حرب المستضعفين 7
لنفرض أن قضية ما موجودة، وأن كل إمكانات الحل السلمي قد استُنفدت، وأن التنظيمات السرية اتخذت أشكالاً هيكيلية ولكنها كافية للعمل الفوري.
عندها ينفجر الصراع وينتشر في المقاطعة الأكثر بعداً، والتي يجعلها بعدها أكثر ثورية، لأنها أكثر تعرضاً للإهمال، ولكونها أشد ملاءمة لحرب العصابات، بسبب بدائيتها وصعوبة الوصول إليها.
وتتشكل مجموعة من المدنيين المسلحين، الذين يطلقون على أنفسهم اسم الوطنيين، وتسميهم الحكومة قطاع طرق أو شيوعيين.
ويستولي هؤلاء المسلحون على مستودع أسلحة، ويحرقون مخفراً للشرطة، ويحتلون بشكل مؤقت محطة إرسال يذيعون منها بياناً باسم الثورة. لقد أزفت الساعة، وحمل لفيف من الناس السـلاح، وعلى الطاغية ( الأجنبي أو المحلي ) أن يرحل، إن مرحلة التحرير الوطني قد ابتدأت، وانتظمت الجبهات، وأعلنت أهداف الثورة ومبادئها بالبلاغة المطلوبة، مع استشهادات وطنية، مولاحظات تاريخية. إنها أهداف عادلة، ومبادئ محترمة. فمن يجرؤ أن يطرح أهدافاً ومبادئ أخرى؟ إنها تعبر عن مطالب شعبية وتجد صداها عند الشعب.
وتنتشر الشائعات في المدن والأرياف، ويأخذ الشباب الذين ينتظرون منذ زمن بعيد يوم القرار، بالتشاور بسرعة، ليحددوا الدور الذي يمكن أو يجب أو يستوجب على كل منهم أن يلعبه في الصراع. أما أعضاء أحزاب المعارضة، الذين اقتصروا حتى ذلك الحين على إلقاء خطابات أو كتابة مقالات، فإنهم يلفون أنفسهم مضطرين لاتخاذ موقف ما، وتقوم الضربة المنفذة بدور عامل مساعد على تحديد انتماءات جديدة وأوضاعاً مستقبلية، فمن سينضم للثائرين؟ ومن سيبقى على الحياد؟ ومن سيترك مبادئه ليشارك الطاغية قضيته؟
وبما أن الحكومة لا تتعامل مع مدنيين مسلحين، فلا بد لها من القضاء على العصيان، وإعادة النظام، وترميم الثقة. ومنذ ذلك الحين تبدأ السفارات الأجنبية طرح الأسئلة بكل تؤدة، ولا تتردد عن استشارة المعارضة السياسية، بل أنها تتصل مع العصاة بشكل غير مباشر، بغية الحصول على المعلومات أكيدة. ويقلق رجال الأعمال والصرفيون، الأجانب وأبناء البلد، ويتساءلون باحتراز أقل. إذا تطور الموقف، فسيجذب حتماً الصحفيين الأجانب، الذين سيقدمون للعصاة منبراً يعرضون عليه قضيتهم ويضخمونها، رغم ضيق النظام الحاكم من ذلك.
ولا تهتم الحكومة حقاً لفقد بعض رجال الشرطة أو لمستودع سلاح، لكنها تحس بالهلع إزاء الدعاية التي تنتج عن مثل هذا العمل، والتي تبذر الشكوك حول استقرارها وصلابة اقتصادها. وبالإضافة إلى ذلك فإنها تبقى حائرة، لا تعرف ما إذا كانت الانتفاضة ستبقى محدودة.
وتظهر البلاغات المطمئنة، وتعزِّز الحاميات في المقاطعات بسرعة، بقوات أكبر وبكل سرية ممكنة، من أجل إخماد الانتفاضة واقتلاع جذورها.
تلك هي اللحظة الحرجة. فإذا كان اندلاع الانتفاضة قد حدث في أوانه، وفي موقع أحسن اختياره، وكان على رأس الانتفاضة قادة أكفاء ومصممين، فإن الجهد العسكري يتعرض للإخفاق. إن كل التجارب الحاصلة منذ الحرب العالمية الثانية – وحتى قبلها بزمن بعيد، إبان حرب الاستقلال الأمريكية أو الحرب الاسبانية في زمن نابليون – تبرهن بأنه من المستحيل عملياً إخماد حرب عصابات في المناطق الريفية، التي تكفل مكاناً للتنقل والاختباء، منذ اللحظة التي تتمتع فيها الحرب المذكورة بمساندة السكان المحليين. وجلي أن عملية الإخماد يمكن أن تتحقق بإبادة السكان جميعاً، ولكن حتى هذه الطريقة لم تحقق للنازلين النجاح في أوروبا الشرقية، مع أنه لا يمكن اتهامهم بالتردد أو نقصان العزم والتصميم.
إن هذا لا يعني أن رجال العصابات يمكن أن يكسبوا معارك. ففي المراحل الأولى، يجب أن يشكل اجتناب المعارك قاعدة بالنسبة إليهم. وتعتمد استراتيجيتهم في تلك الفترة على:
- الهجوم من أجل تحقبق أهداف محدودة، كاغتنام الأسلحة وفك الحصار والمشاغلة، وذلك عندما تبدو قوة النار وميزة الموقع وعنصر المفاجأة كافية لضمان النجاح.
ولا يمكن في البدء إجراء إلا بعض الأعمال، وفي قطاعات معزولة. وعندما يتزايد عدد الثوار، يقسمون قواتهم إلى مجموعات، بغية حمل رسالتهم إلى مناطق جديدة وإزعاج الجيش على نطاق أكثر اتساعاً، وإجباره على تمديد خطوطه، الأمر الذي يضعفه، ويمنح الثوار فرصة تدمير وحداته الصغيرة، واحدة تلو أخرى.
وفي أثناء الحملة كلها، يجب تجنب البحث عن الحسم العسكري، حتى اللحظة التي يتحقق فيها توازن القوى، ويصبح بالإمكان مواجهة الجيش الحكومي مع ضمان النجاح بشكل واضح.
ويكون التحدي في البدء كافياً. فوجود الانتفاضة في حد ذاته يُفقد الحكومة سمعتها ويساعد قضية الثوار. لكن الصعوبة تكمن في الاستمرار سياسياً، لتكوين رأس مال العمل الثوري، الذي يمكن أن يكون ضعيفاً جداً عند الانطلاق. وكما أن على الحكومة أن تحفظ مظهر الاستقرار والتقدم، حتى تحافظ على بقائها، فإن العمل بالنسبة إلى قادة الثورة يشكل وسيلة إثبات صلابتهم واكتساب العون الشعبي.
لقد سدد ثوار العصابات ضربتهم الأولية. وبعد أن تتوقف ملاحقتهم، يجب أن يعودوا ليهاجموا من جديد مقدمة الحملة، أو أحد مراكزها المتقدمة، أو رتل إمداد، أو مستودع أسلحة.
فإذا كان التنظيم السري في المدن على مستوى دوره، فإنه يقوم عندئذ بأعمال إرهاب، وتخريبات المصانع، لكي يشتد تفاقم الأزمة. وتحظى الفظائع التي يمكن أن ترتكبها السلطات في خلال القمع بدعاية واسعة. فإذا سقط شهداء، نظمت لهم جنازات عظيمة، ومواكب تقودها أمهات الضحايا وتظاهرات للتعبير عن السخط الشعبي. وفي أنسب الأحوال، ينشب إضراب عام، تنشأ عنه أعمال انتقامية ( منع التجول، الضرب بالهراوات، الاعتقالات ) تبعد السكان عن النظام أكثر فأكثر، وقد تسبب بعض الضحايا، وتؤدي إلى وقوع حوادث أخرى.
وعندما يصبح واضحاً أن الحكومة لا تستطيع الحفاظ على النظام أو قمع الانتفاضة، تزداد قوة المد الثوري، فيلتحق طلاب بصفوف التنظيم السري، وينضم إلى عملية الاحتجاج على الملاحقات وفقدان الحريات المدنية، الطبقة العاملة، والعناصر الليرالية من الطبقة الوسطى – كربات البيوت والموظفون والمستخدمون، والقوميون الاقتصاديون، والمثاليون من كل الأنواع – ويلتحق بصفوف رجال العصابات أعضاء التنظيم السري الملاحقون. كما أن الفلاحين، الذين يتعرضون لضربات الحملة العسكرية، التي ستصيب لا محالة الأبرياء المشكوك بانتسابهم إلى ثوار العصابات فإنهم ينضمون بدورهم إلى صفوف الثوار.
ومنذئذ، تستطيع القوة الثورية أن تعمل على مساحة واسعة، وأن تنشئ القواعد في مناطق يتعذر دخولها على الجنود. وتسمح هذه القواعد بإقامة حكومة ثورية، وتنظيم تموين ثوار العصابات بشكل مستقل عن الإغارات والتهريب.
وتتوسع هذه القواعد في مرحلة لاحقة، فيزاول الثوار ضغطاً مستمراً على قوات الحكومة في المناطق المجاورة للقواعد، ويجبرونها على الالتجاء إلى مراكز محصنة.
ويتخذ الصراع منذئذ طابع الحرب الأهلية بين كيانين أقليميين للبلد نفسه، لكل منهما حكومة واقتصاد، وتظهر بين الكيانين اختلافات أهمها:
1. يبقى أقليم العصابات ريفياً، ذا اقتصاد زراعي بدائي، بينما يكون أقليم خصومهم صناعياً محصوراً في المناطق المدنية، ويقدم أهدافاً مناسبة للتخريب.
لقد انتهينا من عرض التطور المميز لوضع ثوري، منذ بداية التمرد وحتى مرحلة التعادل النسبي للقوى. ويبقى أن نعرف ما هو الحل الذي سيتلو ذلك، وهل سيكون عسكرياً أم سياسياً.
في الدول الصغيرة، نصف المستعمرة، التي يتوقف اقتصادها وإلى درجة معينة حكومنتها على جار غني وقادر ( كوبا هي المثال الثوري ) فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن الحل السياسي، الأسهل والأقل كلفة، ممكن بصورة دائمة تقريباً، وإلا في حالة التدخل الأجنبي.
وتقدم الثورة الكوبية صورة رائعة للسياق الذي وصفناه.
ففي كانون ثاني 1956، نزل فيديل كاسترو مع واحد وثمانين نصيراً مسلحاً من قارب انزال على شاطئ ناءٍ في ( أورينت )، تلك المقاطعة الواقعة في الجزء الشرقي في كوبا، وكانوا قد أتوا من المكسيك. ولم يبق منهم في نهاية الشهر التالي إلا دزينة ( اثني عشر ) من الرجال، وقتل الباقون أو أسروا، من قبل كمين عسكري، قبل أن يلحقوا بالجبال.
وبقيت نشاطات كاسترو العسكرية، ولمدة ستة أشهر، في منتهى الصغر. إغارات صغيرة على المراكز المنعزلة ( لكنها زودت الرجال مع ذلك بما يكفي من السلاح لمضاعفة العدد عندما تقدم المتطوعون الجدد )، وعلى معاصر قصب السكر، وعلى القرى المجاورة لسلسلة جبال ( سييرا مايسترا ). وكان لدي كاسترو عندما قابلته للمرة الأولى في السييرا، خلال شهر نيسان 1957، حوالي مائة نصير، نصفهم كان قد وصل قبلي بخمسة عشر يوماً من ( سانتياغو ) العاصمة الأقليمية، حيث تشكلت نواة التنظيم السري المديني.
وكان أكبر عمل عسكري للكاسترويين خلال تلك الحقبة، هو هجوم 28 أيار 1957 على مراكز (أوبرو) الصغير الذي كان يشغله سبعون جندياً. وكانت خسائر الثوار ثمانية قتلى، وخسائر الجنود ثلاثين قتيلاً. وكانت أعمال السنة الأولى كلها تقريباً على المستوى نفسه، إذ لم يزد عدد الرجال المشتركين في أي اشتباك، عن عدة مئات من كل جانب. وفي الحالات كلها تقريباً، وكانت المبادرة من قبل الثوار الذين كانوا يرغبون في الحصول على الأسلحة. وإذا كانت الأعمال العسكرية، قد بقيت صغيرةً! فإن الانتصارات الدعائية أتت مبكرة، وأخذت صفة عالمية، وتلاحقت بدون توقف. وجعل هربرت ماتيوس، مراسل النيويورك تايمز، من فيديل كاسترو اسماً مألوفاً في الولايات المتحدة ونشرت الدعاية أنباء أعماله في العالم قاطبة.
وكانت لهذه الأعمال العسكرية الصغيرة انعكاسات سياسية واقتصادية ضخمة: حظر الأسلحة على حكومة باتيستا، وتقييد التوظيفات والقروض مما خلق ضغطاً شديداً على النظام، لم يلبث أن سبّب نقص النشاط وانعدام ثقة الإدارة. وكانت نتيجة هذين الانعكاسيين، جعل الجيش عاجزاً، في وقت كانت غالبية جنوده لم تسمع قط طلقة واحدة.
وكان فساد نظام باتيستا مماثلاً لعجزه. وعندما سقط، بدا وكأن سقوطه ناجم من ذاته وبسبب الضعف. أما الصحافيون الأجانب الذين كانوا يتابعون المسألة، فقد قدَّروا بأن حفنة ملتحي كاسترو المسلحين لم يساهموا في إسقاط النظام إلا على مستوى الدعاية.
ففي البداية احتقر باتيستا تلك العصبة من المغامرين السياسيين، المعزولين نهائياً في السييرا ماسترا النائية. وبعد إجرائه المحاولات الأولى التي نُفذت بدون قناعة قوية، من أجل طردهم من الجبال، مال إلى التفكير بأنه لا خطر هناك إذا تخلى لكاسترو عن إقليم ناء، وعر، (قليل السكان)، وليس له أية قيمة اقتصادية ولقد تواجدت قبل ذلك عصابات مضادة للنظام في السييرا، وحظيت بقليل من الاهتمام، وسببت ضرراً محدوداً. أما الدعاية التي أثارتها في هذا النطاق، فلقد انطفأت بسرعة، هكذا أجري باتيستا محاكمته العقلية بدون شك، معتقداً أن الجوع سيطرد المغامرين مع الزمن من باتيستا محاكمته العقلية بدون شك، معتقداً أن الجوع سيطرد المغامرين مع الزمن من جحرهم، أو أنهم سيسأمون من حملة عقيمة.
ثم وصل إلى التفكير فيما بعد، بأنه بالغ في تجاهل أهمية التهديد، فأصبح يرى الثوار في كل مكان، حتى حيث لم يكن لهم وجود.
وبحيازته لقاعدته الجبلية، استطاع كاسترو تجنيد قوة غير نظامية كبيرة إلى حد ما، ونجح في أن يجعلها تبدو أكثر ثقلاً مما هي عليه، فشكلت دوريات سريعة الحركة، لا يتعدى تعدادها غالباً ستة أناس، وأخذت هذه الدوريات بالظهور في عدة أمكنة وفي وقت واحد، موسعة بذلك حقل عدم الأمن.
وفي آذار 1958، أعلن كاسترو بأسلوب بليغ ( الحرب الشاملة )، وكشف عن أرتال تسعي إلى أهدافها الجوهرية في الجزيرة كلها. وتصرف جيش باتيستا إزاء ذلك وكأنه أمام اجتياح. ولم تكن لديه أي وسيلة ليعلم بأن هذه ( الأرتال ) لا تعدُّ بمجملها أكثر من مائتي رجل، وإن ما يدعى ( بالجبهة الثانية ) التي أُعلن عنها في ذلك الحين، كانت قد افتتحت في شمالي ( أورينت ) بخمسة وستين من ثوار العصابات، كان أكثر أسلحتهم قوة رشاش - براونينغ – 30.
وكان باتيستا قد دفع في بداية التمرد خمسة آلاف جندي إلى سييرا مايسترا ليضربوا نطاقاً حول المنطقة ويبيدوا الأنصار. ولكن طول السييرا أكثر من مائة وخمسين كيلومتراً من الشرق إلى الغرب، ويتراوح عرضها من خمسة وعشرين إلى أربعين كيلومتراً، وتكفي عملية حسابية بسيطة لتبرهن عن عدم كفاية القوات، وحتى لو ضوعف العدد، فإن المهمة ستبقى مستحيلة.
ولقد استُعملت الطائرات ، لكن كثافة ورطوبة النبت ( كما نوّه كاسترو )، حصرت أثر قنابل النابالم والقنابل المتفجرة لأقل من خمسين متراً. وحتى لو عرفت القاذفات بدقة مكان الثوار – وذلك لم يحدث – لما سببت لهم أذى كبيراً.. والحقيقة أنها لم تلحق الأذى إلا بأكواخ بين سكان الجبال، الذين يقطنون الفرحات المزروعة من الغابة.
وأصبحت السييرا بسرعة أول المناطق الحرة للثورة، وكُرّست السنة الأولى من الثورة لتنظيم قاعدة صغيرة – مشاغل لصناعة البزات النظامية والتجهيزات وأدوات التفجير البدائية، ولتصليح الأسلحة، وتحضير الأغذية المعلبة... إلخ – ولإجراء عملية التبشير بين سكان المقاطعة.
وجاءت مناوشة المناطق المتاخمة واعتراض دوريات الجيش كنتيجة طبيعية لوجود القاعدة. وكانت هذه العمليات سهلة نسبياً، وبفضل تعاون السكان الريفيين أصبح ثوار العصابات أكثر حصولاً على المعلومات من الخصم، ولم تستطع أية دورية عسكرية الاقتراب من الفيدليين إلى مسافة تقل عن بضعة كيلومترات.
وكان من أول أعمال كاسترو عند وصوله إلى السييرا، تنفيذ حكم الإعدام بمجرمين متهمين بالاغتصابات والقتل. فأقام بذلك، وبشكل مأساوي، حكومة ثورية، لها قانونها الذي يمكن أن يعتبر عنصر استقرار، في منطقة كانت دائماً مهملة من قبل حكومة ( هافانا.
أما الإجراء التالي الذي أكسبه أنصاراً سياسيين ومتطوعين، فقد تمثل في إصدار قانون للإصلاح الزراعي، جعل من المزارعين والعمال الزراعيين ومستأجري الأراضي مالكين لما يستغلون.
وقد اتبع التكتيك نفسه على الهضاب التي تقطنها كثافة سكانية أكبر، وحيث توجد مزارع البن الغنية فلقد افتتح راؤول كاسترو في هذه الهضاب ما سُمي ( بالجبهة الثانية )، فرانك بايس، وفُرض فيها قانون، وجبيت منها ضرائب، ومُنحت بعض الامتيازات ( مدارس ومستشفيات )، ودفعت أثمان المشتريات نقداً وبكل عناية. ولقد عومل القرويون كما يعاملون من قبل أية حكومة، إلا أنهم خضعوا إلى توجيه سياسي مكثف وطلب منهم الانضمام الكامل إلى الثورة وأهدافها.
ولقد أبيدت بسرعة المراكز العسكرية القليلة، المؤلفة من بعض الرجال. فلم تعد تشكل عائقاً ( للجيش ) المؤلف من خمسة وستين نصيراً بقيادة راؤول كاسترو، الذي صار بإمكانه تركيز الجهد على هدف واحد.
وأرسلت أرتال حكومية، ونصب لها ثوار العصابات الكمائن، عندما دخولها، وتركوها تمر، ثم هاجموها من جديد عند عودة. وكان الثوار يتفرقون في الجبل عندما يتعرضون للمطاردة، ثم يجتمعون في مكان آخر، ويعودون إلى القرى بعد انسحاب القوات الحكومية. وبعد عدة أسابيع، تعب الجيش من أرسال الدوريات، واكتفى بتقوية الحاميات داخل التجمعات السكنية، الواقعة على حافة الأقليم الحر. ولكن عندما ازداد عدد الأنصار عن طريق التطويع الداخلي، وتحسن اقتصادهم، اضطرت الحكومة إلى أنقاض هذه الحاميات داخل التجمعات السكنية، الواقعة على حافة الأقليم الحر. لكن عندما ازداد عدد الأنصار عن طريق التطويع الداخلي، وتحسن اقتصادهم، اضطرت الحكومة إلى أنقاض هذه الحاميات لأسباب أمنية. فلقد أصبح احتلال عشرات القرى والمزارع، والقيام بدور الشرطي على مساحة قدرها عدة آلاف من الكيلومترات المربعة، أمراً باهظ التكاليف، ويتطلب مصروفات كبيرة ووحدات كثيرة، فتركت القرى للثوار، وانسحب الجنود إلى المدن، وازدادت بالتالي مساحة الإقليم المحرر تدريجياً، ونشأت حوله منطقة منزوعة السلاح، حيث جرت مناوشات عدة، ثم تنازلت القوات الحكومية عن هذه المنطقة المحايدة قطعة إثر أخرى بعد أن رأت بأن الدفاع عنها يكلف غالياً جداً.
وبعد ثلاثة أشهر، ألفي الجيش نفسه عاجزاً عن حماية المناجم الأمريكية الكبرى للنيكل والكوبالت على التخم الغربي من ( الأورينت )، إلا في ساعات النهار. وقد سمح الثوار بتشغيل هذه المناجم لأسباب سياسية، لكنهم استعاروا منها العدة اللازمة لهم: عشرات من سيارات الجيب ومركبات النقل، ومعدات لشق طرقات جديدة وتحسين الطرق الموجودة.
وأقيم مخفر حراسة للثوار على عدة أمتار من مدخل القاعدة الأمريكية الكبرى في ( غوانتانامو ). وكان الأمريكيون قد مونوا طائرات باتيستا بالوقود وجهزوها بالصواريخ في مناسبة أخرى – رغم الحظر على الأسلحة. وأمسك ثوار راؤول كاسترو وبخمسين من البحارة ومن رجال مشاة البحرية الأمريكيين الذين كانوا يقومون برحلة، واستولى على عرباتهم ودخل بعض الثوار المنشآت المنجمية ومزرعة اختبارية تابعة ( لشركة الفواكه المتحدة )، للقبض على عشرات المدراء والمهندسين.
وألفي باتيستا نفسه في وضع حرج، إذ عرف العالم لأول مرة بأن جزءاً كبيراً من أرضه خارج عن نطاق سيطرته.
والحقيقة أن قيام عدة مئات من الأنصار بتحدي الولايات المتحدة يعتبر درساً سياسياً قاسياً، واشتد على باتيستا كي يفعل ( شيئاً ما ). وبسبب الظروف فإن من المتعذر أن يرى المرء ماذا كان بوسع باتيستا أن يفعل، سوى إبادة السكان وإحراق قراهم.
وفي المرحلة الأخيرة، اتبع بعض القادة العسكريين سياسة الأرض المحروقة، ونفذوها لكن بعد فوات الأوان. ولقد أعدموا بعد ذلك واعتبروا كمجرمي حرب.
الفصل الثالث
اندلاع الكفاح المسلح وتطوره
-التجربة الكوبية-
ولادة الانتفاضة وتطورها – الانتقال إلى الحرب
الأهلية – الخيارات الأخرى – المثال الكوبي.
اندلاع الكفاح المسلح وتطوره
-التجربة الكوبية-
ولادة الانتفاضة وتطورها – الانتقال إلى الحرب
الأهلية – الخيارات الأخرى – المثال الكوبي.
لنفرض أن قضية ما موجودة، وأن كل إمكانات الحل السلمي قد استُنفدت، وأن التنظيمات السرية اتخذت أشكالاً هيكيلية ولكنها كافية للعمل الفوري.
عندها ينفجر الصراع وينتشر في المقاطعة الأكثر بعداً، والتي يجعلها بعدها أكثر ثورية، لأنها أكثر تعرضاً للإهمال، ولكونها أشد ملاءمة لحرب العصابات، بسبب بدائيتها وصعوبة الوصول إليها.
وتتشكل مجموعة من المدنيين المسلحين، الذين يطلقون على أنفسهم اسم الوطنيين، وتسميهم الحكومة قطاع طرق أو شيوعيين.
ويستولي هؤلاء المسلحون على مستودع أسلحة، ويحرقون مخفراً للشرطة، ويحتلون بشكل مؤقت محطة إرسال يذيعون منها بياناً باسم الثورة. لقد أزفت الساعة، وحمل لفيف من الناس السـلاح، وعلى الطاغية ( الأجنبي أو المحلي ) أن يرحل، إن مرحلة التحرير الوطني قد ابتدأت، وانتظمت الجبهات، وأعلنت أهداف الثورة ومبادئها بالبلاغة المطلوبة، مع استشهادات وطنية، مولاحظات تاريخية. إنها أهداف عادلة، ومبادئ محترمة. فمن يجرؤ أن يطرح أهدافاً ومبادئ أخرى؟ إنها تعبر عن مطالب شعبية وتجد صداها عند الشعب.
وتنتشر الشائعات في المدن والأرياف، ويأخذ الشباب الذين ينتظرون منذ زمن بعيد يوم القرار، بالتشاور بسرعة، ليحددوا الدور الذي يمكن أو يجب أو يستوجب على كل منهم أن يلعبه في الصراع. أما أعضاء أحزاب المعارضة، الذين اقتصروا حتى ذلك الحين على إلقاء خطابات أو كتابة مقالات، فإنهم يلفون أنفسهم مضطرين لاتخاذ موقف ما، وتقوم الضربة المنفذة بدور عامل مساعد على تحديد انتماءات جديدة وأوضاعاً مستقبلية، فمن سينضم للثائرين؟ ومن سيبقى على الحياد؟ ومن سيترك مبادئه ليشارك الطاغية قضيته؟
وبما أن الحكومة لا تتعامل مع مدنيين مسلحين، فلا بد لها من القضاء على العصيان، وإعادة النظام، وترميم الثقة. ومنذ ذلك الحين تبدأ السفارات الأجنبية طرح الأسئلة بكل تؤدة، ولا تتردد عن استشارة المعارضة السياسية، بل أنها تتصل مع العصاة بشكل غير مباشر، بغية الحصول على المعلومات أكيدة. ويقلق رجال الأعمال والصرفيون، الأجانب وأبناء البلد، ويتساءلون باحتراز أقل. إذا تطور الموقف، فسيجذب حتماً الصحفيين الأجانب، الذين سيقدمون للعصاة منبراً يعرضون عليه قضيتهم ويضخمونها، رغم ضيق النظام الحاكم من ذلك.
ولا تهتم الحكومة حقاً لفقد بعض رجال الشرطة أو لمستودع سلاح، لكنها تحس بالهلع إزاء الدعاية التي تنتج عن مثل هذا العمل، والتي تبذر الشكوك حول استقرارها وصلابة اقتصادها. وبالإضافة إلى ذلك فإنها تبقى حائرة، لا تعرف ما إذا كانت الانتفاضة ستبقى محدودة.
وتظهر البلاغات المطمئنة، وتعزِّز الحاميات في المقاطعات بسرعة، بقوات أكبر وبكل سرية ممكنة، من أجل إخماد الانتفاضة واقتلاع جذورها.
تلك هي اللحظة الحرجة. فإذا كان اندلاع الانتفاضة قد حدث في أوانه، وفي موقع أحسن اختياره، وكان على رأس الانتفاضة قادة أكفاء ومصممين، فإن الجهد العسكري يتعرض للإخفاق. إن كل التجارب الحاصلة منذ الحرب العالمية الثانية – وحتى قبلها بزمن بعيد، إبان حرب الاستقلال الأمريكية أو الحرب الاسبانية في زمن نابليون – تبرهن بأنه من المستحيل عملياً إخماد حرب عصابات في المناطق الريفية، التي تكفل مكاناً للتنقل والاختباء، منذ اللحظة التي تتمتع فيها الحرب المذكورة بمساندة السكان المحليين. وجلي أن عملية الإخماد يمكن أن تتحقق بإبادة السكان جميعاً، ولكن حتى هذه الطريقة لم تحقق للنازلين النجاح في أوروبا الشرقية، مع أنه لا يمكن اتهامهم بالتردد أو نقصان العزم والتصميم.
إن هذا لا يعني أن رجال العصابات يمكن أن يكسبوا معارك. ففي المراحل الأولى، يجب أن يشكل اجتناب المعارك قاعدة بالنسبة إليهم. وتعتمد استراتيجيتهم في تلك الفترة على:
- الهجوم من أجل تحقبق أهداف محدودة، كاغتنام الأسلحة وفك الحصار والمشاغلة، وذلك عندما تبدو قوة النار وميزة الموقع وعنصر المفاجأة كافية لضمان النجاح.
- استغلال الحملة لأهداف تعليمية، وكسلاح للدعاية، يكشف
عجز العدو، والبرهنة على إمكانية مهاجمته دون قصاص، والتبشير بين
سكان الريف بعد تبني تظلماتهم وطموحاتهم، وتحميل الحكومة مسؤولية إراقة
الدماء، وإظهارها كمعتدية، ولا بد أنها ستغدو كذلك عند متابعة عملية القمع.
ولا يمكن في البدء إجراء إلا بعض الأعمال، وفي قطاعات معزولة. وعندما يتزايد عدد الثوار، يقسمون قواتهم إلى مجموعات، بغية حمل رسالتهم إلى مناطق جديدة وإزعاج الجيش على نطاق أكثر اتساعاً، وإجباره على تمديد خطوطه، الأمر الذي يضعفه، ويمنح الثوار فرصة تدمير وحداته الصغيرة، واحدة تلو أخرى.
وفي أثناء الحملة كلها، يجب تجنب البحث عن الحسم العسكري، حتى اللحظة التي يتحقق فيها توازن القوى، ويصبح بالإمكان مواجهة الجيش الحكومي مع ضمان النجاح بشكل واضح.
ويكون التحدي في البدء كافياً. فوجود الانتفاضة في حد ذاته يُفقد الحكومة سمعتها ويساعد قضية الثوار. لكن الصعوبة تكمن في الاستمرار سياسياً، لتكوين رأس مال العمل الثوري، الذي يمكن أن يكون ضعيفاً جداً عند الانطلاق. وكما أن على الحكومة أن تحفظ مظهر الاستقرار والتقدم، حتى تحافظ على بقائها، فإن العمل بالنسبة إلى قادة الثورة يشكل وسيلة إثبات صلابتهم واكتساب العون الشعبي.
لقد سدد ثوار العصابات ضربتهم الأولية. وبعد أن تتوقف ملاحقتهم، يجب أن يعودوا ليهاجموا من جديد مقدمة الحملة، أو أحد مراكزها المتقدمة، أو رتل إمداد، أو مستودع أسلحة.
فإذا كان التنظيم السري في المدن على مستوى دوره، فإنه يقوم عندئذ بأعمال إرهاب، وتخريبات المصانع، لكي يشتد تفاقم الأزمة. وتحظى الفظائع التي يمكن أن ترتكبها السلطات في خلال القمع بدعاية واسعة. فإذا سقط شهداء، نظمت لهم جنازات عظيمة، ومواكب تقودها أمهات الضحايا وتظاهرات للتعبير عن السخط الشعبي. وفي أنسب الأحوال، ينشب إضراب عام، تنشأ عنه أعمال انتقامية ( منع التجول، الضرب بالهراوات، الاعتقالات ) تبعد السكان عن النظام أكثر فأكثر، وقد تسبب بعض الضحايا، وتؤدي إلى وقوع حوادث أخرى.
وعندما يصبح واضحاً أن الحكومة لا تستطيع الحفاظ على النظام أو قمع الانتفاضة، تزداد قوة المد الثوري، فيلتحق طلاب بصفوف التنظيم السري، وينضم إلى عملية الاحتجاج على الملاحقات وفقدان الحريات المدنية، الطبقة العاملة، والعناصر الليرالية من الطبقة الوسطى – كربات البيوت والموظفون والمستخدمون، والقوميون الاقتصاديون، والمثاليون من كل الأنواع – ويلتحق بصفوف رجال العصابات أعضاء التنظيم السري الملاحقون. كما أن الفلاحين، الذين يتعرضون لضربات الحملة العسكرية، التي ستصيب لا محالة الأبرياء المشكوك بانتسابهم إلى ثوار العصابات فإنهم ينضمون بدورهم إلى صفوف الثوار.
ومنذئذ، تستطيع القوة الثورية أن تعمل على مساحة واسعة، وأن تنشئ القواعد في مناطق يتعذر دخولها على الجنود. وتسمح هذه القواعد بإقامة حكومة ثورية، وتنظيم تموين ثوار العصابات بشكل مستقل عن الإغارات والتهريب.
وتتوسع هذه القواعد في مرحلة لاحقة، فيزاول الثوار ضغطاً مستمراً على قوات الحكومة في المناطق المجاورة للقواعد، ويجبرونها على الالتجاء إلى مراكز محصنة.
ويتخذ الصراع منذئذ طابع الحرب الأهلية بين كيانين أقليميين للبلد نفسه، لكل منهما حكومة واقتصاد، وتظهر بين الكيانين اختلافات أهمها:
1. يبقى أقليم العصابات ريفياً، ذا اقتصاد زراعي بدائي، بينما يكون أقليم خصومهم صناعياً محصوراً في المناطق المدنية، ويقدم أهدافاً مناسبة للتخريب.
2. تبقى
الحكومة الشرعية خاضعة لكل الضربات، ولكل الضغوط السياسية والديبلوماسية
والاقتصادية، وخاصة عندما لا تتواصل إلى قمع الانتفاضة التي تزداد هيبتها
دون انقطاع.
لقد انتهينا من عرض التطور المميز لوضع ثوري، منذ بداية التمرد وحتى مرحلة التعادل النسبي للقوى. ويبقى أن نعرف ما هو الحل الذي سيتلو ذلك، وهل سيكون عسكرياً أم سياسياً.
في الدول الصغيرة، نصف المستعمرة، التي يتوقف اقتصادها وإلى درجة معينة حكومنتها على جار غني وقادر ( كوبا هي المثال الثوري ) فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن الحل السياسي، الأسهل والأقل كلفة، ممكن بصورة دائمة تقريباً، وإلا في حالة التدخل الأجنبي.
وتقدم الثورة الكوبية صورة رائعة للسياق الذي وصفناه.
ففي كانون ثاني 1956، نزل فيديل كاسترو مع واحد وثمانين نصيراً مسلحاً من قارب انزال على شاطئ ناءٍ في ( أورينت )، تلك المقاطعة الواقعة في الجزء الشرقي في كوبا، وكانوا قد أتوا من المكسيك. ولم يبق منهم في نهاية الشهر التالي إلا دزينة ( اثني عشر ) من الرجال، وقتل الباقون أو أسروا، من قبل كمين عسكري، قبل أن يلحقوا بالجبال.
وبقيت نشاطات كاسترو العسكرية، ولمدة ستة أشهر، في منتهى الصغر. إغارات صغيرة على المراكز المنعزلة ( لكنها زودت الرجال مع ذلك بما يكفي من السلاح لمضاعفة العدد عندما تقدم المتطوعون الجدد )، وعلى معاصر قصب السكر، وعلى القرى المجاورة لسلسلة جبال ( سييرا مايسترا ). وكان لدي كاسترو عندما قابلته للمرة الأولى في السييرا، خلال شهر نيسان 1957، حوالي مائة نصير، نصفهم كان قد وصل قبلي بخمسة عشر يوماً من ( سانتياغو ) العاصمة الأقليمية، حيث تشكلت نواة التنظيم السري المديني.
وكان أكبر عمل عسكري للكاسترويين خلال تلك الحقبة، هو هجوم 28 أيار 1957 على مراكز (أوبرو) الصغير الذي كان يشغله سبعون جندياً. وكانت خسائر الثوار ثمانية قتلى، وخسائر الجنود ثلاثين قتيلاً. وكانت أعمال السنة الأولى كلها تقريباً على المستوى نفسه، إذ لم يزد عدد الرجال المشتركين في أي اشتباك، عن عدة مئات من كل جانب. وفي الحالات كلها تقريباً، وكانت المبادرة من قبل الثوار الذين كانوا يرغبون في الحصول على الأسلحة. وإذا كانت الأعمال العسكرية، قد بقيت صغيرةً! فإن الانتصارات الدعائية أتت مبكرة، وأخذت صفة عالمية، وتلاحقت بدون توقف. وجعل هربرت ماتيوس، مراسل النيويورك تايمز، من فيديل كاسترو اسماً مألوفاً في الولايات المتحدة ونشرت الدعاية أنباء أعماله في العالم قاطبة.
وكانت لهذه الأعمال العسكرية الصغيرة انعكاسات سياسية واقتصادية ضخمة: حظر الأسلحة على حكومة باتيستا، وتقييد التوظيفات والقروض مما خلق ضغطاً شديداً على النظام، لم يلبث أن سبّب نقص النشاط وانعدام ثقة الإدارة. وكانت نتيجة هذين الانعكاسيين، جعل الجيش عاجزاً، في وقت كانت غالبية جنوده لم تسمع قط طلقة واحدة.
وكان فساد نظام باتيستا مماثلاً لعجزه. وعندما سقط، بدا وكأن سقوطه ناجم من ذاته وبسبب الضعف. أما الصحافيون الأجانب الذين كانوا يتابعون المسألة، فقد قدَّروا بأن حفنة ملتحي كاسترو المسلحين لم يساهموا في إسقاط النظام إلا على مستوى الدعاية.
ففي البداية احتقر باتيستا تلك العصبة من المغامرين السياسيين، المعزولين نهائياً في السييرا ماسترا النائية. وبعد إجرائه المحاولات الأولى التي نُفذت بدون قناعة قوية، من أجل طردهم من الجبال، مال إلى التفكير بأنه لا خطر هناك إذا تخلى لكاسترو عن إقليم ناء، وعر، (قليل السكان)، وليس له أية قيمة اقتصادية ولقد تواجدت قبل ذلك عصابات مضادة للنظام في السييرا، وحظيت بقليل من الاهتمام، وسببت ضرراً محدوداً. أما الدعاية التي أثارتها في هذا النطاق، فلقد انطفأت بسرعة، هكذا أجري باتيستا محاكمته العقلية بدون شك، معتقداً أن الجوع سيطرد المغامرين مع الزمن من باتيستا محاكمته العقلية بدون شك، معتقداً أن الجوع سيطرد المغامرين مع الزمن من جحرهم، أو أنهم سيسأمون من حملة عقيمة.
ثم وصل إلى التفكير فيما بعد، بأنه بالغ في تجاهل أهمية التهديد، فأصبح يرى الثوار في كل مكان، حتى حيث لم يكن لهم وجود.
وبحيازته لقاعدته الجبلية، استطاع كاسترو تجنيد قوة غير نظامية كبيرة إلى حد ما، ونجح في أن يجعلها تبدو أكثر ثقلاً مما هي عليه، فشكلت دوريات سريعة الحركة، لا يتعدى تعدادها غالباً ستة أناس، وأخذت هذه الدوريات بالظهور في عدة أمكنة وفي وقت واحد، موسعة بذلك حقل عدم الأمن.
وفي آذار 1958، أعلن كاسترو بأسلوب بليغ ( الحرب الشاملة )، وكشف عن أرتال تسعي إلى أهدافها الجوهرية في الجزيرة كلها. وتصرف جيش باتيستا إزاء ذلك وكأنه أمام اجتياح. ولم تكن لديه أي وسيلة ليعلم بأن هذه ( الأرتال ) لا تعدُّ بمجملها أكثر من مائتي رجل، وإن ما يدعى ( بالجبهة الثانية ) التي أُعلن عنها في ذلك الحين، كانت قد افتتحت في شمالي ( أورينت ) بخمسة وستين من ثوار العصابات، كان أكثر أسلحتهم قوة رشاش - براونينغ – 30.
وكان باتيستا قد دفع في بداية التمرد خمسة آلاف جندي إلى سييرا مايسترا ليضربوا نطاقاً حول المنطقة ويبيدوا الأنصار. ولكن طول السييرا أكثر من مائة وخمسين كيلومتراً من الشرق إلى الغرب، ويتراوح عرضها من خمسة وعشرين إلى أربعين كيلومتراً، وتكفي عملية حسابية بسيطة لتبرهن عن عدم كفاية القوات، وحتى لو ضوعف العدد، فإن المهمة ستبقى مستحيلة.
ولقد استُعملت الطائرات ، لكن كثافة ورطوبة النبت ( كما نوّه كاسترو )، حصرت أثر قنابل النابالم والقنابل المتفجرة لأقل من خمسين متراً. وحتى لو عرفت القاذفات بدقة مكان الثوار – وذلك لم يحدث – لما سببت لهم أذى كبيراً.. والحقيقة أنها لم تلحق الأذى إلا بأكواخ بين سكان الجبال، الذين يقطنون الفرحات المزروعة من الغابة.
وأصبحت السييرا بسرعة أول المناطق الحرة للثورة، وكُرّست السنة الأولى من الثورة لتنظيم قاعدة صغيرة – مشاغل لصناعة البزات النظامية والتجهيزات وأدوات التفجير البدائية، ولتصليح الأسلحة، وتحضير الأغذية المعلبة... إلخ – ولإجراء عملية التبشير بين سكان المقاطعة.
وجاءت مناوشة المناطق المتاخمة واعتراض دوريات الجيش كنتيجة طبيعية لوجود القاعدة. وكانت هذه العمليات سهلة نسبياً، وبفضل تعاون السكان الريفيين أصبح ثوار العصابات أكثر حصولاً على المعلومات من الخصم، ولم تستطع أية دورية عسكرية الاقتراب من الفيدليين إلى مسافة تقل عن بضعة كيلومترات.
وكان من أول أعمال كاسترو عند وصوله إلى السييرا، تنفيذ حكم الإعدام بمجرمين متهمين بالاغتصابات والقتل. فأقام بذلك، وبشكل مأساوي، حكومة ثورية، لها قانونها الذي يمكن أن يعتبر عنصر استقرار، في منطقة كانت دائماً مهملة من قبل حكومة ( هافانا.
أما الإجراء التالي الذي أكسبه أنصاراً سياسيين ومتطوعين، فقد تمثل في إصدار قانون للإصلاح الزراعي، جعل من المزارعين والعمال الزراعيين ومستأجري الأراضي مالكين لما يستغلون.
وقد اتبع التكتيك نفسه على الهضاب التي تقطنها كثافة سكانية أكبر، وحيث توجد مزارع البن الغنية فلقد افتتح راؤول كاسترو في هذه الهضاب ما سُمي ( بالجبهة الثانية )، فرانك بايس، وفُرض فيها قانون، وجبيت منها ضرائب، ومُنحت بعض الامتيازات ( مدارس ومستشفيات )، ودفعت أثمان المشتريات نقداً وبكل عناية. ولقد عومل القرويون كما يعاملون من قبل أية حكومة، إلا أنهم خضعوا إلى توجيه سياسي مكثف وطلب منهم الانضمام الكامل إلى الثورة وأهدافها.
ولقد أبيدت بسرعة المراكز العسكرية القليلة، المؤلفة من بعض الرجال. فلم تعد تشكل عائقاً ( للجيش ) المؤلف من خمسة وستين نصيراً بقيادة راؤول كاسترو، الذي صار بإمكانه تركيز الجهد على هدف واحد.
وأرسلت أرتال حكومية، ونصب لها ثوار العصابات الكمائن، عندما دخولها، وتركوها تمر، ثم هاجموها من جديد عند عودة. وكان الثوار يتفرقون في الجبل عندما يتعرضون للمطاردة، ثم يجتمعون في مكان آخر، ويعودون إلى القرى بعد انسحاب القوات الحكومية. وبعد عدة أسابيع، تعب الجيش من أرسال الدوريات، واكتفى بتقوية الحاميات داخل التجمعات السكنية، الواقعة على حافة الأقليم الحر. ولكن عندما ازداد عدد الأنصار عن طريق التطويع الداخلي، وتحسن اقتصادهم، اضطرت الحكومة إلى أنقاض هذه الحاميات داخل التجمعات السكنية، الواقعة على حافة الأقليم الحر. لكن عندما ازداد عدد الأنصار عن طريق التطويع الداخلي، وتحسن اقتصادهم، اضطرت الحكومة إلى أنقاض هذه الحاميات لأسباب أمنية. فلقد أصبح احتلال عشرات القرى والمزارع، والقيام بدور الشرطي على مساحة قدرها عدة آلاف من الكيلومترات المربعة، أمراً باهظ التكاليف، ويتطلب مصروفات كبيرة ووحدات كثيرة، فتركت القرى للثوار، وانسحب الجنود إلى المدن، وازدادت بالتالي مساحة الإقليم المحرر تدريجياً، ونشأت حوله منطقة منزوعة السلاح، حيث جرت مناوشات عدة، ثم تنازلت القوات الحكومية عن هذه المنطقة المحايدة قطعة إثر أخرى بعد أن رأت بأن الدفاع عنها يكلف غالياً جداً.
وبعد ثلاثة أشهر، ألفي الجيش نفسه عاجزاً عن حماية المناجم الأمريكية الكبرى للنيكل والكوبالت على التخم الغربي من ( الأورينت )، إلا في ساعات النهار. وقد سمح الثوار بتشغيل هذه المناجم لأسباب سياسية، لكنهم استعاروا منها العدة اللازمة لهم: عشرات من سيارات الجيب ومركبات النقل، ومعدات لشق طرقات جديدة وتحسين الطرق الموجودة.
وأقيم مخفر حراسة للثوار على عدة أمتار من مدخل القاعدة الأمريكية الكبرى في ( غوانتانامو ). وكان الأمريكيون قد مونوا طائرات باتيستا بالوقود وجهزوها بالصواريخ في مناسبة أخرى – رغم الحظر على الأسلحة. وأمسك ثوار راؤول كاسترو وبخمسين من البحارة ومن رجال مشاة البحرية الأمريكيين الذين كانوا يقومون برحلة، واستولى على عرباتهم ودخل بعض الثوار المنشآت المنجمية ومزرعة اختبارية تابعة ( لشركة الفواكه المتحدة )، للقبض على عشرات المدراء والمهندسين.
وألفي باتيستا نفسه في وضع حرج، إذ عرف العالم لأول مرة بأن جزءاً كبيراً من أرضه خارج عن نطاق سيطرته.
والحقيقة أن قيام عدة مئات من الأنصار بتحدي الولايات المتحدة يعتبر درساً سياسياً قاسياً، واشتد على باتيستا كي يفعل ( شيئاً ما ). وبسبب الظروف فإن من المتعذر أن يرى المرء ماذا كان بوسع باتيستا أن يفعل، سوى إبادة السكان وإحراق قراهم.
وفي المرحلة الأخيرة، اتبع بعض القادة العسكريين سياسة الأرض المحروقة، ونفذوها لكن بعد فوات الأوان. ولقد أعدموا بعد ذلك واعتبروا كمجرمي حرب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق