22‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 26

حرب المستضعفين 26




الفصل الحادي عشر

مقومات حرب العصابات
في المدن والأرياف


فن الحرب من وجهة نظر صن تزو – مبادئ استاتيجية وتكتيك
حرب العصابات – الأرض ودورها كعامل مؤثر – حرب
العصابات في المناطق المدينية – صفة حرب العصابات


(
تعتمد كل حرب على الخدعة.
فعندما تكون قادراً تصنع العجز، وعندما تكون نشطاً تصنع التراخي.
وعندما تكون قريباً، اعط الخصم انطباعاً بأنك ما زلت بعيداً، وعندما تكون بعيداً اجعل العدو يؤمن بأنك قريب )

(
قدم للعدو طعماً لتجذبه: تظاهر بالفوضى واضربه
وعندما يحتشد تحضر له، وتجنبه عندما يكون قوياً.
ازعج قائده، وسبب له الاضطراب.
تظاهر بأنك أضعف منه لتزيد من ثقته بنفسه.
ركز عليه ضغطاً مستمراً لاسنزافه.
عندما يكون متجمعاً جزّئه.
هاجمه عندما لا يتوقع ذلك، واظهر عنما لا ينتظر ذلك.
تلك هي مفاتيح النصر بالنسبة إلى الاستراتيجي )


إن الوصايا المذكورة أعلاه مستقاة من كتاب ( صن تزو ) عن ( فن الحرب )، وهو أقدم مؤلف معروف في هذا الموضوع، وقد حرر قبل الميلاد بعدة قرون. وليس تماثله مع المقولات العسكرية لماوتسي تونغ من قبيل الصدفة، إذا أن ماو كان قد درس ( صن تزو ) بكثير من العناية، واعترف له بذلك الفضل، ولم تكن كثير من تعليماته إلا تفسيرات لما ورد في كتاب ( فن الحرب ).


وإذا ذكرنا ( صن تزو ) فذلك لتبيان أن تعبير ( الحرب الحديثة ) في استعماله الدارج، هو تعبير مصطنع، يعكس الخلط بين التقنية والعلم، ذلك الخلط الذي سبّبه الصحفيون ورجال السياسة، لأنه بالرغم من الاختراعات المدهشة في القرن العشرين، فإن مبادئ الحرب تبقى قديمة. ولقد كانت موجودة وواضحة تماماً حتى قبل أن يبدأ يوليوس قيصر حملته الأولى. وما هو صحيح بالنسبة إلى الحرب بصورة عامة، هو أكثر صحة بالنسبة إلى حرب العصابات بصورة خاصة.


إن مدى المدفعية والطيران أعظم بكثير من مدى القوس، وتعمل المتفجرات بتأثير يختلف عن تأثير عمل السهم، وتتميز الدبابات على التروس. وشكل الشاحنات والهليكوبترات ( ليس دائماً ) وسائل نقل أشد سرعة وأكثر ضماناً من البغال والجمال. إلا أن معضلات القيادة هي نفسها. والعوامل المتبدلة، كالأرض والزمن والمجال واللحظة والسكان وخاصة المعنويات والاستراتيجية، تحدد دائماً نتيجة المعارك والحملات.

وإذا تواجد شيء فيه بعض الجدة في حرب العصابات – التي صاغ ( صن تزو ) مبادئها العسكرية قبل أكثر من ألفي عام – فإن ذلك يكمن فقط في التطبيق السياسي الحديث، أي أن مظهرها الحديث، هو استعمالها كأداة في الثورة السياسية. والواقع أنها تشكل الوسيلة المضمونة لشعب محروم من السلاح، حتى يتغلب على جيش مزود بآليات، وفي حالة عدم تحقيق الغلبة، التوصل على الأقل إلى تحييده.

ولكي نفهم ذلك، لا بد قبل كل شيء من دراسة المشاكل السياسية، التي يمكن لأساليب حرب العصابات أن تقدم لها حلاً.


فثائر العصابات متمرد، سياسي، وهو العامل الواعي للثورة، ومع أن دوره العسكري جوهري، لكنه ليس إلا عارضاً في مهمته السياسية، فهو يثور لغرض محدد، يتمثل في قلب الحكومة، وتدمير النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم.


وللوصول إلى هذا الهدف قد يلجأ إلى القتال – وعلى كل حال فإنه يشتبك بالتأكيد ويناور – أمام قوات عسكرية منظمة ومحترفة. وفي هذه الحالة يجب أن تهدف كل مناوراته إلى مفعول سياسي، إلا عندما يتوقف على ذلك بقاؤه على قيد الحياة – وتكون كل معركة بمثابة درس يبرهن عن عجز الجيش، وبالتالي لتسويد سمعة الحكومة التي تستخدمه. وتهدف كل حملة إلى إيقاظ الوعي الثوري لأغلبية الشعب، التي يحدد موقفها نتيجة الصراع.


ولا شك أن الأعمال حرب العصابات بعض الأهداف العسكرية الواضحة: التزود بالأسلحة والذخيرة والمؤن، وتكبيد العدو الخسائر، وإجباره على نشر قواته حتى يمكن تدميرها واحدة تلو الأخرى بواسطة حشود متفوقة.

أما الغايات النفسية والسياسية، فإنها تحتفظ بتفوقها. وتبقى النجاحات العسكرية المحلية بدون فعالية إذا لم تستطع الحملة النيل من معنويات الحكومة وقواتها، ولم تستنزف النظام من الناحية المالية، ولم تزد من الضغط عليه بتنمية الخوف والاستياء في البلاد.


وطبيعي أنه لا يمكن أن يحدث شيء من ذلك، إذا لم تتواجد بعض الشروط الاجتماعية والسياسية، التي لا بد من تضافرها لإحداث الوضع الثوري، أو الوضع الثوري الكامن على الأقل. ويقتضي نجاح الانتفاضة وجود مطالب شعبية سليمة، وتوترات اجتماعية، واقتصاد مريض أو راكد، أو حكومة مستبدة. وحتى إذا اجتمعت هذه العناصر، فقد تبقى الثورة بعيدة، إذا لم يتواجد جنين تنظيم ثوري، قادراً على التعبير عن الاستياء الشعبي واستغلاله.


وتلد الأوضاع الثورية عادة قيادتها الثورية الخاصة، وتأتي القيادة من القطاعات الاجتماعية الأقل استقراراً، وتتضمن العناصر الأكثر راديكالية، والأكثر حرماناً، والأشد طموحاً في الأحزاب السياسية ( المتطرفة ) وأبناء الطبقة المتوسطة الأكثر مثالية، أو الذين لم ينجحوا، وأولئك الذين يشعرون بعبء اضطهاد لم يعتادوا عليه. ( إن الفلاح الذي عايش الاضطهاد مديداً، نادراً ما يبدو ثورياً بقدر الطالب أو العامل الأوفر حظاً من الفلاح، خاصة إذا اعتقد بأن لهما حقوقاً، واكتشفا – بعد تغير في الجو السياسي – بأن هذه الحقوق مهضومة ).

ففي وضع ثوري كامن، يغدو من المتوقع حدوث الانتفاضات العفوية، التي قد يسببها أي نوع من النزاع الاجتماعي مثل: إضراب، حملة انتخابية، نقاش حول موضوع الأسعار أو المدارس... إلخ. وغالباً ما تشكل رد فعل لبعض أعمال القمع أو الظلم، الحقيقية أو الموهومة، التي ترتكبها السلطات. فمثلاً عند تدخل الشرطة في تظاهرة قد تتحول التظاهرة إلى تمرد.


وفي ظروف أخرى، يمكن خلق الاضطرابات بشكل مفتعل. ففي الجزائر وكوبا وقبرص مثلاً، نشبت حرب البرغوث بواسطة أعمال مقصودة قامت بها النواة الثورية لتحدي الحكومة، معتمدة على الدعم الشعبي.

ولا تهم الوسائل كثيراً، وتبقى القيادة نفسها أشد العناصر أهمية. فليس المجرمون وقطاع الطرق ثواراً، وليس النهابون رجال العصابات. ولكي يُطاع القادة يجب أن يكونوا أخلاقيين، وأن يكون دافعهم أعظم من الطموح الشخصي، مما يتطلب إيديولوجية أو ( قضية ) محددة تماماً، لتفسير قرارات وحجج انتفاضتهم. لذلك لا يمكن أن يكونوا مجرد انتهازيين.


وعندما يحدث النزاع، سواء كان مفتعلاً أم لا، لا بد أن يكون القادة القادرين على عقلنة صفته الغامضة، والتي غالباً ما تكون عرضية. ولا بد لأعمال التحدي المنعزلة، أن تتخذ بعضاً من التماسك داخل الإطار الثوري المعتمد. وعلى القيادة أن تكون مستعدة لالتقاط كل الفرص التي تساعد على زيادة سرعة سياق التخمر الاجتماعي والانفجار السياسي. وبغدو واجبها الأول أن تعيد كل حادث وكل مرحلة من النزاع إلى ( القضية ) الكبرى، بحيث يغدو العنف الثوري الوسيلة الطبيعية والاخلاقية للوصول إلى الغاية المرجوة، وتُزج فيه الجماهير الشعبية أكثر فأكثر. ويجب ألا يبدو الصراع وكأنه بلا معنى أو المرجوة، وتزج فيه الجماهير الشعبية أكثر فأكثر. ويجب ألا يبدو الصراع وكأنه بلا معنى أو فوضوي، بل ينبغب أن يكون ذا صفة تدريجية في كل مراحله، وأن يحيي آمالاً كبرى، وأن يبدو في كل أطواره هاماً إلى درجة تجعل أي شخص غير قادر على تجاهله.

ولا تؤدي ( القضية ) الواضحة إلى نتيجة بنفسها، وغالباً ما تسوي قضية ما قضية أخرى ففي كوبا مثلاً بدا فساد ولا شرعية نظام باتيسيا بمثابة ( قضايا ) كافية للطبقة المتوسطة الميسورة، طالما أن أعضاءها لا يتعرضون للنخاطرة الشخصية، ويكتفون بتعاطفهم مع الثوار وتشجيعهم لهم. لكن عندما تعرض أبناء هذه الطبقة للسجن أو التعذيب أو القتل بسبب نشاطاتهم، أضحت القضية الأكثر إلحاحاً هي تصفية القمع.

وشكلت النزعة القومية الاقتصادية ( القضية ) الحقيقية بالنسبة إلى الصناعين ورجال الأعمال الأغنياء الطموحين، الذين عارضوا باتيسيا. وكان الطموح السياسي ( غير المعلن )، والشعور ( الذي ربما كن حقيقياً ) بالظلم الاجتماعي وراء اندفاع شباب فئة الموظفين الفقراء، حتى يصبحوا أكثر الدعاة حماساً للثورة وعملاً في سبيلها.


ومن جهة أخرى فإن المستخدمين الزراعيين الذين لا يملكون أرضاً، والمزارعين الفقراء في كبرى مزارع قصب السكر، وسكان جبال ( السييرا مايسترا )، قد اندفعوا بسبب الجوع والقمع الحقيقي، والرغبة في الحصول على الأرض لأنفسهم في نظام اجتماعي منصف، وكلها دوافع تتجاوز أي ( قضية ) أخلاقية أو سياسية.

وتوقف كل شيء على الموقف المحلي. ولم تنفك القيادة الثورية عن توجيه نداء أكثر اتساعاً، قائم على ايديولوجية ديمقراطية مساواتية، مقرونة بمفاهيم العدالة الاجتماعية وكلها أمور متعارف عليها في كوبا منذ زمن بعيد ( لم يكن في إنسانية كاسترو أي جديد، إذ كانت مسجلة في الدستور الكوبي )، ومجتمعة مع هدف سياسي تام الوضوح، يتمثل في قلب نطام باتيسيا، والقضاء النهائي على كل من سانده.

وكان قلب نظام باتيسيا مطروحاً كترياق وعلاج لكل الأوجاع. وباعتبار هذا القلب ( قضية )، فقد استغل كل تطور سياسي منعزل: فاغتيال شرطي، واستشهاد إرهابي، وتعليق الحريات المدنية، والتظاهرة العامة للمطالبة بإعادتها، وكل ابتعاد عن الروتين، وكل ما يساعد على النيل من النظام، كل ذلك قُدِّم وكأنه مناوشة أو معركة في إطار الحرب الصليبية العظمى.


وبسبب الحالة النفسية المسيطرة، سار تفكك الدعم لباتيسيا، وزيادة الضغط الداخلي والأجنبي عليه، في السياق الذي رأيناه سابقاً.


ويقدم لنا المثل الكوبي كغيره، حصيلة انتفاضة ظافرة، والتي لا بد أن تتضمن الشروط المسبقة التالية:


1.
موقف سياسي مزعزع، محدد بالتوترات الاجتماعية الحادة. ويكون عادة ( وليس دائماً )مقروناً باقتصاد مريض أو راكد.

2.
هدف سياسي قائم على قاعدة أخلاقية وفكرية صلبة، تؤمن بها الأغلبية، وتقبلها ( كقضية ) للانتفاضة، مقبولة في حد ذاتها، وجديرة بكل التضحيات.

3.
حكومة باغية لم تتواجد إمكانية الحل الوسط معها.

4.
نوع من التنظيم السياسي الثوري، القادر على تقديم القادة المخلصين والأكفاء للوصول إلى غاية مرضية.
5.
إمكانية النجاح أو على الأقل احتمال النجاح. وطالما أن الشعب لا يؤمن بأن الحكومة يمكن أن تُقلب، فإن أول عمل للمنتفضين هو أن يبرهنوا على إمكانية قلبها، وذلك بتحدي القوة العسكرية والتغلي عليها. فإذا لم يتحقق هذا الأمر، انعزل القادة ولم يتبعهم أحد.


إننا لا نتعلم في الكتب الاستراتيجية والتكتيك الخاصين بحرب العصابات، إلا ضمن تفاصيل غير ذات أهمية. فالاستراتيجية والتكتيك يتعلقان دائماً بوضع محلي محدد، ويإخذان سمة الوسيلة اللازمة للنجاح. وثائر العصابات مبتكر قبل كل شيء. وبالطبع إنه يبتكر تبعاً لأهدافه المباشرة والبعيدة، والأرض، وقوته النسبية، والوسائل المتوافرة لدبه، وعناصر أخرى مماثلة.

وبما أنه أقل من العدو عدداً وعدةً ( وإلا لما كان ثائر عصابات )، فإن همه الأكثر إلحاحاً هو الاستمرار على قيد الحياة، لذا فإن من الطبيعي أن يكون التملص قاعدة لتكتيكيه. فبالتملص يستطيع اجتناب المواجهة خارج الأوقات المناسبة له، وعندما يتحقق له تفوق محلي يسدد ضربته بنجاح.

ويكتب صن تزو: ( إذا كنتُ قادراً على معرفة تدابير العدو، وإخفاء إجراءاتي عنه عندها يمكنني أن أحشد قواي، بينما تتجزأ قواته. فإذا احتشدت قواتي وتجزأت قواته، أمكنني أن أستعمل كل قواي لمهاجمة جزء من قواته.
يجب ألا يعمل العدو متى أشن المعركة. فإذا لم يعرف ذلك، كان عليه أن يتحضر لي في أمكنة عدة، وما سأهاجمه من قوى في مكان ما سيكون ضعيفاً، لأنه عندما يستعد في كل مكان، يغدو ضعيفاً في كل مكان ).


إن هذا يفسر كيف يمكن لحفنة من الرجال المسلحين أن يواجهوا جيشاً. وأسرار النجاح هي: مصالح استخبارات متفوقة أولا وأرض صالحة ثانياً. ويمثل ثوار العصابات قضية شعبية، لذا فهم يمتازون بمصلحة استخبارات تشمل عملياً كافة السكان الذين يقومون بإخفائهم، ويخبرونهم يوماً بيوم، وساعة بساعة، عن إجراءات العدو وقوته.

0 التعليقات: