطاع عن كوبا فحسب، بل أدى أيضاً إلى دفعها في الاتجاه الوحيد الذي بقي أمامها، وهو اتجاه الارتباط المباشر الوثيق بالاتحاد السوفياتي. وقد يقال بأن كاسترو وأنصاره كانوا يرغبون في السير على هذا الاتجاه، لكن ذلك لا يغير شيئاً من الحقيقة القائلة بأنه كان بالإمكان تغيير مسار الأمور، وكل الاعتبارات الجغرافية والاقتصادية تقود بالضرورة إلى هذه النتيجة.

فغداً، أو في السنة القادمة أو في السنة التي تليها، قد تتواجد خيارات مماثلة (وهي تبدو في الأفق منذ الآن) – في بلاد نصف الكرة التي تعتبرها الولايات المتحدة وكأنها لها. ومن المؤكد أن الثورة لن تقتصر على بلد واحد أو بضعة بلدان، فهي في طور المخاض في كل بلدان العالم الثالث النامي، وكل شيء يتحرك في الاتجاه ذاته، بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وتحت تأثير الضرورة السياسية.

فإما أن تلجأ الولايات المتحدة إلى التفاهم الضروري مع قوى الثورة، وإما أن تخاطر في النهاية بتدمير نفسها. ولا يعني التفاهم الضروري مع قوى الثورة، وإما أن تخاطر في النهاية بتدمير نفسها. ولا يعني التفاهم قبول المحتوم فحسب، بل يعني أيضاً مشاركته وذلك يتضمن:

إعلان حرب ديبلوماسية واقتصادية على الاوليغارشيات الأمريكية اللاتينية ( الزمر العسكرية الحاكمة في أمريكا اللاتينية )، كالحرب التي أعلنها على كوبا، وقطع الصلات مع الاوليغرشيات التي تقاوم ذلك أو تقوم بالرد عليه.

تقديم مساعدة فعالة إلى المجموعات الثوريةالمختارة بشكل مناسب – بالأسلحة والأموال والمستشارين انطلاقاً من المبدأ القائل، أنه إذا كان برنامجنا الحالي الخاص بتقديم الدعم العسكري للديكتاتوريات، قيامنا بإسقاط الأسلحة بالمظلات في الاسكامبري، وإنزالنا في خليج الخنازير، عبارة عن أعمال تنسجم مع القانون الدولي، أو تشكل خرقاً مبرراً له، فإن بالإمكان تبريرها بشكل أفضل، عندما تتم الخدمة قضية أفضل.

أن نعلن بصراحة تأييدنا للثورة، حتى نسحب البساط من تحت أقدام موسكو وبكين، ونقدم للعالم الثالث الوليد خياراً آخر غير نظام الماركسية – اللينينية، وغير الامبريالية الغربية (التي تدعى قيادة العالم الحر).

ولا يزال هذا التوجه قابلاً للتطبيق بالنسبة إلى كوبا وحتى الآن. إننا نساعد تيتو، فلماذا لا نساعد كاسترو؟ وقد يبدو في ذلك تناقض لا بد من السعي إلى تبديده. من المؤكد أنه لم يكن لدى تيتو قواعد للصواريخ الذرية، لكنه لم يتعرض مطلقاً للاجتياح، ولم يكن بالتالي بحاجة إليها.

قد يكون بالإمكان ترك كاسترو وشأنه، على اعتبار أن كوبا المعزولة هي منزوعة السلاح. ولكن كوبا شيء وأمريكا اللاتينية شيء آخر. إنها قارة أكبر مساحة من قارتنا وأكثر سكاناً. وسيؤدي تخمرها عند استمراره إلى انجارات كاسحة.

إن التصدي للثورة في نصف الكرة الغربي يعني التورط في حرب طويلة الأمد، وغير مجدية، ولا يمكن كسبها. وهو يعني اختيار أعمال الشغب، والاضرابات، وأعمال التخريب، والانتفاضات الدامية، والفوضى السياسية والاقتصادية على نطاق لم يسبق له مثيل، والتي ستبلغ أوجها حتماً بمجموعة من حروب العصابات، تمتد من المكسيك إلى الأرجنتين، وتتطلب مواجهتها زج إعداد أكبر فأكبر من الجنود الأمريكيين، في هجمات عديمة الأهداف، ومعارك بلا انتصارات، وتضحيات بلا مقابل، تنتهي في آخر المطاف بهزيمة باهظة التكاليف.

إن مصالحة الثورة تعني التخلي عن الجزء الأعظم من العشرين مليار دولار المستثمرة في أمريكا اللاتينيةذلك هو المتوقع. كما أنها تعني التضحية بكثير من المميزات التي نحصل عليها، بفضل الاتفاقيات التجارية المخادعة، واليد العاملة المحلية التي يقوم عليها جزء كبير من رخائنا.

بيد أن بالإمكان اعتبار الخسارة المحتملة وكأنها نوع آخر من الاستثمارات، تعوض العشرين مليار دولار المخصصة لصالح ( الحلف من أجل التقدم ). وعلى المدى الطويل، تصبح المكاسب أعظم بكثير من أية كمية من الدولارات. وهي تتضمن قبل كل شيء الاحتفاظ بمدخل مضمون للمواد الأولية التي تعتمد عليها الصناعة الأمريكية بشكل كامل.

أما التجارة القائمة على قاعدة أكثر إنصافاً فإنها ستكون مضمونة، وسترافقها أمكانية توسيع الأسواق لمنتجاتنا المصنعة والزراعية، نظراً لارتفاع الأجور، وازدياد استهلاك الملايين من البشر المتحررين من العبودية والواصلين فعلاً إلى القرن العشرين..

إن كل هذا سيوفر عنصر الأمن الذي يبدو أنه يشغل بال صانعي سياستنا، فمن غير المعقول أن ترغب الولايات المتحدة في العيش داخل قارة مجزأة، يكُنُّ لها نصف سكانها العداء. إن الأمن الوحيد المحتمل يكمن في رخاء متبادل حقيقي، يقوم بالضرورة على عدالة اجتماعية، تكون الثورة في أمريكا اللاتينية.


إن أمامنا سبيلين: التقدم والرخاء والأمن من جهة، والكارثة الأكيدة من جهة أخرى. وليس لحرب العصابات سوى منفذ واحد هو الثورة، وليس لها سوى علاج واحد هو السلام. وقد يقول البعض أنه استسلام. وحتى لو صح ذلك، فإنه سيكون استسلام القوة أمام العقل. وهو استسلام قائم على الاعتراف بحقيقة راسخة، هي أنه لا يمكن استعباد أي شعب، إذا كان يعارض ذلك.

0 التعليقات: