20‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 20

حرب المستضعفين 20

الفصل التاسع

حرب العصابات في قبرص


الجنرال غريفاس وحرب العصابات في قبرص – الاستعمالات
السياسي للإرهاب – أخطاء الاستراتيجية البريطانية.


(
إن البريطانيين الذين يعطون سكاكين للمغاوير من جنودهم، ويدربونهم على الطعن بها من الخلف، قد احتجوا بشدة عندما طُبق هذا التكتيك ضدهم، وأكدوا أن استعماله لا يكون شرعياً إلا في حالة الحرب. أنها سخافة حقاً! ففي قبرص كنت أحارب البريطانيين، وإن لم يقبلوا الاعتراف بذلك في البداية، لكنهم اضطروا لذلك في النهاية. والحقيقة أن شكل حربنا – التي سببت بضع مئات من الضحايا في أربعة أعوامكان أكثر انتقائية من معظم الحروب الأخرى. وإني بما أقول عليم، فقدت شاهدت ساحات معارك مغطاة بالقتلى. ولم نكن نضرب على غير هدى، كما تفعل القاذفات، بل كنا نكتفي بقتل الجنود البريطانيين، الذين كانوا سيقتلوننا لو سنحت لهم الفرصة بأن يطلقوا النار قبلنا، وكذلك قتلنا الخونة والمخبرين. وقد يكون قتل الأعداء في الشارع حادثاً لا سابق له، لكني كنت أبحث عن النتائج وليس عن السوابق. كيف حقق نابليون انتصاراته؟ بمهاجمة أعدائه من الجنب أو من الخلف؟ ويبقى ذلك صحيحاً حتى ولو أن المقياس تقلص كثيراً، ودار القتال بمعدل واحد ضد مائة ).

هذه السطور مأخوذة من مذكرات الجنرال غريفاس، القائد السابق لمنظمة أيوكا . وقد كان غريفاس النموذج الحق للعسكري المحافظ، فقد اعتبره الشيوعيون اليونانيون فاشياً وشوفينياً، لكن فلسفته في الإرهاب كانت قريبة من فلسفة الفوضويون الذين يرون بأن
الدولة إنما تمارس سلطتها بالتهديد باستعمال القوة: فرجل الشرطة العادي هو المنفذ والرمز في الوقت نفسه، والمسدس الذي يحمله في حزامه هو للتخويف، وفي الحالة القصوى لقتل من يقاومه. فإذا كانت سلطته غير مشروعة، وكانت مماريته لها بدون موافقة المحكومين، أفلا يصبح من العدل والطبيعي مجابهة القوة بالقوة، وقتل رجال الشرطة كما يُقتل اللصوص، ومحاربة المغتصبين مثل محاربة المعتدين؟

تلك كانت المحاكمة المنطقية التي دفعت غريفاس القبرصي اليوناني إلى إعلان الحرب على الاستبداد البريطانيين للجزيرة القبرصية، التي هي نفس الوقت يونانية وتركية.

ولقد كتب غريفاس، بأنه حمل السلاح في العام 1955، ضد الصديق والحليف القديم انكلترا ( بأسف عميق، لكن بشعور من القيام بالواجب ). وهو لا يتهم الشعب البريطاني بل ( عصابة السياسيين ) الذين أنكروا على قبرص حتى الأمل في الحرية. ويضيف: ( إن مسؤولية قتل هذا العدد الكبير، من الرجال والنساء والأطفال، في خلال السنوات المأساوية التي تلت، تقع بكاملها على عاتقهم ).

وقد أُعلنت بداية الصراع في سبيل استقلال قبرص في 31 آذار 1955، بسلسلة من الانفجارات في الجزيرة. فوضع المخربون قنابل في محطة الإرسال الحكومية في نيقوسيا، وتدمرت المعدات، وتطاير سقف البناء، وحدثت أضرار قدرت بستين ألفاً من الجنيهات الاسترلينية. وألقيت أيضاً قنابل على الأبنية الإدارية وفي محطة إرسال ( وولسكي باراكس )، وهي المقر العام لقوة عسكرية كانت تعد آنذاك أربعة آلاف رجل فقط. أما في مرفأ ليماسول، فقد نسفت محطة توليد كهربائية ومركزان رئيسيان للشرطة. وحدثت في لارناكا انفجارات في مديرية الشرطة والمحاكم وفي مقر الحاكم البريطاني.

ووقعت الخسارة الأولى في فاماغوستا، إذ صُعق عضو من ( إيوكا عندما ألقى حبلاً مبللاً على خطوط التوتر العالي عند محاولته تخريب الإمداد بالطاقة الكهربائية.

وقد فاجأ الهجوم العالم كله. واندهش الموظفون الاستعماريون وأصيبوا بالرعب، حسب قول غريفاس.

ورافق هذه الموجة من أعمال العنف عمل سياسي، إذ قامت الحركة في سبيل الاستقلال تجنيد الطلاب والتلاميذ بسرعة وكتب غريفاس حول ذلك: ( كنت أنوي أن أجعل من الشبيبة القبرصية مشتلاً للإيوكا )، ونظمت التظاهرات، وكانت عنيفة بشكل أدى إلى طرد الشرطة من الشوارع، وإجبارهم على طلب العون من الجنود.

ووزع صبيان، لا تتجاوز أعمارهم عشر سنين، المناشير التحريضية، وقاموا بدور السعاة. أما المدرسون الذين عصوا تعليمات المنظمة، فقد عوقبوا ( بقسوة ) وذلك تعبير يقصد به، بلغة غريفاس، أنهم قد أعدموا بواسطة رجال ( إيوكا ).

أما الصحف التي تأخرت عن اتخاذ اللهجة المناسبة، كالصحف التي لم تحتج ضد القمع مثلاً، فقد خضعت إلى الضغط والمقاطعة.

وقد انطلقت هذه الموجة الإرهاب بعدد قليل جداً من الرجال – ليس بأكثر من عشرين رجلاً حسب قول غريفاسونظمت القوة ضمن خمسة أو ستة أشخاص لكل مجموعة، وفي كل التجمعات السكنية الكبرى في الجزيرة. ولم تكن هنالك بعد وحدات من حرب العصابات، مع أن غريفاس قام باستطلاع الأرض، لتحضير العمليات اللاحقة.

وكانت شبكة الطرق الممتازة غير مؤاتية لحرب عصابات واسعة النطاق. وبقي معظم الأشخاص المعدين للقيام بها محتفظاً بهم ضمن المدن، طالما كان تجولهم ممكناً دون التعرف عليهم. ثم استخدمت سلسلة جبال ( سيرين ) في الشمال، وجبال ( ترودوس ) المشجرة في الجنوب الغربي كقواعد، ومن أجل تدريب مجموعات التخريب.

وتبعت الموجة الأولى من أعمال العنف هدنة استمرت عدة أسابيع، تخللتها بعض الهجمات على ما أسماه غريفاس ( أهدافاً عرضية ). وكان أحد هذه الأهداف العريضة ( حسب مذكراته ) السير روبرت أرميتاج، الحاكم البريطاني لقبرص آنذاك.

ففي الاحتفال بيوم الامبراطورية، اشترك الحاكم البريطاني في العرض الأول لفيلم في سينما بالاس في نيقوسيا. وخلال ساعتي العرض، كان يجلس على بضع خطوات من زجاجة كوكا كولا مملوءة بالمتفجرات ومزودة بمشعل مؤقت. وقد حدث الانفجار بعد خمس دقائق من خروج الحاكم ومرافقيه.

وفي الفترات الفاصلة بين الهجمات، كان غريفاس يتجول في نيقوسيا وحتى أنه كان يذهب إلى سلسلة جبال ( سيرين )، ليعطي أوامره إلى رؤساء المجموعات، ويراقب التدريب، ويحضر بلاغات الدعاية، وبصورة عامة لرفع المعنويات بتعدد حضوره. وقد أخذ لقب ( القائد )، وهكذا كان يوقع بلاغاته. واستخف الحزب الشيوعي القبرصي الصغير بأعضاء ( إيوكا )، واعتبرهم مجموعة من ( السوقة ) ورماة مقدسات الفلين ( في كوبا، وصف الشيوعيون فيدل كاسترو وأنصاره بأنهم ( انقلابيون بورجوازيون ) )، وأعلن رئيس الشيوعيين اليونانيين من إذاعة موسكو، بأن ( القائد ) هو غريفاس المعروف جيداً من الحزب فقد كان رئيس التنظيم السري اليوناني ( اكزهي ) في خلال الحرب العالمية الثانية، كما أنه قاد العمليات العسكرية ضد ثوار العصابات الشيوعيين ( إيلاس ) إبان الحرب العالمية الأهلية اليونانية.

(
والمضحك – كما يقول غريفاس – أن البريطانيين لم يأخذوا هذه المعلومات على محمل الجد، ولم يستطيعوا أن يتصوروا أن ضابطاً متقاعداً يمكن أن يصبح رئيساً لمنظمة إيوكا ). وتابع غريفاس التجول بحرية، مستعملاً نظارات سوداء وشارباً مستعاراً، وأقام مركز قيادته العامة في الجبال أولاً، ثم أقام في منزل داخل ليماسول حيث بقي دون أن يُكتشف أو يخان.

وفي حزيران حدثت الموجة الثانية من أعمال العنف وكان أول ضحاياها شرطي قتل بسبب انفجار قنبلة ألقيت على مديرية شرطة نيقوسيا، ونجم عنها سقوط قتيل و16 جريحاً. وقتل رقيب أيضاً عند مهاجمة مركز أمياندوس. وقد اختار غريفاس هدفا شخصياً، وهو الجنرال كيتلي، القائد العام للقوات البرية البريطانية في الشرق الأوسط، والذي اعتاد القدوم إلى عاصمة يومياً من مقره على شاطئ سيرين وكتب عن ذلك يقول: ( لقد وجدت مكاناً مناسباً جداً لكمين، لكن الأسقف مكاريوس عارض المشروع الذي تم التخلي عنه )

ويقول غريفاس في مذكراته، أن مكاريوس عارض كثيراً من اقتراحاته، وغالباً ما كان يتريث، بينما كان غريفاس يريد أن يندفع وكان الأسقف يمسك بزمام الأمور المالية. ولأنه لم يكن لدى غريفاس مال، فإنه لم يستطع تنفيذ بعض مشاريعه الأكثر جرأة، كإرسال مجموعة من منفذي الإعدام إلى لندن لقتل القبارصة الذين يعيشون فيها من ثمرة ( خياناتهم ).

ومع ذلك، فقد جرت الحملة بصورة عامة كما أرادها غريفاس، الذي اتبع انضباطاً صارماً داخل قواته المبعثرة المؤلفة من إرهابيين ومخربين. ( وكم نبهت تكراراً بأنني الوحيد الذي يعطي الأوامر، وأن كل عصيان عقابه الموت

ويؤكد غريفاس، بأنه لو كان لديه عند البدء خمسمائة رجل مسلح، لألقى البريطاني في البحر. لكن يجب ألا نأخذ هذا التأكيد على محمل الجد، فلقد فهم منذ البداية وبوضوح، بأن انتصاره سيكون سياسياً أكثر منه عسكرياً، والخطة العامة التي رسمها في أثينا قبل عامين من انفجار القنبلة الأولى تبرهن على ذلك. فلقد جاء في تلك الخطة ما يلي:

1- الغاية:

إثارة الرأي العام العالمي، وخاصة عند حلفاء اليونان، بأعمال بطولية وتضحيات، تجذب الانتباه إلى قبرص، حتى اللحظة التي تتحقق فيها أهدافاً. ومن الضروري إزعاج البريطانيين بدون توقف، حتى تتمكن الديبلوماسية العالمية، والقادرة على العمل عن طريق الأمم المتحدة، من إجبارهم على دراسة مشكلة قبرص، وحلها بشكل ينسجم مع رغبات الشعب القبرصي، والأمة اليونانية كلها.

2- التنفيذ.

يهدف النشاط الفعال إلى خلق كثير من التشويش، وتسببت كثير من الأضرار في صفوف القوات البريطانية، بحيث تبدو في أعين العالم عاجزة عن السيطرة على الموقف. وستدار الحملة على جبهات ثلاث:
أ‌- تخريب المؤسسات الحكومية والمراكز العسكرية.
ب‌- مهاجمة القوات البريطانية بعدد كبير من المجموعات المسلحة.
ت‌- تنظيم المقاومة السلبية عند السكان.



وبما أن الظروف العامة غير مناسبة لحرب عصابات على نطاق واسع، فإننا سنركز على أعمال التخريب، وبالتالي فإن المهمة الرئيسية لمجموعات القتال ستتضمن دعم وتسهيل عمل المخربين بجذب وتشتيت انتباه القوات الحكومية.

0 التعليقات: