حرب المستضعفين 14
لم يكن الصمت الذي تلا سقوط ديا بيان فو إلا برهة في سياق التاريخ، وهدنة شديدة القصر. ولم يمض على انتهاء حرب الهند الصينية الأولى خمس سنوات، حتى عادت فيتنام لتكون واحدة من النقاط الساخنة في العالم، ونوعاً من مراكز انخفاض الضغط، تدور حولها العواصف السياسية والايديولوجية، ويمكن بسهولة أن تتحول إلى حرب عامة في آسيا.
ومع ذلك، ومن جهة النظر الفيتنامية، يمكن أن يبدو الموقف وكأنه لم يتغير في جوهره. ففلاح الجنوب المشتغل في مزرعة أرزه، والذي تحلق القاذفات فوق رأسه طائرة نحو أهداف بعيدة في الشمال، وتئز الحوامات المتجهة نحو موعد مضروب للقتال، لا يجد فرقاً بين هذه الطائرات والطائرات التي كانت تحلق فوقه لعشر سنين خلت. ومعركة اليوم كمعرة الأمس، بالنسبة إلى ثائر العصابات الموجودة في الأدغال أو المدن، فالحرب مستمرة، وقلة قليلة من الشباب لا تزال تذكر وقتاً بدون حرب.
وحل الزي الأمريكي في سايغون محل الزي الفرنسي، ولم تعد التوجيهات تصدر من باريس بل من واشنطن، وغدت الفييتمينة تحمل اسم الفيتكونغ، والمحتلون الجدد الذين أطلق عليهم لقب ( المستشارين العسكريين ) ثم تحولوا إلى مقاتلين حقيقيين، هم أمريكيون. وسواء كانوا فرنسييين أم أمريكيين، فييتمينة، أو فيتكونغ، فإن الأمر سيان. فالمعسكران يسعيان إلى الغايات السابقة نفسها، وبالطرق المألوفة ذاتها. أنه الصراع بين الكلب والبرغوث، حيث يتابع البرغوث ببطء استمرارية عملية التكاثر حتى يغلب في النهاية على الكلب.
ولقد عرضت الانترناشيونال يونايتدبرس، في 24 آذار 1964، الورطة الأمريكية، بتحليل كان يمكن أن يكتب قبل ذلك بعشر سنوات:
تنخرط الولايات المتحدة، منذ أربع سنين، في حرب تزداد ضراوتها، في بلاد الجبال والغابات ومزارع الأرز وثوار العصابات الشيوعيين.
فمنذ أيار 1961، عندما قررت الولايات المتحدة مساندة حكومة سايغون المناهضة للشيوعية، أرسلت إليها كمية ضخمة من الرجال والعتاد . من البندقية إلى الصاروخ، ومن سيادة الجيب إلى الدبابة، ومن الهليكوبتر إلى القاذفة النفاثة، واستعملت أسلحة قوية وحديثة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، وانفقت بسخاء من ذكائها ودمائها وأرواحها. كل ذلك في سبيل لا شيء. ولم تستطع أكثر الأمم قوة في العالم إيجاد مفتاح النجاح في جنوبي شرقي آسيا.
ولم يتوقف الأمريكيون عن التدحرج على السفح، منذ اليوم الذي وضعوا فيه أقدامهم في ذلك البلد البائس ليكافحوا الشيوعية.
( ... وفي بداية حرب فيتنام، لم يعمل الثوار إلا بأعداد صغيرة لا تتجاوز الفصيلة لينصبوا كميناً لشاحنة أو ليهاجموا مركزاً صغيراً منعزلاً.
وبقدر ما جمعوا من الأسلحة الأمريكية من بين جثث الجنود الحكوميين، فإنهم زادوا من تجهيزهم، وانتقلوا من الفصيلة إلى السرية.
وتدعي الفيتكونغ بأنها حررت ثلاثة أرباع مساحة الوطن، وأقامت المدارس والمستشفيات والمباني العامة.
ولا يمسك نظام سايغون وأسياده الأمريكيون إلا بالمدن. وبالواقع فإن القوات الحكومية تمضي معظم أوقاتها في المناطق المدينية الأمنية نسبياً. وتنتقل في أغلب الأحيان جواً بواسطة الهليكوبترات، وإذا ما أرادت الانتقال براً، استخدمت العربات المصفحة والدبابات، ومع ذلك فإنها تقع في الكمائن.
ويطبق ثوار الفيتكونغ التقية الشيوعية: خطوتان إلى الأمام وخطوة إلى الوراء. ولقد وصلوا بهذا التكتيك إلى مرونة لم يستطع خصومهم مساواتهم فيها . إن موقفاً عسكرياً كهذا ميؤوس منه، كموقف الفرنسيين أثناء حصار ديان بيان فو. وهذا ما يفسر رد فعل واشنطن اليائس، المتمثل بالتصعيد ).
وقد أعلن الرئيس ليندون جونسون في 25 آذار 1965:
( لا تسعى الولايات المتحدة إلى توسيع الحرب. ونحن لا نهدد أي نظام، ولا نطمح بأية أرض. ولقد عملنا دائماً وسنعمل على تقليص التوترات على المسرح العالمي الكبير ).
إلا أن هانوي وبكين شعرتا شعرتا بأنهما مهددتان. ولم تكونا وحدهما، إذ لم يتوقف الجنرال ديغول عن طرح فكرة الحل بالمفاوضات. ولم يؤد تصريح جونسون إلى إزالة مظاهر القلق في العالم، لأنه عندما أكد بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى توسيع الحرب، أضاف على نفس الوتيرة قائلاً: ( ليست القضية صراع البيض ضد الآسيويين، لكنها اعتداء التوتاليتاريين الشيوعيين على جيرانهم المستقلين.... يجب أن يتوقف اعتداء الشمال، أنها الوسيلة الوحيدة لإعادة السلام إلى جنوبي شرقي آسيا ).
إن هذا الإنكار الضمني لوجود حرب أهلية، في بلاد يسيطر عليها الشيوعيون على ثلاثة أرباعها، وهذا التأكيد على اعتداء ( التوتاليتاريين الشيوعيين )، الموجه بوضوح إلى الصين وفيتنام الشمالية، يؤديان إلى استنتاج حتمي. وهو أن الولايات المتحدة العاجزة عن الانتصار في فيتنام الجنوبية، تريد نقل الصراع إلى ساحة أكثر اتساعاً، يكون للتفوق التكنولوجي الكلمة الأولى، أي تحويل الصراع إلى نوع من الحرب الكورية، حيث يُزج الشعب الأمريكي بالقوة في حرب صليبية ضد شيوعية الشرق الأقصى.
وكانت الغاية من قصف فيتنام الشمالية، إجبار هانوي وربما بكين على التفاوض، والعودة كما قال جونسون، إلى الجوهري من اتفاقيات عام 1954، إلى تسوية شريفة تضمن استقلال وأمن جنوبي شرقي آسيا كله ). ولم تكن هانوي وبكين ظاهرياً قادرتين على فرض إيقاف معارك ثوار العصابات في فيتنام الجنوبية الذين بدا لهم النصر قريباً، ولذلك استبعدت المفاوضات.
وفي 25 آذار 1965، أوجز الصحفي، ماركيز تشايلد، الموقف الذي يجب على البنتاغون مواجهته:
تخصص الصحف عناوينها لعملية قصف فيتنام الشمالية، مبعدة بذلك الأنظار عن حقائق الصراع المشؤومة.
فعلى الأرض، توشك الحرب على الضياع. إن تسيطر عصابات الفيتكونغ أضحت واسعة، بحيث أصبح من المستحيل تموين المقاطعات الخارجية إلا عن طريق الجو.
وقد نفّر القصف بالنابالم قلوب سكان الجنوب، وازداد الوثوق بأن على الأمريكيين أن يزجوا بفرق كاملة حتى لا تنتهي الحرب بهزيمة كارثوية...
لقد أعلن السفير ماكسويل تايلور ذلك قبيل مغادرته لسايغون، ليقدم تقريراً للرئيس جونسون.
ويبدو أننا سنصل إلى نقطة اللاعودة على الطريق المؤدي إلى زج كامل للقوات الأمريكية في البر والجو
كيف ولماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد؟
لكي يفهم الأمريكيون جيداً هذه الحرب في فيتنام، يجب عليهم القبول ببعض الوقائع الكريهة – وهي كذلك لأننا اعتدنا على اعتبار أنفسنا ديموقراطيين ومعادين للاستعمار ولم نعتبر أنفسنا أبداً كإمبرياليين ومطلقاً كمعتدين.
وفي الحقيقة، ومن وجهة النظر الفيتنامية، إن الحرب العالمية الثانية في الهند الصينية هي استمرار مباشر للأولى. وهي من الناحية السياسية مماثلة لسابقتها، إنها صراع في سبيل الاستقلال والتخلص من السيطرة الأجنبية، والغربية على أي حال. أما من الناحية الاجتماعية، فهي كالسابقة ثورة إشتراكية، أو بالأحرى ماركسية، تهدف إلى تدمير نظام اقتصادي، مطابق لنظامنا، وإحلال آخر غير مطابق له.
ولمنع هذا السياق، حلت الولايات المتحدة محل فرنسا في فيتنام الجنوبية، وتبنَّت طرقاً مناظرة للوصول إلى غايات مماثلة. ولن يجد التاريخ تمييزاً بين الفرنسيين المستعمريين والأمريكيين ( المعادين الشيوعيين ). لقد كانت فرنسا تريد الاحتفاظ بفيتنام كمستعمرة، وتهدف الولايات المتحدة إلى جعلها كوكباً تابعاً لها في إطار المجال الآسيوي الذي تعتبره جوهرياً لمصالحها، وربط فيتنام بها اقتصادياً وسياسياً وخاصة عسكرياً.
وليس ذلك إلا فصلاً من نضال أكثر شمولاً. فلقد دمرت الحرب العالمية الثانية مناطق النفوذ القديمة، وحطمت توازن القوى القديم، وكانت حرب الهند الصينية الأولى في إطار هذا التفكك. ويجري الآن استقطاب جديد، يشكل العالم الثالث، العالم النامي الذي يضم المستعمرات السابقة، ساحة معركته، وهدف الصراع فيه. فكل من لا يدخل في المدار الأمريكي يسقط – حسب اعتقادنا على الأقل – في المدار الشيوعي ( الروسي أو الصيني ). أي ما يعادل مائة وخمسة عشر مليوناً من البشر ).
لهذا وجدنا أنفسنا نهتم بفيتنام الجنوبية وقمنا مقام الفرنسيين.
وقد كتبت نيويورك تايمز، في 24 أيار 1962: ( إن الرهائن كبير الشأن في جنوبي شرقي أسيا. فإذا استولى الشيوعيون على لاووس وفيتنام الجنوبية، فإنهم سيأخذون على الأرجح كمبوديا وتايلاند وبورما، وقد يصلون إلى ماليزيا والفلبين، أي ما يعادل مائة وخمسة عشر مليوناً من البشر ).
وقال الرئيس آيزنهاور إن ضياع جنوب فيتنام بشكل ( خسارة كبيرة للهيبة – إنه ضياع جنوبي شرقي آسيا كله ). في حين كتب جوزيف ألسوب : ( إذا تحملنا بسلبية الهزيمة في فيتنام الجنوبية، فإن كل شيء يشير بأن ذلك سيكون أسوأ هزيمة أصيبت بها الولايات المتحدة منذ بداية هذا القرن وأكثرها كلفة ). ونقرأ في مجلة لايف، في 12 حزيران 1964: ( إن التخلي عن جنوبي شرقي آسيا سيشكل كارثة، فالشيوعيون سيحتلونه، وستبدو الولايات المتحدة عاجزة عن كسب حرب أنصار، والوفاء بالوعود التي قطعتها على نفسها لحلفائها، وسيتراجع الخط العسكري الأمريكي إلى أوكيناوا، وستصبح اليابان والفليبين في خطر، وتفلت أندونيسيا من كل رقابة، وتنتهي عملياً السيطرة الأمريكية في آسيا ).
تلك هي رؤى واشنطن. وقد أعلن وزير الدفاع روبرت مكنمارا: " إن بقاء حكومة مستقلة ( أي في الحقيقة موجهة موجهة من قبل الولايات المتحدة ) في فيتنام الجنوبية، مسألة على غاية الأهمية لأمن جنوبي شرقي آسيا والعالم الحر، وبحيث أنني لا أتصور بديلاً عن الاظطرار لاتخاذ كل الإجراءات المتوافرة لدينا لمنع أي فوز شيوعي ).
ووصف الرئيس كنيدي جنوبي شرق آسيا بأنه حيوي للولايات المتحدة، باعتبارها قوة في المحيط الهادئ، وأعلن الرئيس جونسون منذ حزيران 1964، بأن الولايات المتحدة سنخاطر بحرب ( وكان يقصد مع الصين ) للدفاع عن هذه المنطقة.
ولقد أخذت الحرب الاتساع المعروف، عندما جاء الأمريكيين للقيام بدور الفرنسيين، لكن مع عدد من الاختلافات الرئيسية، معظمها لصالح الشيوعيين.
إن عجز واشنطن السياسي والنفسي عن تسمية الأشياء بمسمياتها، وضع الولايات المتحدة في موقف صعب، عند البدء بإدارة حرب استعمارية في جوهرها. وفي البدء قام الجنرالات الأمريكيون بدور ( المستشارين ) لهيئة الأركان العامة الفيتنامية، وللحكومة غير المستقرة ( أو بالأحرى مجموعة من الحكومات المتعاقبة )، بدلاً من أن تكون لهم سلسلة قيادية مباشرة. وبينما كانت العمليات تجري في السابق من قبل قوات الدولة الاستعمارية – الفرقة الأجنبية، وحدات أفريقية شمالية... إلـخ ( وكلها قوات لا علاقة لها بالسياسة الفيتنامية )، أصبحت الحرب بعد التدخل الأمريكي موكلة إلى أربعمائة ألف جندي فيتنامي، كانت لهم، كبقية السكان، أفكارهم الخاصة ولم تكن وجهات نظرهم حول الحرب وأهدافها متطابقة بالضرورة مع وجهة النظر الأمريكية.
ولم يكن الفرنسيون يهتمون بشعبيتهم، منهم عسكريون أو مستعمرون مكشوفون، وواثقون من القيام بمهمة وطنية، ويديرون حرباً عسكرية بحتة، دون أن يخشوا خسارتها على أرض المعركة.
ونجم عن استبدالهم تحول سيـاسي هام. فحكومة سايغون، رغم كونها أداة سياسية أمريكية وديكتـاتورية عسكرية، لم تكن تتمتع بالاستقلال النبسي الذي تتمتع به حـكومة عسكرية أجنبية تـقود جيش احتلال، كان لا بد لها أن تحسب حساباً للرأي العام، وأن تحتفظ ليس فقط بثقة مصدر تمويلها ( الولايات المتحدة ) بل أيضاً بثقة الجزء من الشعب الذي يساندها ويتحملها، بالإضافة إلى ثقة جيش كبير، وضباط يعيشون جو المكائد.
وقد أثبتت الوقائع جيداً عدم استقرار مثل هذه الحكومة، فتعاقبت على الحكم بعد سقوط نغودينه دييم أكثر من عشر حكومات.
وبسبب دعم الاستقلال المزيف لحكومة لا حليف لها سوى الولايات المتحدة، التي كانت تمدها بوسائل رد ( عدوان الشمال )، وجدت واشنطن نفسها تعاني من فقدان السيطرة على الأحداث، وتتعرض لضغوط سياسية، لم يتعرض لها الفرنسيون نسبياً، رغم المشاكل الداخلية التي كانت تزعجهم.
وكانت النكسات العسكرية، والتجنيد الإلزامي اللاشعبي، والعداوات الدينية، وقلاقل الطلبة، ودسائس الجنرالات الطامعين، وفتور الحرب، قادرة على تخريب التوازن السياسي الدقيق في كل لحظة. لذا يجب ألا نستغرب رغبة العسكريين الأمريكيين في توسيع الحرب، ليمارسوا القيادة بأنفسهم، ويتحرروا من الرمال المتحركة للسياسة الآسيوية.
ولم يكن للانتفاضة في فيتنام الجنوبية أي علاقات تقريباًمع هانوي قبل بلوغ المرحلة الحرجة، وكانت علاقتها مع بكين أقل أيضاً، ألا في المجال الفكري. لذا فإنها جرت وفق سياق حرب الهند الصينية الأولى.
وبدأت أعمال الإرهاب المنعزلة، والاغارات على مراكز الشرطة منذ العام 1955. ولكي يكون الرد فعالاً، كان لا بد من استعمال الجيش بكامله. ولكن ذلك كان بمثابة اعتراف بأن الأمور ليست على ما يرام في البلاد كلها. لهذا وجد نظام دييم أن ذلك في غير محله، وتبني سياسة النعامة، وأعلن بأن الأمر يتعلق بمجرمين، وبأن الشرطة ستعيد تثبيت النظام.
وعندما أصبح اتساع التهديد الناجم عن الفيتكونغ معترفاً به تماماً، وأضحت أعداد ثوار العصابات هامة، وألفوا أنفسهم قـادرين على مجابهة الجيش بنجاح، حتى لو كان هذا الجيش مجهزاً بالأسلحة والطائـرات و( المستشارين الأمريكيين )، ازداد عون واشنطن العسكري والاقتصادي إلى حكومة سايغون، لكنه بقي دائماً أقل بكثير من متطلبات الموقف.
ففي منتصف العام 1964، أصبح ثوار العصابات المتفرقون في فيتنام جيشاً يضم أكثر من مائة وأربعين تجري على مستوى الكتيبة وحتى الفوج. وكان هذا الجيش يمتلك مناطق خلفية حسنة التنظيم، وأوضحت الحكومة معزولة عملياً عن السكان الرفيين الذين يشكلون 85% من أمة تقارب 16 مليون نسمة، وتقطن مساحة تزيد عن 300 ألف كيلو متر مربع.
وكان ثوار العصابات يسيطرون على الجزء الأعظم من البلاد خارج التجمعات السكنية الكبرى. ولم يكونوا ليهاجموا إلا من قبل الطائرات، وعرضياً من قبل القوات المحمولة بالهليكوبترات، والتي كانت تضرب على غير هدى باحثة عن الإبر في كومة من القش. وكانت الأرتال الحكومية تتوغل في مناطق الفيتكونغ، فتتعرض للكمائن. ولم يكن لديها أمل بممارسة أية سلطة على السكان.
وكانت طرق المواصلات الثانوية كلها تقريباً مقطوعة، مع جزء لا بأس به من الطرق الرئيسية. ولم يكن الوصول إلى بعض العواصم الأقليمية ممكناً إلا عن طريق الجو. وكانت حول سايغون شبكة من القواعد تعيش جو حصار، حيث كان يجري القتال غالباً على بعد يقل عن خمسة عشر كيلومترات من المدينة.
وحافظ الفيتكونغ في قطاعاتهم على اقتصاد ريفي، فكانوا يجيبون الضرائب على التجارة التي استمرت بين المناطق، حتى أن الوقود المستعمل لمواصلات القوات الحكومية، كان يخضع أحياناً للرسوم قبل أن يصل إلى الثكنات.
ودفع الأمريكيون إلى سايغون 250 مليون دولار سنوياً، لتحسين الاقتصاد الزراعي وكسب سكان الأرياف. لكن ( جيمس كيلن ) مدير وكالة المساعدة الدولية، قدر بأن 10 – 15% من العون كان يذهب إلى المناطق التي كانت تتناقلها الأيدي باستمرار.
وفي 15 آب 1964، كتبت النيويورك تايمز: ( إن السيطرة على أي منطقة كانت تتغير بين ليلة وضحاها. وفي كثير من الأمكنة. وبعد الانتهاء من عمل كبير: جسر أو طريق أو بئر، وبمجرد انسحاب العمال من موقع العمل، يقوم الفيتكونغ باحتلاله ).
الفصل السادس
التورط الأمريكي في فيتنام
-التجربة الفيتنامية الثانية-
الطابع السياسي للحرب الثانية في الهند الصينية –
دور الأمريكيين – امتداد الحرب وآفاقها المحتملة
التورط الأمريكي في فيتنام
-التجربة الفيتنامية الثانية-
الطابع السياسي للحرب الثانية في الهند الصينية –
دور الأمريكيين – امتداد الحرب وآفاقها المحتملة
لم يكن الصمت الذي تلا سقوط ديا بيان فو إلا برهة في سياق التاريخ، وهدنة شديدة القصر. ولم يمض على انتهاء حرب الهند الصينية الأولى خمس سنوات، حتى عادت فيتنام لتكون واحدة من النقاط الساخنة في العالم، ونوعاً من مراكز انخفاض الضغط، تدور حولها العواصف السياسية والايديولوجية، ويمكن بسهولة أن تتحول إلى حرب عامة في آسيا.
ومع ذلك، ومن جهة النظر الفيتنامية، يمكن أن يبدو الموقف وكأنه لم يتغير في جوهره. ففلاح الجنوب المشتغل في مزرعة أرزه، والذي تحلق القاذفات فوق رأسه طائرة نحو أهداف بعيدة في الشمال، وتئز الحوامات المتجهة نحو موعد مضروب للقتال، لا يجد فرقاً بين هذه الطائرات والطائرات التي كانت تحلق فوقه لعشر سنين خلت. ومعركة اليوم كمعرة الأمس، بالنسبة إلى ثائر العصابات الموجودة في الأدغال أو المدن، فالحرب مستمرة، وقلة قليلة من الشباب لا تزال تذكر وقتاً بدون حرب.
وحل الزي الأمريكي في سايغون محل الزي الفرنسي، ولم تعد التوجيهات تصدر من باريس بل من واشنطن، وغدت الفييتمينة تحمل اسم الفيتكونغ، والمحتلون الجدد الذين أطلق عليهم لقب ( المستشارين العسكريين ) ثم تحولوا إلى مقاتلين حقيقيين، هم أمريكيون. وسواء كانوا فرنسييين أم أمريكيين، فييتمينة، أو فيتكونغ، فإن الأمر سيان. فالمعسكران يسعيان إلى الغايات السابقة نفسها، وبالطرق المألوفة ذاتها. أنه الصراع بين الكلب والبرغوث، حيث يتابع البرغوث ببطء استمرارية عملية التكاثر حتى يغلب في النهاية على الكلب.
ولقد عرضت الانترناشيونال يونايتدبرس، في 24 آذار 1964، الورطة الأمريكية، بتحليل كان يمكن أن يكتب قبل ذلك بعشر سنوات:
تنخرط الولايات المتحدة، منذ أربع سنين، في حرب تزداد ضراوتها، في بلاد الجبال والغابات ومزارع الأرز وثوار العصابات الشيوعيين.
فمنذ أيار 1961، عندما قررت الولايات المتحدة مساندة حكومة سايغون المناهضة للشيوعية، أرسلت إليها كمية ضخمة من الرجال والعتاد . من البندقية إلى الصاروخ، ومن سيادة الجيب إلى الدبابة، ومن الهليكوبتر إلى القاذفة النفاثة، واستعملت أسلحة قوية وحديثة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، وانفقت بسخاء من ذكائها ودمائها وأرواحها. كل ذلك في سبيل لا شيء. ولم تستطع أكثر الأمم قوة في العالم إيجاد مفتاح النجاح في جنوبي شرقي آسيا.
ولم يتوقف الأمريكيون عن التدحرج على السفح، منذ اليوم الذي وضعوا فيه أقدامهم في ذلك البلد البائس ليكافحوا الشيوعية.
( ... وفي بداية حرب فيتنام، لم يعمل الثوار إلا بأعداد صغيرة لا تتجاوز الفصيلة لينصبوا كميناً لشاحنة أو ليهاجموا مركزاً صغيراً منعزلاً.
وبقدر ما جمعوا من الأسلحة الأمريكية من بين جثث الجنود الحكوميين، فإنهم زادوا من تجهيزهم، وانتقلوا من الفصيلة إلى السرية.
وتدعي الفيتكونغ بأنها حررت ثلاثة أرباع مساحة الوطن، وأقامت المدارس والمستشفيات والمباني العامة.
ولا يمسك نظام سايغون وأسياده الأمريكيون إلا بالمدن. وبالواقع فإن القوات الحكومية تمضي معظم أوقاتها في المناطق المدينية الأمنية نسبياً. وتنتقل في أغلب الأحيان جواً بواسطة الهليكوبترات، وإذا ما أرادت الانتقال براً، استخدمت العربات المصفحة والدبابات، ومع ذلك فإنها تقع في الكمائن.
ويطبق ثوار الفيتكونغ التقية الشيوعية: خطوتان إلى الأمام وخطوة إلى الوراء. ولقد وصلوا بهذا التكتيك إلى مرونة لم يستطع خصومهم مساواتهم فيها . إن موقفاً عسكرياً كهذا ميؤوس منه، كموقف الفرنسيين أثناء حصار ديان بيان فو. وهذا ما يفسر رد فعل واشنطن اليائس، المتمثل بالتصعيد ).
وقد أعلن الرئيس ليندون جونسون في 25 آذار 1965:
( لا تسعى الولايات المتحدة إلى توسيع الحرب. ونحن لا نهدد أي نظام، ولا نطمح بأية أرض. ولقد عملنا دائماً وسنعمل على تقليص التوترات على المسرح العالمي الكبير ).
إلا أن هانوي وبكين شعرتا شعرتا بأنهما مهددتان. ولم تكونا وحدهما، إذ لم يتوقف الجنرال ديغول عن طرح فكرة الحل بالمفاوضات. ولم يؤد تصريح جونسون إلى إزالة مظاهر القلق في العالم، لأنه عندما أكد بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى توسيع الحرب، أضاف على نفس الوتيرة قائلاً: ( ليست القضية صراع البيض ضد الآسيويين، لكنها اعتداء التوتاليتاريين الشيوعيين على جيرانهم المستقلين.... يجب أن يتوقف اعتداء الشمال، أنها الوسيلة الوحيدة لإعادة السلام إلى جنوبي شرقي آسيا ).
إن هذا الإنكار الضمني لوجود حرب أهلية، في بلاد يسيطر عليها الشيوعيون على ثلاثة أرباعها، وهذا التأكيد على اعتداء ( التوتاليتاريين الشيوعيين )، الموجه بوضوح إلى الصين وفيتنام الشمالية، يؤديان إلى استنتاج حتمي. وهو أن الولايات المتحدة العاجزة عن الانتصار في فيتنام الجنوبية، تريد نقل الصراع إلى ساحة أكثر اتساعاً، يكون للتفوق التكنولوجي الكلمة الأولى، أي تحويل الصراع إلى نوع من الحرب الكورية، حيث يُزج الشعب الأمريكي بالقوة في حرب صليبية ضد شيوعية الشرق الأقصى.
وكانت الغاية من قصف فيتنام الشمالية، إجبار هانوي وربما بكين على التفاوض، والعودة كما قال جونسون، إلى الجوهري من اتفاقيات عام 1954، إلى تسوية شريفة تضمن استقلال وأمن جنوبي شرقي آسيا كله ). ولم تكن هانوي وبكين ظاهرياً قادرتين على فرض إيقاف معارك ثوار العصابات في فيتنام الجنوبية الذين بدا لهم النصر قريباً، ولذلك استبعدت المفاوضات.
وفي 25 آذار 1965، أوجز الصحفي، ماركيز تشايلد، الموقف الذي يجب على البنتاغون مواجهته:
تخصص الصحف عناوينها لعملية قصف فيتنام الشمالية، مبعدة بذلك الأنظار عن حقائق الصراع المشؤومة.
فعلى الأرض، توشك الحرب على الضياع. إن تسيطر عصابات الفيتكونغ أضحت واسعة، بحيث أصبح من المستحيل تموين المقاطعات الخارجية إلا عن طريق الجو.
وقد نفّر القصف بالنابالم قلوب سكان الجنوب، وازداد الوثوق بأن على الأمريكيين أن يزجوا بفرق كاملة حتى لا تنتهي الحرب بهزيمة كارثوية...
لقد أعلن السفير ماكسويل تايلور ذلك قبيل مغادرته لسايغون، ليقدم تقريراً للرئيس جونسون.
ويبدو أننا سنصل إلى نقطة اللاعودة على الطريق المؤدي إلى زج كامل للقوات الأمريكية في البر والجو
كيف ولماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد؟
لكي يفهم الأمريكيون جيداً هذه الحرب في فيتنام، يجب عليهم القبول ببعض الوقائع الكريهة – وهي كذلك لأننا اعتدنا على اعتبار أنفسنا ديموقراطيين ومعادين للاستعمار ولم نعتبر أنفسنا أبداً كإمبرياليين ومطلقاً كمعتدين.
وفي الحقيقة، ومن وجهة النظر الفيتنامية، إن الحرب العالمية الثانية في الهند الصينية هي استمرار مباشر للأولى. وهي من الناحية السياسية مماثلة لسابقتها، إنها صراع في سبيل الاستقلال والتخلص من السيطرة الأجنبية، والغربية على أي حال. أما من الناحية الاجتماعية، فهي كالسابقة ثورة إشتراكية، أو بالأحرى ماركسية، تهدف إلى تدمير نظام اقتصادي، مطابق لنظامنا، وإحلال آخر غير مطابق له.
ولمنع هذا السياق، حلت الولايات المتحدة محل فرنسا في فيتنام الجنوبية، وتبنَّت طرقاً مناظرة للوصول إلى غايات مماثلة. ولن يجد التاريخ تمييزاً بين الفرنسيين المستعمريين والأمريكيين ( المعادين الشيوعيين ). لقد كانت فرنسا تريد الاحتفاظ بفيتنام كمستعمرة، وتهدف الولايات المتحدة إلى جعلها كوكباً تابعاً لها في إطار المجال الآسيوي الذي تعتبره جوهرياً لمصالحها، وربط فيتنام بها اقتصادياً وسياسياً وخاصة عسكرياً.
وليس ذلك إلا فصلاً من نضال أكثر شمولاً. فلقد دمرت الحرب العالمية الثانية مناطق النفوذ القديمة، وحطمت توازن القوى القديم، وكانت حرب الهند الصينية الأولى في إطار هذا التفكك. ويجري الآن استقطاب جديد، يشكل العالم الثالث، العالم النامي الذي يضم المستعمرات السابقة، ساحة معركته، وهدف الصراع فيه. فكل من لا يدخل في المدار الأمريكي يسقط – حسب اعتقادنا على الأقل – في المدار الشيوعي ( الروسي أو الصيني ). أي ما يعادل مائة وخمسة عشر مليوناً من البشر ).
لهذا وجدنا أنفسنا نهتم بفيتنام الجنوبية وقمنا مقام الفرنسيين.
وقد كتبت نيويورك تايمز، في 24 أيار 1962: ( إن الرهائن كبير الشأن في جنوبي شرقي أسيا. فإذا استولى الشيوعيون على لاووس وفيتنام الجنوبية، فإنهم سيأخذون على الأرجح كمبوديا وتايلاند وبورما، وقد يصلون إلى ماليزيا والفلبين، أي ما يعادل مائة وخمسة عشر مليوناً من البشر ).
وقال الرئيس آيزنهاور إن ضياع جنوب فيتنام بشكل ( خسارة كبيرة للهيبة – إنه ضياع جنوبي شرقي آسيا كله ). في حين كتب جوزيف ألسوب : ( إذا تحملنا بسلبية الهزيمة في فيتنام الجنوبية، فإن كل شيء يشير بأن ذلك سيكون أسوأ هزيمة أصيبت بها الولايات المتحدة منذ بداية هذا القرن وأكثرها كلفة ). ونقرأ في مجلة لايف، في 12 حزيران 1964: ( إن التخلي عن جنوبي شرقي آسيا سيشكل كارثة، فالشيوعيون سيحتلونه، وستبدو الولايات المتحدة عاجزة عن كسب حرب أنصار، والوفاء بالوعود التي قطعتها على نفسها لحلفائها، وسيتراجع الخط العسكري الأمريكي إلى أوكيناوا، وستصبح اليابان والفليبين في خطر، وتفلت أندونيسيا من كل رقابة، وتنتهي عملياً السيطرة الأمريكية في آسيا ).
تلك هي رؤى واشنطن. وقد أعلن وزير الدفاع روبرت مكنمارا: " إن بقاء حكومة مستقلة ( أي في الحقيقة موجهة موجهة من قبل الولايات المتحدة ) في فيتنام الجنوبية، مسألة على غاية الأهمية لأمن جنوبي شرقي آسيا والعالم الحر، وبحيث أنني لا أتصور بديلاً عن الاظطرار لاتخاذ كل الإجراءات المتوافرة لدينا لمنع أي فوز شيوعي ).
ووصف الرئيس كنيدي جنوبي شرق آسيا بأنه حيوي للولايات المتحدة، باعتبارها قوة في المحيط الهادئ، وأعلن الرئيس جونسون منذ حزيران 1964، بأن الولايات المتحدة سنخاطر بحرب ( وكان يقصد مع الصين ) للدفاع عن هذه المنطقة.
ولقد أخذت الحرب الاتساع المعروف، عندما جاء الأمريكيين للقيام بدور الفرنسيين، لكن مع عدد من الاختلافات الرئيسية، معظمها لصالح الشيوعيين.
إن عجز واشنطن السياسي والنفسي عن تسمية الأشياء بمسمياتها، وضع الولايات المتحدة في موقف صعب، عند البدء بإدارة حرب استعمارية في جوهرها. وفي البدء قام الجنرالات الأمريكيون بدور ( المستشارين ) لهيئة الأركان العامة الفيتنامية، وللحكومة غير المستقرة ( أو بالأحرى مجموعة من الحكومات المتعاقبة )، بدلاً من أن تكون لهم سلسلة قيادية مباشرة. وبينما كانت العمليات تجري في السابق من قبل قوات الدولة الاستعمارية – الفرقة الأجنبية، وحدات أفريقية شمالية... إلـخ ( وكلها قوات لا علاقة لها بالسياسة الفيتنامية )، أصبحت الحرب بعد التدخل الأمريكي موكلة إلى أربعمائة ألف جندي فيتنامي، كانت لهم، كبقية السكان، أفكارهم الخاصة ولم تكن وجهات نظرهم حول الحرب وأهدافها متطابقة بالضرورة مع وجهة النظر الأمريكية.
ولم يكن الفرنسيون يهتمون بشعبيتهم، منهم عسكريون أو مستعمرون مكشوفون، وواثقون من القيام بمهمة وطنية، ويديرون حرباً عسكرية بحتة، دون أن يخشوا خسارتها على أرض المعركة.
ونجم عن استبدالهم تحول سيـاسي هام. فحكومة سايغون، رغم كونها أداة سياسية أمريكية وديكتـاتورية عسكرية، لم تكن تتمتع بالاستقلال النبسي الذي تتمتع به حـكومة عسكرية أجنبية تـقود جيش احتلال، كان لا بد لها أن تحسب حساباً للرأي العام، وأن تحتفظ ليس فقط بثقة مصدر تمويلها ( الولايات المتحدة ) بل أيضاً بثقة الجزء من الشعب الذي يساندها ويتحملها، بالإضافة إلى ثقة جيش كبير، وضباط يعيشون جو المكائد.
وقد أثبتت الوقائع جيداً عدم استقرار مثل هذه الحكومة، فتعاقبت على الحكم بعد سقوط نغودينه دييم أكثر من عشر حكومات.
وبسبب دعم الاستقلال المزيف لحكومة لا حليف لها سوى الولايات المتحدة، التي كانت تمدها بوسائل رد ( عدوان الشمال )، وجدت واشنطن نفسها تعاني من فقدان السيطرة على الأحداث، وتتعرض لضغوط سياسية، لم يتعرض لها الفرنسيون نسبياً، رغم المشاكل الداخلية التي كانت تزعجهم.
وكانت النكسات العسكرية، والتجنيد الإلزامي اللاشعبي، والعداوات الدينية، وقلاقل الطلبة، ودسائس الجنرالات الطامعين، وفتور الحرب، قادرة على تخريب التوازن السياسي الدقيق في كل لحظة. لذا يجب ألا نستغرب رغبة العسكريين الأمريكيين في توسيع الحرب، ليمارسوا القيادة بأنفسهم، ويتحرروا من الرمال المتحركة للسياسة الآسيوية.
ولم يكن للانتفاضة في فيتنام الجنوبية أي علاقات تقريباًمع هانوي قبل بلوغ المرحلة الحرجة، وكانت علاقتها مع بكين أقل أيضاً، ألا في المجال الفكري. لذا فإنها جرت وفق سياق حرب الهند الصينية الأولى.
وبدأت أعمال الإرهاب المنعزلة، والاغارات على مراكز الشرطة منذ العام 1955. ولكي يكون الرد فعالاً، كان لا بد من استعمال الجيش بكامله. ولكن ذلك كان بمثابة اعتراف بأن الأمور ليست على ما يرام في البلاد كلها. لهذا وجد نظام دييم أن ذلك في غير محله، وتبني سياسة النعامة، وأعلن بأن الأمر يتعلق بمجرمين، وبأن الشرطة ستعيد تثبيت النظام.
وعندما أصبح اتساع التهديد الناجم عن الفيتكونغ معترفاً به تماماً، وأضحت أعداد ثوار العصابات هامة، وألفوا أنفسهم قـادرين على مجابهة الجيش بنجاح، حتى لو كان هذا الجيش مجهزاً بالأسلحة والطائـرات و( المستشارين الأمريكيين )، ازداد عون واشنطن العسكري والاقتصادي إلى حكومة سايغون، لكنه بقي دائماً أقل بكثير من متطلبات الموقف.
ففي منتصف العام 1964، أصبح ثوار العصابات المتفرقون في فيتنام جيشاً يضم أكثر من مائة وأربعين تجري على مستوى الكتيبة وحتى الفوج. وكان هذا الجيش يمتلك مناطق خلفية حسنة التنظيم، وأوضحت الحكومة معزولة عملياً عن السكان الرفيين الذين يشكلون 85% من أمة تقارب 16 مليون نسمة، وتقطن مساحة تزيد عن 300 ألف كيلو متر مربع.
وكان ثوار العصابات يسيطرون على الجزء الأعظم من البلاد خارج التجمعات السكنية الكبرى. ولم يكونوا ليهاجموا إلا من قبل الطائرات، وعرضياً من قبل القوات المحمولة بالهليكوبترات، والتي كانت تضرب على غير هدى باحثة عن الإبر في كومة من القش. وكانت الأرتال الحكومية تتوغل في مناطق الفيتكونغ، فتتعرض للكمائن. ولم يكن لديها أمل بممارسة أية سلطة على السكان.
وكانت طرق المواصلات الثانوية كلها تقريباً مقطوعة، مع جزء لا بأس به من الطرق الرئيسية. ولم يكن الوصول إلى بعض العواصم الأقليمية ممكناً إلا عن طريق الجو. وكانت حول سايغون شبكة من القواعد تعيش جو حصار، حيث كان يجري القتال غالباً على بعد يقل عن خمسة عشر كيلومترات من المدينة.
وحافظ الفيتكونغ في قطاعاتهم على اقتصاد ريفي، فكانوا يجيبون الضرائب على التجارة التي استمرت بين المناطق، حتى أن الوقود المستعمل لمواصلات القوات الحكومية، كان يخضع أحياناً للرسوم قبل أن يصل إلى الثكنات.
ودفع الأمريكيون إلى سايغون 250 مليون دولار سنوياً، لتحسين الاقتصاد الزراعي وكسب سكان الأرياف. لكن ( جيمس كيلن ) مدير وكالة المساعدة الدولية، قدر بأن 10 – 15% من العون كان يذهب إلى المناطق التي كانت تتناقلها الأيدي باستمرار.
وفي 15 آب 1964، كتبت النيويورك تايمز: ( إن السيطرة على أي منطقة كانت تتغير بين ليلة وضحاها. وفي كثير من الأمكنة. وبعد الانتهاء من عمل كبير: جسر أو طريق أو بئر، وبمجرد انسحاب العمال من موقع العمل، يقوم الفيتكونغ باحتلاله ).
0 التعليقات:
إرسال تعليق