حرب المستضعفين 27
ومع ذلك فإن ثوار العصابات لا يستطيعون انتقاء المنطقة الأكثر بعداً أو وعورة بحثاً عن الأمن، إذ لا بد لهم من البقاء على اتصال دائم مع السكان، حيث يجدون معين المتطوعين، ومصادر التموين، وحيث يمكنهم اختيار المراسلين الذين يؤمنون استمرار اتصالهم مع الحركة السرية في المدن.
وتفرض تلك الضرورة اختيار اقليم ذي سكان ريفيين مبعثرين ما أمكن، على أن يتواجد فيه عادة ملاجئ طبيعية، وعوائق على تحركات العدو، بالإضافة إلى ميزة أخرى هي أن إقامة الحاميات الحكومية فيه تكون مكلفة اقتصادياً.
إن بإمكان هذه الحاميات أن تستقر في التجمعات الريفية الكبيرة، وليس في الدساكر المتناثرة. إذ تضطر عند الاستقرار في الدساكر إلى الانكماش إجبارياً، وتقليص عددها حتى بضعة رجال يسهل قتلهم أو القبض عليهم والاستيلاء على أسلحتهم، الأمر الذي يمنح الثوار نجاحاً جديداً يساعدهم على نشر دعايتهم.
ومن الطبيعي أن ينسحب الجيش إلى أرض أكثر أماناً، لكنه يوسّع بذلك المنطقة التي يشرف الثوار عليها، فيزداد تموينهم ومعين تطوعهم، ويحصلون على مجال أكبر للمناورة.
وهناك اعتبار آخر: إن حيازة المناطق المكتظة، يكفل للثوار نوعاً من الأمان. لأن الحكومة – الواقعة تحت تأثيرات سياسية وإنسانية – لا تستطيع السماح بقتل المدنيين دون تمييز ( مع أن ذلك ليس بقاعدة كما حدث في فيتنام
وحتى في المدن الكبرى، حيث مراقبة الشرطة شديدة، كان بإمكان السكان المتعاطفين إخفاء الثوار. وقد استطاع الفرنسيون، بالطرق التعسفية التي استعملوها في مدينة الجزائر، تصفية ثوار جبهة التحرير الوطنية عملياً داخل المدينة. ويرجع ذلك إلى أن المسلمين في حي ( القصبة )، كانوا منفصلين عرقياً ومادياً عن السكان الفرنسيين. ويستطيع الجنود، وخاصة عندما يكونون من الأجانب، قمع ثورة مدينية، وذلك باعتماد طرق الحرب، أي بمراقبة كل الحركات، وبالإبادة الشرسة لسكان أي حي يبدي مقاومة أمامهم. ومن الممكن الإخضاع التدريجي لسكان مدينة بتجويعهم وإرعابهم، لكن هذه الطرق لا تنطبق على الحرب الأهلية حيث لا توجد وسيلة مضمونة للتعرف على أعضاء كل معسكر من المعسكرين المتجابهين.
إن الأرض والشروط المحلية تتحكم حتماً بتعداد وتنظيم عصابة من الثوار. ولقد تأكد في كوبا، أن التشكيل الأكثر ملائمة لجبال السييرا مايسترا هو ( الرتل ) المؤلف من مائة إلى مائة وعشرين رجلاً. وكان هذا التشكيل قادراً على مواجهة كل مجموعة عسكرية أقل مرونة، ويصعب تموينه في تلك المنطقة الفقيرة بالسكان.
أما في القطاعات السكنية الأكثر كثافة وزراعة، فقد كان بإمكان ثلاثين أو أربعين رجلاً، احتلال ضيعة أو قرية صغيرة مع ضواحيها، وإقامة نقاط أمامية على حدود ( المنطقة الحرة ) وإدارة المنطقة، كدولة ضمن دولة.
وكانت إمكانية الاختباء عاملاً حاسماً في مناطق الضواحي، فثوار العصابات الذين كانوا يهاجمون حركة السير على الطرقات ويقطعون، خطوط الطاقة، كانوا يعملون ضمن مجموعات من ثلاثة إلى ثمانية رجال. أما العمليات على المراكز العسكرية والمنشآت الصناعية المجاورة للمدن، فكانت تسند غالباً إلى المغاوير القاطنين في المدينة، والذين كانوا يعودون إلى بيوتهم مباشرة بعد ذلك، وينصرفون في اليوم التالي إلى اهتماماتهم المعتادة.
ولقد أخذ جيفارا في الاعتبار، الظروف السائدة في معظم جمهوريات أمريكا الجنوبية، فقدّر بأن نواة من ثلاثين إلى خمسين رجلاً مسلحاً، تكفي للبدء بنشاط حرب العصابات، وتمتلك فرصاً حسنة لإحراز النجاح. فإذا تجاوزت هذه النواة ( المنظمة والمسلحة بسرية تامة ) عدد المائة وخمسين رجلاً، غدا من الضروري تقسيمها والبدء بالعمل في منطقتين تبعد أحداهما عن الأخرى. وعندما تتجاوز أية وحدة عاملة المائة رجل، ينبغي تقسيمها أيضاً، وفتح جبهة جديدة. وهنا أسباب إيجابية وسلبية تفرض ذلك، فثوار العصابات مبشرون، لا يقتصر دورهم على مواجهة الجيش، بل يتضمن أيضاً نشر العصيان بين الشعب، لذلك كان من الضروري توسيع منطقة الاتصال مع الجماهير.
وتبدأ نواة ثوار العصابات الأعمال الحربيةفي مكان لا يبعد كثيراً عن ملجأ طبيعي، وفي منطقة زراعية ذات كثافة سكانية قليلة، ومشرفة على عدة أهداف استراتيجية: سكك حديدية لا دب من قطعها، وطرق ينبغي إغلاقها،ومناجم ومصانع يمكن تدميرها، ومراكز صغيرة للجنود أو الشرطة يمكن الهجوم عليها، والاستيلاء على الأسلحة الموجودة فيها. ويبقى عمل المجموعة السرية في المدن متقطعاً، لكنه يكمل العمل في الريف، ويعطي الانتفاضة طابعاً وطنياً، ويحدث أكبر أثر من الدعاية الممكنة. أن إشعال الثورة غير كاف لوحده، ولا بد من جذب انتباه كل الأمة، وصبغ الطلقات الأولى بصيغة مثيرة، حتى لا تمضي تحت ستار الصمت، أو تُعتبر غير ذات أهمية من قبل الصحافة الخاضعة للمراقبة، كما حدث غالباً مع أعمال العصيان المجهضة، حيث تواجدت الحكومة في عاصمة احتفظت بالهدوء بعيداً عن مكان العمليات.
وبعد هدوء المشاعر، وإعادة النظام في التجمعات السكنية التي حدثت فيها الاضطرابات، يتوجب على ثوار العصابات أن يتوقعوا قدوم الجيش إليهم لنزالهم، وليس عليهم الذهاب إليه. وتعد الحكومة عندها حملة، لقمع ( المخربين )، ويصل الجنود بالبر والجو إلى منطقة الاضطراب، وتحاول الطائرات الاستدلال على مكان العصابات، ويحتل الجنود القرى، ويقومون بدورياتهم على الطرق، وتتقدم الأرتال بعيداً لتحقيق التماس مع الثوار، وقد تستخدم طائرات الهليكوبتر في بعض الحالات لوضع الحاميات في معسكرات استراتيجية في الغابات والجبل. فإذا كان القائد العسكري يحسن مهنته، فإنه يستطيع تبني بعض الأساليب المشقة من الطريقة الفرنسية المسماة ( بقعة الزيت )، وذلك بأن يخلي تدريجياً قطاعاً من خريطته، ويدفع ثوار العصابات، بشكل منهجي نحو ( منطقة الإبادة )، حيث يؤدي بهم طريق الانسحاب الوحيد إلى مكان مكشوف، فيقعون تحت نيران البنادق، مثل الطريدة المدفوعة نحو الصيادين.
وطريقة ( بقعة الزيت ) هذه مضمونة نظرياً، لكنها لا تكون كذلك عند التطبيق، العملي. فنادراً ما تقبل حكومة الإعلان عن خشيتها الجدية من نشاط عصابة صغيرة من الثوار، لذا فهي تميل إلى عدم تزويد حملة القمع بالقوات الضرورية، أي أنها لا تعمل على تحقيق التفوق بمعدل عشرة إلى واحد، علماً بأن تفوقاً يعادل 500 إلى واحد، قد لا يكون مبالغاً فيه في بعض الحالات.
ومهما بلغ عدد الجنود المشتركين، في الحملة، فإن ثوارالعصابات يتقيدون ببعض المبادئ عند قتالهم، فهم لا يسعون إلى احتلال أرض، ولا إلى مواجهة قوة متفوقة، ويقتصرون على تشتيت قوات عدوهم، وإنهاكها، وإلحاق الخسائر بها، مع تحاشي التعرض للخسائر. وفي هذا النوع من العمليات يشكل الكمين المنصوب بإحكام الوسيلة الأكثر ضماناً. ويكتب صن تزو حول ذلك: ( بصورة عامة، إن الذي يحتل ساحة المعركو أولاً، وينتظر عدوه فيها، يرتاح أكثر ممن يصل إلى ساحة المعركة عند نشوبها إذ يكون متعباً ).
ولا يشن ثوار العصابات معركة إلا إذا كانت الأرض مناسبة لهم. وعليهم أن يجتذبوا العدو إلى الموقع التي لا يلعب التفوق العددي فيها دوره، كأن تكون المعركة مثلاً في ممر ضيق، ويكون ذلك عادة باحتلال مرتفعات مسيطرة، مشجرة، وحيث تستطيع حفنة من الرجال المصممين، إحباط عمل جيش بأكمله.
والمهم في الكمين، هو قطع جزء من الرتل المعادي – كمقدمته – وتركيز النار عليه لتدميره والاستيلاء على أسلحته وذخيرته، بينما تقوم مجموعة صغيرة بإبطاء تقدم بقية الرتل. ويكتب تشي جيفارا عن هذا الموضوع فيقول:
( عندما تريد مجموعة قليلة العدد احتواء رتل من الغزاة أو إبطاء تقدمه، فعليها أن تعمل بالطريقة التالية: تتوزع زمر مؤلفة من اثنين إلى عشرة رماة في الاتجاهات الأربع حول الرتل. ويمكن للمعركة أن تبدأ عندها على الجانب الأيمن مثلاً. ويرد العدو على هذه الجهة، وعندها تفتح النار على الجانب الأيسر، ثم تفتح في لحظة أخرى على المؤخرة أو المقدمة، وهكذا.
وعندما يصبح بالإمكان تثبيت العدو إلى ما لا نهاية، مع صرف كميات قليلة جداً من الذخيرة ).
وأثناء تأخير العدو بهذه الطريقة، تجمع القوة الضاربة لثوار العصابات غنيمتها العسكرية، ونتقل إلى موضع محضر آخر، أو تعود إلى الخلف لتشتبك باتجاه آخر، ويلتحق بها الرماة قبل أن يتسنى للجنود التقاط أنفاسهم للقيام بهجوم معاكس، ويجري ذلك كله خلال بضع دقائق.
وعندما تبلغ حرب العصابات أشُدها، يجد الجيش نفسه أمام خيارين: إن تفوقه العددي وتسليحه القوي، يسمحان له بأن يدخل دائماً إلى منطقة الثوار بعد أن يتكبد بعض الخسائر، دون أن يحصل على ميزة حقيقية، لأنه ليس للأرض المكتسبة أية قيمة استراتيجية أو اقتصادية بالنسبة إلى التكلفة. وإذا استطاع الجنود حشد قوة كبيرة في مكان ما، فإن ثوار العصابات ينقلون نشاطهم ببساطة إلى مكان آخر. ولا يستطيع الجيش أن يكون موجوداً في كل مكان وفي نفس الوقت. أما إذا لم يبق الجنود في المكان، فإن الأرض تعود إلى الثوار الذين يمكنهم بعد ذلك الإفادة من سكانهم وإنتاجها.
وطبيعي أن تنجم عن ذلك مشاكل سياسية. فللتنازل عن أقسام هامة من الاقتصاد الزراعي انعكاسات لا بد أن تظهر. وتقوم الفئات التي تتأثر مصالحها من هذا الوضع، بالضغط على الحكومة، وقد تبدأ البحث عن بديل سياسي. ويؤثر تدهور الوضع الحكومي على الرأي العام، ويقسم الناس، وتتشجع العناصر الأكثر تطرفاً غب المدن، ويتصاعد الشعور الثوري الذي تؤججه الحركة السرية، ويزداد قلق الحكومة أكثر فأكثر، وتميل إلى تصعيد تدابيرها القمعية.
في مثل هذه الظروف، تنسحب القوات العسكرية إلى التجمعات السكنية الكبرى متخلية بذلك عن الأرياف للثوار، الذين تتسع مصادر تموينهم ومنابع متطوعيهم، وتغدو عصابات الثوار جيشاً، فيستولون على القرى الكبرى، وينسفون الجسور، ويقطعون الطرقات والسكك الحديدية، ولا تلبث التجمعات السكنية الكبرى أن تجد نفسها شيئاً فشيئاً مخنوقة اقتصادياً، وتغدو القوافل العسكرية عاجزة عن الحركة دون التعرض للخطر.
وقد لوحظ هذا السياق سابقاً في نصف الكرة الغربي، وهو جار حالياً في جنوبي شرقي آسيا، إلا أنه لا يمثل بالضرورة السياق الوحيد الذي يمكن أن تتبعه حرب ثورية. وهل يمكن القول أن الولايات المتحدة نفسها منيعة على ذلك؟ إن تعقيدات المجتمعات الحديثة المدينية الصناعية، تجعلها حساسة جداً إزاء التخريب على نطاق واسع, ولم يغب ذلك عن بال متطرفي الحركة الوطنية السوداء، الذين لا يمثلون عدداً كبيراً، ولكنهم شديدوا التعصب. ولقد اكتشف مؤامرة غريبة في شباط 1965. وهي تعطينا فكرة عن نواياهم. ويقال أنهم كانوا ينوون نسف ( تمثال الحرية ) في نيويورك، و ( جرس الحرية ) في فيلادلفيا وتمثال جورج واشنطن. وفي مقال في Esquire، ظهر في تشرين الأول 1964 تحت عنوان ( الأسود الأمريكي، صيني وأحمر )، كتب الصحفي الزنجي ( وليام وورثي ) ما يلي:
( أعلنت حركة العمل الثورية، معتمدة على الدعم المالي والمادي الآتي من آسيا وأفريقيا، ضرورة استعمال القدرات الأساسية الثلاث التي يملكها السود، وهي:
1- القدرة على توقيف الآلية الحكومية.
2- القدرة على النيل من الاقتصاد.
3- القدرة على إثارة العنف.
أما الزعيم الزنجي روبرت وليامز، الرئيس الأسبق ( للتجمع الوطني في سبيل ترقية العروق الملونة )، والذي اضطر إلى الفرار إلى كوبا بعد حادث عرقي حدث في ( مونرو ) ( كارولينا الشمالية ) في العام 1961، فقد كتب في The Crusader ما يلي:
( عندما تلجأ الجموع إلى العنف، فستعم البلبلة والفوضى الولايات المتحدة... وسيخشى عمال المصانع والهاتف والإذاعة من الذهاب إلى عملهم، وستتوقف كل وسائط النقل... وستنسف خطوط الأنابيب الرئيسية، وستحدث أعمال تخريب... وسيتفشى الصراع في القوات المسلحة. وفي كل القواعد الأمريكية في العالم، سيقف الثوريون المحليون إلى جانب قضية الجنود السود...
ويتحدى المفهوم الجديد للثورة العلم والتكتيك العسكري. إنه يتضمن حملات صاعقة تقع في المجتمعات المدينية المفرطة الحساسية، ويعم الشلل التجمعات السكنية الأقل أهمية ومن ثم الأرياف. أما حرب العصابات القديمة التي تنطلق من الجبال والأرياف، فإنها لن تكون مجدية في بلد يمثل قوة الولايات المتحدة. وأية قوة عصابات تقليدية يمكن أن تُكنس في غضون ساعة.
ويتمثل المفهوم الجديد في البقاء على مقربة من العدو ما أمكن، بغية تحييد أشد أسلحته حداثة وفتكاً... ويسعى هذا المفهوم إلى تفتيت عناصر الانسجام والنظام، وتحجيم السلطة المركزية إلى مستوى أخطبوط ذي أذرع عاجزة. ويتضمن المفهوم الجديد حدوث الاضرابات المتقطعة وإجراء الرمايات الشديدة نهاراً، ومع قدوم الليل تأتي الحرب الشاملة، والمعارك المنظمة، وانطلاق الإرهاب بلا حدود ضد المستبد وقواه. وستضع مثل هذه الحملة حداً للعنف وللظلم الاجتماعيين في الولايات المتحدة في خلال مدة تقل عن ثلاثة أشهر ).
ويذكر وليامز مقابلة أجراها مع شخص يحمل لقب ( م. لومومبا ) ( تيمناً باسم الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا )، ويعتبر واحداً من قادة الحركة السرية، ويقول وليامز أن هذا الشخص قد صرّح أمامه بما يلي:
إن الولايات المتحدة شديدة الحساسية اقتصادياً ومادياً.
وإذا ما أحسن توجيه الشبيبة السوداء، أمكنها أن تشل البلاد. فالمجموعات الصغيرة قادرة على تدمير السدود الثمانية الكبرى، والتي تنتج الجزء الأعظم من الطاقة الكهربائية.
ماذا يحدث من هذه الفوضى؟ حرب عصابات على الأغلب. ولا أعتقد أن البيض كلهم سيشاركون فيها، لكن الجماعة السوداء كلها ستساهم فيها.
إننا نطلق على البيض لقب ( قطعة الحلوى ). فعندما يتوقف التلفزيون، وينقطع رنين الهاتف، سينهار العالم كله. إننا واثقون من ذلك. وسيلزم البيض بيوتهم كما لو كان هناك قصف جوي وسينتظرون عودة التلفزيون إلى العمل
إن في هذا الأقوال الكثير من التبجحات، وقد تكون مقرونة بسوء إدراك شريف للموقف. وليس هناك ما يشير حتى الآن، إلى أن أغلبية الشبيبة الأمريكية السوداء مستعدة للجوء إلى العنف. ومع ذلك، فإن الوطنيين السود على حق في نقطة. وهي أنه عندما تتواجد إرادة مقومة السلطة، يمكن دائماً إيجاد الوسائل لعمل ذلك، وحتى أفضل المجتمعات، المحمية من قبل الشرطة، ليست محمية من الانتفاضة.
إن ثائر العصابات ينجح بمجرد استمراره على قيد الحياة. وهو ينجح لأنه يستعمل طرقاً متقدمة. فبالمسدس والساطور، وحتى بالقوس أو الرمح، يمكن أن يستولي على بندقية. وعندما يحوز على عشرين بندقية يمكن الاستيلاء على رشاش، وعندما يصبح الرشاش في يده، يكون بوسعه استخدام الرشاش والبنادق العشرين لتدمير قافلة مجهزة بخمسة رشاشات وخمسين ألف طلقة. وبدزينة من المعاول وعدد من صفائح الوقود، يمكنه تدمير دبابة، ويستطيع بأسلحته أيضاً إسقاط طائرة أو هليكوبتر تحمل سلاحاً.
والمدفعية عاجزة أمامه، لأنها لا تتوصل إلى الإمساك به، وينطبق هذا القول على الطيران – نسبياً، لأن الحكومة لا تستطيع أن تجيز لنفسها قصف المدنيين بلا تمييز، لأن ثائر حرب العصابات يختبئ بينهم.
وفي وقت من الأوقات، بنيت آمال كبيرة على طائرات الهليكوبتر، التي أدت خدمات جلي في الصحراء الكبرى ( الجزائرية )، لكنها خيّبت الآمال المعقودة عليها في أدغال فيتنام، حيث تعلم الفيتكونغ نصب الأفخاخ للهليكوبترات، وكانت الخسائر منها فادحة.
وتتحدث الكراسات الأمريكية الخاصة بتقنيات الحرب غير النظامية، عن مختلف الأسلحة الحيوية (البيولوجية) والكيميائية، ويوصي بها خاصة عندما يكون ثوار العصابات مختلطين مع المدنيين الأبرياء، الذين لا يمكن أن يقتلوا، أو يجب ألا يقتلوا.
والغاية من الأسلحة البيولوجية، إصابة ثوار العصابات بأمراض فيروسية مؤقتة، تنقص قدرتهم على مقاومة الهجوم عليهم، بحيث يمكن للمشاة القائمين باجتياح قطاع معيّن قتلهم أو أسرهم، دون أن يلحقوا ضرراً بغير المقاتلين. إنها – إذا جاز التعبير – وسيلة لفرز المناشف عن الخرق.
وقد اقترح لهذا الغرض أيضاً استعمال غازات غير قاتلة ( محمولة مثل الأسلحة البيولوجية داخل قذائف، أو قنابل، أو مرشوشة من الطائرات المحلقة على ارتفاع منخفض ). وتستطيع هذه الغارات إصابة كافة المتواجدين في منطقة القتال بأمراض مؤقتة، قبل البدء بالهجوم عليها، الأمر الذي يؤدي إلى تجنب إراقة الدماء.
وتبدو الفكرة إنسانية ومنطقية معاً، لكنها فشلت عند التطبيق العملي. ففي بداية العام 1965، استعملت هذه الغـازات ( وهي مزيج من غارات المسيلة للدموع والغازات المقيّئة من النوع المستعمل لتفريق المتظاهرين )، في فيتنام ثلاث مرات. وكانت نتائجها معدومة. فقد تبخرت الغازات مرتين دون أن تحدث أي أثر، وأدت في المرة الثالثة إلى مرض السكان، لكن الجنود لم يجدوا ثوار عصابات بينهم.
وكان لاستعمالها في المقابل أثر دعائي هائل وشديد الضرر لأولئك الذين استعملوها. عندما أعلنت واشنطن في آذار 1965، وبلا مبالاة، عن استعمالها الغازات في فيتنام، كان رد الفعل في العالم مباشراً. وقامت الصحافة الآسيوية، وخاصة اليابانية التي لم تنس بعد آثار قنبلتي هيروشيما وناغازاكي – بالاعلان عن سخطها، وأجرت لندن وباريس تحقيقاً ديبلوماسياً، وأدانت غالبية الصحف الأمريكية استعمال الغازات، بما في ذلك أقلها ضرراً، واعتبرت هذا العمل منافياً لقواعد الحرب المتحضرة، وقد يؤدي إلى أسوء همجية.
وكانت الصين قد اتهمت الولايات المتحدة بشن ( حرب جرثومية ) إبان الحرب الكورية، مما أثار الرأي العام آنذاك. وجاء رد الفعل العالمي على استخدام الغازات في فيتنام ليزيد الوضع سوءاً، مما أضطر الأمريكيين إلى التخلي عن استخدام الغازات والأسلحة البيولوجية، والتي بقيت لم تتثبت فعاليتها العسكرية. وهناك أسلحة حديثة أخرى أشد خطراً من الغاز، كالفسفور الأبيض الذي يصيب الإنسان بعاهة دائمة. فهو إن لم يقتل، فإنه يسبب جروحاً بشعة، ويخترق حتى الفولاذ، ولا يصبح غير مؤذٍ، إلا إذا غمس في الماء.
وهناك القنبلة العنقودية التي تزن ألف رطل، وتنفلق في الجو، فتخرج منها مائة رمانة تتناثر ضمن دائرة نصف قطرها مائة متر. وهي تشكل ولا شك سلاحاً فعالاً ضد رجال العصابات.
وتستطيع العربات المدرعة الحديثة ( البرمائية ) اختراق أشد المستنقعات عمقاً، ويستطيع جهاز الرؤية الليلية العامل بالأشعة تحت الحمراء كشف ثوار العصابات المختفين وراء ستار الظلام. وهناك نموذج أكثر حداثة يعمل وفق مبدأ تكثيف ضوء النجوم. وتكشف الرادارات المتحركة رجلاً يزحف على بعد ألف متر. أما الاستعمال الأسلحة الصامتة ( المزودة بكاتم الصوت ) فإنها تجعل كشف قانصي الثوار صعباً مثل كشف الثوار أنفسهم.
ومع هذا، فإن خبراء الحرب المضادة للثوالار يعترفون، بأن التقنية لوحدها عاجزة عن التغلب على حرب العصابات، ولا تستطيع إلا أن تجعلها أكثر صعوبة وأشد خطراً فالصراع قبل كل شيء ذو سمة اجتماعية وسياسية، ويستمر البرغوث على قيد الحياة بفضل القفز والاختفاء. وهو يحقق النصر لأنه يتكاثر بسرعة فائقة لا يمكن إدراكها.
ولقد قال لي فيديل كاسترو
وعندما أجريت معه مقابلة صحفية في السيـيرا مايسـترا في بداية العام 1957 ( نحن
نعلم دائماً أمكنة الجنود وهم لا يعلمون شيئاً أبداً عن مكان وجودنا، فنحن
نغدو ونروح على مزاجنا، مجتازين الخطوط، فلا يستطيعون مطلقاً اكتشافنا، إلا إذا رغبنا
في ذلك بأنفسنا، وفي ظروف نقوم نحن باختيارها ).
ولم يكن لديه آنذاك أكثر من مائة رجل، وكان محاطاً ( نظرياً ) بحوالي خمسة آلاف من جنود باتيسيا. ولكن كلمة محاط لا تحمل أي معنى في الأرض الموحشة المحرومة من الريفيين الذين يكنون له العطف ولباتيسيا العداء. والمحيط أيضاً يحيط بما فيه، لكن السمكة تسخر من ذلك.
ولم يكن لديه آنذاك أكثر من مائة رجل، وكان محاطاً ( نظرياً ) بحوالي خمسة آلاف من جنود باتيسيا. ولكن كلمة محاط لا تحمل أي معنى في الأرض الموحشة المحرومة من الريفيين الذين يكنون له العطف ولباتيسيا العداء. والمحيط أيضاً يحيط بما فيه، لكن السمكة تسخر من ذلك.
ويجب اختيار الأرض المناسبة عندما
يكون ذلك ممكناً، والمثالي منها ما كان ريفياً أكثر مما هو مديني، وما كان وعراً
تكسوه الغابات الكثيفة، والسكك الحديدية الطويلة، والطرق السيئة، مع اقتصاد زراعي
أكثر مما هو صناعي. كما أن لتركيز السكان، أو تبعثرهم النسبي، أهمية كبيرة أيضاً.
فالمنطقة ذات السكان الريفيين المبعثرين هي أكثر ملاءمة من منطقة فيها تجمعات
سكنية عظيمة، تفصلها مساحات مزروعة غير مسكونة.
ويجب أن تقوم هذه الأرض ملاجئ طبيعية، وعوائق تحدّ من التحركات العسكرية، كالجبال أو المستنقعات العصيّة على الدبابات والشاحنات. وتسمح الأحراج والأدغال بالتخلص من المرصد الجوي، وتشكل الغابات منطلقاً للهجوم السريع والمضمون على السكك الحديدية والطرق، ونصب الكمائن للوحدات الصغيرة.
ولا بد من وجود ما يكفي من المجال للمناورة الحرة، دون أن الخشية من خطر الوقوع في حصار لولبي. وكلما ازداد قطاع العمليات اتساعاً، كثرت صعوبة الاستدلال على الثوار من قبل الجيش، ولا بد للحكومة عندها من تشتيت قواتها وتطويل اتصالاتها.
ويجب أن تقوم هذه الأرض ملاجئ طبيعية، وعوائق تحدّ من التحركات العسكرية، كالجبال أو المستنقعات العصيّة على الدبابات والشاحنات. وتسمح الأحراج والأدغال بالتخلص من المرصد الجوي، وتشكل الغابات منطلقاً للهجوم السريع والمضمون على السكك الحديدية والطرق، ونصب الكمائن للوحدات الصغيرة.
ولا بد من وجود ما يكفي من المجال للمناورة الحرة، دون أن الخشية من خطر الوقوع في حصار لولبي. وكلما ازداد قطاع العمليات اتساعاً، كثرت صعوبة الاستدلال على الثوار من قبل الجيش، ولا بد للحكومة عندها من تشتيت قواتها وتطويل اتصالاتها.
ومع ذلك فإن ثوار العصابات لا يستطيعون انتقاء المنطقة الأكثر بعداً أو وعورة بحثاً عن الأمن، إذ لا بد لهم من البقاء على اتصال دائم مع السكان، حيث يجدون معين المتطوعين، ومصادر التموين، وحيث يمكنهم اختيار المراسلين الذين يؤمنون استمرار اتصالهم مع الحركة السرية في المدن.
وتفرض تلك الضرورة اختيار اقليم ذي سكان ريفيين مبعثرين ما أمكن، على أن يتواجد فيه عادة ملاجئ طبيعية، وعوائق على تحركات العدو، بالإضافة إلى ميزة أخرى هي أن إقامة الحاميات الحكومية فيه تكون مكلفة اقتصادياً.
إن بإمكان هذه الحاميات أن تستقر في التجمعات الريفية الكبيرة، وليس في الدساكر المتناثرة. إذ تضطر عند الاستقرار في الدساكر إلى الانكماش إجبارياً، وتقليص عددها حتى بضعة رجال يسهل قتلهم أو القبض عليهم والاستيلاء على أسلحتهم، الأمر الذي يمنح الثوار نجاحاً جديداً يساعدهم على نشر دعايتهم.
ومن الطبيعي أن ينسحب الجيش إلى أرض أكثر أماناً، لكنه يوسّع بذلك المنطقة التي يشرف الثوار عليها، فيزداد تموينهم ومعين تطوعهم، ويحصلون على مجال أكبر للمناورة.
وهناك اعتبار آخر: إن حيازة المناطق المكتظة، يكفل للثوار نوعاً من الأمان. لأن الحكومة – الواقعة تحت تأثيرات سياسية وإنسانية – لا تستطيع السماح بقتل المدنيين دون تمييز ( مع أن ذلك ليس بقاعدة كما حدث في فيتنام
وقد برهنت التجارب في ماليزيا
أو الفلبين، عن الخطر الناتج من الابتعاد عن المناطق المأهولة، حيث نجح
العسكريون في كلتا الحالتين في عزل الثوار وفصلهم عن منبع قوتهم، وكانت
النتائج قاتلة، بالنسبة إلى ثوار. ومن جهة أخرى، برهن مقاتلوا إيوكا القبارصة، بأنه
يمكن أن تنجح حرب العصابات، حتى في جزيرة صغيرة لا تقدم المجال الكبير للمناورة،
ولا الملجأ المنيع. وكان جنود غريفاس يرتدُّن إلى التجمعات السكنية إذا ازداد
الضغط في الجبال كثيراً. أما أولئك الذين لا يستطيعون ذلك، فكانوا يعيشون كالثعلب في
جحور أُحسن تمويهها، بحيث كان الجنود البريطانيون، يمرون غالباًً فوقها دون أن
يشكو فيها. وكان آخرون يتسترون خلال النهار في مخابئ مجهزة داخل المنازل، حتى إذا
حل الليل، خرجوا منها للقيام بهجماتهم. تلك كانت المقاومة السرية الكاملة.
وحتى في المدن الكبرى، حيث مراقبة الشرطة شديدة، كان بإمكان السكان المتعاطفين إخفاء الثوار. وقد استطاع الفرنسيون، بالطرق التعسفية التي استعملوها في مدينة الجزائر، تصفية ثوار جبهة التحرير الوطنية عملياً داخل المدينة. ويرجع ذلك إلى أن المسلمين في حي ( القصبة )، كانوا منفصلين عرقياً ومادياً عن السكان الفرنسيين. ويستطيع الجنود، وخاصة عندما يكونون من الأجانب، قمع ثورة مدينية، وذلك باعتماد طرق الحرب، أي بمراقبة كل الحركات، وبالإبادة الشرسة لسكان أي حي يبدي مقاومة أمامهم. ومن الممكن الإخضاع التدريجي لسكان مدينة بتجويعهم وإرعابهم، لكن هذه الطرق لا تنطبق على الحرب الأهلية حيث لا توجد وسيلة مضمونة للتعرف على أعضاء كل معسكر من المعسكرين المتجابهين.
إن الأرض والشروط المحلية تتحكم حتماً بتعداد وتنظيم عصابة من الثوار. ولقد تأكد في كوبا، أن التشكيل الأكثر ملائمة لجبال السييرا مايسترا هو ( الرتل ) المؤلف من مائة إلى مائة وعشرين رجلاً. وكان هذا التشكيل قادراً على مواجهة كل مجموعة عسكرية أقل مرونة، ويصعب تموينه في تلك المنطقة الفقيرة بالسكان.
أما في القطاعات السكنية الأكثر كثافة وزراعة، فقد كان بإمكان ثلاثين أو أربعين رجلاً، احتلال ضيعة أو قرية صغيرة مع ضواحيها، وإقامة نقاط أمامية على حدود ( المنطقة الحرة ) وإدارة المنطقة، كدولة ضمن دولة.
وكانت إمكانية الاختباء عاملاً حاسماً في مناطق الضواحي، فثوار العصابات الذين كانوا يهاجمون حركة السير على الطرقات ويقطعون، خطوط الطاقة، كانوا يعملون ضمن مجموعات من ثلاثة إلى ثمانية رجال. أما العمليات على المراكز العسكرية والمنشآت الصناعية المجاورة للمدن، فكانت تسند غالباً إلى المغاوير القاطنين في المدينة، والذين كانوا يعودون إلى بيوتهم مباشرة بعد ذلك، وينصرفون في اليوم التالي إلى اهتماماتهم المعتادة.
ولقد أخذ جيفارا في الاعتبار، الظروف السائدة في معظم جمهوريات أمريكا الجنوبية، فقدّر بأن نواة من ثلاثين إلى خمسين رجلاً مسلحاً، تكفي للبدء بنشاط حرب العصابات، وتمتلك فرصاً حسنة لإحراز النجاح. فإذا تجاوزت هذه النواة ( المنظمة والمسلحة بسرية تامة ) عدد المائة وخمسين رجلاً، غدا من الضروري تقسيمها والبدء بالعمل في منطقتين تبعد أحداهما عن الأخرى. وعندما تتجاوز أية وحدة عاملة المائة رجل، ينبغي تقسيمها أيضاً، وفتح جبهة جديدة. وهنا أسباب إيجابية وسلبية تفرض ذلك، فثوار العصابات مبشرون، لا يقتصر دورهم على مواجهة الجيش، بل يتضمن أيضاً نشر العصيان بين الشعب، لذلك كان من الضروري توسيع منطقة الاتصال مع الجماهير.
وتبدأ نواة ثوار العصابات الأعمال الحربيةفي مكان لا يبعد كثيراً عن ملجأ طبيعي، وفي منطقة زراعية ذات كثافة سكانية قليلة، ومشرفة على عدة أهداف استراتيجية: سكك حديدية لا دب من قطعها، وطرق ينبغي إغلاقها،ومناجم ومصانع يمكن تدميرها، ومراكز صغيرة للجنود أو الشرطة يمكن الهجوم عليها، والاستيلاء على الأسلحة الموجودة فيها. ويبقى عمل المجموعة السرية في المدن متقطعاً، لكنه يكمل العمل في الريف، ويعطي الانتفاضة طابعاً وطنياً، ويحدث أكبر أثر من الدعاية الممكنة. أن إشعال الثورة غير كاف لوحده، ولا بد من جذب انتباه كل الأمة، وصبغ الطلقات الأولى بصيغة مثيرة، حتى لا تمضي تحت ستار الصمت، أو تُعتبر غير ذات أهمية من قبل الصحافة الخاضعة للمراقبة، كما حدث غالباً مع أعمال العصيان المجهضة، حيث تواجدت الحكومة في عاصمة احتفظت بالهدوء بعيداً عن مكان العمليات.
وبعد هدوء المشاعر، وإعادة النظام في التجمعات السكنية التي حدثت فيها الاضطرابات، يتوجب على ثوار العصابات أن يتوقعوا قدوم الجيش إليهم لنزالهم، وليس عليهم الذهاب إليه. وتعد الحكومة عندها حملة، لقمع ( المخربين )، ويصل الجنود بالبر والجو إلى منطقة الاضطراب، وتحاول الطائرات الاستدلال على مكان العصابات، ويحتل الجنود القرى، ويقومون بدورياتهم على الطرق، وتتقدم الأرتال بعيداً لتحقيق التماس مع الثوار، وقد تستخدم طائرات الهليكوبتر في بعض الحالات لوضع الحاميات في معسكرات استراتيجية في الغابات والجبل. فإذا كان القائد العسكري يحسن مهنته، فإنه يستطيع تبني بعض الأساليب المشقة من الطريقة الفرنسية المسماة ( بقعة الزيت )، وذلك بأن يخلي تدريجياً قطاعاً من خريطته، ويدفع ثوار العصابات، بشكل منهجي نحو ( منطقة الإبادة )، حيث يؤدي بهم طريق الانسحاب الوحيد إلى مكان مكشوف، فيقعون تحت نيران البنادق، مثل الطريدة المدفوعة نحو الصيادين.
وطريقة ( بقعة الزيت ) هذه مضمونة نظرياً، لكنها لا تكون كذلك عند التطبيق، العملي. فنادراً ما تقبل حكومة الإعلان عن خشيتها الجدية من نشاط عصابة صغيرة من الثوار، لذا فهي تميل إلى عدم تزويد حملة القمع بالقوات الضرورية، أي أنها لا تعمل على تحقيق التفوق بمعدل عشرة إلى واحد، علماً بأن تفوقاً يعادل 500 إلى واحد، قد لا يكون مبالغاً فيه في بعض الحالات.
ومهما بلغ عدد الجنود المشتركين، في الحملة، فإن ثوارالعصابات يتقيدون ببعض المبادئ عند قتالهم، فهم لا يسعون إلى احتلال أرض، ولا إلى مواجهة قوة متفوقة، ويقتصرون على تشتيت قوات عدوهم، وإنهاكها، وإلحاق الخسائر بها، مع تحاشي التعرض للخسائر. وفي هذا النوع من العمليات يشكل الكمين المنصوب بإحكام الوسيلة الأكثر ضماناً. ويكتب صن تزو حول ذلك: ( بصورة عامة، إن الذي يحتل ساحة المعركو أولاً، وينتظر عدوه فيها، يرتاح أكثر ممن يصل إلى ساحة المعركة عند نشوبها إذ يكون متعباً ).
ولا يشن ثوار العصابات معركة إلا إذا كانت الأرض مناسبة لهم. وعليهم أن يجتذبوا العدو إلى الموقع التي لا يلعب التفوق العددي فيها دوره، كأن تكون المعركة مثلاً في ممر ضيق، ويكون ذلك عادة باحتلال مرتفعات مسيطرة، مشجرة، وحيث تستطيع حفنة من الرجال المصممين، إحباط عمل جيش بأكمله.
والمهم في الكمين، هو قطع جزء من الرتل المعادي – كمقدمته – وتركيز النار عليه لتدميره والاستيلاء على أسلحته وذخيرته، بينما تقوم مجموعة صغيرة بإبطاء تقدم بقية الرتل. ويكتب تشي جيفارا عن هذا الموضوع فيقول:
( عندما تريد مجموعة قليلة العدد احتواء رتل من الغزاة أو إبطاء تقدمه، فعليها أن تعمل بالطريقة التالية: تتوزع زمر مؤلفة من اثنين إلى عشرة رماة في الاتجاهات الأربع حول الرتل. ويمكن للمعركة أن تبدأ عندها على الجانب الأيمن مثلاً. ويرد العدو على هذه الجهة، وعندها تفتح النار على الجانب الأيسر، ثم تفتح في لحظة أخرى على المؤخرة أو المقدمة، وهكذا.
وعندما يصبح بالإمكان تثبيت العدو إلى ما لا نهاية، مع صرف كميات قليلة جداً من الذخيرة ).
وأثناء تأخير العدو بهذه الطريقة، تجمع القوة الضاربة لثوار العصابات غنيمتها العسكرية، ونتقل إلى موضع محضر آخر، أو تعود إلى الخلف لتشتبك باتجاه آخر، ويلتحق بها الرماة قبل أن يتسنى للجنود التقاط أنفاسهم للقيام بهجوم معاكس، ويجري ذلك كله خلال بضع دقائق.
وتكرر العملية ما
أمكن. وعند التأكد من أن رتلاً قد انعزل، بشكل يجعل وصول أية نجدات إليه يتطلب عدة
ساعات أو عدة أيام، يمكن لثوار العصابات القيام بمحاولة لتطويقه، أو التظاهر على
الأقل بفعل ذلك، إذا توفرت لهم مفارز من الرماة، يحتلون أماكن مشرفة، ويركزون رماياتهم
على العدو حيثما اتجه. فإذا شن الجنود انقضاضاً مصمماً، فما على ثوار العصابات
إلا أن يتملصوا، ويجتمعوا في الخلف، للبدء بالانسحاب.
وتشكل حركية وحدة العصابات وقلة عددها، أهم مؤهلات نجاحها، وخطر تطويقها هو عادة ظاهري أكثر مما هو حقيقي.
وتشكل حركية وحدة العصابات وقلة عددها، أهم مؤهلات نجاحها، وخطر تطويقها هو عادة ظاهري أكثر مما هو حقيقي.
وقد لاحظ جيفارا بأن الليل هو
أفضل حليف لثائر العصابات. ولم يفقد أنصار كاسترو رجلاً واحداً بسبب التطويق.
ويرى جيفارا بأن التطويق لا يمثل أي مشكلة، ويعطي هذه النصيحة: ( تدبروا أموركم
بحيث تكبحوا جماح العدو حتى هبوط الليل ثم تسللوا عبر خطوطه ). وذلك سهل على مجموعة
صغيرة من الرجال يعرفون الأرض جيداً، وخاصة إذا كانت هذه الأرض مغطاة بشكل كاف.
وخلال الأشهر الأولى من الحملة، وعندما يكون الجنود في مرحلة الهجوم، يكون تكتيك الكمين والتملص آلياً وكافياً. وتقدم نشاطات الجيش نفسها دعاية لقضية الثوار. فالجيش لا يستطيع إخفاء خسائره، وتتضايق الحكومة من الكلفة المرتفعة للحملة، كما تُطلب منها استفسارات حول ذلك لا تستطيع تقديمها. وتعمل كل مواجهة على تقوية ثوار العصابات، بينما تضعف هذه المواجهة معنويات أعدائهم. ويكتب جيفارا عن ذلك:
( على ثائر العصابات أن يذكر دائماً بأن عدوه هو المصدر الوحيد للحصول على السلاح، وعليه – إلا في بعض الظروف الخاصة – ألا يشتبك في معركة لا تؤدي إلى غنائم من الأسلحة والعتاد العسكري ).
وتشكل مقدمة العدو هدفاً من الدرجة الأولى، وذلك لسبب نفسي: لأن مهاجمتنا تنشر الرعب، أو أنها توصي على الأقل بالحذر المفرط، مما يشل إرادة العدو ويؤخر تحركاته. وعندما يقتل جنود المقدمة، لا يعود واحد يرغب في العمل مع المقدمة، وبدون مقدمة لا يمكن لأي تحرك أن يحدث ( لا ينطبق هذا التحليل على وحدات المحترفين، حيث يُعد الضباط لتقبل الخسائر، واعتبارها الثمن الطبيعي للمعركة. ومع ذلك، فقد كان المستشارون العسكريون في فيتنام، يشتكون من أن القادة الفيتناميين ( الجنوبيين )، كانوا يرفضون مهاجمة مواقع الفيتكونغ دون قصف مسبق، مما كان يعطي ثوار العصابات الوقت الكافي للانسحاب ).
فإذا استرت الانتفاضة مدة من الزمن، صار من المحتمل رؤية العسكريين يتنازلون، عاجلاً أم آجلاً، عن مطاردة غير مجدية، ويفضلون – لأسباب سياسية على الأقل – ترك ثوار العصابات وشأنهم في معاقلهم الآمنة. ولقد قلنا سابقاً، أنه لا يمكن لحكومة أن تسمح باستمرار حملة مكلفة، ولا تقدم أية نجاحات يمكن الإعلان عنها فبعد بضعة أسابيع أو بضعة أشهر، تعلن الحكومة عن سحق العصيان، وتعرض جثث عدد من المدنيين لتبرهن عن ذلك، وتعيد قواتها إلى مناطق أقل تعرضاً، مكتفية باحتواء الانتفاضة.
ومن الطبيعي أن يرفض ثوار العصابات هذا الاحتواء، وأن يعمدوا إلى الهجوم، مستفيدين من حرية الحركة التي اكتسبوها مجدداً من أجل شن إغارات ليلية على المراكز المتقدمة المقامة على حافة منطقتهم. وعندما تقوم السلطات بدفع التعزيزات نحو تلك المراكز، ينصب الثوار الكمائن لأرتال التعزيزات.
وتوفر هذه الأعمال للثوار الأسلحة، التي تسمح لهم بتشكيل وحدات جديدة، وتوسيع منطقة العمليات. ويتسلل ثوار العصابات عبر خطوط الجيش، ويهاجمون الحاميات الموجودة في القرى البعيدة، ويحتلون المزارع والقرى التي لم يستطع العدو التمسك بها بسبب الكلفة الاقتصادية. ويحاولون تثبيط همة العدو، أو منعه نهائياً من إرسال القوافل العسكرية إلى بعض المناطق، وذلك بلغم الطرقات، ونصب الأفخاخ للدبابات، وتنظم دفاع في العمق، لجعل الاختراق مكلفاً أكثر فأكثر، دون إطالة مدة المقاومة في أي موقع.
وخلال الأشهر الأولى من الحملة، وعندما يكون الجنود في مرحلة الهجوم، يكون تكتيك الكمين والتملص آلياً وكافياً. وتقدم نشاطات الجيش نفسها دعاية لقضية الثوار. فالجيش لا يستطيع إخفاء خسائره، وتتضايق الحكومة من الكلفة المرتفعة للحملة، كما تُطلب منها استفسارات حول ذلك لا تستطيع تقديمها. وتعمل كل مواجهة على تقوية ثوار العصابات، بينما تضعف هذه المواجهة معنويات أعدائهم. ويكتب جيفارا عن ذلك:
( على ثائر العصابات أن يذكر دائماً بأن عدوه هو المصدر الوحيد للحصول على السلاح، وعليه – إلا في بعض الظروف الخاصة – ألا يشتبك في معركة لا تؤدي إلى غنائم من الأسلحة والعتاد العسكري ).
وتشكل مقدمة العدو هدفاً من الدرجة الأولى، وذلك لسبب نفسي: لأن مهاجمتنا تنشر الرعب، أو أنها توصي على الأقل بالحذر المفرط، مما يشل إرادة العدو ويؤخر تحركاته. وعندما يقتل جنود المقدمة، لا يعود واحد يرغب في العمل مع المقدمة، وبدون مقدمة لا يمكن لأي تحرك أن يحدث ( لا ينطبق هذا التحليل على وحدات المحترفين، حيث يُعد الضباط لتقبل الخسائر، واعتبارها الثمن الطبيعي للمعركة. ومع ذلك، فقد كان المستشارون العسكريون في فيتنام، يشتكون من أن القادة الفيتناميين ( الجنوبيين )، كانوا يرفضون مهاجمة مواقع الفيتكونغ دون قصف مسبق، مما كان يعطي ثوار العصابات الوقت الكافي للانسحاب ).
فإذا استرت الانتفاضة مدة من الزمن، صار من المحتمل رؤية العسكريين يتنازلون، عاجلاً أم آجلاً، عن مطاردة غير مجدية، ويفضلون – لأسباب سياسية على الأقل – ترك ثوار العصابات وشأنهم في معاقلهم الآمنة. ولقد قلنا سابقاً، أنه لا يمكن لحكومة أن تسمح باستمرار حملة مكلفة، ولا تقدم أية نجاحات يمكن الإعلان عنها فبعد بضعة أسابيع أو بضعة أشهر، تعلن الحكومة عن سحق العصيان، وتعرض جثث عدد من المدنيين لتبرهن عن ذلك، وتعيد قواتها إلى مناطق أقل تعرضاً، مكتفية باحتواء الانتفاضة.
ومن الطبيعي أن يرفض ثوار العصابات هذا الاحتواء، وأن يعمدوا إلى الهجوم، مستفيدين من حرية الحركة التي اكتسبوها مجدداً من أجل شن إغارات ليلية على المراكز المتقدمة المقامة على حافة منطقتهم. وعندما تقوم السلطات بدفع التعزيزات نحو تلك المراكز، ينصب الثوار الكمائن لأرتال التعزيزات.
وتوفر هذه الأعمال للثوار الأسلحة، التي تسمح لهم بتشكيل وحدات جديدة، وتوسيع منطقة العمليات. ويتسلل ثوار العصابات عبر خطوط الجيش، ويهاجمون الحاميات الموجودة في القرى البعيدة، ويحتلون المزارع والقرى التي لم يستطع العدو التمسك بها بسبب الكلفة الاقتصادية. ويحاولون تثبيط همة العدو، أو منعه نهائياً من إرسال القوافل العسكرية إلى بعض المناطق، وذلك بلغم الطرقات، ونصب الأفخاخ للدبابات، وتنظم دفاع في العمق، لجعل الاختراق مكلفاً أكثر فأكثر، دون إطالة مدة المقاومة في أي موقع.
وعندما تبلغ حرب العصابات أشُدها، يجد الجيش نفسه أمام خيارين: إن تفوقه العددي وتسليحه القوي، يسمحان له بأن يدخل دائماً إلى منطقة الثوار بعد أن يتكبد بعض الخسائر، دون أن يحصل على ميزة حقيقية، لأنه ليس للأرض المكتسبة أية قيمة استراتيجية أو اقتصادية بالنسبة إلى التكلفة. وإذا استطاع الجنود حشد قوة كبيرة في مكان ما، فإن ثوار العصابات ينقلون نشاطهم ببساطة إلى مكان آخر. ولا يستطيع الجيش أن يكون موجوداً في كل مكان وفي نفس الوقت. أما إذا لم يبق الجنود في المكان، فإن الأرض تعود إلى الثوار الذين يمكنهم بعد ذلك الإفادة من سكانهم وإنتاجها.
وطبيعي أن تنجم عن ذلك مشاكل سياسية. فللتنازل عن أقسام هامة من الاقتصاد الزراعي انعكاسات لا بد أن تظهر. وتقوم الفئات التي تتأثر مصالحها من هذا الوضع، بالضغط على الحكومة، وقد تبدأ البحث عن بديل سياسي. ويؤثر تدهور الوضع الحكومي على الرأي العام، ويقسم الناس، وتتشجع العناصر الأكثر تطرفاً غب المدن، ويتصاعد الشعور الثوري الذي تؤججه الحركة السرية، ويزداد قلق الحكومة أكثر فأكثر، وتميل إلى تصعيد تدابيرها القمعية.
في مثل هذه الظروف، تنسحب القوات العسكرية إلى التجمعات السكنية الكبرى متخلية بذلك عن الأرياف للثوار، الذين تتسع مصادر تموينهم ومنابع متطوعيهم، وتغدو عصابات الثوار جيشاً، فيستولون على القرى الكبرى، وينسفون الجسور، ويقطعون الطرقات والسكك الحديدية، ولا تلبث التجمعات السكنية الكبرى أن تجد نفسها شيئاً فشيئاً مخنوقة اقتصادياً، وتغدو القوافل العسكرية عاجزة عن الحركة دون التعرض للخطر.
وقد لوحظ هذا السياق سابقاً في نصف الكرة الغربي، وهو جار حالياً في جنوبي شرقي آسيا، إلا أنه لا يمثل بالضرورة السياق الوحيد الذي يمكن أن تتبعه حرب ثورية. وهل يمكن القول أن الولايات المتحدة نفسها منيعة على ذلك؟ إن تعقيدات المجتمعات الحديثة المدينية الصناعية، تجعلها حساسة جداً إزاء التخريب على نطاق واسع, ولم يغب ذلك عن بال متطرفي الحركة الوطنية السوداء، الذين لا يمثلون عدداً كبيراً، ولكنهم شديدوا التعصب. ولقد اكتشف مؤامرة غريبة في شباط 1965. وهي تعطينا فكرة عن نواياهم. ويقال أنهم كانوا ينوون نسف ( تمثال الحرية ) في نيويورك، و ( جرس الحرية ) في فيلادلفيا وتمثال جورج واشنطن. وفي مقال في Esquire، ظهر في تشرين الأول 1964 تحت عنوان ( الأسود الأمريكي، صيني وأحمر )، كتب الصحفي الزنجي ( وليام وورثي ) ما يلي:
( أعلنت حركة العمل الثورية، معتمدة على الدعم المالي والمادي الآتي من آسيا وأفريقيا، ضرورة استعمال القدرات الأساسية الثلاث التي يملكها السود، وهي:
1- القدرة على توقيف الآلية الحكومية.
2- القدرة على النيل من الاقتصاد.
3- القدرة على إثارة العنف.
أما الزعيم الزنجي روبرت وليامز، الرئيس الأسبق ( للتجمع الوطني في سبيل ترقية العروق الملونة )، والذي اضطر إلى الفرار إلى كوبا بعد حادث عرقي حدث في ( مونرو ) ( كارولينا الشمالية ) في العام 1961، فقد كتب في The Crusader ما يلي:
( عندما تلجأ الجموع إلى العنف، فستعم البلبلة والفوضى الولايات المتحدة... وسيخشى عمال المصانع والهاتف والإذاعة من الذهاب إلى عملهم، وستتوقف كل وسائط النقل... وستنسف خطوط الأنابيب الرئيسية، وستحدث أعمال تخريب... وسيتفشى الصراع في القوات المسلحة. وفي كل القواعد الأمريكية في العالم، سيقف الثوريون المحليون إلى جانب قضية الجنود السود...
ويتحدى المفهوم الجديد للثورة العلم والتكتيك العسكري. إنه يتضمن حملات صاعقة تقع في المجتمعات المدينية المفرطة الحساسية، ويعم الشلل التجمعات السكنية الأقل أهمية ومن ثم الأرياف. أما حرب العصابات القديمة التي تنطلق من الجبال والأرياف، فإنها لن تكون مجدية في بلد يمثل قوة الولايات المتحدة. وأية قوة عصابات تقليدية يمكن أن تُكنس في غضون ساعة.
ويتمثل المفهوم الجديد في البقاء على مقربة من العدو ما أمكن، بغية تحييد أشد أسلحته حداثة وفتكاً... ويسعى هذا المفهوم إلى تفتيت عناصر الانسجام والنظام، وتحجيم السلطة المركزية إلى مستوى أخطبوط ذي أذرع عاجزة. ويتضمن المفهوم الجديد حدوث الاضرابات المتقطعة وإجراء الرمايات الشديدة نهاراً، ومع قدوم الليل تأتي الحرب الشاملة، والمعارك المنظمة، وانطلاق الإرهاب بلا حدود ضد المستبد وقواه. وستضع مثل هذه الحملة حداً للعنف وللظلم الاجتماعيين في الولايات المتحدة في خلال مدة تقل عن ثلاثة أشهر ).
ويذكر وليامز مقابلة أجراها مع شخص يحمل لقب ( م. لومومبا ) ( تيمناً باسم الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا )، ويعتبر واحداً من قادة الحركة السرية، ويقول وليامز أن هذا الشخص قد صرّح أمامه بما يلي:
إن الولايات المتحدة شديدة الحساسية اقتصادياً ومادياً.
وإذا ما أحسن توجيه الشبيبة السوداء، أمكنها أن تشل البلاد. فالمجموعات الصغيرة قادرة على تدمير السدود الثمانية الكبرى، والتي تنتج الجزء الأعظم من الطاقة الكهربائية.
ويمكن صب البنزين في مجارير المدن
وإشعال النار فيها.
ماذا يحدث من هذه الفوضى؟ حرب عصابات على الأغلب. ولا أعتقد أن البيض كلهم سيشاركون فيها، لكن الجماعة السوداء كلها ستساهم فيها.
إننا نطلق على البيض لقب ( قطعة الحلوى ). فعندما يتوقف التلفزيون، وينقطع رنين الهاتف، سينهار العالم كله. إننا واثقون من ذلك. وسيلزم البيض بيوتهم كما لو كان هناك قصف جوي وسينتظرون عودة التلفزيون إلى العمل
إن في هذا الأقوال الكثير من التبجحات، وقد تكون مقرونة بسوء إدراك شريف للموقف. وليس هناك ما يشير حتى الآن، إلى أن أغلبية الشبيبة الأمريكية السوداء مستعدة للجوء إلى العنف. ومع ذلك، فإن الوطنيين السود على حق في نقطة. وهي أنه عندما تتواجد إرادة مقومة السلطة، يمكن دائماً إيجاد الوسائل لعمل ذلك، وحتى أفضل المجتمعات، المحمية من قبل الشرطة، ليست محمية من الانتفاضة.
إن ثائر العصابات ينجح بمجرد استمراره على قيد الحياة. وهو ينجح لأنه يستعمل طرقاً متقدمة. فبالمسدس والساطور، وحتى بالقوس أو الرمح، يمكن أن يستولي على بندقية. وعندما يحوز على عشرين بندقية يمكن الاستيلاء على رشاش، وعندما يصبح الرشاش في يده، يكون بوسعه استخدام الرشاش والبنادق العشرين لتدمير قافلة مجهزة بخمسة رشاشات وخمسين ألف طلقة. وبدزينة من المعاول وعدد من صفائح الوقود، يمكنه تدمير دبابة، ويستطيع بأسلحته أيضاً إسقاط طائرة أو هليكوبتر تحمل سلاحاً.
والمدفعية عاجزة أمامه، لأنها لا تتوصل إلى الإمساك به، وينطبق هذا القول على الطيران – نسبياً، لأن الحكومة لا تستطيع أن تجيز لنفسها قصف المدنيين بلا تمييز، لأن ثائر حرب العصابات يختبئ بينهم.
وفي وقت من الأوقات، بنيت آمال كبيرة على طائرات الهليكوبتر، التي أدت خدمات جلي في الصحراء الكبرى ( الجزائرية )، لكنها خيّبت الآمال المعقودة عليها في أدغال فيتنام، حيث تعلم الفيتكونغ نصب الأفخاخ للهليكوبترات، وكانت الخسائر منها فادحة.
وتتحدث الكراسات الأمريكية الخاصة بتقنيات الحرب غير النظامية، عن مختلف الأسلحة الحيوية (البيولوجية) والكيميائية، ويوصي بها خاصة عندما يكون ثوار العصابات مختلطين مع المدنيين الأبرياء، الذين لا يمكن أن يقتلوا، أو يجب ألا يقتلوا.
والغاية من الأسلحة البيولوجية، إصابة ثوار العصابات بأمراض فيروسية مؤقتة، تنقص قدرتهم على مقاومة الهجوم عليهم، بحيث يمكن للمشاة القائمين باجتياح قطاع معيّن قتلهم أو أسرهم، دون أن يلحقوا ضرراً بغير المقاتلين. إنها – إذا جاز التعبير – وسيلة لفرز المناشف عن الخرق.
وقد اقترح لهذا الغرض أيضاً استعمال غازات غير قاتلة ( محمولة مثل الأسلحة البيولوجية داخل قذائف، أو قنابل، أو مرشوشة من الطائرات المحلقة على ارتفاع منخفض ). وتستطيع هذه الغارات إصابة كافة المتواجدين في منطقة القتال بأمراض مؤقتة، قبل البدء بالهجوم عليها، الأمر الذي يؤدي إلى تجنب إراقة الدماء.
وتبدو الفكرة إنسانية ومنطقية معاً، لكنها فشلت عند التطبيق العملي. ففي بداية العام 1965، استعملت هذه الغـازات ( وهي مزيج من غارات المسيلة للدموع والغازات المقيّئة من النوع المستعمل لتفريق المتظاهرين )، في فيتنام ثلاث مرات. وكانت نتائجها معدومة. فقد تبخرت الغازات مرتين دون أن تحدث أي أثر، وأدت في المرة الثالثة إلى مرض السكان، لكن الجنود لم يجدوا ثوار عصابات بينهم.
وكان لاستعمالها في المقابل أثر دعائي هائل وشديد الضرر لأولئك الذين استعملوها. عندما أعلنت واشنطن في آذار 1965، وبلا مبالاة، عن استعمالها الغازات في فيتنام، كان رد الفعل في العالم مباشراً. وقامت الصحافة الآسيوية، وخاصة اليابانية التي لم تنس بعد آثار قنبلتي هيروشيما وناغازاكي – بالاعلان عن سخطها، وأجرت لندن وباريس تحقيقاً ديبلوماسياً، وأدانت غالبية الصحف الأمريكية استعمال الغازات، بما في ذلك أقلها ضرراً، واعتبرت هذا العمل منافياً لقواعد الحرب المتحضرة، وقد يؤدي إلى أسوء همجية.
وكانت الصين قد اتهمت الولايات المتحدة بشن ( حرب جرثومية ) إبان الحرب الكورية، مما أثار الرأي العام آنذاك. وجاء رد الفعل العالمي على استخدام الغازات في فيتنام ليزيد الوضع سوءاً، مما أضطر الأمريكيين إلى التخلي عن استخدام الغازات والأسلحة البيولوجية، والتي بقيت لم تتثبت فعاليتها العسكرية. وهناك أسلحة حديثة أخرى أشد خطراً من الغاز، كالفسفور الأبيض الذي يصيب الإنسان بعاهة دائمة. فهو إن لم يقتل، فإنه يسبب جروحاً بشعة، ويخترق حتى الفولاذ، ولا يصبح غير مؤذٍ، إلا إذا غمس في الماء.
وهناك القنبلة العنقودية التي تزن ألف رطل، وتنفلق في الجو، فتخرج منها مائة رمانة تتناثر ضمن دائرة نصف قطرها مائة متر. وهي تشكل ولا شك سلاحاً فعالاً ضد رجال العصابات.
وتستطيع العربات المدرعة الحديثة ( البرمائية ) اختراق أشد المستنقعات عمقاً، ويستطيع جهاز الرؤية الليلية العامل بالأشعة تحت الحمراء كشف ثوار العصابات المختفين وراء ستار الظلام. وهناك نموذج أكثر حداثة يعمل وفق مبدأ تكثيف ضوء النجوم. وتكشف الرادارات المتحركة رجلاً يزحف على بعد ألف متر. أما الاستعمال الأسلحة الصامتة ( المزودة بكاتم الصوت ) فإنها تجعل كشف قانصي الثوار صعباً مثل كشف الثوار أنفسهم.
ومع هذا، فإن خبراء الحرب المضادة للثوالار يعترفون، بأن التقنية لوحدها عاجزة عن التغلب على حرب العصابات، ولا تستطيع إلا أن تجعلها أكثر صعوبة وأشد خطراً فالصراع قبل كل شيء ذو سمة اجتماعية وسياسية، ويستمر البرغوث على قيد الحياة بفضل القفز والاختفاء. وهو يحقق النصر لأنه يتكاثر بسرعة فائقة لا يمكن إدراكها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق