حرب المستضعفين 3
ويجد الأمريكيون أنفسهم ( الأجانب ) الأكثر تكراراً في كل المواقف الثورية ( فيتنام، كوبا، إيران، غواتيمالا، البرازيل، الكونغو، فنزويلا... إلخ). فليس من المدهش إذن، وبحسب سيكولوجية الحرب الباردة، أن نفتش عن معارضينا الروس أو الصينيين في منطقة النزاع، وعندما نجدهم أو يخيل إلينا وجودهم، نلبسهم الدور الرئيسي. وهكذا نرزح تحت عبء لا معقولية غريبة، تبدو فيه إمكاناتنا للملاحظة معدومة.
إن الخلاصة التالية من المقال المعنون ( مرافعة عن الواقعية في جنوبي شرقي آسيا لروجر هيلسمان )، الذي كان مديراً لشؤون الشرق الأقصى في وزارة الخارجية الأمريكية، هي خلاصة نموذجية في هذا الصدد:
- إن كل تحليل للموقف في جنوبي فيتنام، يجب أن ينطلق على الأرجح من حقيقة أننا لا نخوض فيه حرباً حقيقة. فالمشكلة سياسية أكثر منها عسكرية، مع أعمال من الأرهاب وليس مع معارك. فمن مجموع السكان البالغ أربعة عشر مليون نسمة، لم يجند الفييتكونغ إلا ثمانية وعشرين ألفاً إلى أربعة وثلاثين ألفاً من رجال العصابات النظاميين، بالإضافة إلى ستين ألفاً وحتى ثمانين ألفاً من المساعدين المؤقتين. وتشبه الحملة الصراع ضد عصابات المجرمين في الثلاثينيات، أو ضد الشبان الإرهابيين في نيويورك حالياً، أكثر مما تشبه حرب كوريا أو الحرب العالمية الثانية. وبشكل إيجابي جداً، فإن مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) لديه من التجربة ليعالج هذه المشكلة أكثر مما لدى القوات المسلحة.
- مجلة نيويورك تايمز، 23 آب 1964
وبدون أن نحسب حساباً إلى سخف المقارنات – الشبان الإرهابيون – فإنه من الواضح بأن هذا التحليل يتضمن نقاط ضعف خطرة في مجالي الملاحظة والتفسير.
فمن مجموع السكان البالغ أربعة عشر إلى ستة عشر مليوناً، لم يضم الفيتكونغ ثمانية وعشرين ألفاً من رجال العصابات بل ضموا ما لا يزيد عن ثمانية وعشرين ألفاً كحد أقصى، ولكن القرار الذي اتخذه الرئيس جونسون بقصف شمالي فيتنام في بداية العام 1965، يبين لنا بوضوح أهمية هذه القوة.
ونذكر على سبيل المقارنة، إن رجال عصابات فيديل كاسترو والمقاتلين في جزيرة تضم سبعة ملايين نسمة تقريباً، لم يزيدوا أبداً عن ألف وخمسمائة رجل مسلح. ومع ذلك، وفي كانون ثاني 1958، عندما شطرت معركة مدينة سانتا كلارا الفاصلة البلاد إلى قسمين، فإن المدينة – كلها ما عدا الحامية العسكرية – ألفت نفسها غارقة في النزاع. وعندما هرب باتيستا من البلاد في آخر يوم من السنة، أعلن كل سكان كوبا عملياً انضمامهم إلى النصر المكتسب. وبدا وكأن الثوار لم يكونوا معزولين بل كان البلد كله معهم.
أما عن الركيزة الشعبية التي يتمتع بها الفيتكونغ في جنوبي فيتنام، فإن هيلسمان نفسه يعترف قائلاً: " في الأغلبية الساحقة يتطوع الفيتكونغ في الجنوب، ويأتيهم منه الغذاء والكساء، ويقتطعون منها ( ضرائب ) حتى يستجلبوا مؤناً أخرى عن طريق كمبوديا ".
وعن الموضوع نفسه كتب وولتر ليبمان في نيويورك هيرالد تريبيون في نيسان 1964: " إن الحقيقة التي تخفى على الشعب الأمريكي، هو أنه ليس لحكومة سايغون سلطة إلا على ثلث السكان، وهي لا تمارس رقابة ( حتى خلال النهار ) إلا على ربع أراضي البلاد، على أكبر تقدير ".
ومن المتوجب أن يكون واضحاً، بأن الجيش الفيتنامي الجنوبي المؤلف من أربعمائة ألف رجل، تساعده فرقتان من ( المستشارين العسكريين الأمريكيين ).( وأرماداً من المطاردات وقاذفات القنابل وطائرات الهيلكوبتر، ودعم مالي يومي يعادل مليوني دولار، لا يستطيع هذا الجيش فمع الانتفاضة. فالمسألة إذن ليست قضية ( شبان إرهابيين ). أما الخطأ الناجم عن الاعتقاد بأن ثورة الفيتكونغ هي من عمل قلة متعصبة موجهة من الخارج، فإنه لا يستطيع الصمود أكثر من خطأ ( الشبان الإرهابيين ). ولا تزال واشنطن تدعم هذا الخطأ لأسباب سنراها فيما بعد.
هل يمكن استخدام تكتيك حرب العصابات ضدها وبنجاح؟ يجب أن نجيب بالنفي حتى لا نقع في مغالطة منطقية للطريقة، فأولئك الذين يقاتلون الهنود الحمر لا ينقلبون إلى هنود حمر إذا سلخوا فروات الرؤوس. كما أن الزي المبرقش بلون الغابات لا يحول مشاة البحرية الأمريكيين ( المارينز ) إلى ( رجال عصابات
إن هذه التقنيات قديمة قدم الحرب نفسها ويمكننا أن نتصور بأنها استعملت من قبل رجال ( كرومانيون ) ضد رجال أواخر العصر النياندارتالي، كما استعملته ( البروتون ) ضد ليجيونات يوليوس قيصر، وهي ما زالت مستعملة من قبل متوحشي غابات كولومبيا، ومن قبل صيادي الرؤوس الباقين على قيد الحياة في غينيا الجديدة.
وليس صيادوا الرؤوس ( رجال العصابات ). ومن السهل تمييز ذلك فعندما نتكلم عن رجال العصابات، يتداعى في أفكارنا معنى النصير السياسي، فهو مدني مسلح، وسلاحه الرئيسي ليس البندقية أو الساطور، بل علاقته مع الجماعة، مع الأمة التي يقاتل ضمنها وفي سبيلها. والانتفاضة أو حرب العصابات، عبارة عن فعل يحث على تغيرات من الثورة المضادة، أي الطريقة التي تتم بها مقاومة الثورة. إنهما وجهان لعملة واحدة، ومن الضروري ألا نخلط بينهما، أو بين عواملهما، بسبب تماثلهما.
وبسبب الطبيعة السياسية للصراع، وتفاوت الوسائل التي بحوزة المعسكرين، وخاصة بسبب التناقض التام لأهدافهما السياسي، فإن التكتيكات الأساسية المطبقة في حرب العصابات، غير قابلة للتطبيقمن قبل الجيش الذي يقاتل العصابات، ولن تكون قابلة للتطبيق، وبشكل محدود جداً، إلا من قبل ( الإختصاصيين ) العاملين في القوات الأمريكية الخاصة، التي يمكن أن تحاول تقليد تكتيكات العصابات.
والأسباب تامة الوضوح.
أولاً، لأن رجل العصابات يمتلك المبادرة فهو الذي يبدأ الحرب، ويقرر أين ومتى يضرب. وعلى عدوه العسكري أن ينتظر مستعداً لمواجهته في كل مكان.
ويجد جيش الحكومة نفسه، قبل وبعد بداية الحرب، في موقف الدفاع بسبب دوره كشرطي مكلف بحراسة الممتلكات العامة والخاصة.
ولدى الجندي أشياء كثيرة للدفاع عنها: كالمدن، والتجمعات السكانية، والأراضي الزراعية، والمواصلات، والتجارة، والقاعدة الصناعية، بالإضافة إلى العسكرية البحتة: كالمواقع، والمخافر الأمامية، وخطوط التموين، والقوافل، والمطارات، والقوات نفسها مع أسلحتها الثمينة، التي تشكل واحداً من أوائل أهداف رجال العصابات حتى يتسلحوا بها. وأخيراً فإن عليه أن يحمي ويساند جهازاً سياسياً خاضعاً لتوتر خطير منذ قيام الانتفاضة المكشوفة.
ففي كل هذه المجالات، يكون للنظام المعني وذراعه العسكري نقاط ضعف حساسة جداً بالنسبة إلى عدو يمكن أن ينزلق كالريح.
وإذا كان الجيش يعاني من موارده، وخاصة من المعدات العالية التكاليف التي لن يستعملها ( المعدات الذرية مثلاً )، فإن رجل العصابات يتمتع بكل الحرية التي يكتسبها من الفقر. فهو لا يمتلك إلا بندقيته وقميصه، وليس له إلا حياته ليدافع عنها
إنه يمكن أن يجيز لنفسه بأن يهرب عندما لا تتوافر لديه في القتال فرص جيدة لإحراز النصر، وأن يتفرق ويختبئ عندما يصبح التجول من عدم الحذر. وفي أقصى الحالت، يمكن له أن يندمج مع الشعب المسالم – ذلك البحر ( حتى نستعمل استعارة ماوتسي تونغ المشهورة ) – الذي لا ينبغي على رجل العصابات أن يسبح فيه كالسمكة.
ويجب أن نبين منذ الآن، بأن الشعب يشكل مفتاح الصراع كله. وبالواقع، ومهما بدت الفكرة مغيظة للمحللين الغربيين، فإن الشعب هو الذي يقود الصراع.
فبدون رضاء الشعب ومساعدته الفعالية، يتحول رجل العصابات إلى قاطع طريق، ولا يبقى طويلاً على قيد الحياة.
فرجل العصابات، هو قبل كل شيء داعية، ومحرض، وباذر للأفكار الثورية (الجهادية)، وهو يستخدم الصراع نفسه – القتال المادي – كأداة للتحريض، وهدفه الأساسي رفع مستوى الاستباق الثوري، ثم المشاركة الشعبية حتى النقطة الحرجة، حيث تصبح الثورة عامة في البلاد، وتكمل الجماهير الشعبية العمل النهائي، أي القضاء على النظام القائم، والقضاء ( غالباً وليس دائماً ) على الجيش الذي يحميه.
وبالمقابل فإن هدف القوات المضادة للثورة سلبي ودفاعي، ويتضمن تأمين استتباب النظام، وحماية الملكية، وصيانة الأوضاع والمصالح الموجودة بقوة السلاح، بعد أن خابت وسيلة الإقناع. وقد تكون الوسائل المستخدمة سياسية عندما تتضمن اقناعاً أشد: كالوعود بالاصلاحات الاجتماعية، والاقتصادية، وشراء الضمائر، والدعاية المضادة بمختلف الأشكال. لكن قبل كل شيء،
ولهذا لا بد من القهر الكلي للطليعة الثورية، وإبادتها مجزأة حيثما وجدت. والخيار البديل هو
وإذا حكمنا بحسب التجارب الحديثة،
ولايستطيع الجندي المضاد للعصابات أن يتغلب على رجل العصابات بتقليده، لأنه الغريب الموقف الثوري ولأن أعماله هي على النقيض من أفعال رجال العصابات حتى عندما يمكن أن يتواجد
إن مجرد البقاء على قيد الحياة بالنسبة إلى رجل
العصابات هو نصر سياسي فذلك يشجع المعارضة الشعبية للنظام المعني وينميها.
إن التمييز الذي لا نقوم به هنا بين حرب العصابات كتقنية سياسية – عسكرية، وبين حرب العصابات البسيطة ( قطع الطرق من قبل المجرمين، أو استعمال التقنيات غير النظامية للحرب من قبل تشكيلات عسكرية نظامية )، تمييز جوهري، وليس اعتباطاً كما يمكن التفكير للوهلة الأولى.
فقد كانت هناك دائماً انتفاضات شعبية، إلا أنها فشلت عادة أو حققت انتصارات محدودة، لأن تقنيات اليوم لم تكن قابلة للتطبيق في الموقف التاريخي. إنها وسيلة أخرى للقول بأن الأغلبيات الشعبية، أي الجماهير غير المتخصصة للمجتمعات قبل الصناعية لم تكن لتستطيع ممارسة الفعل السياسي أو الاقتصادي.
فأقنان العصور الوسطى مثلاً، لم يكونوا قادرين على مقاومة القوم العسكرية الاقطاعية، ليس فقط لأنهم لم يكونوا يملكون الأسلحة والمعارف الضرورية، ولا الوعي والالتحام السياسيين، بل لأنهم لم يكونوا يمتلكون أية وسيلة أخرى للتأثير السياقات الاقتصادية والسياسية لعالمهم.
واقتصادياً، كانوا طيعي القيادة، لأنهم كانوا يعيشون على الكفاف الذي يجعلهم مضطرين للخنوع. فلم يكونوا قادرين على التفكير برفض عملهم وهو سلاحهم الاقتصادي الوحيد. وكانوا معزولين في أوضاعهم الفظة، وفي جهلهم، لذا فقد عاشوا تحت مستوى السياسة. فإذا ماتوا من الجوع أو ثأروا وقتلوا بسبب ثورتهم، فإن أحداً لم يكن يهتم بذلك، كما أن الطبقة الحاكمة لم تكن تتأثر أو تُدان.
إن معظم واضعي
السياسة الخارجية الأمريكية، والمختصين بذلك العلم السياسي – العسكري الجديد عن
الانتفاضة المضادة ( نظرية الثورة المضادة ) أو يمكن أن تصبح، صراعات بين ( نظامين ) عالميين: الشيوعيين من جهة،
والأمريكيون وحلفاؤهم من جهة أخرى، أما الأشخاص المعنيون مباشرة، فليسوا إلى أحجار
شطرنج، يحركهم هذا المعسكر أو ذاك.
ويجد الأمريكيون أنفسهم ( الأجانب ) الأكثر تكراراً في كل المواقف الثورية ( فيتنام، كوبا، إيران، غواتيمالا، البرازيل، الكونغو، فنزويلا... إلخ). فليس من المدهش إذن، وبحسب سيكولوجية الحرب الباردة، أن نفتش عن معارضينا الروس أو الصينيين في منطقة النزاع، وعندما نجدهم أو يخيل إلينا وجودهم، نلبسهم الدور الرئيسي. وهكذا نرزح تحت عبء لا معقولية غريبة، تبدو فيه إمكاناتنا للملاحظة معدومة.
إن الخلاصة التالية من المقال المعنون ( مرافعة عن الواقعية في جنوبي شرقي آسيا لروجر هيلسمان )، الذي كان مديراً لشؤون الشرق الأقصى في وزارة الخارجية الأمريكية، هي خلاصة نموذجية في هذا الصدد:
- إن كل تحليل للموقف في جنوبي فيتنام، يجب أن ينطلق على الأرجح من حقيقة أننا لا نخوض فيه حرباً حقيقة. فالمشكلة سياسية أكثر منها عسكرية، مع أعمال من الأرهاب وليس مع معارك. فمن مجموع السكان البالغ أربعة عشر مليون نسمة، لم يجند الفييتكونغ إلا ثمانية وعشرين ألفاً إلى أربعة وثلاثين ألفاً من رجال العصابات النظاميين، بالإضافة إلى ستين ألفاً وحتى ثمانين ألفاً من المساعدين المؤقتين. وتشبه الحملة الصراع ضد عصابات المجرمين في الثلاثينيات، أو ضد الشبان الإرهابيين في نيويورك حالياً، أكثر مما تشبه حرب كوريا أو الحرب العالمية الثانية. وبشكل إيجابي جداً، فإن مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) لديه من التجربة ليعالج هذه المشكلة أكثر مما لدى القوات المسلحة.
- مجلة نيويورك تايمز، 23 آب 1964
وبدون أن نحسب حساباً إلى سخف المقارنات – الشبان الإرهابيون – فإنه من الواضح بأن هذا التحليل يتضمن نقاط ضعف خطرة في مجالي الملاحظة والتفسير.
فمن مجموع السكان البالغ أربعة عشر إلى ستة عشر مليوناً، لم يضم الفيتكونغ ثمانية وعشرين ألفاً من رجال العصابات بل ضموا ما لا يزيد عن ثمانية وعشرين ألفاً كحد أقصى، ولكن القرار الذي اتخذه الرئيس جونسون بقصف شمالي فيتنام في بداية العام 1965، يبين لنا بوضوح أهمية هذه القوة.
ونذكر على سبيل المقارنة، إن رجال عصابات فيديل كاسترو والمقاتلين في جزيرة تضم سبعة ملايين نسمة تقريباً، لم يزيدوا أبداً عن ألف وخمسمائة رجل مسلح. ومع ذلك، وفي كانون ثاني 1958، عندما شطرت معركة مدينة سانتا كلارا الفاصلة البلاد إلى قسمين، فإن المدينة – كلها ما عدا الحامية العسكرية – ألفت نفسها غارقة في النزاع. وعندما هرب باتيستا من البلاد في آخر يوم من السنة، أعلن كل سكان كوبا عملياً انضمامهم إلى النصر المكتسب. وبدا وكأن الثوار لم يكونوا معزولين بل كان البلد كله معهم.
أما عن الركيزة الشعبية التي يتمتع بها الفيتكونغ في جنوبي فيتنام، فإن هيلسمان نفسه يعترف قائلاً: " في الأغلبية الساحقة يتطوع الفيتكونغ في الجنوب، ويأتيهم منه الغذاء والكساء، ويقتطعون منها ( ضرائب ) حتى يستجلبوا مؤناً أخرى عن طريق كمبوديا ".
وعن الموضوع نفسه كتب وولتر ليبمان في نيويورك هيرالد تريبيون في نيسان 1964: " إن الحقيقة التي تخفى على الشعب الأمريكي، هو أنه ليس لحكومة سايغون سلطة إلا على ثلث السكان، وهي لا تمارس رقابة ( حتى خلال النهار ) إلا على ربع أراضي البلاد، على أكبر تقدير ".
ومن المتوجب أن يكون واضحاً، بأن الجيش الفيتنامي الجنوبي المؤلف من أربعمائة ألف رجل، تساعده فرقتان من ( المستشارين العسكريين الأمريكيين ).( وأرماداً من المطاردات وقاذفات القنابل وطائرات الهيلكوبتر، ودعم مالي يومي يعادل مليوني دولار، لا يستطيع هذا الجيش فمع الانتفاضة. فالمسألة إذن ليست قضية ( شبان إرهابيين ). أما الخطأ الناجم عن الاعتقاد بأن ثورة الفيتكونغ هي من عمل قلة متعصبة موجهة من الخارج، فإنه لا يستطيع الصمود أكثر من خطأ ( الشبان الإرهابيين ). ولا تزال واشنطن تدعم هذا الخطأ لأسباب سنراها فيما بعد.
هل يمكن استخدام تكتيك حرب العصابات ضدها وبنجاح؟ يجب أن نجيب بالنفي حتى لا نقع في مغالطة منطقية للطريقة، فأولئك الذين يقاتلون الهنود الحمر لا ينقلبون إلى هنود حمر إذا سلخوا فروات الرؤوس. كما أن الزي المبرقش بلون الغابات لا يحول مشاة البحرية الأمريكيين ( المارينز ) إلى ( رجال عصابات
-
وقد أثبتت تجارب الحرب العالمية الثانية وما تلاها من نزاعات، بأن جنود الكوماندوس
ليسوا ( رجال عصابات )، وكذلك أولئك الذين يهيئون الآن فيما يسمى مدارس الحرب
المضادة لحرب العصابات، مع أنه يُدرَّس فيها التقنيات المميزة لحرب العصابات،
كالهجمات الليلية والكمائن، والإغارات البعيدة عن القواعد العسكرية... إلخ.
إن هذه التقنيات قديمة قدم الحرب نفسها ويمكننا أن نتصور بأنها استعملت من قبل رجال ( كرومانيون ) ضد رجال أواخر العصر النياندارتالي، كما استعملته ( البروتون ) ضد ليجيونات يوليوس قيصر، وهي ما زالت مستعملة من قبل متوحشي غابات كولومبيا، ومن قبل صيادي الرؤوس الباقين على قيد الحياة في غينيا الجديدة.
وليس صيادوا الرؤوس ( رجال العصابات ). ومن السهل تمييز ذلك فعندما نتكلم عن رجال العصابات، يتداعى في أفكارنا معنى النصير السياسي، فهو مدني مسلح، وسلاحه الرئيسي ليس البندقية أو الساطور، بل علاقته مع الجماعة، مع الأمة التي يقاتل ضمنها وفي سبيلها. والانتفاضة أو حرب العصابات، عبارة عن فعل يحث على تغيرات من الثورة المضادة، أي الطريقة التي تتم بها مقاومة الثورة. إنهما وجهان لعملة واحدة، ومن الضروري ألا نخلط بينهما، أو بين عواملهما، بسبب تماثلهما.
وبسبب الطبيعة السياسية للصراع، وتفاوت الوسائل التي بحوزة المعسكرين، وخاصة بسبب التناقض التام لأهدافهما السياسي، فإن التكتيكات الأساسية المطبقة في حرب العصابات، غير قابلة للتطبيقمن قبل الجيش الذي يقاتل العصابات، ولن تكون قابلة للتطبيق، وبشكل محدود جداً، إلا من قبل ( الإختصاصيين ) العاملين في القوات الأمريكية الخاصة، التي يمكن أن تحاول تقليد تكتيكات العصابات.
والأسباب تامة الوضوح.
أولاً، لأن رجل العصابات يمتلك المبادرة فهو الذي يبدأ الحرب، ويقرر أين ومتى يضرب. وعلى عدوه العسكري أن ينتظر مستعداً لمواجهته في كل مكان.
ويجد جيش الحكومة نفسه، قبل وبعد بداية الحرب، في موقف الدفاع بسبب دوره كشرطي مكلف بحراسة الممتلكات العامة والخاصة.
ولدى الجندي أشياء كثيرة للدفاع عنها: كالمدن، والتجمعات السكانية، والأراضي الزراعية، والمواصلات، والتجارة، والقاعدة الصناعية، بالإضافة إلى العسكرية البحتة: كالمواقع، والمخافر الأمامية، وخطوط التموين، والقوافل، والمطارات، والقوات نفسها مع أسلحتها الثمينة، التي تشكل واحداً من أوائل أهداف رجال العصابات حتى يتسلحوا بها. وأخيراً فإن عليه أن يحمي ويساند جهازاً سياسياً خاضعاً لتوتر خطير منذ قيام الانتفاضة المكشوفة.
ففي كل هذه المجالات، يكون للنظام المعني وذراعه العسكري نقاط ضعف حساسة جداً بالنسبة إلى عدو يمكن أن ينزلق كالريح.
وإذا كان الجيش يعاني من موارده، وخاصة من المعدات العالية التكاليف التي لن يستعملها ( المعدات الذرية مثلاً )، فإن رجل العصابات يتمتع بكل الحرية التي يكتسبها من الفقر. فهو لا يمتلك إلا بندقيته وقميصه، وليس له إلا حياته ليدافع عنها
. فهو لا يحتل أية أرض، وليس لديه أي
جهاز عسكري يتطلب صيانة صعبة، ولا يمتلك دبابات تتعرض للمخاطر في المعركة، ولا
مواقع يمكن أن تُحاصر، ولا وسائل مواصلات معرضة للتدمير من قبل الهجمات الجوية، أو
طائرات يمكن أن تسقط، أو فرقٍ يمكن أن نقصف، أو أية أرتال آلية لتُحمى من الأفخاخ،
ولا قواعد أو مستودعات لا يتسع له الوقت لتركها على الفور.
إنه يمكن أن يجيز لنفسه بأن يهرب عندما لا تتوافر لديه في القتال فرص جيدة لإحراز النصر، وأن يتفرق ويختبئ عندما يصبح التجول من عدم الحذر. وفي أقصى الحالت، يمكن له أن يندمج مع الشعب المسالم – ذلك البحر ( حتى نستعمل استعارة ماوتسي تونغ المشهورة ) – الذي لا ينبغي على رجل العصابات أن يسبح فيه كالسمكة.
ويجب أن نبين منذ الآن، بأن الشعب يشكل مفتاح الصراع كله. وبالواقع، ومهما بدت الفكرة مغيظة للمحللين الغربيين، فإن الشعب هو الذي يقود الصراع.
فرجل العصابات ينتمي إلى الشعب، بنفس المقدار
الذي لا يستطيع فيه جندي الحكومة أن ينتسب إليه ( لو لم يكن النظام قد فقد محبة
الشعب لما اندلعت الثورة ).
إن رجل العصابات يقاتل بمعونة الجماهير الشعبية المدنية،
التي تشكل تمويهه، ومنابع امداده، ومصدر تطوعه، وشبكة اتصالاته، ومصلحة استخباراته،
الموجودة في كل مكان والشديدة
الفعالية.
فبدون رضاء الشعب ومساعدته الفعالية، يتحول رجل العصابات إلى قاطع طريق، ولا يبقى طويلاً على قيد الحياة.
ولو استطاع الجندي المضاد للعصيان أن يحصل على
المساعدة نفسها، لما وُجد رجل العصابات
أصلاً، لما كانت هناك حرب أو
ثورة، ولنامت القضية، وانطفأت الرغبة الشعبية في التغيير الجذري.
وهكذا نصل إلى المسألة الجوهرية الخاصة بالأهداف التي يبني المعسكران عليها بالضرورة، تكتيكيهما واستراتيجيتيهما.
وهكذا نصل إلى المسألة الجوهرية الخاصة بالأهداف التي يبني المعسكران عليها بالضرورة، تكتيكيهما واستراتيجيتيهما.
فرجل العصابات، هو قبل كل شيء داعية، ومحرض، وباذر للأفكار الثورية (الجهادية)، وهو يستخدم الصراع نفسه – القتال المادي – كأداة للتحريض، وهدفه الأساسي رفع مستوى الاستباق الثوري، ثم المشاركة الشعبية حتى النقطة الحرجة، حيث تصبح الثورة عامة في البلاد، وتكمل الجماهير الشعبية العمل النهائي، أي القضاء على النظام القائم، والقضاء ( غالباً وليس دائماً ) على الجيش الذي يحميه.
وبالمقابل فإن هدف القوات المضادة للثورة سلبي ودفاعي، ويتضمن تأمين استتباب النظام، وحماية الملكية، وصيانة الأوضاع والمصالح الموجودة بقوة السلاح، بعد أن خابت وسيلة الإقناع. وقد تكون الوسائل المستخدمة سياسية عندما تتضمن اقناعاً أشد: كالوعود بالاصلاحات الاجتماعية، والاقتصادية، وشراء الضمائر، والدعاية المضادة بمختلف الأشكال. لكن قبل كل شيء،
يجب على القوات المضادة للثورة أن تدمر الثورة عن طريق
تدمير وعودها، أي البرهنة عسكرياً بأنها لا يمكن أن تنجح ولن تنجح.
ولهذا لا بد من القهر الكلي للطليعة الثورية، وإبادتها مجزأة حيثما وجدت. والخيار البديل هو
إهمال الجهد العسكري
في سبيل الحل السياسي – مثلاً تقسيم فيتنام بعد ديان بيان فو، أو الحل الجزائري...
إلخ – أو بقول آخر: حل وسط أو الاستسلام الكامل.
وإذا حكمنا بحسب التجارب الحديثة،
فإن نصراً عسكرياً على حرب عصابات حقيقية يبقى مشكوكاً
فيه،
إلا إذا لجأنا إلى طرقٍ متقاربة من الإبادة
الجماعية، كما فعل الألمان في بعض المناطق خلال الحرب العالمية الثانية.
ولايستطيع الجندي المضاد للعصابات أن يتغلب على رجل العصابات بتقليده، لأنه الغريب الموقف الثوري ولأن أعماله هي على النقيض من أفعال رجال العصابات حتى عندما يمكن أن يتواجد
بعض التناظر بينهما.
ويستطيع رجل العصابات أن يتنكر
بزي فلاح – وقد
يكون فلاحاً بالفعل – متابعاً نشر رسالته الثورية. أما الجندي المضاد للثورة، فإنه
يغدو في الحالة المماثلة دليلاً للشرطة، ولا يستطيع نشر أية رسالة. ويستطيع رجل
العصابات أن يضرب ويسرع في الانسحاب، وتكسبه كل إغارة ناجحة أسلحة وذخائر وتؤمن له بعض
الدعاية. ولا يحصل الجندي المضاد للعصابات على أي شيء من مثل هذا التكتيك
– حتى إذا استطاع
استعماله – فحملته العسكرية يجب أن تكون مستمرة ذات تأثيرات متجمعة.
فإما أن ينظف البلد من
رجال العصابات، وإما أن يفشل في تحقيق ذلك. وفي هذه الحالة الأخيرة
فإنه يستمر في الخسارة.
إن التمييز الذي لا نقوم به هنا بين حرب العصابات كتقنية سياسية – عسكرية، وبين حرب العصابات البسيطة ( قطع الطرق من قبل المجرمين، أو استعمال التقنيات غير النظامية للحرب من قبل تشكيلات عسكرية نظامية )، تمييز جوهري، وليس اعتباطاً كما يمكن التفكير للوهلة الأولى.
فقد كانت هناك دائماً انتفاضات شعبية، إلا أنها فشلت عادة أو حققت انتصارات محدودة، لأن تقنيات اليوم لم تكن قابلة للتطبيق في الموقف التاريخي. إنها وسيلة أخرى للقول بأن الأغلبيات الشعبية، أي الجماهير غير المتخصصة للمجتمعات قبل الصناعية لم تكن لتستطيع ممارسة الفعل السياسي أو الاقتصادي.
فأقنان العصور الوسطى مثلاً، لم يكونوا قادرين على مقاومة القوم العسكرية الاقطاعية، ليس فقط لأنهم لم يكونوا يملكون الأسلحة والمعارف الضرورية، ولا الوعي والالتحام السياسيين، بل لأنهم لم يكونوا يمتلكون أية وسيلة أخرى للتأثير السياقات الاقتصادية والسياسية لعالمهم.
واقتصادياً، كانوا طيعي القيادة، لأنهم كانوا يعيشون على الكفاف الذي يجعلهم مضطرين للخنوع. فلم يكونوا قادرين على التفكير برفض عملهم وهو سلاحهم الاقتصادي الوحيد. وكانوا معزولين في أوضاعهم الفظة، وفي جهلهم، لذا فقد عاشوا تحت مستوى السياسة. فإذا ماتوا من الجوع أو ثأروا وقتلوا بسبب ثورتهم، فإن أحداً لم يكن يهتم بذلك، كما أن الطبقة الحاكمة لم تكن تتأثر أو تُدان.
0 التعليقات:
إرسال تعليق