20‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 19

حرب المستضعفين 19


الفصل الثامن

حول الانتفاضات الشعبية في شمالي أفريقيا



الانتفاضة في المغرب – انتفاضة تونس – الثورة الجزائرية


تأتي الثورة بأشكال عدة، وكانت في المغرب على شكل جهاد، أي حرب دينية تأججت مع نفي السلطان محمد بن يوسف الداعي إلى الاستقلال، واستبداله على عرش الرباط بعجوز متعاون هو بن عرفة. وكانت الجثث التي توجد عند الفجر في شوارع الدار البيضاء، هي غالباً جثث مسلمين تناولوا مشروبات كحولية، يحرم الدين الإسلامي تناولها. ولقد اعتبر تعاطي الخمرة في تلك الفترة بالذات تدنيساً للحرمات، بسبب الحداد على أبعاد السلطان الحقيقي إلى مدغشقر. وعندما كان الدخان يرتفع في سماء الأحياء الوطنية، كان ذلك يعني قيام الأهالي بإحراق التبغ، في إطار الحملة الرامية إلى مقاطعة إدارة حصر التبغ العائدة للحكومة الفرنسية. ولم يراع المؤمنون حرمة شهر رمضان، وذلك تعبير آخر عن الاحتجاج والحداد. ولم يراع المؤمنون وأخذت خناجر حزب الاستقلال ( وهو حزب شعبي ) نعاقب على ترهات الزينة والفخفخة.

ومن جهة أخرى، قامت المقاومة، قامت المقاومة، التي ستضع حداً للحماية الفرنسية وتوطد استقلال المغرب، واتبعت السياق المعتاد. فبالقنابل وأعمال التخريب واغتيال ( المتعاونين ) ( رجال الشرطة وموزعي البريد والزعماء )، تم تأجيج الانفعالات الشعبية، وخلق نزاعات مستمرة مع السلطة الاستعمارية. وتحولت التظاهرات في الأحياء الوطنية إلى أعمال شغب، ثم تجاوزت هذه الأحياء، وامتدت من مدينة إلى أخرى، في خلال صيف 1955، الحار. واقترف الفرنسيون في كل مدينة منها غلطة ما، وأطلق رجال الشرطة المذعورون النار على الجمهور، وسقط من جراء ذلك بعض القتلى.

وأثار محرضوا ( حزب الاستقلال ) قبائل الجبال البدوية. ففي ( وادي زم ) في سهل ( تادلة ) المحرق. قُتل مائتان من الأوروبيين، وحدثت انتفاضات في الأطلس الأوسط، ونُصبت الكمائن على الطرق. وفي شهر آب، قتل ثمانية من المراسلين الأجانب في يوم واحد. أما محرضوا ( حزب الاستقلال ) ورماته الرابضون على السطوح، فقد جعلوا الدار البيضاء في حالة حصار: ( وأعيدوا ابن يوسف ) هكذا كانت الجماهير تصرخ، وكان ذلك مطلباً رمزياً، لأنه الهدف الحقيقي كان الاستقلال والحرب المقدسة ضد الفرنسيين الذين حجبوه عن المغاربة.

وكان الإرهاب في المغرب أكثر فائدة من حرب العصابات. وفي الحقيقة لم تجر هناك أبداً حرب عصابات حقيقية، مع أن بضع مئات من المقاتلين جاءوا من المغرب الاسباني، وحاولوا شن حرب عصابات، مما أدى إلى تثبيت فرقة من رجال ( الفرقة الأجنبية ) ومن الخيالة السباهيين في جبال ( الريف )، طوال خريف 1955.

وأخيراً استسلمت الحكومة الفرنسية بمجموعة من الحلول الوسط، عندما أعلن الفرنسيون أن بإمكان السلطان محمد بن يوسف مغادرة مدغشقر إلى باريس حدث اضطراب شديد، أسفر عن تنازل آخر، تمثل في السماح بعودة السلطان، نزل الشعب المغربي كله إلى الشارع، وأصبحت الحماية التي دامت خمسين عاماً صيغة فارغة، سرعان ما تخلى الفرنسيون عنها.

لقد تبنى ( حزب الاستقلال ) وسيلة غاية في البساطة، ألا وهي: الإرهاب وأعمال التخريب، التي خدمت غاية مزدوجة، كانت سلبت الاستعمار مكاسبه، وجعل إقامة المستعمرين خطرة. فلمقاومة المخربين بشكل فعلي، كان لا بد من فرض الأحكام العرفية، التي كانت آثارها النفسية، ( منع التجول، أعمال الاعتقال والتفتيش، وتنقلات الجند ) ستدفع السكان المسلمين بالضرورة إلى القيام بالتظاهرات الجماهيرية والتي يكون الجيش عاجزاً حيالها. وعندما لا يمكن السيطرة على مستعمرة، يصبح استثمارها، غير مفيد، بل إنها تصبح على العكس شديدة الكلفة، ولا يعود هنالك أي سبب للاحتفاظ بها. وبكل تعقل، قبلت باريس، تحت ضغط سياسي داخلي، التسوية مع الحركة الاستقلالية، التي كانت في جوهرها حركة محافظة. وضمنت بذلك المصالح الرئيسية لفرنسا في تلك البلاد.

ولا يمكن وصف ذلك النصر بأنه غير دموي، فقد قتل أشخاص في أعمال الشغب أو في الانتفاضات المحلية التي حدثت في النهاية. وكانت ضريبة الإرهاب على المغاربة أكبر قدراً مما كانت على الفرنسيين. وسببت أعمال التمشيط التي قامت بها الفرقة الأجنبية عدداً من الضحايا بقي مجهولاً. ويقال أن الفرنسيين قتلوا عشرين من المسلمين في سهل ( تادلة ) بعد مذبحة ( وادي زم ). ويعتقد أن هذا الرقم المنسوب إلى ( حزب الاستقلال ) مبالغ فيه. لكن مما لا شك فيه، أن الفرنسيين قصفوا عدداً، القرى من القرى ورموها برشاشاتهم، كما اشتركت الدبابات في العملية. أما في وادي الزم، وكل الحي الوطني الذي التجأ إليه البدو بعد وصول الجند، فإنه أبيد بضربات المدافع ومن ثم دحل بالمداحل.

وتبنت الحصيلة النهائية أقل ارتفاعاً من المتوقع، ويبدو الإرهاب أكثر اقتصاداً بالدماء من الحملة. والسبب واضح تماماً. ففي المغرب، كما في ايرلندا، لم تتواجد حرب ثورية. وكانت الضغوط الناجمة عن الإرهاب والإثارة السياسية أكثر فاعلية من الطائرات وفوق المشاة.

وتبنت تونس الحل ذاته. وتشكل الجزائر حالة خاصة تتطلب معالجتها حيزاً أوسع مما لدينا هنا، إذ أنها اعتبرت ولمدة طويلة، كجزء لا يتجزأ من فرنسا، وليس كمستعمرة. وكان الفرنسيون قد أقاموا فيها منذ أكثر من قرن، واعتبرها أكثر من مليون فرنسي وطناً لهم.

وكانت فرنسا لا تزال تنزف من الجراح التي أصابت كبرياءها وميزانياتها، فلم يكن بإمكان أن تتنازل دون صراع، عن آخر كبريات ممتلكاتها عبر البحار. لذا فقد اندلع في الجزائر نزاع واسع النطاق.

ومع أن الإرهاب في المدن كان هاماً، لكنه كان أبعد من أن يكون حاسماً في الجزائر، حيث كان الرهان كبيراً إلى حد يجعل الفرنسيين لا يقبلون بحل وسط عن طريق الابتزاز. وبدأت حرب العصابات، في أول تشرين الثاني 1954، بسبعين هجوماً جرت في وقت واحد، وشنت لأسباب نفسية أكثر منها عسكرية وشكلت الكتلة الجبلية في ( الأوراس ) المعقل الرئيسي للعصيان. وكتب مايكل ك. كلارك في ( الجزائر المنتفضة ) يقول:

(
لقد ظهر منذ البداية، أن القوى العسكرية الحديثة غير قادرة على العمل في الأوراس إلا بصعوبة، إذ تفقد الوحدات الآلية كثيراً من حركيتها في المناطق الجبلية، كما أنه من السهل على الثوار الإفلات منها، بانزلاقهم في شعب ووهاد تلك المنطقة الجبلية، والإفادة من كل ميزاتها، مما يجعلهم قادرين على التملص حتى من فيلق ).

ودام الصراع سبعة أعوام. واتبع تكتيك مشابه لتكتيك ماو في الصين، وجياب في الهند الصينية. ولن تعلمنا دراسته شيئاً جديداً.

وكما في الهند الصينية، فقد برهن ثوار جبهة التحرير الوطنية وحلفاؤهم، بأنهم وإن لم يكن بإمكانهم التغلب بشكل حاسم على جيش حديث، فإن هذا الأخير لا يستطيع قهرهم. ومع أن نتائج المعارك كانت متقلبة، وكانت متدنية بالنسبة لجبهة التحرير الوطنية، عندما قام الجنرال ديغول بمبادرته أخيراً في العام 1962، فإن المقاومة لم تتوقف أبداً، بل انتشرت من الأوراس حتى الصحراء، على مساحة لا يمكن لجيوش العالم كلها (تهدئتها)، حسب تعبير الفرنسيين.

وقد برهن الاستخدام الشرس للتعذيب والإرهاب المضاد – والذي سبب فضيحة في فرنسا – بأنه من الممكن سحق الانتفاضات المدينية. فبمساعدة المستوطنين أمكن لجم مدينة الجزائر. أما ( الأوراس ) والمناطق الجبلية الأخرى، فقد أمنت للثوار الملاذ حتى النهاية. وحتى بعد سنة من رحيل الفرنسيين، اتضح وجود عناصر منشقة من البربر في الجبال، ظلت تقارع الحكومة الثورية التي أقامتها جبهة التحرير الوطنية!

لقد كان الحل العسكري الحاسم مستحيلاً، لكن مجرد نجاح العصابات في البقاء ومقارعة جيش مؤلف من مليون جندي، كان وحده كافياً ليفرض على فرنسا – الممزقة بسبب الخلافات الداخلية حول المسألة الجزائرية – كلفة عالية بالرجال والمال لا تستطيع دولة صناعية وعسكرية كبرى أن تتحملها إلى ما لا نهاية.

وقد ألفت باريس نفسها أخيراً أمام اليم: فمن جهة السمعة الفرنسية، والثوار الطبيعية الجزائرية، والوزن السياسي لمليون من المستوطنين الفرنسيين، ومن جهة أخرى الفوضى السياسية، والتوتر الدائم، والنزيف القاتل للاقتصاد الوطني.

لقد أدت حرب البرغوث إلى إصابة فرنسا بنزيف سبب لها فقر دم اقتصادي خطير، وولدت حمى سياسية قادت الوطن الأم إلى حافة الثورة. وكان ديغول قد وصل إلى السلطة على أمل أن يصل إلى حافة الثورة. وكان ديغول قد وصل إلى السلطة على أمل أن يصل إلى حل ما للأزمة، وكان خياره حاسماً، باتجاه السلام في أفريقيا الشمالية، وعرَّض نفسه من جراء ذلك للدخول في حرب مع القادة العسكريين الذين اختاروه. أما الشعب الفرنسي، المنهك والمتقزز من سبع سنوات من المجازر التي لا معنى لها، في بلد بقي أجنبياً بعد قرن وربع من الاستعمار، فقد دعم ديغول في خياره. لكن حدثت نهاية دامية، إذ تمرد العسكريون والمستوطنون على الدولة، لكن ذلك لم يبرهن على أي شيء ، ولم يبدل أي شيء. وانتهى الوجود الفرنسي، ورفرف علم جديد على الجزائر المستقلة.

ولنلاحظ هنا: أن حرب البرغوث انتشرت من الجزائر نحو الجنوب، واستغل الثوار الكونغوليون الأسلحة الجزائرية للنضال ضد جيش قادة المرتزقة البيض. وتحدى من بيللا، رئيس الوزراء الجزائري، وأعلن بأن نظامه سيساند كل حروب التحرير الوطنية، أينما نشبت في أرجاء العالم.

0 التعليقات: