حرب المستضعفين 9
الحرب الطويلة الأمد
-التجربة الصينية-
الحرب الطويل الأمد – القوى الشعبية ضد الجيوش النظامية –
ثائر العصابات يقوم بدور المبشر – أقوال ماوتسي تونغ عن
حرب العصابات – دروس من الصين.
الثورية الطويلة
بالضرورة.
كثيراً ما يقال بأن حرب العصابات هي حرب استنزاف، وليس هذا التعبير صحيحاً تماماً. ففي الموضوع تفتيت مثلما فيه من هدم، وتخترق النبتات الشقوق في بناء نخر، وتنتهي بأن تجعله ينفجر.
وتبقى الحكومة خاضعة في المجال السياسي لضغط دائم، سببه اتساع النفقات، والوساوس الناشئة عن حملة القمع، والجلبة الدائمة من المعارضة والمصارف، وعالم الأعمال: متى ينتهي كل هذا؟ ماذا تنتظرون لتصفوا ذلك؟
لقد تحدثنا عن الاستنزاف الاقتصادي، الذي يشكل التخريب واحداً من أشكاله. والمظهر الآخر والأكثر أهمية، هو فقدان الهيبة، الذي يتحمله بلد في حالة حرب أهلية. ولا تستطيع أية أمة صغيرة، كما لا تستطيع بعض الأمم الكبرى، الصمود أمام هذا الاستنزاف، إلى أجل غير مسمى، على حين يستطيع الثوار ذلك إلى ما لا نهاية.
وليس للثوار أي مصلحة مالية، وليس في صفوفهم معارضة، وليس لديهم مشاكل اقتصادية لا يمكن حلها عن طريق اتساع الحرب والاستيلاء على ما هم بحاجة إليه. لذا فليس لديهم ما يفقدونه، بل لديهم أمكانية كسب كل شيء بمتابعة الصراع،
كما أنهم لن يربحوا شيئاً وسيخسرون كل شيء،
إذا ما تخلوا عن الصراع.
ففي كوبا، كما رأينا في الفصل الماضي، انهارت حكومة باتسيتا قبل المواجهة العسكرية الحقيقية. ولم ير الجيش سبباً لمتابعة النصال بعد هرب قادته، فاستسلم في حين أن الاضراب العام في هافانا – أي الانتفاضة الشعبية فيها – جعل العسكريين يفهمون بأنه لم يعد لهذا الصراع معنى وبعد فرار باتسيتا، كانت الحكومة الثورية وحدها قادرة على الحلول مكانه.
والمثال نموذجي للبلدان نصف المستعمرة، حيث يمكن للثورة أن تتحقق بدون خوض تحربة دموية في حرب حقيقية. وفي مثل هذا النوع من البلدان، يكفي ( إذا لم تتدخل الدولة المستعمرة ) أن تخلق حرب العصابات الشروط التي تنهار فيها الحكومة وتفقد اعتبارها ( لأنها لم تعد قادرة على حفظ النظام أو تأمين الفائدة لملاكي الوطن )، فتسقط اعتبارها ( لأنها لم تعد قادرة على حفظ النظام أو تأمين الفائدة لملاكي الوطن )، فتسقط تلقائياً بسبب فقدان الدعم، ويسدُّ الثوار عندها الفراغ السياسي. وتدخل كل الدول التابعة للولايات المتحدة في أمريكا الوسطى، ومعظم جمهوريات أمريكا الجنوبية، التابعة لأمريكا اقتصادياً وسياسياً، في نفس فشة كوبا. وتستطيع حكومات البلدان المذكورة أن لأمريكا اقتصادياً وسياسياً، في نفس فئة كوبا. وتستطيع حكومات البلدان المذكورة أن تقرأ قدرها على الحائط الكوبي، كما تستطيع واشنطن ذلك. لذا كانت الجهود شبه الهستيرية المبذولة طوال ستة أعوام، لعزل كوبا، ومنع انتشار العدوى. فإذا ما انتشرت، ويبدو أن ذلك قد حدث بقدر معين، فإن الظواهر نفسها ستحدث، إلا إذا تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً، ولكن التدخل سيخلق موقفاً جديداً تماماً: فقد نرى أمريكا اللاتينية وقد تحولت إلى فيتنام.
أما المستعمرات التي تحتفظ بها القوى الأوروبية، فهي تدخل في فئة أخرى. وهنا أيضاً يمكن للحل السياسي أن يمنع العمل العسكري. بيد أن القضية في المستعمرات لا تتعلق بتجريد الدولة الاستعمارية أو حكومتها من اعتبارهما، بل تتعلق بتجريد الاستعمار من مكاسبه وهيبته. وتقدم لنا قبرص مثالاً جيداً عن انتفاضة نجمت فقط لأن الإرهاب والتخريب والفوضى الدائمة قد انتهت بأن جعلت الجزيرة، لا تقدم أي مكاسب، ومربكة لانكلترا، سياسياً، ولقد ذهب الانكليز منها، ليس لأنهم طردوا، بل لأنه لم تعد لهم مصلحة من البقاء فيها.
وتتضمن الفئة الثالثة، الحروب الثورية التي يجب أن تُربح في النهاية فوق ساحة المعركة. وتشكل الصين النموذج الكلاسيكي لهذه الفئة، فلقد كانت المخبر الذي صيغت فيه المبادئ المطبقة حالياً، وفي كل المناطق النامية من العالم.
تستطيع القوى الثورية قهر الجيوس النظامية، هذا هو الدرس الذي قدمته الصين. وبالأصح يمكن للقوى الثورية أن تصبح جيوشاً، محولة بذلك حرب العصابات إلى حرب حركة، حيث تكون لها الأفضلية على الجيوش النظامية المثقلة بالأسلحة الحديثة.
كيف يمكن لأمة غير صناعية أن تقهر أمة صناعية؟ هذه هي المعضلة التي فرضت على ماوتسي تونغ كما قال كاتزنباخ، معاون وزير الخارجي السابق. ويبقى الجواب واحداً لكل الثورات: إنه حرب العصابات.
ويرى كاتزنباخ، أن، ماو قد حل المعضلة، بتطبيق النظرية العامة للحرب على حالته الخاصة. لكنه
بدّل مكان شارة التشديد التي توضع عادة على
العناصر الرئيسية، فالأمم الصناعية تشدد على العناصر المحسومة: الأسلحة، الشؤون الإدارية،
عدد الجنود، في حين شدد ماو على العناصر غير المحسوسة: الزمن والمجال
والإدارة.
ولم يكن لديه التسليح الضروري لمواجهة الجيوش المجهزة جيداً، فتجنب المعركة متخلياً عن الأرض. ويقول كاتزنباخ: بعمله هذا
ذلك هو جوهر حرب العصابات.
ويقول كاتزنباخ: ( ومع أن ماو لم يعبّر عن نظريته بهذا الشكل، فإن نظريته الأصلية هي أن التعبئة السياسية، يمكن أن تحل محل التعبئة الصناعية، للوصول إلى نتيجة عسكرية ظافرة. وبتعبير آخر، إن الذين يقبلون الهزيمة، هم وحدهم يمكن أن يُقهروا. وبالتالي، إذا أمكن جعل السكان بأكملهم يرفضون فكرة الاستسلام، فإن هذه المقاومة يمكن أن تتحول إلى حرب استنزاف ظافرة حتما)ً.
إن هذا كله يقودنا إلى تذكر قول ما المشهور: ( إننا بتعبئتنا لكل شعب الوطن، نخلق بحراً بشرياً واسعاً سيغرق العدو فيه.
ويقول كاتزنباخ: عن عامل الزمن:
يعتبر مـاو أن النجاح العسكري ينبع من التحويل السياسي، لكن علينا الانتباه إلى أن التحويل يتطلب زمناً .
- وتتألف مشكلته العسكرية إذن من تنظيم المجال حتى يكسب الزمن، وكانت المشكلة السياسية تنظيم الزمن لخلق الإرادة، وأوضحت هذه الميزة شعاراً لقبول التضحيات وأعلى درجات البسالة في القدرة على تحمل الآلام بجذل. ولم تكن المشكلة العسكرية الحقيقية عند ما أن ينهي الحرب بأقصى سرعة ممكنة – وذلك ما يجذب أنظار المفكرين الغربيين قبل أي شيء آخر – بل كانت مشكلته على العكس كيف يؤمن استمرار الحرب ). فلقد كان المقصود إذن تجنب الحسم العسكري، ولتحقيق ذلك: اضرب وتملص، قاتل لتبقى حياً، تراجع أمام تقدم عدو مصمم، وأطبق عليه من خلفه كالبحر.
ولقد صُممت جيداً معادلة التخلي عن المجال في سبيل الزمن، لكن ماو ذكر في ( مختارات من كتاباته العسكرية ) بأنه
- لا يقاتل الجيش الأحمر من أجل القتال،
بل لإثارة الجاهير وتنظيمها ومساعدتها على
إقامة السلطة السياسية الثورية
وبدون هذه الأهداف يفقد القتال كل معنى، كما يفقد الجيش
الأحمر مبرر وجوده.
( إن طريقتنا الرئيسية أن نتعلم الحرب بهذا الأسلوب، فالحرب الثورية مشروع جماهيري، وغالباً ما تفترض هذه الحرب التعلم لغرض الفعل، لكنها تتضمن الفعل لغرض التعلم. واستخلاص المعرفة من العمل. وهناك هوة بين المدني العادي وبين الجندي، لكنها ليست بعائق كالسور العظيم ، إذ يمكن ردمها بسرعة. أما أسلوب الردم فهو المساهمة في الحرب الثورية.
وأول واجبات ثوار العصابات هو التعبئة السياسية – رمف مستوى الوعي السياسي للشعب، ومساهمة الشعب الفعالة في النضال – وتتطلب طبيعة هذا الجهد فسحة من الزمن، وذلك ما يفسر طول أمد الحرب الثورية. ولكن أقوال ماو تكشف شيئاً آخر:
لا بد من الزمن، ليس فقط لتحقيق التعبئة السياسية، لكن أيضاً للسماح لنقاط ضعف العدو الداخلية بأن نتفاقم تحت تأثير توتر الحرب.
وكانت اليابان تفتقر إلى الموارد الطبيعية، والملاكات لتعهد آلتها الحربية في الخارج، وفي بلد شاسع ومأهول، في خلال حقبة طويلة. ولقد شنت الحرب في الواقع لتلافي هذا العيب. ولكن الاجتياح أدى بالضرورة إلى تفاقم الحاجة إلى الموارد الأولية. في هذه الحالة، كانت الحرب عملاً يائساً، وتناقضاً وُضع المحراث فيه أمام الثيران. فماذا يحدث إذا لم تُربح تلك الحرب بسرعة، ولم تُمتص الثروات المكتسبة وتُستغل بلا تأخير؟
ومن باب الحاجة، كان على اليابان أن تبحث عن حسم سريع. وكان الحل الصيني يتضمن منعها من تحقيق هذا الحسم، وذلك بالتملص من كل مواجهة عسكرية، واللجوء إلى أساليب حرب العصابات، والعمل المتحرك، ومبادلة المجال الصيني الشاسع مقابل الزمن اللازم في البداية، لإعطاء نقاط ضعف اليابان الداخلية الفرصة للنمو تحت تأثير حرب طويلة، والضروري بعد ذلك لإعطاء المقاومة القدرة على التنظيم اللازمين لمواجهة آلة الحرب اليابانية المنهكة تدريجياً.
وها هو تحليل ماو:
لقد قادت اليابان الحرب تبعاً لعظم قدرتها العسكرية والاقتصادية، ولقوة تنظيمها السياسي، إلا أنها كانت في الوقت نفسه تملك إماكانات طبيعية غير كافية. وكانت هذه الدولة عظيمة من حيث الكيف، لكنها ضعيفة من حيث الكم. فاليابان بلد صغير نسبياً، ينقصه الرجال والموارد العسكرية، والمالية والمادية، ولا يستطيع تحمل حرب طويلة الأمد. لذا حاول مسؤولوها حل هذه الصعوبة بواسطة الحرب، فكان لا بد للنتيجة أن تكون بعكس رغباتها. أقصد أن جهدهم لحل الصعوبة قد فاقها. وانتهى بأن تكون بعكس رغباتهم. أقصد أن جهدهم لحل الصعوبة قد فاقها، وانتهى بأن أنهك مواردهم الأصلية .
وظهرت عيوب أخرى:
أدت التناقضات الداخلية والخارجية للإمبريالية اليابانية، ليس للتورط في حرب مغامرة فحسب، بل إلى تقريب الانهيار النهائي أيضاً. ومن وجهة نظر النمو، لم تعد اليابان بلداً يتقدم، فالحرب لن تجلب الرخاء المقصود من طبقاتها الحاكمة، بل ستؤدي على العكس إلى انهيار الإمبريالية اليابانبة. ذلك ما أردنا قوله بكلامنا عن الصفة الرجعية لحربها ( اليابان ). إن تلك الصفة الرجعية، المقرونة بالطبيعة الإقطاعية والعسكرتارية لتلك الإمبريالية، قد أعطتا الحرب همجيتها الخاصة. كل ذلك سيؤجج حتى الدرجة القصوى تناقضات الطبقات داخل اليابان، بين اليابان والصين ومعظم الدول الأخرى.
-يمكن لليابان أن تلقى دعماً من البلدان الفاشية، لكن المعارضة العالمية التي ستصطدم بها ستكون أشد قوة من الدعم، وستتعاظم المعارضة تدريجياً وستنتهي ليس فقط بإلغاء هذا الدعم، بل ستصل أيضاً إلى اليابان نفسها.. وبالخلاصة، إن لدى اليابان ميزة القدرة على شن حرب كبرى، ولديها كذلك السلبيات التي تنجم عن الصفة الرجعية والهمجية للحرب التي تخوضها، ونقص الرجال والموارد الأولية، ولعدم اتساع سندها العالمي.
وقد كان للصين أثناء النزاع ميزة المجال والزمن والإرادة. وقد قال ماو بأن النضال الطويل للتحرير الوطني قد عرّك الشعب الصيني وقوَّاه، وخلقت المكاسب الاجتماعية السياسية إرادة قادرة على تفجير أعظم التضحيات، والمقاومة لمدة طويلة من الزمن.
- وعلى العكس من اليابان، كانت الصين بلداً كبيراً ذا مساحة شاسعة، وموارد هائلة، وعدداً كبيراً من السكان، ووفرة في الجنود، وقادراً على خوض حرب طويلة جداً.
لقد كانت ميزات الصين تتمثل في المجال للمناورة، والأعداد الوفيرة، والمساعدةالعالمية الفعالة. والإرادة لمقاومة العدوان. وكانت هذه الميزات أيضاً السبب التي دفعت الصين للمراوغة إلى الابتعاد عن الحسم السريع، لصالح حرب طويلة تتضاءل فيها ميزات اليابان.
ولقد حدثت المبادئ نفسها سمة الصراع ضد ( أسياد الحرب ) الكومنتانغ بعد ذلك. وعند تحليل ماو للموقف، لاحظ التناقضات والنزاعات على المصالح التي تتقدم على مختلف المستويات: مثل النزاعات بين القوى الامبريالية الساعية إلى السيطرة على الصين، والنزاعات بين الطبقات الصينية الحاكمة، أو الموجودة بين هذه الطبقات وجموع الشعب.
1. أن النزاع بين ( أسياد الحرب ) والحكومة الوطنية يزيد من عبء الضرائب.
2. إن زيادة الضرائب تجبر ملاك الأراضي على نهب مبالغ أشد كبراً من الفلاحين، فتزيد من حقدهم ضد هؤلاء.
الفصل الرابع
الحرب الطويلة الأمد
-التجربة الصينية-
الحرب الطويل الأمد – القوى الشعبية ضد الجيوش النظامية –
ثائر العصابات يقوم بدور المبشر – أقوال ماوتسي تونغ عن
حرب العصابات – دروس من الصين.
ولا تنبت بذور الثورة إلا ببطء،
وتنتشر الجذور بصمت تحت السطح، ولمدة طويلة قبل ظهور النبتة الأولى. ومن ثم يطول
ساق القمح فجأة، ويصبح الثوار في كل مكان.
كثيراً ما يقال بأن حرب العصابات هي حرب استنزاف، وليس هذا التعبير صحيحاً تماماً. ففي الموضوع تفتيت مثلما فيه من هدم، وتخترق النبتات الشقوق في بناء نخر، وتنتهي بأن تجعله ينفجر.
وتبقى الحكومة خاضعة في المجال السياسي لضغط دائم، سببه اتساع النفقات، والوساوس الناشئة عن حملة القمع، والجلبة الدائمة من المعارضة والمصارف، وعالم الأعمال: متى ينتهي كل هذا؟ ماذا تنتظرون لتصفوا ذلك؟
لقد تحدثنا عن الاستنزاف الاقتصادي، الذي يشكل التخريب واحداً من أشكاله. والمظهر الآخر والأكثر أهمية، هو فقدان الهيبة، الذي يتحمله بلد في حالة حرب أهلية. ولا تستطيع أية أمة صغيرة، كما لا تستطيع بعض الأمم الكبرى، الصمود أمام هذا الاستنزاف، إلى أجل غير مسمى، على حين يستطيع الثوار ذلك إلى ما لا نهاية.
وليس للثوار أي مصلحة مالية، وليس في صفوفهم معارضة، وليس لديهم مشاكل اقتصادية لا يمكن حلها عن طريق اتساع الحرب والاستيلاء على ما هم بحاجة إليه. لذا فليس لديهم ما يفقدونه، بل لديهم أمكانية كسب كل شيء بمتابعة الصراع،
ففي كوبا، كما رأينا في الفصل الماضي، انهارت حكومة باتسيتا قبل المواجهة العسكرية الحقيقية. ولم ير الجيش سبباً لمتابعة النصال بعد هرب قادته، فاستسلم في حين أن الاضراب العام في هافانا – أي الانتفاضة الشعبية فيها – جعل العسكريين يفهمون بأنه لم يعد لهذا الصراع معنى وبعد فرار باتسيتا، كانت الحكومة الثورية وحدها قادرة على الحلول مكانه.
والمثال نموذجي للبلدان نصف المستعمرة، حيث يمكن للثورة أن تتحقق بدون خوض تحربة دموية في حرب حقيقية. وفي مثل هذا النوع من البلدان، يكفي ( إذا لم تتدخل الدولة المستعمرة ) أن تخلق حرب العصابات الشروط التي تنهار فيها الحكومة وتفقد اعتبارها ( لأنها لم تعد قادرة على حفظ النظام أو تأمين الفائدة لملاكي الوطن )، فتسقط اعتبارها ( لأنها لم تعد قادرة على حفظ النظام أو تأمين الفائدة لملاكي الوطن )، فتسقط تلقائياً بسبب فقدان الدعم، ويسدُّ الثوار عندها الفراغ السياسي. وتدخل كل الدول التابعة للولايات المتحدة في أمريكا الوسطى، ومعظم جمهوريات أمريكا الجنوبية، التابعة لأمريكا اقتصادياً وسياسياً، في نفس فشة كوبا. وتستطيع حكومات البلدان المذكورة أن لأمريكا اقتصادياً وسياسياً، في نفس فئة كوبا. وتستطيع حكومات البلدان المذكورة أن تقرأ قدرها على الحائط الكوبي، كما تستطيع واشنطن ذلك. لذا كانت الجهود شبه الهستيرية المبذولة طوال ستة أعوام، لعزل كوبا، ومنع انتشار العدوى. فإذا ما انتشرت، ويبدو أن ذلك قد حدث بقدر معين، فإن الظواهر نفسها ستحدث، إلا إذا تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً، ولكن التدخل سيخلق موقفاً جديداً تماماً: فقد نرى أمريكا اللاتينية وقد تحولت إلى فيتنام.
أما المستعمرات التي تحتفظ بها القوى الأوروبية، فهي تدخل في فئة أخرى. وهنا أيضاً يمكن للحل السياسي أن يمنع العمل العسكري. بيد أن القضية في المستعمرات لا تتعلق بتجريد الدولة الاستعمارية أو حكومتها من اعتبارهما، بل تتعلق بتجريد الاستعمار من مكاسبه وهيبته. وتقدم لنا قبرص مثالاً جيداً عن انتفاضة نجمت فقط لأن الإرهاب والتخريب والفوضى الدائمة قد انتهت بأن جعلت الجزيرة، لا تقدم أي مكاسب، ومربكة لانكلترا، سياسياً، ولقد ذهب الانكليز منها، ليس لأنهم طردوا، بل لأنه لم تعد لهم مصلحة من البقاء فيها.
وتتضمن الفئة الثالثة، الحروب الثورية التي يجب أن تُربح في النهاية فوق ساحة المعركة. وتشكل الصين النموذج الكلاسيكي لهذه الفئة، فلقد كانت المخبر الذي صيغت فيه المبادئ المطبقة حالياً، وفي كل المناطق النامية من العالم.
تستطيع القوى الثورية قهر الجيوس النظامية، هذا هو الدرس الذي قدمته الصين. وبالأصح يمكن للقوى الثورية أن تصبح جيوشاً، محولة بذلك حرب العصابات إلى حرب حركة، حيث تكون لها الأفضلية على الجيوش النظامية المثقلة بالأسلحة الحديثة.
كيف يمكن لأمة غير صناعية أن تقهر أمة صناعية؟ هذه هي المعضلة التي فرضت على ماوتسي تونغ كما قال كاتزنباخ، معاون وزير الخارجي السابق. ويبقى الجواب واحداً لكل الثورات: إنه حرب العصابات.
ويرى كاتزنباخ، أن، ماو قد حل المعضلة، بتطبيق النظرية العامة للحرب على حالته الخاصة. لكنه
ولم يكن لديه التسليح الضروري لمواجهة الجيوش المجهزة جيداً، فتجنب المعركة متخلياً عن الأرض. ويقول كاتزنباخ: بعمله هذا
قايض المجال بالزمن، واستعمل
الزمن لخلق الإرادة
: القدرة النفسية للشعب الصيني لمقاومة الهزيمة.
ذلك هو جوهر حرب العصابات.
ويقول كاتزنباخ: ( ومع أن ماو لم يعبّر عن نظريته بهذا الشكل، فإن نظريته الأصلية هي أن التعبئة السياسية، يمكن أن تحل محل التعبئة الصناعية، للوصول إلى نتيجة عسكرية ظافرة. وبتعبير آخر، إن الذين يقبلون الهزيمة، هم وحدهم يمكن أن يُقهروا. وبالتالي، إذا أمكن جعل السكان بأكملهم يرفضون فكرة الاستسلام، فإن هذه المقاومة يمكن أن تتحول إلى حرب استنزاف ظافرة حتما)ً.
إن هذا كله يقودنا إلى تذكر قول ما المشهور: ( إننا بتعبئتنا لكل شعب الوطن، نخلق بحراً بشرياً واسعاً سيغرق العدو فيه.
ويقول كاتزنباخ: عن عامل الزمن:
يعتبر مـاو أن النجاح العسكري ينبع من التحويل السياسي، لكن علينا الانتباه إلى أن التحويل يتطلب زمناً .
- وتتألف مشكلته العسكرية إذن من تنظيم المجال حتى يكسب الزمن، وكانت المشكلة السياسية تنظيم الزمن لخلق الإرادة، وأوضحت هذه الميزة شعاراً لقبول التضحيات وأعلى درجات البسالة في القدرة على تحمل الآلام بجذل. ولم تكن المشكلة العسكرية الحقيقية عند ما أن ينهي الحرب بأقصى سرعة ممكنة – وذلك ما يجذب أنظار المفكرين الغربيين قبل أي شيء آخر – بل كانت مشكلته على العكس كيف يؤمن استمرار الحرب ). فلقد كان المقصود إذن تجنب الحسم العسكري، ولتحقيق ذلك: اضرب وتملص، قاتل لتبقى حياً، تراجع أمام تقدم عدو مصمم، وأطبق عليه من خلفه كالبحر.
ولقد صُممت جيداً معادلة التخلي عن المجال في سبيل الزمن، لكن ماو ذكر في ( مختارات من كتاباته العسكرية ) بأنه
لا يمكن أن نكسب شيئاً، ما لم نستعمل الزمن
لتحقيق نتائج سياسية، ولإيقاظ الوعي الثوري وإرادة الجماهير
لا يمكن أن نكسب شيئاً، ما لم
نستعمل الزمن لتحقيق نتائج سياسية، ولإيقاظ الوعي الثوري وإرادة
الجماهير
- لا يقاتل
الجيش الأحمر من
أجل القتال، بل لإثارة الجاهير وتنظيمها ومساعدتها على إقامة السلطة
السياسية الثورية
وبدون هذه الأهداف يفقد القتال كل معنى، كما يفقد الجيش الأحمر مبرر وجوده
ويؤمن ماو بأن الحرب الثورية هي الجامعة التي يتعلم الثوار
فيها. وإن هذه الحرب
ستولد دروسها ومبادئها الخاصة:
( إن طريقتنا الرئيسية أن نتعلم الحرب بهذا الأسلوب، فالحرب الثورية مشروع جماهيري، وغالباً ما تفترض هذه الحرب التعلم لغرض الفعل، لكنها تتضمن الفعل لغرض التعلم. واستخلاص المعرفة من العمل. وهناك هوة بين المدني العادي وبين الجندي، لكنها ليست بعائق كالسور العظيم ، إذ يمكن ردمها بسرعة. أما أسلوب الردم فهو المساهمة في الحرب الثورية.
وأول واجبات ثوار العصابات هو التعبئة السياسية – رمف مستوى الوعي السياسي للشعب، ومساهمة الشعب الفعالة في النضال – وتتطلب طبيعة هذا الجهد فسحة من الزمن، وذلك ما يفسر طول أمد الحرب الثورية. ولكن أقوال ماو تكشف شيئاً آخر:
لا بد من الزمن، ليس فقط لتحقيق التعبئة السياسية، لكن أيضاً للسماح لنقاط ضعف العدو الداخلية بأن نتفاقم تحت تأثير توتر الحرب.
ولقد قالها في عدة
مناسبات، في كتاباته العسكرسة. ففي الحرب الصينية – اليابانية مثلاً، كانت اليابان، قوة
صناعية تمتلك ميزة ضخمة، بفضل آلتها الحربية القادرة على كيل ضربات
مدمرة لقوات الصين، نصف الاقطاعية، نصف الإقطاعية، نصف المستعمرة، وغير المصنعة,
وإذا لم تكن هذه الميزة حاسمة بشكل مباشر، فإنها لم تعوَّض السلبيات، التي كان لا بد أن
تنكشف خلال الحرب الطويلة.
وكانت اليابان تفتقر إلى الموارد الطبيعية، والملاكات لتعهد آلتها الحربية في الخارج، وفي بلد شاسع ومأهول، في خلال حقبة طويلة. ولقد شنت الحرب في الواقع لتلافي هذا العيب. ولكن الاجتياح أدى بالضرورة إلى تفاقم الحاجة إلى الموارد الأولية. في هذه الحالة، كانت الحرب عملاً يائساً، وتناقضاً وُضع المحراث فيه أمام الثيران. فماذا يحدث إذا لم تُربح تلك الحرب بسرعة، ولم تُمتص الثروات المكتسبة وتُستغل بلا تأخير؟
ومن باب الحاجة، كان على اليابان أن تبحث عن حسم سريع. وكان الحل الصيني يتضمن منعها من تحقيق هذا الحسم، وذلك بالتملص من كل مواجهة عسكرية، واللجوء إلى أساليب حرب العصابات، والعمل المتحرك، ومبادلة المجال الصيني الشاسع مقابل الزمن اللازم في البداية، لإعطاء نقاط ضعف اليابان الداخلية الفرصة للنمو تحت تأثير حرب طويلة، والضروري بعد ذلك لإعطاء المقاومة القدرة على التنظيم اللازمين لمواجهة آلة الحرب اليابانية المنهكة تدريجياً.
وها هو تحليل ماو:
لقد قادت اليابان الحرب تبعاً لعظم قدرتها العسكرية والاقتصادية، ولقوة تنظيمها السياسي، إلا أنها كانت في الوقت نفسه تملك إماكانات طبيعية غير كافية. وكانت هذه الدولة عظيمة من حيث الكيف، لكنها ضعيفة من حيث الكم. فاليابان بلد صغير نسبياً، ينقصه الرجال والموارد العسكرية، والمالية والمادية، ولا يستطيع تحمل حرب طويلة الأمد. لذا حاول مسؤولوها حل هذه الصعوبة بواسطة الحرب، فكان لا بد للنتيجة أن تكون بعكس رغباتها. أقصد أن جهدهم لحل الصعوبة قد فاقها. وانتهى بأن تكون بعكس رغباتهم. أقصد أن جهدهم لحل الصعوبة قد فاقها، وانتهى بأن أنهك مواردهم الأصلية .
وظهرت عيوب أخرى:
أدت التناقضات الداخلية والخارجية للإمبريالية اليابانية، ليس للتورط في حرب مغامرة فحسب، بل إلى تقريب الانهيار النهائي أيضاً. ومن وجهة نظر النمو، لم تعد اليابان بلداً يتقدم، فالحرب لن تجلب الرخاء المقصود من طبقاتها الحاكمة، بل ستؤدي على العكس إلى انهيار الإمبريالية اليابانبة. ذلك ما أردنا قوله بكلامنا عن الصفة الرجعية لحربها ( اليابان ). إن تلك الصفة الرجعية، المقرونة بالطبيعة الإقطاعية والعسكرتارية لتلك الإمبريالية، قد أعطتا الحرب همجيتها الخاصة. كل ذلك سيؤجج حتى الدرجة القصوى تناقضات الطبقات داخل اليابان، بين اليابان والصين ومعظم الدول الأخرى.
-يمكن لليابان أن تلقى دعماً من البلدان الفاشية، لكن المعارضة العالمية التي ستصطدم بها ستكون أشد قوة من الدعم، وستتعاظم المعارضة تدريجياً وستنتهي ليس فقط بإلغاء هذا الدعم، بل ستصل أيضاً إلى اليابان نفسها.. وبالخلاصة، إن لدى اليابان ميزة القدرة على شن حرب كبرى، ولديها كذلك السلبيات التي تنجم عن الصفة الرجعية والهمجية للحرب التي تخوضها، ونقص الرجال والموارد الأولية، ولعدم اتساع سندها العالمي.
وقد كان للصين أثناء النزاع ميزة المجال والزمن والإرادة. وقد قال ماو بأن النضال الطويل للتحرير الوطني قد عرّك الشعب الصيني وقوَّاه، وخلقت المكاسب الاجتماعية السياسية إرادة قادرة على تفجير أعظم التضحيات، والمقاومة لمدة طويلة من الزمن.
- وعلى العكس من اليابان، كانت الصين بلداً كبيراً ذا مساحة شاسعة، وموارد هائلة، وعدداً كبيراً من السكان، ووفرة في الجنود، وقادراً على خوض حرب طويلة جداً.
لقد كانت ميزات الصين تتمثل في المجال للمناورة، والأعداد الوفيرة، والمساعدةالعالمية الفعالة. والإرادة لمقاومة العدوان. وكانت هذه الميزات أيضاً السبب التي دفعت الصين للمراوغة إلى الابتعاد عن الحسم السريع، لصالح حرب طويلة تتضاءل فيها ميزات اليابان.
ولقد حدثت المبادئ نفسها سمة الصراع ضد ( أسياد الحرب ) الكومنتانغ بعد ذلك. وعند تحليل ماو للموقف، لاحظ التناقضات والنزاعات على المصالح التي تتقدم على مختلف المستويات: مثل النزاعات بين القوى الامبريالية الساعية إلى السيطرة على الصين، والنزاعات بين الطبقات الصينية الحاكمة، أو الموجودة بين هذه الطبقات وجموع الشعب.
1. أن النزاع بين ( أسياد الحرب ) والحكومة الوطنية يزيد من عبء الضرائب.
2. إن زيادة الضرائب تجبر ملاك الأراضي على نهب مبالغ أشد كبراً من الفلاحين، فتزيد من حقدهم ضد هؤلاء.
3. إن
تخلف الصناعة الصينية بالنسبة إلى الأجنبية والامتيازات الأجنبية في الصين تسبب استغلالاً
بشعاً لليد العالمة الصينية وتغرس أسفيناً بين الشغيلة والبورجوازية.
4. بسبب
تدفق السلع الأجنبية، ونقصان القوة الشرائية التي تملكها الجماهير العمالية والفلاحية، وازدياد
الضرائب، بتزايد عدد المفلسين من صناع السلع الصينية وبائعها. ولأن الحكومة الرجعية قد
زادت عدد جيوشها إلى حد بعيد، ووسعت الحرب باستمرار، رغم فقدان المؤن والأموال،
فإن جموع الجنود تتعرض إلى حرمانات دائمة. وبسبب زيادة الضرائب والإيجارات
والفوائد المطلوبة من قبل ملاك الأراضيي نتيجة ويلات الحرب، يسيطر الجوع واللصوصية في
كل مكان، وتجد الجماهير الفلاحية وفقراء المدن صعوبة في الحفاظ على البقاء.
وتفتقر المدارس للمال ويخشى كثير من الطلبة من انقطاع دراستهم، ونظراً لتخلف
الإنتاج، فإن الكثير من حملة الشهادات لم يعد لهم أي أمل بالحصول على عمل.
0 التعليقات:
إرسال تعليق