20‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 5

حرب المستضعفين 5


الفصل الثاني
جوهر حرب العصابات وهدفها


حرب البرغوثالأهداف السياسية والعسكرية – خلق مناخ
الانهيار – تنظيم القوى الثائرة – رأي جيفارا عن حرب العصابات

 

  -  
عندما يتقدم العدو فإننا نتراجع، وعندما يخيم نناوش، وعندما يتعب نهاجم، وعندما يتراجع نطارده .

تعطينا كلمات ماوتسي تونغ هذه عن حرب العصابات أحد مفاتيح الفكر الشيوعي. وهي متميزة سواء في الديبلوماسية أو في الحرب. ولقد هضم صانعوا السياسة السوفياتية هذا الدرس الصيني وتمثلوه، وطبقوه على المجموعة من المشكلات التي لا علاقة لها بحرب العصابات، وتمثل أزمة برلين مثالاً واضحاً، كما تمثل أزمة قاعدة الصواريخ في كوبا مثالاً آخر.

ولم لا؟ أن نضرب العدو طالما كان ضعيفاً، وأن نتجنبه عندما يكون قوياً، وأن نطارده عندما ينسحب، وأن نناور عندما يتقدم. فذلك ينسجم مع التفكير السليم. وليس في هذا أي جديد حقاً، ولا يستطيع المعسكر الماركسي – الينيني أن يدعي الابتكار في هذا السبيل.

أما الجديد حقاً – علماً أن ماوتسي تونغ هو النبي! هنا، والثورة الصينية الطويلة هي مسرح الاختبار الأول – فهو تطبيق نشاط حرب العصابات، بشكل واع مقصود، من أجل تحقيق أهداف سياسية خاصة، لا علاقة مباشرة لها مع نتيجة المعارك الدائرة، شريطة أن يبقي الثوريين على قيد الحياة.

ومن الملاحظ – وذلك ما يلفت النظر – أن الكوبيين غير الشيوعيين، وليس الصينيون، هم الذين أعطوا المثل الأوضح لنشاط عسكري أدى إلى آثار سياسية، في خلال حرب كانت كل معاركها معتبرة من قبل الإخصائيين بمثابة مناوشات، وحيث انهارت الحكومة كما لو أن جيشها قد أبيد في ساحة المعركة.

ولطالما أدهش التفسير العسكريين رغم بساطته: فالوسائل التي تمتلكها الحكومة عادة، لا تمكنها من القضاء على الثوار الذين يعرفون عملهم، ويتمتعون بالتأييد الشعبي. ومن جهة أخرى، فإن قليلاً من الحكومات تتحمل التوترات السياسية والنفسية والاقتصادية الناتجة عن حرب العصابات، حتى لو كانت هذه الحكومات قوية جداً من الناحية العسكرية.

وبصورة عامة، إن الحروب كلها تطرح المشكلة الأساسية نفسها ألا وهي: كيفية استخدام قوتها لاستغلال نقاط ضعف العدو، ومن ثم الانتصار عليه. ففي حرب أهلية، تكمن قوة الحكومة في جيشها وترسانتها وثروتها المادية، أما نقاط ضعفها فهي اجتماعية وسياسية واقتصادية وإذا كان الاقتصاد يشكل الورقة الرابحة بيد الحكومة، فإنه العنصر الأكثر قابلية للعطب من عدة وجوه، فهو يقدم عدة أهداف أهداف عسكرية ونفسية في الوقت نفسه.

ولقد ذكرت سابقاً، بأن الديمقراطيات الدستورية عرضة للأعمال الرامية إلى قلب النظام، والتي تشكل السلاح الأساسي للحرب الثورية. وبسبب التركيب الاجتماعي الطبقي، وأنظمة الأحزاب المتعددة الموجودة في معظمها، منابع للتوترات السياسية والاجتماعية والتي يمكن استغلالها، وبشكل الدستور عقبة قد تكون في بعض الأحيان قاتلة.

إن فولجينسيو باتيستا لم يسقط لأنه كان دكتاتوراً، بل سقط لأنه لم يستطع أن يكون دكتاتوراً بما فيه الكفاية، في بلد يتمتع بمؤسسات ديمقراطية مرتبطة بشكل كامل برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وعطفِها، ولم يستطع بالتالي حل التناقضات التي واجهها. لقد كانت يداه مغلولتين باتفاقيات لم يكن يستطيع تجاهلها دون أن يفقد سنده الخارجي.
وأدى استعمال وسائل الإرهاب المضاد، أي الاستعمال غير المشروع للقوة إلى زيادة حدَّة المعارضة الداخلية..
 وبدون تلك الوسائل، لم يكن لديه الوسائل الفعالة لمحاربة الفوضى ومحاولات التغيير التي كانت تهدد نطامه. والوضع مماثل في الهند الصينية، حيث أن هزيمة الفرنسيين، كانت بسبب الأفكار والمؤسسات التي أدخلوها إلى الهند الصينية بأنفسهم.





أما فرانكو فان نظامه ما زال متماسكاً، لأنه نجح في خنق فكرة الحرية نفسها في اسبانيا، ووضع على الطاولة، في الوقت نفسه، ما يكفي من الخبز لإرضاء الأغلبية ممن يعبرون عن رأيهم.

ومهما كان النظام السياسي فإن الجيش النظامي يعاني ( من الناحية العسكرية البحتة ) من سلبيات ناجمة عن عدده، وتعقيده وتنظيمه، ودوره الدفاعي كحارس للثروة الوطنية ولأرض الوطن.

أما ثوار العصابات، فإنهم يستقون قوتهم – كما يقول جيفارا – من حيث أنهم تجاوزوا نهائياً موضوع الارتباط بالأرض، ومن قدرتهم الحركية، واتحادهم مع الشعب المتذمر الذي يتكلمون باسمه، ويشكلون طليعته المسلحة للاحتجاج الاجتماعي المناضل.





أما ضعفهم فهو فقط بسبب عسكري – وإنني لأستعمل الكلمة بروية – فهم لا يمتلكون ما يكفي من السلاح، وعادة ما يكونون قليلي العدد بشكل لا يسمح لهم بأن يخاطروا بعمل عسكري حاسم. وفي هذه الشروط لا بد أن نفترض طبيعة تكتيكهم.
وهم سياسياً مضطرون إلى زيادة تفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية الموجودة، والعمل على تنمية الوعي السياسي والإرادة الثورية داخل الشعب. وعليهم أن يدخلوا في مخططهم – وذلك نتيجة طبيعية لأفعالهم – ضرورة زيادة حدة القمع السياسي، بغية إذكاء المعارضة الشعبية للنظام، وتنشيط عملية التفتت.

ومن مهماتهم عسكرياً، والعمل على استنزاف العدو وإنهاكه، وتحقيق التآكل المعنوي للقوات الحكومية عن طريق إجبارها على انفاق كميات أكبر من المال والمعدات والأفراد، وذلك في جهدها لسحقهم وإزالتهم، وأن
 يعملوا في الوقت نفسه على تنمية قواهم الخاصة، بسلب أسلحة القوات الحكومية، وأن يزيدوا عددهم بتطويع عدد أكبر من أفراد الشعب الذي يتزايد كرهه للنظام، وأن يبتعدوا عن كل مواجهة عسكرية حتى اليوم – وهو لا بد آت – الذي يحققون فيه توازن القوى.

ويستعمل الجيش القوة، مفتشاً عن نقاط ضعف العدو في سبيل القضاء عليه. ويقال أحياناً بأن رجل العصابات يعمل بواسطة الضعف، وذلك هذر، فالحقيقة أنه يستخدم قوة ذات الطابع الخاص، والكامنة في حركية وحداته المسلحة تسليحاً خفيفاً، ومن معين الشعب الذي لا ينضب،
 ومن حيث أن الوقت ( وهو رأس مال سياسي ومالي ) يعمل لصالحه.



وعلى سبيل التشابه يمكن القول أن العصابات تشن حرب البرغوث، ويعاني عدوها 






العسكري من السلبيات التي يعانيها الكلب: مساحة كبيرة للدفاع عنها، عدو شديد الصغر ومنتشر في كل مكان وسريع الحركة بحيث يصعب القبض عليه. فإذا دامت الحرب ما يكفي من الزمن – كما تقول النظرية – فإن الكلب لا بد أن يسقط في ساحة المعركة بسبب الإجهاد وفقر الدم، دون أن يجد ما يعضه بأنيابه أو أن يحكه بقوائمه.

ومن الناحية العملية، فإن الكلب لا يموت بسبب فقر الدم، بل لأنه يضعف باستمرار – بسبب انتشاره إذا استعملنا المصطلحات العسكرية، وبسبب عدم شعبيته إذا استعملنا المصطلحات السياسية، وبسبب زيادة الكلفة إذا استعملنا المصطلحات الاقتصادية – وفي النهاية، فإنه لا يعود قادراً على الدفاع عن نفسه. وفي هذه الفترة، يكون البرغوث قد تكاثر وتحول إلى وباء، بفضل مجموعة طويلة من انتصارات صغيرة، استطاع في كل واحد منها أن يمتص قطرة من الدم، على شكل أسلحة مسلوبة يسلح بها أنصاره الجدد، وعندها يركز قواه كي يحضر إلى الانقضاض الحاسم.

ويعمل الزمن لصالح الثوار سواء في الريف – حيث ينفق العدو يومياً ثروة ليطاردهم – أو على الساحة السياسية والعسكرية.

وتعي كل الحكومات الحديثة ما يسميه الصحفيون ( الرأي العام العالمي ) ولأسباب هامة، معظمها ذو سمة اقتصادية، فإنها لا تتحمل أن تدان من قبل الأمم المتحدة، ولا تحب أن تستقبل زيادة لجنة حقوق الإنسان أو لجنة حرية الصحافة، وبسبب حاجتها للقروض والاستثمارات والأسواق الأجنبية وإنشاء علاقات تجارية مرضية إلى... فإنها مضطرة لأن تكون جزءاً من مجموعة ذات مصالح متبادلة، وغالباً ما تكون عضواً في اتحاد عسكري. وبالتالي فإنها مضطرة لأن تحفظ بعض مظاهر الاستقرار لتطمئن شركاءها بأنها ستحترم اتفاقياتها وعقودها، وستتابع دفع فوائد قروضها وتسديد ديونها وجعل التوظيفات آمنة ومثمرة.

إلا أن حرباً أهلية طويلة تسيء إلى ذلك كله، فليس هناك من يرضى أن يوظف مالاً بلا فائدة أو أمان، ولا يمكن لمصرف أن يقرض دون ضمانات، ولا يوجد حليف يرغب في الارتباط مع حكومة يمكن أن تزول بعنف.

لذا فإن حرب العصابات وتنظيمها السري في المدن، يجب أن يهدفا إلى
 تدمير صورة الحكومة المستقرة، ليحرما هذه الحكومة من أرصدتها ومواردها، وأن يخلقا انشقاقات في الطبقات المالكة الخائفة، وبين الموظفين ( الذين يخافون على رواتبهم )، وبين جنودها.

وبشكل انفجار الانتفاضة الخطوة الأولى – وتلك هي ضربة دامية، تحمل في طياتها إصابة بالغة لهيبة النظام – وإن دوام حرب العصابات لمدة من الزمن، يبرهن عن عجز الجيش، ويكمل بالتالي سياق الحوادث. وعندما يزداد الدعم – وذلك يحدث تلقائياً عندما ينكشف ضعف الحكومةتنشأ القلاقل السياسية على شكل تظاهرات وعرائض واضطرابات، تتلوها أحداث أكثر خطورة: كأعمال التخريب والإرهاب وانتقال الانتفاضة بالعدوى.


وفي ظروف كهذه، لا بد من حكومة فذَّة حتى لا تلجأ إلى التدابير القمعية، كمنع التجول، وتعطيل الحريات المدنية، ومنع الاجتماعات الشعبية، وغيرها من التدابير غير الشرعية، التي لا تؤدي إلا إلى زيادة حدة المعارضة، وتفتح حلقة مفزعة يتدمر فيها الافتصاد، ويتمزق التركيب الاجتماعي، وينتهي النظام إلى الاهتزاز.

0 التعليقات: