حرب المستضعفين 15
وتكرر ما حدث في الصين وكوبا، إذ أقام الثوار نظاماً اقتصادياً وسياسياً موازياً. وكان الجيشي قادراً على الذهاب حيثما يشاء – وبالقوة دائماً – لكنه ظل عاجزاً عن البقاء في المكان الذي يصل إليه، وإلا أصبح عرضة للهجمات ولذا بقيت القوات عملياً ضمن إطار التجمعات السكنية، وغدت عاطلة عن العمل.
واصطدمت سايغون ومستشاروها الأمريكيون بنفس مأزق الفرنسيين، الذي شرحه جياب بقوله: ( فبتوزيع قواتهم، أصبحوا أضعف من أن يقوموا بالدفاع عن أنفسهم، وصاروا يعرضون قواتهم للتدمير بالمفرّق. وبتركيزهم للقوات، كانوا يتركون الأرض التي سعوا إلى احتلالها، لأن النصر - بالنسبة إليهم - لا يعني شيئاً إذا لم يكن مصحوباً باحتلال الأرض ).
وكان ثوار العصابات يستطيعون اختيار أهدافهم فيقبلون المعركة أو يرفضونها حسب رغبتهم. ولم تكن لدى الحكومة المعلومات التي يقدمها العون الشعبي، لذا تصرفت على غير هدى، وكانت عملياتها محكومة بالصدفة إلى حد ما، وباهظة التكاليف بالنسبة إلى نتائجها.
وكبلت حكومة سايغون نفسها بعائق خطير، عندما رفضت، ولعدة سنوات، الاعتراف بوجود معارضة مسلحة في فيتنام الجنوبية. وكانت تؤكد أن ثوار العصابات الذين تصطدم بهم، ما هم إلا محاربون قدماء من الفييتمينة، وأنهم مكابرون وقليلو العدد. ولم تعترف بالحقيقة إلا بعد خمس سنوات.
واستفاد الفيتكونغ من هذه المهلة لتنظيم حركة سياسية سرية قوية، ووجدت من الثوار على مستوى القرية والمنطقة. وكانت استراتيجيتها الأولية تهدف إلى تحطيم ارتباط الحكومة السياسي مع المناطق الريفية، وذلك بإفساد أو خطف أو قتل عناصر السلطات المحلية – وخاصة رؤساء القرى ومستشاريهم – ولقد بدأت الحملة في العام 1957، الذي قُتل فيه أكثر من 700 موظف، وقدرت الخسائر المماثلة في العام 1963 بثلاثة عشر ألف شخص، رغم الجهود التي بذلتها الحكومة لإيقافها.
وبعد تدمير شبكة الارتباطات السياسية، عمد الفيتكونغ إلى تنظيم جيشهم. وعلى الرغم من التصريحات المتحدثة عن المعتدين الشماليين فإن من المرجح أن الفيتكونغ حصلوا على حوالي 90 % من تسليحهم، بفضل الأسلحة الأمريكية التي غنموها من القوات الحكومية.
وتعترف إحصائيات سايغون نفسها، بأن الفيتكونغ غنموا 4853 سلاحاً في العام 1960، ولم يخسروا سوى 921 سلاحاً، والفرق يكفي لتجهيز فوج. وفي العام 1962 كانت غنائم الفيتكونغ 52 ألف قطعة سلاح وخسائرهم 4850 قطعة فقط. وفي العام 1963 كانت الغنائم 83 ألف قطعة والخسائر 5400. وهكذا غنم الفيتكونغ في عامين 128682 سلاحاً، أي أن غنائمهم كانت كافية لكل المقاتلين في ذلك الحين.
وكتبت النشرة نصف الأسبوعية I. F. Stone's بتاريخ 13 أيار 1963:
- كيف يحصل الفيتكونغ على السلاح؟
- إن معظم ما يملكون هو من الأسلحة الأمريكية المغتنمة من الوحدات الحكومية في كمائن أو خلال مهاجمة المراكز الصغيرة. وبالأصل تُنظم وحدة الفيتكونغ غالباً بلا أسلحة. ويقول المنظم السياسي للأعضاء، بأن عليهم اغتنامها من العدو، على أن يستعملوا في البداية أسلحة بدائية، مثل الرماح والخناجر... إلخ. والطريقة حسنة بشكل واضح، فالفيتكونغ تملك اليوم مدافع عديمة الارتداد، وهاونات ثقيلة، ورشاشات ممتازة وكميات كبيرة من الرشيشات.
ولم يكن ثوار الفيتكونغ يخوضون معركة، إلا عندما يضمنون النجاح بفضل العدد أو الموقع. وكانت العمليات على مستوى الكتيبة، نادرة حتى نهاية عام1963. ومنذ منتصف العام 1964، بدأ الفيتكونغ بترك تكتيك حرب العصابات، للقيام باختبارات حرب محلية. وكان ذلك دلالة هامة، تشير إلى تبدل في مرحلة الحرب، والانتقال من مرحلة الدفاع الاستراتيجي، ودخول مرحلة توازن القوى وأخذ زمام المبادرة من قبل الثوار.
وأشارت الانترناشيونال يونايتد برس، أنه ( في التشرين الثاني 1961، وعندما بدأت بإنشاء قواتها في البلاد، اعتبر الموقف حرجاً، لأن الفيتكونغ كانوا أقوياء بحيث أنهم استطاعوا شن 1782 هجوماً في ذلك الشهر. وفي تشرين الثاني من 1963 أي بعد عامين من العون العسكري والاقتصادي المكثف، أضحى عدد الهجمات والحوادث التي كانت المبادرة فيها بيد الفيتكونغ، 3182 هجمة وحادثة.
وتضاعفت الوسائل الجوية الموضوعة بتصرف الفيتناميين الجنوبيين، إلا أن النتائج لم ترتفع بالنسبة ذاتها. وكتبت النيويورك تايمز في 3 كانون الأول 1963:
( لقد أجبرت الهجمات الجوية ضد تجمعات الثوار القادة الشيوعيين على تعديل تكتيكهم، لكنها لم تنل مع معنوياتهم أو من قدرتهم القتالية، كما أشار لذلك تقرير عن فعالية الأسلحة المستعملة ضد حرب العصابات. والمحاولة الرامية إلى إنقاص عدد الأشجار في معتصمات الأدغال لم تؤد النتائج المقدرة لها. وحتى أقل الوحدات غرساً بالحرب، تعلمت الإتقاء من نيران الرشاشات ورشقات القذائف الصاروخية التي تطلقها الطائرات.
( ومن المعروف أن الفيتكونغ عرفوا أن أكثر الاحتياطات تطوراً، فقد حفروا في مناطق قواعدهم الرئيسية الأنفاق والمغامرات، التي يمكن لبعضها أن يقاوم تأثيرات قنابل زنتها 500 رطل.
( وفي بعض الوحدات، تلقى عدد المقاتلين، تدريباً خاصاً لتعداد القنابل والقذائف التي تسقط، وعدد الإنفجارات، بحيث يتمكنون من تمييز أمكنة المقذوفات التي لم تنفجر، واستعمالها بعد ذلك ( لصنع الألغام الأرضية أو القنابل أو الرمايات... إلخ ) ).
وتعترف حكومة سايغون، بأن نسبة الخسائر بين المعسكرين خلال تلك السنين قد تطورات لصالح الفيتكونغ. ونشرت النيويورك تايمز في 18 تشرين الأول 1964 الرقم الرسمي لهذه الخسائر:
السنـة 1961 1962 1963 1964
ولا بد من الانتباه، إلى هذه الخسائر المقدرة للفيتكونغ مقدمة من قبل الحكومة، وتتضمن بالضرورة الخسائر المدنية بسبب أعمال القصف وهناك وسيلة سهلة للتدقيق، وتتمثل بمقارنة أرقام الخسائر مع عدد الأسلحة والمغتنمة. عندها يبدو التبـاين واضحاً بشكل يدفع إلى الاستنتاج التالي، إن معظم الأشخـاص المقتولين من الفيتكونغ بل يحملون الأسلحـة. ويمكن الحكم على التقديرات استنـاداً إلى ما كتبه ( برنارد فول ) في ( الفيتناميين:
( إن التقارير الرسمية للطيران الفيتنامي الجنوبي تسمح بأن تكوّن فكرة عن الطريقة التي يستخدم فيها. فخلال عملية جارية استمرت ثلاثة أيام من كانون الثاني 1963 أصاب الطيران الأهداف التالية: منزلاً وعشرة أبراج مراقبة على بعد خمسة عشر وخمسة وثلاثين كيلومتراً غربي بليكو، وثلاثة منازل على بعد خمسة وأربعين كيلومتراً غرب كينهون، وأربعة منازل ومزرعة أرز على بعد خمسة وثلاثين ميلاً غرب بليكو، وأبيد خمسة وعشرون منزلاً وتضررت عشرة على بعد خمسة وثلاثين كيلو متراً شمالي غربي بليكو، ومنزلان على بعد ثلاثين كيلومتراً شمالي بيين هوا. وفي خلال عملية ضد تجمعات الفيتكونغ، في سهل جونكس ومعقل المنطقة (د) أعلن جيش جمهورية فيتنام، بأنه قتل ستة وسبعين عدواً بالأسلحة البرية، وأربعمائة بالأسلحة الجوية، كلفه لم يغنم إلا سبعة أسلحة فردية وخمسة أسلحة جماعية ( رشاشات وهاونات )، إلا أنه دمر أكثر من أربعمائة منزل وكوخ ).
ويمكننا أن نتصور بسهولة من يمكن أن يكون القتلى ( الأعداء ) في هذه الحالات. إن استعمال الطيران بلا تمييز، ضد أهداف يعتقد أنها للفيتكونغ، يفسر إلى حد بعيد عداء السكان لحكومة سايغون. ومن جهة أخرى، كلن للفلاحين كل الأسباب الداعية للتضامن مع الأنصار، المجندين عادة من قراهم، واللذين يشاركونهمالأخطار والمحن.
( بالنسبة إلى العالم الآخر، البعيد عن قرى ودساكر فيتنام الجنوبية، يُعتبر الثائرون بمثابة عملاء للشيوعية العالمية. أما الأكواخ المصنوعة من البامبو وأوراق الأشجار، وفي القرى المحررة، كان ثوار العصابات يتحدثون مع السكان بامور في غاية البساطة.
) وقد صرح ابن فلاح، لا يتعدى العشرين من عمره قائلاً: كنا في القرية نتعرض للهجوم كل ليلة. فلو كانت الحكومة حسنة أو قوية كما ينبغي، لتوجب عليها حمايتنا. ولذلك فكَّرت بأن جماعة جبهة التحرير قد يكونون على حق. أما الآن، وقد عرفتهم، فلست بآسف لأنني قررت الانضمام إليهم (.
) وصرح آخر: كنت أخاف منهم، وأحقد عليهم، عندما كانوا يهاجمون قريتي. لكن توجب علي الذهاب معهم، وأنا اليوم سعيد بذلك(.
( لقد كان السائل صحافياً فيتنامياً، استطاع الوصول بواسطة السيارات إلى المناطق المتنازع عليها في الدلتا، ودخل قرية لم تعد موضع نزاع، ويسيطر عليها الشيوعيون ليلاً ونهاراً. وفيما عدا القائد، كانت أعمار ثوار العصابات كلهم لا تزيد عن 20 عاماً، وكانوا يرفضون ذكر أسمائهم خوفاً من أعمال الانتقام، لكنهم كانوا يعلنون بأنهم من مواليد القرية، ويتحدثون باللهجة المحلية. وعند سؤالهم عن رأيهم بهوشي منه أجاب القائد: ( إنه ثوري عظيم، ونحن نحبه تماماً، لكننا لسنا تابعين له، فنحن فيتناميون جنوبيون ونقاتل لتحرير فيتنام الجنوبية ). (نيويرك تايمز 23/9/1964 (
وفي الجزء الأعظم من جنوبي فيتنام الريفي، شكل الفيتكونغ الحكومة الوحيدة، بمدارسها ومستشفياتها ومكاتبها الإدارية وحياة ضرائبها وخدماتها الصحفية. ولغياب سلطة الحكومة سايغون، ازدادت سلطة حكمهم، وكان اتصالهم الوحيد معها يتم عند قيامها بحملة تأديبية عرضية تصل الهليكوبتر أو بالعربات المدرعة، عبر طريق ملغوم بكثافة. وبعد العودة الإجبارية للجنود، كانت الحياة تعود إلى مجراها الطبيعي. وبضغط مستمر على المناطق المتنازع عليها، كان الفيتكونغ يوسعون تدريجياً مجالهم.
وكانت واشنطن وسايغون تقولان بأنه لا يمكن كسب الحرب بدون الدعم الشعبي. وقد أعلن الجنرال وليام ويستمور لاند، عند استلامه قيادة القوات الأمريكية قائلاً: ( لننتنبه بأنه يجب كسب الحملات على مستوى المقاطعة والناحية والقرية والضيعة التي تجري المعركة فيها، لنأسر نفوس الناس وقلوبهم ).
إن هذا هدف يستحق الثناء، إلا أنه لم يتم التوصل حتى الآن إلى اكتشاف الوسيلة اللازمة لبلوغه. فقنابل النابالم المحرقة، ورش السوائل الكيميائية لإتلاف المحاصيل، لم تأسر النفوس والقلوب.
وفي العام 1962، مهَّد نظام نغودين دييم لبرنامج على النموذج الذي اقترحه البريطانيون في ماليزيا لنقل السكان الريفيين. إلى قرى أعطيت اسم ( استراتيجية )، وخصص ستين مليونا من الدولارات لإنشاء التجمعات المحصنة وتدمير المساكن المنعزلة، وذلك لفصل الانتفاضة عن قواعدها الشعبية. وكان يجب إنشاء 12 ألفاًمن هذه القرى المحصنة في نهاية العام 1963، حتى تستوعب السكان الريفيين كلهم. ولا نعلم كم بُني منها، لأن الموظفين قدَّموا عنها تقارير مزيفة، كما أن الفيتكونغ احتلوها ودمروا كثيراً منها مباشرة بعد الانتهاء من إعدادها، وفشل المشروع في بداية العام 1964.
وكان لتهجير الفلاحين بالقوة، وللتعويضات غير الكافية عن الخسائر المسببة، ومظهر معسكرات الاعتقال للتجمعات السكنية الجديدة بأسلاكها الشائكة ومنعاتها، نتيجة معاكسة للغاية المنشودة. فبدلاً من أن يكسب البرنامج ثقة الفلاحين، فإنه أبعدهم عن الحكومة أكثر. وعوضاً عن أن يستسلموا للاحتجاز، التحق الشباب بالفيتكونغ، وتبعتهم الفتيات، ولم يتبق في التجمعات السكنية إلا ( الأفواه اللا مجدية ) أي الأطفال والشيوخ.
وتكرر ما حدث في الصين وكوبا، إذ أقام الثوار نظاماً اقتصادياً وسياسياً موازياً. وكان الجيشي قادراً على الذهاب حيثما يشاء – وبالقوة دائماً – لكنه ظل عاجزاً عن البقاء في المكان الذي يصل إليه، وإلا أصبح عرضة للهجمات ولذا بقيت القوات عملياً ضمن إطار التجمعات السكنية، وغدت عاطلة عن العمل.
واصطدمت سايغون ومستشاروها الأمريكيون بنفس مأزق الفرنسيين، الذي شرحه جياب بقوله: ( فبتوزيع قواتهم، أصبحوا أضعف من أن يقوموا بالدفاع عن أنفسهم، وصاروا يعرضون قواتهم للتدمير بالمفرّق. وبتركيزهم للقوات، كانوا يتركون الأرض التي سعوا إلى احتلالها، لأن النصر - بالنسبة إليهم - لا يعني شيئاً إذا لم يكن مصحوباً باحتلال الأرض ).
وكان ثوار العصابات يستطيعون اختيار أهدافهم فيقبلون المعركة أو يرفضونها حسب رغبتهم. ولم تكن لدى الحكومة المعلومات التي يقدمها العون الشعبي، لذا تصرفت على غير هدى، وكانت عملياتها محكومة بالصدفة إلى حد ما، وباهظة التكاليف بالنسبة إلى نتائجها.
وكبلت حكومة سايغون نفسها بعائق خطير، عندما رفضت، ولعدة سنوات، الاعتراف بوجود معارضة مسلحة في فيتنام الجنوبية. وكانت تؤكد أن ثوار العصابات الذين تصطدم بهم، ما هم إلا محاربون قدماء من الفييتمينة، وأنهم مكابرون وقليلو العدد. ولم تعترف بالحقيقة إلا بعد خمس سنوات.
واستفاد الفيتكونغ من هذه المهلة لتنظيم حركة سياسية سرية قوية، ووجدت من الثوار على مستوى القرية والمنطقة. وكانت استراتيجيتها الأولية تهدف إلى تحطيم ارتباط الحكومة السياسي مع المناطق الريفية، وذلك بإفساد أو خطف أو قتل عناصر السلطات المحلية – وخاصة رؤساء القرى ومستشاريهم – ولقد بدأت الحملة في العام 1957، الذي قُتل فيه أكثر من 700 موظف، وقدرت الخسائر المماثلة في العام 1963 بثلاثة عشر ألف شخص، رغم الجهود التي بذلتها الحكومة لإيقافها.
وبعد تدمير شبكة الارتباطات السياسية، عمد الفيتكونغ إلى تنظيم جيشهم. وعلى الرغم من التصريحات المتحدثة عن المعتدين الشماليين فإن من المرجح أن الفيتكونغ حصلوا على حوالي 90 % من تسليحهم، بفضل الأسلحة الأمريكية التي غنموها من القوات الحكومية.
وتعترف إحصائيات سايغون نفسها، بأن الفيتكونغ غنموا 4853 سلاحاً في العام 1960، ولم يخسروا سوى 921 سلاحاً، والفرق يكفي لتجهيز فوج. وفي العام 1962 كانت غنائم الفيتكونغ 52 ألف قطعة سلاح وخسائرهم 4850 قطعة فقط. وفي العام 1963 كانت الغنائم 83 ألف قطعة والخسائر 5400. وهكذا غنم الفيتكونغ في عامين 128682 سلاحاً، أي أن غنائمهم كانت كافية لكل المقاتلين في ذلك الحين.
وكتبت النشرة نصف الأسبوعية I. F. Stone's بتاريخ 13 أيار 1963:
- كيف يحصل الفيتكونغ على السلاح؟
- إن معظم ما يملكون هو من الأسلحة الأمريكية المغتنمة من الوحدات الحكومية في كمائن أو خلال مهاجمة المراكز الصغيرة. وبالأصل تُنظم وحدة الفيتكونغ غالباً بلا أسلحة. ويقول المنظم السياسي للأعضاء، بأن عليهم اغتنامها من العدو، على أن يستعملوا في البداية أسلحة بدائية، مثل الرماح والخناجر... إلخ. والطريقة حسنة بشكل واضح، فالفيتكونغ تملك اليوم مدافع عديمة الارتداد، وهاونات ثقيلة، ورشاشات ممتازة وكميات كبيرة من الرشيشات.
ولم يكن ثوار الفيتكونغ يخوضون معركة، إلا عندما يضمنون النجاح بفضل العدد أو الموقع. وكانت العمليات على مستوى الكتيبة، نادرة حتى نهاية عام1963. ومنذ منتصف العام 1964، بدأ الفيتكونغ بترك تكتيك حرب العصابات، للقيام باختبارات حرب محلية. وكان ذلك دلالة هامة، تشير إلى تبدل في مرحلة الحرب، والانتقال من مرحلة الدفاع الاستراتيجي، ودخول مرحلة توازن القوى وأخذ زمام المبادرة من قبل الثوار.
وأشارت الانترناشيونال يونايتد برس، أنه ( في التشرين الثاني 1961، وعندما بدأت بإنشاء قواتها في البلاد، اعتبر الموقف حرجاً، لأن الفيتكونغ كانوا أقوياء بحيث أنهم استطاعوا شن 1782 هجوماً في ذلك الشهر. وفي تشرين الثاني من 1963 أي بعد عامين من العون العسكري والاقتصادي المكثف، أضحى عدد الهجمات والحوادث التي كانت المبادرة فيها بيد الفيتكونغ، 3182 هجمة وحادثة.
وتضاعفت الوسائل الجوية الموضوعة بتصرف الفيتناميين الجنوبيين، إلا أن النتائج لم ترتفع بالنسبة ذاتها. وكتبت النيويورك تايمز في 3 كانون الأول 1963:
( لقد أجبرت الهجمات الجوية ضد تجمعات الثوار القادة الشيوعيين على تعديل تكتيكهم، لكنها لم تنل مع معنوياتهم أو من قدرتهم القتالية، كما أشار لذلك تقرير عن فعالية الأسلحة المستعملة ضد حرب العصابات. والمحاولة الرامية إلى إنقاص عدد الأشجار في معتصمات الأدغال لم تؤد النتائج المقدرة لها. وحتى أقل الوحدات غرساً بالحرب، تعلمت الإتقاء من نيران الرشاشات ورشقات القذائف الصاروخية التي تطلقها الطائرات.
( ومن المعروف أن الفيتكونغ عرفوا أن أكثر الاحتياطات تطوراً، فقد حفروا في مناطق قواعدهم الرئيسية الأنفاق والمغامرات، التي يمكن لبعضها أن يقاوم تأثيرات قنابل زنتها 500 رطل.
( وفي بعض الوحدات، تلقى عدد المقاتلين، تدريباً خاصاً لتعداد القنابل والقذائف التي تسقط، وعدد الإنفجارات، بحيث يتمكنون من تمييز أمكنة المقذوفات التي لم تنفجر، واستعمالها بعد ذلك ( لصنع الألغام الأرضية أو القنابل أو الرمايات... إلخ ) ).
وتعترف حكومة سايغون، بأن نسبة الخسائر بين المعسكرين خلال تلك السنين قد تطورات لصالح الفيتكونغ. ونشرت النيويورك تايمز في 18 تشرين الأول 1964 الرقم الرسمي لهذه الخسائر:
السنـة 1961 1962 1963 1964
الحكومـة 9000 13000 19000
1390
الفيتكونـغ 13000 33000
28000 9000
ولا بد من الانتباه، إلى هذه الخسائر المقدرة للفيتكونغ مقدمة من قبل الحكومة، وتتضمن بالضرورة الخسائر المدنية بسبب أعمال القصف وهناك وسيلة سهلة للتدقيق، وتتمثل بمقارنة أرقام الخسائر مع عدد الأسلحة والمغتنمة. عندها يبدو التبـاين واضحاً بشكل يدفع إلى الاستنتاج التالي، إن معظم الأشخـاص المقتولين من الفيتكونغ بل يحملون الأسلحـة. ويمكن الحكم على التقديرات استنـاداً إلى ما كتبه ( برنارد فول ) في ( الفيتناميين:
( إن التقارير الرسمية للطيران الفيتنامي الجنوبي تسمح بأن تكوّن فكرة عن الطريقة التي يستخدم فيها. فخلال عملية جارية استمرت ثلاثة أيام من كانون الثاني 1963 أصاب الطيران الأهداف التالية: منزلاً وعشرة أبراج مراقبة على بعد خمسة عشر وخمسة وثلاثين كيلومتراً غربي بليكو، وثلاثة منازل على بعد خمسة وأربعين كيلومتراً غرب كينهون، وأربعة منازل ومزرعة أرز على بعد خمسة وثلاثين ميلاً غرب بليكو، وأبيد خمسة وعشرون منزلاً وتضررت عشرة على بعد خمسة وثلاثين كيلو متراً شمالي غربي بليكو، ومنزلان على بعد ثلاثين كيلومتراً شمالي بيين هوا. وفي خلال عملية ضد تجمعات الفيتكونغ، في سهل جونكس ومعقل المنطقة (د) أعلن جيش جمهورية فيتنام، بأنه قتل ستة وسبعين عدواً بالأسلحة البرية، وأربعمائة بالأسلحة الجوية، كلفه لم يغنم إلا سبعة أسلحة فردية وخمسة أسلحة جماعية ( رشاشات وهاونات )، إلا أنه دمر أكثر من أربعمائة منزل وكوخ ).
ويمكننا أن نتصور بسهولة من يمكن أن يكون القتلى ( الأعداء ) في هذه الحالات. إن استعمال الطيران بلا تمييز، ضد أهداف يعتقد أنها للفيتكونغ، يفسر إلى حد بعيد عداء السكان لحكومة سايغون. ومن جهة أخرى، كلن للفلاحين كل الأسباب الداعية للتضامن مع الأنصار، المجندين عادة من قراهم، واللذين يشاركونهمالأخطار والمحن.
( بالنسبة إلى العالم الآخر، البعيد عن قرى ودساكر فيتنام الجنوبية، يُعتبر الثائرون بمثابة عملاء للشيوعية العالمية. أما الأكواخ المصنوعة من البامبو وأوراق الأشجار، وفي القرى المحررة، كان ثوار العصابات يتحدثون مع السكان بامور في غاية البساطة.
) وقد صرح ابن فلاح، لا يتعدى العشرين من عمره قائلاً: كنا في القرية نتعرض للهجوم كل ليلة. فلو كانت الحكومة حسنة أو قوية كما ينبغي، لتوجب عليها حمايتنا. ولذلك فكَّرت بأن جماعة جبهة التحرير قد يكونون على حق. أما الآن، وقد عرفتهم، فلست بآسف لأنني قررت الانضمام إليهم (.
) وصرح آخر: كنت أخاف منهم، وأحقد عليهم، عندما كانوا يهاجمون قريتي. لكن توجب علي الذهاب معهم، وأنا اليوم سعيد بذلك(.
( لقد كان السائل صحافياً فيتنامياً، استطاع الوصول بواسطة السيارات إلى المناطق المتنازع عليها في الدلتا، ودخل قرية لم تعد موضع نزاع، ويسيطر عليها الشيوعيون ليلاً ونهاراً. وفيما عدا القائد، كانت أعمار ثوار العصابات كلهم لا تزيد عن 20 عاماً، وكانوا يرفضون ذكر أسمائهم خوفاً من أعمال الانتقام، لكنهم كانوا يعلنون بأنهم من مواليد القرية، ويتحدثون باللهجة المحلية. وعند سؤالهم عن رأيهم بهوشي منه أجاب القائد: ( إنه ثوري عظيم، ونحن نحبه تماماً، لكننا لسنا تابعين له، فنحن فيتناميون جنوبيون ونقاتل لتحرير فيتنام الجنوبية ). (نيويرك تايمز 23/9/1964 (
وفي الجزء الأعظم من جنوبي فيتنام الريفي، شكل الفيتكونغ الحكومة الوحيدة، بمدارسها ومستشفياتها ومكاتبها الإدارية وحياة ضرائبها وخدماتها الصحفية. ولغياب سلطة الحكومة سايغون، ازدادت سلطة حكمهم، وكان اتصالهم الوحيد معها يتم عند قيامها بحملة تأديبية عرضية تصل الهليكوبتر أو بالعربات المدرعة، عبر طريق ملغوم بكثافة. وبعد العودة الإجبارية للجنود، كانت الحياة تعود إلى مجراها الطبيعي. وبضغط مستمر على المناطق المتنازع عليها، كان الفيتكونغ يوسعون تدريجياً مجالهم.
وكانت واشنطن وسايغون تقولان بأنه لا يمكن كسب الحرب بدون الدعم الشعبي. وقد أعلن الجنرال وليام ويستمور لاند، عند استلامه قيادة القوات الأمريكية قائلاً: ( لننتنبه بأنه يجب كسب الحملات على مستوى المقاطعة والناحية والقرية والضيعة التي تجري المعركة فيها، لنأسر نفوس الناس وقلوبهم ).
إن هذا هدف يستحق الثناء، إلا أنه لم يتم التوصل حتى الآن إلى اكتشاف الوسيلة اللازمة لبلوغه. فقنابل النابالم المحرقة، ورش السوائل الكيميائية لإتلاف المحاصيل، لم تأسر النفوس والقلوب.
وفي العام 1962، مهَّد نظام نغودين دييم لبرنامج على النموذج الذي اقترحه البريطانيون في ماليزيا لنقل السكان الريفيين. إلى قرى أعطيت اسم ( استراتيجية )، وخصص ستين مليونا من الدولارات لإنشاء التجمعات المحصنة وتدمير المساكن المنعزلة، وذلك لفصل الانتفاضة عن قواعدها الشعبية. وكان يجب إنشاء 12 ألفاًمن هذه القرى المحصنة في نهاية العام 1963، حتى تستوعب السكان الريفيين كلهم. ولا نعلم كم بُني منها، لأن الموظفين قدَّموا عنها تقارير مزيفة، كما أن الفيتكونغ احتلوها ودمروا كثيراً منها مباشرة بعد الانتهاء من إعدادها، وفشل المشروع في بداية العام 1964.
وكان لتهجير الفلاحين بالقوة، وللتعويضات غير الكافية عن الخسائر المسببة، ومظهر معسكرات الاعتقال للتجمعات السكنية الجديدة بأسلاكها الشائكة ومنعاتها، نتيجة معاكسة للغاية المنشودة. فبدلاً من أن يكسب البرنامج ثقة الفلاحين، فإنه أبعدهم عن الحكومة أكثر. وعوضاً عن أن يستسلموا للاحتجاز، التحق الشباب بالفيتكونغ، وتبعتهم الفتيات، ولم يتبق في التجمعات السكنية إلا ( الأفواه اللا مجدية ) أي الأطفال والشيوخ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق