20‏/06‏/2014

حرب المستضعفين 17

حرب المستضعفين 17


 الفصل السابع

دروس من الانتفاضة المسلحة في ايرلنده


حروب التحرير الوطنية وثمنها – القلاقل في ايرلنده
ودور ( البلاك والتانز )فيها.


قد يكون ثمن التحرير الوطني مرتفعاً جداً، كما برهنت عن ذلك حربا فيتنام. ومع ذلك يمكن القول، وبصورة علمية، أن حروب التحرير الحديثة – حروب المستعمرات ونصف المستعمرات مثل كوبا – بقيت اقتصادية بشكل ملفت للنظر، من حيث الأرواح البشرية، التي تُزهق، بالمقارنة مع الحروب بين الدول.

ففي كوبا، لم يقتل إلا بضع مئات خلال سنتي الحرب الأهلية. وبعد سقوط باتيسيا، قدرت المصادر التورية ضحايا العنف الثوري بعد عشرين ألفاً من الضحايا خلال سبع سنين. ولم يُنشر أبداً أي سبب مبرر لدلك. وعلى العكس، تعطي روايات المعارك الخاصة التي خاضها جيفارا وآخرون رقماً أكثر تواضعاً.

وفي زنجبار، اقتصرت الخسائر على بضع عشرات. وفي قبرص، لم يتجاوز الرقم بضع مئات. أما فيما يختص بأيرلنده، فقد كتب ( ريتشارد بينيت ) في ( بلاك آند تانز ) ما يلي:

( أثناء السنة الأولى من الحرب ضد انجلترا، قتل الجيش الجمهوري الايرلندي (ira)، وفق أقصى التقديرات، ستة وعشرين شخصاً، منهم ثمانية عشر شرطياً. ولم يطلق النار على الأفراد إلا في مائة حالة على الأكثر ).

ويضيف بينيت: ( لا يمكن لأية حكومة أن تستسلم أمام مثل هذا التهديد ). ولكنه كان مخطئاً، فلقد استسلمت انجلترا، ليس أمام العنف، بل بسبب الموقف السياسي والاقتصادي العصيب، الذي يمكن أن يحدثه العنف خلال سنة.

ونجد هنا برهـاناً آخر مميزاً لحرب البرغوث، تشكـل حرب العصـابات أحد وجوهه، كمـا يمثل الإرهاب ( حرب العصابات في المدن ) وجهه الآخر.

فثائر العصابات في الأرياف، وإرهابي المدن، يستعملان كلاهما القنابل والطلقات، ولكن الرافعة الحقيقية بالنسبة إليهما سياسية. وقد تُدمر فرق كما حدث في فيتنام، ولكن ذلك لا يشكل الغاية النهائية. وقد تتعرض مدن للإرهاب كما في قبرص، وليس ذلك أيضاً هو الغاية النهائية.
فهدف حرب التحرير الوطنية، التي تتواجد فيها الموارد الضعيفة لأمة صغيرة بدائية، مع وسائل قوة كبرى صناعية، ليس احتلال الأرض أو الإرهاب، بل
 خلق موقف لا يطاق للقوة المحتلة أو لحكومة محلية عميلة.

ففي حرب البرغوث بسبب ( القصف ) البرلماني أضراراً أكثر من المدفعية، وتنفجر العناوين الرئيسية للصحف بقوة أكثر من القنابل، وتربح مواكب السلام المعارك التي تحقق فيها الرشاشات، وتبقى الخسائر ضعيفة، لأن ثوار العصابات عندما يشنون حملات الاستنزاف، يتجنبون المعارك المكلفة المألوفة للجيوش النظامية. أما الإرهاب والمعتبر تقليدياً، كعمل فظيع، وكقتل سياسي، فهو أكثر إنسانية من كل أنواع الحروب الأخرى لأنه انتقائي ( هل قصف مدينة بالقنابل أو القصف قرية بالنابالم أقل فتكاً من الإرهاب؟ ).

إن المعتدي لا يفلت فريسته بسبب انهزام جيوشه ( مع أن ذلك يمكن أن يحدث كما رأينا )، بل لأن البلد أو المستعمرة المنتقصة تصبح – بسبب الإرهاب أو حرب العصابات – عقبة سياسية كأداء على المسرح الداخلي أو العالمي، وغير منتجة وشديدة الكلفة، أو مسيئة إلى الهيبة.

ويحاول المنتفض أن يقوم بدور داوود، فيسعى إلى إظهار عدوه للجمهور بمثابة جالوت، وتهدف كل أعماله وكل تصريحاته إلى إثارة الود والشعور بالعدل لدى شهود الصراع، ويكون ذلك بخلق صورة شعب شجاع يقاتل في سبيل استقلاله، ضد القوى الهائلة للظلم والاستبداد.

وفي الوقت نفسه، تستعمل الثورة كل ترسانتها، ( حرب العصابات، إرهاب، تخريب، دعاية )، كي تحرم الاستعمار من مكاسبه، وذلك بتحطيم معنويات اليد العاملة، وإنقاص الإنتاج، ومقاطعة الواردات، والتحريض على الانتفاضة وتخريب المؤسسات الصناعية، أي العمل بصورة عامة على زيادة تكاليف الاستثمار والإدارة السياسية، عن طريق زيادة نفقات القوات العسكرية والشرطة.

فإذا كان الهدف محدداً بدقة، وكان التكتيك الثوري مطبقاً بحزم، فإن القوة العسكرية تجد نفسها بسرعة، مشتبكة في صراع يفقدها سمعتها أمام العالم، ويكبدها خسائر مالية لا يلبث تأثيرها أن يظهر في الداخل. أما الجهود التي تبذلها القوة المذكورة، لوضع حد للصراع، فإنها تزيد سرعة تطور الأمور، لأنها كلما شددت القمع كلما أثارت حقد السكان المستعمرين ( أو التابعين في حالة الامبرياليين )، كما أن صفحتها تسوّد في عيون الرأي العام العالمي.

ولا بد من التنويه، بأن الرأي العام يتألف من شعب القوة المعتدية، وقوى المعارضة التي تندد بالطرق المستعملة في القمع، ودافعي الضرائب الذين يزداد عبؤهم، والأشخاص الذين يتأثرون من فقدان الهيبة الوطنية... إلخ. وإن تجربة الإمبراطوريتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا في القرن الماضي، تقدم عدة أمثلة عن هذا السياق. فبالنسبة إلى الأولى، تضمن الصراع الذي أدى إلى استقلال قبرص ( المشروط حتى الآن ) تكراراً شبه حرفي ( للقلاقل ) التي خلصت قبل ثلاثين عاماً ايرلنده الكاثوليكية من التسلط البريطاني.

إرعاب الخصم هو هدف الإرهاب. هكذا قال لينين، وكان بإمكانه التشديد على الملاحظة، حتى لو أدى ذلك إلى إضعاف بلاغة الحملة، كأن يقول بأن الهدف الرئيسي للإرهاب هو تحريب الإدارة وذلك بحشر أولئك الذين يحكمون في موقف دفاعي، حيث لا يمكن أن يحدث شيء بدون الوجود المستمر لحرس مسلح، مما يؤدي إلى شل الحركة. ولهذا أيضاً أثر ثانوي، وإن لم يكن غاية، وهو أن يثير إرهاباً مضاداً يخدم قضية الثوار بشكل أفضل من كل الأساليب التي يمكن للثوار أن يتصوروها.

تلك كانت الحالة في ايرلنده وبالرغم من تاريخ انتفاضي طويل، فقد بقي دعم الجمهور لحركة الاستقلال فاتراً حتى اللحظة التي تأجج فيها بسبب أعمال البريطانيين أنفسهم، وخاصة بسبب أعمال النهب التي ارتكبها ( البلاك والتانز ) المشهورون، الذين استنفروا لدعم قوة الدرك الملكية الإيرلندية.

ولقد كتب ريتشارد بينيت، عن موضوع انتفاضة الفصح، التي دبرها الوطنيون في العام 1916، قبل أربعة أعوام من تشكيل ( التانز ) مما يلي:

 أديرت هذه الانتفاضة بشكل يدعو للرثاء، إذ أعلن الثوار الجمهورية، واحتلوا عدداً من المباني العامة في دبلن، وصمدوا بشجاعة فيها لمدة أسبوع، وكان آخر المستسلمين هو أستاذ الرياضيات الشاب دوفاليرا. ولم تحدث قلاقل تُذكر في بقية ايرلنده، ورفض الشعب الايرلندي الدعوة النبيلة ( بأن يبرهن على أنه جدير بالمصير المشرف المقدر له، كما استغل النهابون المناسبة في دبلن.

ولم تجر في تاريخ ايرلنده كله، انتفاضة بهذا القدر الضئيل من التعاطف معها، إذ كان يقاتل في صفوف الجيش البريطاني حوالي مائة ألف من الكاثوليك الايرلنديين، وفكر معظم أفراد الشعبين الايرلنديين، وفكر معظم أفراد الشعبين الايرلندي والانكليزي، بأن الأمر لا يعدو أن يكون خنجراً في الظهر. وعندما استعرض الأسرى في شوارع دبلن، قابلهم سكان دبلن غتضبين شاتمين. وبدت قضية الاستقلال الايرلندي وكأنها قد ضاعت أو أجلت إلى أمد بعيد.

وعندها ارتكب البريطانيون غلطة عميقة، إذا أعدموا رمياً بالرصاص خمسة عشر مسؤولاً عن انتفاضة الفصح، فسببت هذه الإعدامات فضيحة عالمية، وضعت حداً لكل حل سلمي للمسألة الايرلندية. أما حركة الاستقلال ( سين فين )، التي كانت فاقدة الاعتبار، فقد أصبح لها شهداؤها، لذا نمت بسرعة. وكأنما كانت لندن تسعى عمداً إلى إلحاق الهزيمة بنفسها، فقد أعدت الحكومة الانكليزية قانوناً – وكانت الحرب العالمية الثانية قد التهمت الرجال – لتجنيد كافة الايرلنديين، الذين يسمح لهم سنهم بحمل السلاح، قتوحد الجميع بذلك ضد التاج، والتحق آلاف الشباب بالميليشيا المسماة ( المتطوعون الوطنيون )، التي لم تلبث أن أصبحت الجيش الجمهوري الايرلندي (ira). ولم يكن بإمكان انكلترا أن تفعل أفضل من ذلك لتثير ( القلاقل ) التي كانت آنئذ وشيكة الوقوع.

وفي 21 كانون الثاني 1919، قام ( الديل ايريان ) (وهو المجلس التشريعي لحزب السين فين ) بإعلان الاستقلال، وتعهد تشكيل حكومة الأمر الواقع الجمهورية في الأرض الايرلندية، وتممت الحكومة بالمحاكم وبجهاز للشرطة. وكانت غاية المناورة سياسية، ولم تكن الحرب الفعلية متوقعة. والحقيقة أن نية ( ديل ايريـان ) كانت مختلفة عن مزاج المتطوعين. وفور إعلان بيان الاستقلال، دوت الطلقات الأولى للثورة. وفي اليوم نفسه نصب ( المتطوعون ) كميناً لمجموعة تنقل متفجرات الجلجنايت إلى مقلع، وقتلوا فردين من الدرك الملكي.

وقامت بسرعة حملة منظمة من الإغارات والكمائن، بدلاً عن الاصطدامات الفردية والتلقائية، وكانت الحملة بإدارة مايكل كولنز في دبلن، وقادة الوية الجيش الجمهوري الايرلندي في الأمكنة الأخرى. وكان عدد الضحايا قليلاً نسبياً، أما الآثار فكانت رائعة، إذ أخذ الجنود، بخوذهم الحديدية وبنادقهم المزودة بالحراب، يقومون بالدوريات في شوارع دبلن، كما لو أنهم في عاصمة أجنبية محتلة. وتكدست المعدات الحربية في المرافئ، ولم تعد التحركات العسكرية على الطرقات تجري إلا محروسة، وامتلأت السجون بالمعتقلين السياسيين. وبين كانون الثاني 1919 وآذار 1920، جرت عشرون ألف عملية مداهمة للمنازل، بحثاً عن الأسلحة والمشبوهين.

وفي نهاية العام 1919، جرى صراع محموم شمل العسكريين والمدنيين، وأصبحت البلاد كمعسكر محصن، وتحولت الهجمات والاغتيالات إلى أعمال يومية وأصبح الجو في دبلن وكأن ( كافة الموظفين البريطانيين تقريباً معتقلون في القلعة ). ولم يكن الجنود ورجال الشرطة ضمن ثكناتهم في وضع أفضل. ولم تقع أعمال عسكرية كثيرة، لكن جو التوتر استمر في التأزم، وأصبح كل طريق مدخلاً إلى كمين محتمل، وكان بإمكان أي مدني، مهما كان بريء المظهر، أن يخرج مسدساً ويطلق النار ).

ولم يمض يوم واحد دون أن تعلن الصحف عن ( حادث ايرلندي ). أما في البلاد الأجنبية، وبفضل الفعالية القصوى لحملة الدعاية التي قام بها ( دوفاليرا ) بين المهاجرين الايرلنديين في أمريكا، تعاظم التعاطف مع الثوار، بحيث أن السفير البريطاني في واشنطن ( بدا عاجزاً أمام الشعور العام المتعاطف مع ايرلنده ).

     

0 التعليقات: