20‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 2

حرب المستضعفين 2


الفصل الأول

حول حرب العصابات
والحرب المضـادة


ريح الثورة – الإرادة الشعبية هي مفتاح الاستراتيجية

المواجهة بين المالكين والمعديمن – أوهام الانتفاضة المضادة

حرب العصابات كامتداد للسياسة – الثغرات في درع الدول الحديثة



  -
لقد تجمع أكبر أسطول من الهليكوبتر في التاريخ – ثمان وسبعون طائرة هليكوبتر مسلحة بالصواريخ والرشاشات، وألف من مشاة الاقتحام – فوق قطاع بن كات الذي يسيطر عليه الشيوعيون. وكان يدعم هذا الاسطول أربعة آلاف من القوات الخاصة (رانجرز) والمجموعات المضادة لحرب العصابات. وكان على هذه القوات أن تحاصر قوة أكبر قوة من الثوار الفيتناميين، تضم 1500 – 2000 رجل، كانوا قد هزموا قبل أسبوعين أربع كتائب حكومية في كمين تام الإحكام.

  -
وكان سر هذه العملية أقل الأسرار كتماناً خلال هذه الحرب. ففي سايغون، أنذر ضباط الاستخبارات المصورين من قبل عدة أيام، والنتيجة: أنه عندما وصلت القوات إلى القطاع كان معظم الثوار قد غادرو.

  -
التايم 21 آب 1964)

* * *





  -  
انتشرت سريتان من الكوماندوس الفيتناميين الجنوبيين في حقل من الأعشاب الطويلة على بعد أربعين كيلومتراً شمالي سايغون. وكان مهمة هاتين السريتين، تخليص مركز هاجمه رجال العصابات الشيوعيون. وتقدم الجنود بحذر وتوقفوا لاستراحة قصيرة في غاية من أشجار المطاط، ثم اندفعوا إلى حقل مكشوف، وتوجهوا نحو مجموعة من الأكواخ على بعد أربعمائة متر.
-    وفجأة انطلقت أصوات أسلحة آلية، فسقط رجال وتفرق آخرون. وانبطح الملازم وليام ريختر، المستشار العسكري الأمريكي، وعندما رفع رأسه رأى الثوار الفيتناميين النظاميين بثيابهم الخضراء يتقدمون لإكمال المجزرة. فوقف على قدميه محاولاً إيجاد ملجأ، فتلقاه ثوار آخرون تحت نيرانهم المتقاطعة، فأصيب في فخذه وسقط، لكنه استطاع متابعة الزحف حتى الدغل. ولقد ساعده الناجون لمدة ستة ساعات، وأخذ يجر نفسه حتى وصل إلى قاعدته في بنه مي ولقد حالفه الحظ إذ مات خمسون من رجال الكوماندوس الحكوميين.
-      وفي المعسكر قال الملازم: لقد تركونا ندخل إلى المصيدة، وأغلقوا بابها وراءنا، ثم قاموا بمجزرتهم، وقد تركناهم يفعلون ذلك بدون حذر .
-     وقد عقب على ذلك أحد الضباط العظام الأمريكيين بقوله: " إنها القصة ذاتها دوماً ". وذلك حقاً ما يدور في فيتنام يومياً، مع تغيرات في التفاصيل والشدة. مراكز عسكرية تُقتحم، وموظفون يتعرضون للاغتيال، وقرى تحرق. هناك حقيقة حزينة لا بد من ملاحظتها: إن الشيوعين أدنى مرتبة في التسليح والفعالية، لكنهم يهزمون الجيش الفيتنامي الجنوبي المؤلف من أربعمائة ألف رجل، والذي يدعمه ويقوده سبعة عشر ألفاً من المستشارين الأمريكيين، والذي يتلقى عوناً يومياً من الولايات المتحدة الأمريكية يصل إلى مليوني دولار.

ستانلي كرنوف  :عدونا
ساتردي ايفننغ بوست 22 آب 1964

تلك هي حرب العصابات: حرب المغاورين التي خاضها الأتصار الأسبان ضد جيوش نابليون، والتي أصبحت في زمننا هذا ( شبه علم ) سياسي عسكري، ونظرية اجتماعية ماركسية – لينينية، وابتكاراً تكتيكياً في الوقت نفسه. لقد بدلّت علاقات القوى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي في طريقها إلى تدمير مفاهيم أركان حرب الدول الغربية، والتي أصبح همها الرئيسي، والذي يتزايد يوماً بعد يوم، أن تفهمه وتكافحه وتحاربه.

لقد أصبحت حرب العصابات الظاهرة السياسية لمنتصف القرن العشرين، كما أنها الريح المرئية للثورة التي تحمل الأمل والخوف إلى قارات ثلاث. وفي اللحظة التي نحرر فيها هذا الكتاب (1965)، نراها قائمة في حوالي عشرين بلداً، من انغولا إلى العراق، ومن الأدغال الكونغولية إلى الأكواخ في ضواحي كراكاس. لقد أصبحت الهم الرئيسي للبنتاغون، ولوكالة الاستخبارات المركزية، ولمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. وهي تتخذ شكلاً يائساً غالباً ما يكون صامتاً في نصف كرتنا، في غواتيمالا وفنزويلا وكولومبيا، وتهدد بالانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وتؤثر بدون شك على فكر المناضلين السود من هارلم حتى أعماق الجنوب (الأمريكي)، كما يبرهن على ذلك استعمال (كوكتيل مولوتوف)، الذي أصبح سائداً في شوارعنا.

إنها تدمر في العالم بقايا الإقطاعيات والاستعمار التقليديين، وتستخدم حالياً قبل كل شيء، ضد الاستعمار الجديد وما يسميه الاصطلاح الماركسي بالامبريالية – أي السيطرة الاقتصادية والسياسية (وأحياناً العسكرية) على الأمم الضعيفة الفقيرة اقتصادياً، من قبل الأمم الغنية القوة المتطورة تكنولوجيا.

فهي في البلدان النامية تحرر الجماهير من قمع الطبقات المميزة والمركنتيلية، وقمع الأوليغارشيه، والطغم العسكرية وقد يؤدي ذلك إلى وقوع هذه الجماهير تحت سيطرة الدولة الاشتراكية.

وهي من زاوية ما، سلاح قوي، سيف تحرير وطني وعدل اجتماعي، كما أنها من زاوية أخرى، وسيلة مدمرة وخطرة، تنمو وسط الفوضى والتوتر الاجتماعي والانفجار الاقتصادي والفوضى السياسية، وتحول الفلاحين المسالمين متعصبين مسلحين.

إنها تولد انتماءات جديدة، ومواجهة جديدة للقوى تعادل عملياً الحرب الباردة، وهي متفوقة عليها. إنها في جوهرها مواجهة بين ( من يملكون ) ومن ( لا يملكون )، بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة. إنها تعيد صياغة العالم الذي عرفناه وقد تقرر نتيجتها شكل المستقبل المتوقع وجوهره، ليس فقط على مسارح العمليات الحالية الواسعة والقائمة، بل وفي كل مكان أيضاً.

ويمكننا أن نتساءل: ما هي حرب العصابات؟ ماذا نستطيع أن نفعل ضدها... أو معها؟ كيف نضع حداً لها أو كيف نستغلها؟ فهل هي كل شيء يمكن أن نستعمله على هوانا كأداة سياسية وطنية أو كوسيلة للنصر.

فحسب الكتابات الكثيرة التي ظهرت في غضون أكثر من عشرين عاماً، يمكن أن نطلق عليها اسم: الفترة التالية للاستعمار، يمكن وضع تعريف لحرب العصابات، ولكن هذا التعريف يطرح بدوره أسئلة لا بد من الإجابة عنها.

إن حرب العصابات، بالمعنى الواسع الذي نطلقه عليها، هي حرب ثورية، تجند سكاناً مدنيين أو على الأقل جزءاً من السكان، ضد القوى العسكرية للسلطة الحكومية، القائمة شرعياً أو المغتصبة.

وتختلف الظروف من حالة إلى أخرى، فقد تكون السلطة أجنبية، وتمثل إسرائيل والجزائر مثالين جيدين – أو بالأحرى استعمارية، وبمقابلها كل السكان المحليين، تحت قيادة طليعة من المناضلين.

وفي حالة أخرى – جنوبي فيتنام وكوبا مثلاً – نرى أن السلطة محلية، والحكومة مستقلة على الأقل اسمياً، أما المعارضة فهي زمرة من سياسية تعارض أيديولوجية النظام وشرعيته.

وهنا أيضاً تختلف الحالات، فحرب الثوار الفيتناميين حرب أيديولوجية، اصطبغت بشدة بصراع الطبقات، وبوطنيتها القوية. ورغم أن الشيوعيين هم الذين يقودونها، لكنها تتجاوب ليس فقط مع أماني الذين يرون فيها حرباً ضد الفقر والاستغلال، بل مع أماني الذين تقززوا من فساد الطبقات الحاكمة أيضاً. وهي تجذب الذين لا يريدون أن يتحملوا ديكتاتورية عسكرية، كما تجذب أيضاً كتلة القوميين الفيتناميين ( الذين كنا سنسميهم الوطنيين لو كنا في مكانهم )، والذين يرون في الصراع استمراراً للنضال الطويل ضد الاستعمار الفرنسي، الذي حل محله أجانب آخرون هم الأمريكيون، الذين يقومون باسم الحرية والديمقراطية بمساندة وتوجيه الطغم العسكرية الحاكمة المتعاقبة.

وإذا كان لحرب فيتنام جذور ايديولوجية وقومية، فإن الثورة الكونية لم يكن لها جذور مماثلة مرئية. فلقد بدأت كاحتجاج مثالي (idealistic) لفئة قليلة ذات توجه سياسي غير واضح تماماً – ليبرالية إلى حد ما، اشتراكية نوعاً ما، مصبوغة بالفوضوية الإسبانيةوكاحتجاج ضد الفساد والقمع في دولة بوليسية. ولم تكن نزاعات الطبقات فيها واضحة، كما لم تشكل القومية فيها عاملاً ظاهراً. أما الصدام مع المصالح الأجنبية والإقطاعية، ومعاداة الولايات المتحدة، والبروليتارية المناضلة. والشعارات الماركسية للثورة الكونية، فقد جاء كتطورات لاحقة، تلت طرد باتيستا ولم تسبقه.

وفي المغرب (1952 – 1956) ركز القوميين من حزب الاستقلال قضيتهم حول الصورة الرمزية للسلطان محمد سيدي بن يوسف، وأجبروا بن عرفة الذي حل محله على التنازل، وهزوا الحماية الفرنسية. أما في إسرائيل، فقد أعطت الدفعات القوية الدينية والعراقية صفة حرب دينية للنضال في سبيل الاستقلال. وفي كثير من الدول الأفريقية ( الكونغو والكاميرون وانغولا ) لعبت خصومات القبائل وطموحاتها دوراً لا يقل أهمية عن دور مقاومة الاستعمار.

القومية، والعدالة الاجتماعية، والعرق، والدين – تحت هذه المعاني المجردة والرمزية، التي تشكل صرخات التجمع للثورات في العشرين سنة الأخيرة – يمكن أن نكتشف لها مبدأ موحداً هو قاسمها المشترك. إنه دفع ثوري، وانبثاق الإرادة الشعبية، وليس لهذا كله صلة قوية مع قضايا الهوية القومية والعرقية، وتقرير المصير، وأشكال الحكم، والعدالة الاجتماعية، التي تشكل الشعارات المألوفة في الانتفاضة السياسية. وليس من المؤكد بأن الحرمانات الاقتصادية تمثل بحد ذاتها العامل المقرر الذي نراه في الانتفاضة السياسية بصورة عامة. ومن المعروف أن العوز والقمع هما من طبيعة الحياة، على كوكبنا، ولقد تحملتها أجيال لا تحصى دون أن تنبس ببنت شفة تقريباً.

إن إرادة التمرد إلى حد يجعلها اليوم شبه كونية، تبدو وكأنها شيء آخر أكثر من الارتكاس ضد الظروف السياسية أو الأوضاع المادية. إنها تعبير على ما يبدو عن وعي قد استيقظ مجدداً، ليس بالنسبة إلى ( قضايا ) بل بالنسبة إلى ( الوجود بالقوة ) إنه اكتشاف متنامٍ للإمكانات التي يقدمها الوجود الإنساني، متزامل مع حس متعاظم للطبيعة السببية للكون، وبفضل هذين العاملين يستوحي الأفراد أولاً، ثم الجماعات، فالقوميات، وضعية كاملة الجدة إزاء الحياة.

والأثر الناجم عن هذا الوعي الفجائي، هو أن يظهر في المناطق من العالم المسماة ( نامية ( رغبة ملحة في التغيرات الجذرية القائمة على إدراك جديد بسيط، بأن الشروط الوجود، المعتبرة حتى الآن كشروط لا تتبدل، يمكن في الواقع أن تتغير.

وهكذا تصبح التحديدات المقبولة مسبقاً غير محتملة، وتفتح إمكانية التعديلات الوشيكة الوقوع آفاقاً لم يكن التفكير فيها وارداً حتى الآن، وتولد الرغبة للفعل، وكأن الجميع يقولون في وقت واحد في كل مكان: " هذا ما يمكن أن نكونه أو ما نحصل عليه، شريطة أن نعمل، ماذا ننتظر إذن؟ فلنفعل ".

وعلى كل حال، فإن ذلك يمثل الحالة النفسية للتأثير الحديث، لرجل العصابات، مهما كانت شعاراته أو قضيته. وسلاحه السري، بغض النظر عن كل مسألة استراتيجية أو تكتيكية أو تقنية، ليس سوى القدرة على الإيحاء بهذه الحالة الفكرية إلى الآخرين. وليست الهزيمة العسكرية للعدو، أو قلب الحكومة، إلا أهدافاً ثانوية في هذا الاتجاه، ستأتي فيما بعد. إن الجهد الرئيسي لحرب العصابات هو أن تثير تمرد السكان، الذين لا يمكن لأية حكومة أن تدوم طويلاً دون موافقتهم.

فرجل العصابات مهدم للنظام القائم، لأنه ينشر الأفكار الثورية. وتعطي أفعاله قوة إلى عقيدته، وتبين السبيل نحو التغير الجذري، ومن الخطأ أن نعتبره منفصلاً عن مرقد استنبات الثورة. إنه يُخلق من المناخ السياسي الذي تصبح فيه الثورة ممكنة، ويمثل هذا المناخ التعبير وعنصر الاستقطاب للإرادة الشعبية في مثل هذا التغيير.

إن فهم رجل العصابات يجنبنا مصيدتين كبيرتين، غموضين خطيرين، يبدو أن اختصاصيي مقاومة الانتفاضة يقعون فيهما بسهولة.

وتتمثل المصيدة الأولى في ( نظرية التآمر ) التي تعتبر أن فكرة الثورة هي نتيجة ( مشوهة عادة ) لوسيلة التلقيح الصناعي، وإن نواة حرب العصابات وهي العنصر المخضب في هذا المجال، تتألف من أشخاص هامشيين، ومتآمرين، وسياسيين زراعي قلاقل – وبلغة أخرى عناصر هامشية، تتواجد نوعاً ما منفصلة عن وسطها الاجتماعي، وتوجهه نحو غايات غامضة وخطرة.

والمصيدة الثانية هي سفسطة الطريقة، المغذاة – على الأقل حديثاً – من قبل معظم العسكريين الأمريكيين من أنصار الفكرة القديمة القائلة بأن حرب العصابات هي، قبل كل شيء مسألة تكتيك وتقنية، يلجأ إليها أولئك الذين يمكن أن يحتاجوا لاستعمالها في كل مواقف الحرب غير النظامية.

فالخطأ الأول صلف وساذج في الوقت نفسه، ونراه يتردد في بلاغة الليبرالية الغربية، مبيناً الديمقراطية السياسية ( أي الانتخابات الحرة ) وكأنها الشيء المرغوب فيه. ومتجاهلاً أهمية الثقة في القرارات الشعبية، ومفترضاً ضمناً أن عناصر الجماهير بلهاء وشديدة الجهل والانفعال، لدرجة لا تسمح لها بأن تفكر بمفردها، أو أن تكون لها الإرادة الحرة أو القدرة على شن حرب ثورية.

وكنتيجة لهذين الخطأين، تفسر الثورة قائمة فعلاً، على أنها نتيجة ألاعيب عناصر مشبوهة أداتها رجال العصابات المستغفلون وعناصر من المتطوعين التابعين لقوة أجنبية، أو المعتنقين على الأقل لفلسفة سياسية أجنبية .

وإذا أخذنا الأمور على مستوى السذاجة، فذلك يفترض أن الناس لا يختارون الطريق الثوري بملء إرادتهم. كلا وبالتأكيد عندما تكون الثورة المعنية لا تتوافق مع التقاليد والمثل العزيزة على الأمريكيين. وفي هذا الموضوع لنسمع ما يقوله الرئيس ايزنهاور: " يجب أن نعلمهم ( يقصد الفيتناميين ) بما يجري، وأن نقول لهم كم هو هام بالنسبة إليهم أن يكونوا إلى جانبنا، وعندها سيريدون اختيار النصر " .

وللأسف إن النصر الذي يبدو أنهم اختاروه لم يكن ما اقترحه الرئيس ايزنهاور!.

0 التعليقات: