20‏/12‏/2021

أسرار الصلاة 6

 أسرار الصلاة 6


الشروع في بيان ثمرات الخشوع

و لما اطمأن قلبه بذكر الله، و كلامه، و محبته و عبوديته سكن إلى ربه، و قرب منه، و قرَّت به عينه فنال الأمان بإيمانه و نال السعادة بإحسانه، و كان قيامه بهذين الأمرين أمراً ضرورياً له لا حياة له، و لا فلاح و لا سعادة إلا به .
و لما كان ما بُلي به من النفس الأمارة، و الهوى المقتضي لمرادها و الطباع المطالبة، و الشيطان المغوي، يقتضون منه إضاعة حظه من ذلك، أو نقصانه، اقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن شَرَعَ له الصلاة مُخلِفة عليه ما ضاع عليه من ذلك، رادَّة عليه ما ذهب منه، مجددة له ما ذهب من عزمه و ما فقده، و ما أخلِقَ من إيمانه، و جعل بين كل صلاتين برزخا من الزمان حكمة و رحمة، ليُجمّ نفسه، و يمحو بها ما يكتسبه من الدرن، و جعل صورتها على صورة أفعاله، خشوعاً و خضوعاً و انقياداً و تسليماً و أعطى كل جارحة من جوارحه حظَّها من العبودية، و جعل ثمرتها و روحها إقباله على ربه فيها بكليته، و جعل ثوابها و محلها الدخول عليه تبارك و تعالى، و التزين للعرض عليه تذكيراً بالعرض الأكبر عليه يوم القيامة.

لكل شيء ثمرة و ثمرة الصلاة الإقبال على الله
و كما أن الصوم ثمرته تطهير النفس، و ثمرة الزكاة تطهير المال، و ثمرة الحج وجوب المغفرة، و ثمرة الجهاد تسليم النفس إليه، التي اشتراها سبحانه من العباد، و جعل الجنة ثمنها ؛ فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، و إقبال الله سبحانه على العبد، و في الإقبال على الله في الصلاة جميع ما ذكر من ثمرات الأعمال و جميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيها.
و لهذا لم يقل النبي صلى الله عليه و سلم : جعلت قرة عيني في الصوم، و لا في الحج و العمرة، و لا في شيء من هذه الأعمال و إنما قال : " و جعلت قرة عيني في الصلاة ".

و تأمل قوله : " و جعلت قرة عيني في الصلاة " و لم يقل : " بالصلاة "، إعلاماً منه بأن عينه لا تقر إلا بدخوله كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه و تقر عين الخائف بدخول في محل أنسه و أمنه، فقرة العين بالدخول في الشيء أتم و أكمل مِن قرة العين به قبل الدخول فيه، و لما جاء إلى راحة القلب من تعبه و نصبه قال : " يا بلال أرحنا بالصلاة ".
لماذا الراحة بالصلاة ؟
أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إلى مأمنه و منزله و قرَّ فيه، و سكن و فارق ما كان فيه من التعب و النصب.
فالصلاة بستان له، يجد فيها راحة قلبه، و قرّة عينه، و لذَّة نفسه، و راحة جوارحه، و رياض روحه، فهو فيها في نعيم يتفكَّه، و في نعيم يتقلَّب يوجب له القرب الخاص و الدنو، و المنزلة العالية من الله عزَّ و جل، و يشارك الأولين في ثوابهم.

 من فوائد الصلاة القرب من الله
و لهذا تَعِدُ الملوك من أرضاهم بالأجر و التقريب، كما قال السحرة لفرعون : { إنَّ لَنَا لأَجراً إن كُنَّا نحنُ الغالبينَ} [الشعراء:41]، { قالَ نَعم و إنَّكم لَمنَ المُقرَّبين} [الأعراف : 114].
فوعدهم بالأجر و القرب، و هو علو المنزلة عنده.
فالأول : مَثَله مثل عبد دخل الدار، دار الملك، و لكن حيل بينه و بين رب الدار بسترٍ و حجاب، فهو محجوب من وراء الستر فلذلك لم تقر عينه بالنظر إلى صاحب الدار و النظر إليه ؛ لأنه محجوب بالشهوات، و غيوم الهوى و دخان النَفس، و بخار الأماني، فالقلب منه بذلك و بغيره عليل، و النفس مُكبَّة على ما نهواه، طالبة لحظها العاجل.
و القسم الآخر :مَثَلُهُ كمثلِ رَجُلٍ دخَل دار الملك، و رفع الستر بينه وبينه، فقرَّت عينه بالنظر إلى الملك، بقيامه في خدمته و طاعته، و قد أتحفه الملك بأنواع التحف، و أدناه و قربه، فهو لا يحب الانصراف من بين يديه، لما يجده من لذَّة القرب و قرة العين، و إقبال الملك عليه، و لذة مناجاة الملك، و طيب كلامه، و تذلله بين يديه، فهو في مزيد مناجاة، و التحف وافدة عليه مِن كلِّ جهة، و قد اطمأنت نفسه، و خشع قلبه لربه و جوارحه، فهو في سرورٍ و راحةٍ يعبد الله، كأنه يراه، و تجلَّى له في كلامه، فأشد شيء عليه انصرافه مِن بين يديه، و الله الموفق المُرشد المعين، فهذه إشارة و نبذة يسيرة الصلاة، و سرّ من أسرارها و تجلٍّ من تجلياتها.



أسرار الصلاة 5

 أسرار الصلاة 5


سنن الآذان الخمس
و نظير هذا ما شرع لمن سمع الآذان :
أن يقول كما يقول المؤذن.
و أن يقول رضيت بالله ربا، و بالإسلام دينا، و بمحمد رسولاً.
و أن يسأل الله لرسوله الوسيلة و الفضيلة، و أن يبعثه المقام المحمود.
ثم ليصل عليه .
ثم يسأل حاجته.
فهذه خمس سنن في إجابة المؤذن لا ينبغي الغفلة عنها.



فصلٌ

سرّ الصلاة الإقبال على الله
و سرُّ الصلاة و روحها و لبُّها، هو إقبال العبد على الله بكليّته فيها، فكما أنه لا ينبغي أن يصرف وجهه عن القبلة إلى غيرها فيها، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربِّه إلى غيره فيها.
بل يجعل الكعبة ـ التي هي بيت الله ـ قبلة وجهه و بدنه، و رب البيت تبارك و تعالى قبلة قلبه و روحه، و على حسب إقبال العبد على الله في صلاته، يكون إقبال الله عليه، و إذا أعرضَ أعرض الله عنه، كما تدين تُدان.

للإقبال على الله في الصلاة ثلاث منازل
و الإقبال في الصلاة على ثلاثة منازل:
*إقبال العبد على قلبه فيحفظه و يصلحه من أمراض الشهوات و الوساوس، و الخطرات المُبطلة لثواب صلاته أو المنقصة لها.
* و الثاني : إقباله على الله بمراقبته فيها حتى يعبده كأنه يراه.
*و الثالث : إقباله على معاني كلام الله، و تفاصيله و عبودية الصلاة ليعطيها حقها من الخشوع و الطمأنينة و غير ذلك.
فباستكمال هذه المراتب الثلاث يكون قد أقام الصلاة حقاً، و يكون إقبال الله على المصلي بحسب ذلك.
كيف يكون الإقبال في كل جزء من أجزاء الصلاة؟
فإذا انتصب العبد قائماً بين يديه، فإقباله على قيُّومية الله و عظمته فلا يتفلت يمنة و لا يسرة.
و إذا كبَّر الله تعالى كان إقباله على كبريائه و إجلاله و عظمته.

و كان إقباله على الله في استفتاحه على تسبيحه و الثناء عليه و على سُبحات وجهه، و تنزيهه عمَّا لا يليق به، و يثني عليه بأوصافه و كماله.
فإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، كان إقباله على ركنه الشديد، و سلطانه و انتصاره لعبده، و منعه له منه و حفظه من عدوه.
و إذا تلى كلامه كان إقباله على معرفته في كلامه كأنه يراه و يشاهده في كلامه، فهو في هذه الحال ينبغي له أن يكون مقبلاً على ذاته و صفاته و أفعاله و أمره و نهيه و أحكامه و أسمائه.
و إذا ركع كان إقباله على عظمة ربه، و إجلاله و عزه و كبريائه، و لهذا شرع له في ركوعه أن يقول :

 " سبحان ربي العظيم " .
فإذا رفع رأسه من الركوع كان إقباله على حمد ربه و الثناء عليه و تمجيده و عبوديته له و تفرده بالعطاء و المنع.
فإذا سجد، كان إقباله على قربه، و الدنو منه، و الخضوع له و التذلل له، و الافتقار إليه و الانكسار بين يديه، و التملق له.
فإذا رفع رأسه من السجود جثى على ركبتيه، و كان إقباله على غنائه وجوده، و كرمه و شدة حاجته إليه، و تضرعه بين يديه و الانكسار ؛ أن يغفر له و يرحمه، و يعافيه و يهديه و يرزقه.

فإذا جلس في التشهد فله حال آخر، و إقبال آخر يشبه حال الحاج في طواف الوداع، و استشعر قلبه الانصراف من بين يدي ربه إلى أشغال الدنيا و العلائق و الشواغل التي قطعه عنها الوقوف بين يدي ربه و قد ذاق قلبه التألم و العذاب بها قبل دخوله في الصلاة، فباشر قلبه روح القرب، و نعيم الإقبال على الله تعالى، و عافيته منها و انقطاعها عنه مدة الصلاة، ثم استشعر قلبه عوده إليها بخروجه من حمى الصلاة، فهو يحمل همَّ انقضاء الصلاة و فراغه منها و يقول : ليتها اتصلت بيوم اللقاء.
و يعلم أنه ينصرف من مناجاة مَن كلّ السعادة في مناجته، إلى مناجاة من كان الأذى و الهم و الغم و النكد في مناجاته، و لا يشعر بهذا و هذا إلا من قلبه حي معمور بذكر الله و محبته، و الأنس به، و من هو عالم بما في مناجاة الخلق و رؤيتهم، و مخالطتهم من الأذى و النكد، و ضيق الصدر و ظلمة القلب، و فوات الحسنات، و اكتساب السيئات، و تشتيت الذهن عن مناجاة الله تعالى عز و جل .
الكلام على التسليم
و لما كان العبد بين أمرين من ربه عز و جل :
أحدهما : حكم الرب عليه في أحواله كلها ظاهرا و باطنا، و اقتضاؤه من القيام بعبودية حكمه، فإن لكلّ حكم عبودية تخصه، أعني الحكم الكوني القدري.
و الثاني : فعل، يفعله العبد عبودية لربه، و هو موجب حكمه الديني الأمري.
و كلا الأمرين يوجبان بتسليم النفس إلى الله سبحانه، و لهذا اشتق له اسم الإسلام من التسليم، فإنه لما سلّم لحكم ربه الديني الأمري، و لحكمه الكوني القدري، بقيامه بعبودية ربه فيه لا باسترساله معه في الهوى، و الشهوات، و المعاصي، و يقول : قدَّر عليّ استحق اسم الإسلام فقيل له : مسلم.

أسرار الصلاة 4

 أسرار الصلاة 4


عبودية التأمين و رفع اليدين
و شرع له التأمين في آخر هذا الدعاء تفاؤلاً بإجابته، و حصوله، و طابعاً عليه، و تحقيقاً له، و لهذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمين عليه حين سمعُوهم يجهرون به في صلاتهم.

ثم شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيما لأمر الله، و زينةً للصلاة، و عبودية خاصةً لليدين كعبودية باقي الجوارح، و اتباعاً لسنَّة رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو حليةُ الصلاة، و زينتها و تعظيمٌ لشعائرها.
ثم شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من رُكن إلى ركن، كالتلبية في انتقالات الحاجِّ، من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة، كما أن التلبية شعار الحج،(مميز ليعلم أن سر الصلاة هو تعظيم الرب تعالى و تكبيره بعبادته وحده. )
عبودية الركوع
ثم شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعاً لعظمة ربه، و استكانة لهيبته و تذللا لعزته.
فثناء العبد على ربه في هذا الركن ؛ هو أن يحني له صلبه، و يضع له قامته، و ينكس له رأسه، و يحني له ظهره، و يكبره مُعظماً له، ناطقاً بتسبيحه، المقترن بتعظيمه.
فاجتمع له خضوع القلب، و خضوع الجوارح، و خضوع القول على أتم الأحوال، و يجتمع له في هذا الركن من الخضوع و التواضع و التعظيم و الذكر ما يفرق به بين الخضوع لربه، و الخضوع للعبيد بعضهم لبعض، فإنَّ الخضوع وصف العبد، و العظمة وصف الرب .
و تمام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع، و يتضاءل لربه، بحيث يمحو تصاغره لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه، و لخلقه و يثبت مكانه تعظيمه ربه وحده لا شريك له .
إذا عظَّم القلب الرب خرج تعظيم الخلق
و كلما استولى على قلبه تعظيم الربِّ، و قوى خرج منه تعظيم الخلق، و ازداد تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات، و القصد و الجوارح بالتبع و التكملة.
ثم شرع له أن يحمد ربه، و يثني عليه بآلائه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إلى أحسن هيئاته، منتصب القامة معتدلها فيحمد ربه و يثني عليه بآلائه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إلى أحسن تقويم، بأن وفقه و هداه لهذا الخضوع الذي قد حرمه غيره.
عبودية القيام

ثم نقله منه إلى مقام الاعتدال و الاستواء، واقفا في خدمته، بين يديه كما كان في حالة القراءة في ذلك، و لهذا شرع له من الحمد و المجد نظير ما شرع له من حال القراءة في ذلك.
و لهذا الاعتدال ذوقٌ خاص و حال يحصل للقلب، و يخصه سوى ذوق الركوع و حاله، و هو ركنٌ مقصود لذاته كركن الركوع و السجود سواء.
و لهذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يُطيلُه كما يطيل الركوع و السجود، و يُكثر فيه من الثناء و الحمد و التمجيد، كما ذكرناه في هديه صلى الله عليه و سلم في صلاته و كان في قيام الليل يُكثر فيه من قول : " لربي الحَمد، لربي الحمد " و يكرِّرها.
عبودية السجود
ثم شرع له أن يكبر و يدنو و يخرَّ ساجدا، و يُعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظَّه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه، مسندة راغما له أنفه، خاضعا له قلبه، و يضع أشرف ما فيه ـ و هو وجهه ـ بالأرض و لاسيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدا على الأرض معفِّراً له وجهه و أشرف ما فيه بين يدي سيِّده، راغماً أنفه، خاضعاً له قلبه و جوارحه، متذلِّلاً لعظمة ربه، خاضعاً لعزَّته، منيباً إليه، مستكيناً ذلاً و خضوعاً و انكساراً، قد صارت أعاليه ملويةً لأسافله.
و قد طابق قلبُه في ذلك حال جسده، فسجد القلب للرب كما سجد الجسد بين يدي الله، و قد سجد معه أنفه و وجهه، و يداه و ركبتاه، و رجلاه فهذا العبد هو القريب المقرَّب فهو أقرب ما يكون من ربه و هو ساجد .
و شرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه، و بطنه عن فخذيه و عَضُديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من الخضوع لا يحملَ بعضه بعضاً .
فأحرِ به به في هذه الحال أن يكون أقرب إلى ربه منه في غيرها من الأحوال كلِّها، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : " أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربَّه و هو ساجدٌ ".[رواه مسلم (482) عن أبي هريرة رضي الله عنه ].

و لما كان سجود القلب خضوعه التام لربّه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم القيامة،

الصلاة مبناها على خمسة أركان
قال : " أي و الله سجدةً لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله عزَّ و جل ".[هذا القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد الله التستري كما في مجموع الفتاوى (21/287) (23/138) ]
إشارة إلى إخبات القلب، و ذلّه، و خضوعه، و تواضعه و إنابته و حضوره مع الله أينما كان، و مراقبته له في الخلاء و الملأ، و لما بنيت الصلاة على خمس : القراءة و القيام و الركوع و السجود و الذكر .
سمّيت باسم كل واحد من هذه الخمس :
فسمّيت " قياماً " لقوله : { قُم اللَّيل إلاَّ قليلاً} [ المزمل :2]، و قوله : {وقُومُوا لله قانتين} [البقرة :238].
و "قراءة" لقوله : {وقرآن الفَجر إنَّ قُرآن الفَجر كان مشهُوداً} [الإسراء :78]، {فاقرءوا ما تيَسَّر منه } [المزمل :48].
و سمّيت " ركوعاً " لقوله : { و اركعُوا مع الرَّاكعين } [ البقرة :43]، { و إذا قيل لهم اركعوا لا يركعُون}[المراسلات :48].
و " سجوداً " لقوله : { فسبِّح بحمد ربِّك و كن مّن السَّاجدين} [ الحجر : 98]، وقوله { و اسجُد و اقترب} [العلق :19].
و "ذكراً " لقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله} [ الجمعة :9]، { لا تُلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله } [ المنافقون :9].
و أشرف أففعالها السجود، و أشرف أذكارها القراءة، و أول سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه و سلم سورة { اقرأ باسم ربِّك } افتتحت بالقراءة، و خُتمت بالسجود، فوضعت الركعة على ذلك، أولها قراءة و آخرها سجود.
حال العبد بين السجدتين

ثم شرع له أن يرفع رأسه، و يعتدل جالساً، و لما كان هذا الاعتدال محفوفا بسجودين ؛ سجود قبله، و سجود بعده، فينتقل من السجود إليه، ثم منه إلى السجود الآخر، كان له شأن، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يطيل الجلوس بين السجدتين بقدر السجود يتضرع إلى ربه فيه، و يدعوه و يستغفره، و يسأله رحمته، و هدايته و رزقه و عافيته، و له ذوق خاص، و حال للقلب غير ذوق السجود و حالهن ؛ فالعبد في هذا القعود يتمثَّل جاثيا بين يدي ربه، مُلقيا نفسه بين يديه، مُعتَذراً إليه مما جَناَه، راغباً إليه أن يغفر له و يرحمه، مستَعدياً له على نفسه الأمَّارة بالسوء.
لماذا الاستغفار بين السجدتين
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يكرر الاستغفار في هذه الجلسة فيقول : " رب اغفر لي، رب اغفر لي، رب اغفر لي "، و يكثر من الرغبة فيها إلى ربه.
فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله تعالى مستعديا على نفسه، معتذرا من ذنبه إلى ربه و مما كان منها، راغباً إليه أن يرحمه و يغفر له و يهديه و يرزقه و يعافيه، و هذه الخمس كلمات، قد جمعت جماع خير الدنيا و الآخرة فإن العبد محتاج بل مضطر إلى تحصيل مصالحه في الدنيا و في الآخرة، و دفع المضار عنه في الدنيا و الآخرة، و قد تضمّن هذا الدعاء ذلك كله.

فإن الرزق يجلب له مصالح دنياه و أخراه و يجمع رزق بدنه و رزق قلبه و روحه، و هو أفضل الرازقين.
و العافية تدفع مضارّها.
و الهداية تجلب له مصالح أخراه.
و المغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا و الآخرة.
و الرحمة تجمع ذلك كلّه. و الهداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها.
و شرع له أن يعودَ ساجداً كما كان، و لا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد ؛ و ذلك لفضل السجود و شرفه و قرب العبد من ربِّه و موقعه من الله عز و جل، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى ربه و هو ساجد، و هو أشهر في العبودية و أعرق فيها من غيره من أركان الصلاة ؛ و لهذا جُعل خاتمة الركعة، و ما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحلّه من الصلاة محل طواف الزيارة، و كما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك و هو طائف و لهذا و الله أعلم، جُعل الركوع قبل السجود تدريجا و انتقالاً من الشيء إلى ما هو أعلى منه.
لماذا يكرر السجود مرتان؟
و شُرع له تكرير هذه الأفعال و الأقوال ؛ إذ هي غذاء القلب و الروح التي لا قوام لهما إلا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل لقمة بعد لقمة حتى يشبع، و الشرب نفسا بعد نفس حتى يَروى، فلو تناول الجائع لقمة واحدة ثم دفع الطعام من بين يديه فماذا كانت تغني عنه تلك اللقمة ؟ و ربما فتحت عليه باب الجوع أكثر مما به؛ و لهذا قال بعض السلف : " مثل الذي يصلي و لا يطمئن في صلاته كمثل الجائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين ماذا تغني عنه ذلك".

و في إعادة كل قول أو فعل من العبودية و القرب، و تنزيل الثانية منزلة الشكر على الأولى، و حصول مزيد خير و إيمان من فعلها، و معرفة و إقبال و قوة قلب، و انشراح صدر و زوال درنٍ و وسخٍ عن القلب بمنزلة غسل الثوب مرَّة بعد مرَّة .
فهذه حكمة الله التي بَهَرت العقول حكمته في خلقه و أمره، و دلَّت على كمال رحمته و لطفه، و ما لم تحط به علماً منها أعلى و أعظم و أكبر و إنما هذا يسير من كثير منها.
فلما قضى صلاته و أكملها و لم يبق إلا الانصراف منها، فشرع الجلوس في آخرها بين يدي ربه مُثنياً عليه بما هو أهله، فأفضل ما يقول العبد في جلوسه هذه التحيات التي لا تصلح إلا لله، و لا تليق بغيره.
عبودية الجلوس للتشهد و معنى التحيات
و كان الملك الحق المبين، الذي كل شيء هالك إلا وجهه سبحانه أولى بالتحيات كلِّها من جميع خلقه، و هي له بالحقيقة و هو أهلها ؛ و لهذا فُسرت التحيات بالملك، و فسرت بالبقاء و الدوام، و حقيقتها ما ذكرته.

عطف الصلوات و الطيبات
ثم عطف عليها الصلوات بلفظ الجمع و التعريف ؛ ليشمل ذلك كلّما أُطلق عليه لفظ الصلاة خصوصا و عموماً، فكلّها لله و لا تنبغي إلا له،فالتحيات له ملكاً، و الصلوات له عبودية و استحقاقاً، فالتحيات لا تكون إلا لله، و الصلوات لا تنبغي إلا له .
ثم عطف عليها بالطيِّبات، و هذا يتناول أمرين : الوصف و الملك.
فأما الوصفُ : فإنه سبحانه طيِّب، و كلامه طيِّبٌ، و فعله كلّه طيب، و لا يصدر منه إلا طيّب، و لا يضاف إليه إلا الطيِّب، و لا يصعد إليه إلا الطيّب.
معنى الطيِّبات

فالطيبات له وصفاً و فعلاً و قولاً و نسبةً، و كلّ طيّب مضاف إليه طيّب، و أيضا فمعاني الكلمات الطيبات لله وحده، فإنها تتضمن تسبيحه، و تحميده، و تكبيره، و تمجيده، و الثناء عليه بالآئه و أوصافه ؛ فهذه الكلمات الطيبات التي يثنى عليه بها، و معانيها له وحده لا شريك له : كسبحانك اللهمَّ و بحمدك وتبارك اسمك و تعالى جدك و لا إله غيرك.
و كسبحان الله و الحمد لله، و لا إله إلا الله، و الله أكبر.
و سبحان الله و بحمده، سبحان الله العظيم، و نحو ذلك . و كلّ طيّب له و عنده و منه و إليه، و هو طيّب لا يقبل إلا طيّباً، و هو إله الطيبين و ربهم، و جيرانه في دار كرامته، هم الطيبون.
أطيب الكلام بعد القرآن
فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن، كيف لا تنبغي إلا لله ؟ و هي : سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوة إلا بالله، فإن " سبحان الله " تتضمن تنزيهه عن كل نقص و عيب و سوء عن خصائص المخلوقين و شبههم.
و " الحمد لله " تتضمن إثبات كلّ كمال له قولاً، و فعلاً، و وصفاً على أتمِّ الوجوه، و أكملها أزلاً و أبداً .
و " لا إله إلا الله " تتضمن انفراده بالإلهية، و أن كل معبود سواه باطل، و أنه وحده الإله الحق، و أن من تأله غيره فهو بمنزلة من اتخذ بيتاً من بيوت العنكبوت، يأوي إليه، و يسكنه من الحرِّ و البرد، فهل يغني عنه ذلك شيئاً .
و " الله أكبر " تتضمن أنه أكبر من كلِّ شيء، و أجل، و اعظم، و أعز و أقوى و أمنع، و أقدر، و اعلم، و أحكم، فهذه الكلمات لا تصح هي و معانيها إلا لله وحده.
عبودية التَّسليم على الأنبياء و الصالحين

ثم شرع له أن يسلِّم على سائر عباد الله الصالحين، و هم عباده الذين اصطفى بعد الثناء، و تقديم الحمد لله فطابق ذلك قوله : { قُل الحمدُ للهِ و سلامٌ على عباده الذين اصطفى}[النمل :59]، و كأنه امتثال له، و أيضا فإن هذا تحية المخلوق فشرعت بعد تحية الخالق و قدم في هذه التحية أولى الخلق بها و هو النبي صلى الله عليه و سلم، الذي نالت أمته على يده كل خير، و على نفسه، و بعده و على سائر عباد الله الصالحين، و أخصهم بهذه التحية الأنبياء و الملائكة، ثم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم، و أتباع الأنبياء مع عمومها كل عبد صالح في السماء و الأرض.
ثم شرع له بعد هذه التحية السلام على من يستحق السلام عليه خصوصاً و عموماً.
معنى الشهادتين في التحيات
ثم شرع له أن يشهد شهادة الحق التي بنيت عليها الصلاة، و الصلاة حق من حقوقها، و لا تنفعه إلا بقرينتها و هي الشهادة للرسول صلى الله عليه و سلم بالرسالة، و ختمت بها الصلاة فجعلت شهادة الحق خاتمة الصلاة . كما شرع أن تكون هي خاتمة الحياة.
"فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ".
و كذلك شرع للمتوضئ أن يختتم وضوءه بالشهادتين، ثم لما قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجته.
الصلاة على النبيِّ
و شرع له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم، فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء، كما في السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : "إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، و الثناء عليه، و ليصل على رسوله ثم ليسل حاجته".
ثم جعل الدعاء لآخر الصلاة كالختم عليها.

فجاءت التحيات على ذلك، أولها حمدٌ لله، و الثناء عليه ثم الصلاة على رسوله ثم الدعاء آخر الصلاة، و أَذِنَ النبي صلى الله عليه و سلم للمصلي بعد الصلاة عليه أن يتخير من المسألة ما يشاء.

أسرار الصلاة 3

 أسرار الصلاة 3


من معاني الحمد
و حمده تعالى قد ملأ الدنيا و الآخرة، و السموات و الأرض، و ما بينهما و ما فيهما، فالكون كلّه ناطق بحمده، و الخلق و الأمر كلّه صادر عن حمده، و قائم بحمده، و وجوده و عدمه بحمده، فحمدُه هو سبب وجود كل شيء موجود، و هو غاية كل موجود، و كلّ موجود شاهد بحمده، فإرساله رسله بحمده، و إنزاله كتبه بحمده، و الجنة عُمِّرت بأهلها بحمده، و النَّار عُمِّرت بأهلها بحمده، كما أنَّها إنَّما وجدتا بحمده.
و ما أُطيع إلا بحمده، و ما عُصي إلا بحمده، و لا تسقط ورقة إلا بحمده، و لا يتحرك في الكون ذرَّة إلا بحمده، فهو سبحانه و تعالى المحمود لذاته، و إن لم يحمده العباد.
كما أنه هو الواحد الأحد، و إن لم يوحِّده العباد، و هو الإله الحقُّ و إن لم يؤلِّهه، سبحانه هو الذي حمِد نفسه على لسان الحامد كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : " إن الله تعالى قال على لسان نبيه : سَمعَ اللهُ لمن حَمِدَه".
فهو الحامدُ لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه هو الذي أجري الحمدَ على لسانه و قلبه، و أجراؤه بحمده فله الحمد كله، و له الملك كله، و بيده الخير كله، و إليه يرجع الأمر كله، علانيته و سره .
فهذه المعرفة نبذة يسيرة من معرفة عبودية الحمد، و هي نقطة من بحر لُجِّي من عبوديته.

و من عبوديته أيضا : أن يعلم أن حمده لربه نعمة مِنه عليه، يستحق عليها الحمد، فإذا حمده عليها استَّحق على حمده حمداً آخر، و هلَّم جرا.
فالعبد و لو استنفد أنفاسه كلّها في حمد ربه على نعمة من نعمه، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فوق ذلك، و أضعاف أضعافه، و لا يُحصي أحد البتّة ثناءً عليه بمحمده، و لو حمده بجميع المحامد فالعبد سائر إلى الله بكلِّ نعمة من ربِّه، يحمده عليها، فإذا حَمده على صرفها عنه، حمده على إلهامه الحمدُ.
قال الأوزاعي : " سمعت بعض قوَّال ينشد في حمامٍ لك الحمدُ إمّا على نعمةٍ و إمَّا على نقمة تُدفع".
و من عبودية الحمد : شهود العبد لعجزه عن الحمد، و أنَّ ما قام به منه، فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك، فهو محمود عليه، إذ هو الذي أجراه على لسانه و قلبه، و لولا الله ما اهتدى أحد.
و من عبودية الحمد : تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها و باطنها على ما يحب العبد منها و ما يكره، بل على تفاصيل أحوال الخلق كلّهم، برِّهم و فاجرهم، علويهم و سفليهم، فهو سبحانه المحمود على ذلك كلّه في الحقيقة، و إن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك، و ما يستحق الرب تبارك و تعالى من الحمد على ذلك و الحمد لله : هو إلهام من الله للعباد، فمستقل و مستكثر على قدر معرفة العبد بربه.
و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الشفاعة : " فأقع ساجداً فيلهمني الله محامد أحمده بها لم تخطر على بالي قط ".
عبودية {ربِّ العالمين}
ثم لقول العبد : : { ربِّ العالمين} من العبودية شهود تفرّده سبحانه بالربوبية وحده، و أنَّه كما أنه رب العالمين، و خالقهم، و رازقهم، و مدبِّر أمورهم، و موجدهم، و مغنيهم، فهو أيضا وحده إلههم، و معبودهم،و ملجأهم و مفزعهم عند النوائب، فلا ربَّ غيره، و لا إله سواه.
عنوان : عبودية { الرَّحمَن الرَّحيم}

و لقوله : { الرَّحمن الرَّحيم } عبودية تخصه سبحانه، و هي شهود العبد عموم رحمته.
و شمولها لكلّ شيء، و سعتها لكلِّ مخلوق و أخذ كلّ موجود بنصيبه منها، و لاسيما الرحمة الخاصَّة بالعبد و هي التي أقامته بين يدي ربه : أقم فلاناً ـ

ففى بعض الآثار أن جبرائيل يقول كل ليلة أقم فلانًا، و أنم فلانا فبرحمته للعبد أقامه في خدمته يناجيه بكلامه، و يتملقه و يسترحمه و يدعوه و يستعطفه و يسأله هدايته و رحمته، و تمام نعمته عليه دنياه و أخراه فهذا من رحمته بعبده، فرحمته وسعت كل شيء، كما أن حمده وسع كل شيء، و علمه وسع كل شيء، { ربَّنا وسعتَ كُلَّ شيء رَّحمة و علما} [ غافر :7]، و غيره مطرود محروم قد فاتته هذه الرحمة الخاصَّة فهو منفي عنها.
عنوان عبودية { مالكِ يومِ الدِّينِ}
و يعطى قوله { مالك يوم الدِّين } عبوديته من الذلِّ و الانقياد، و قصد العدل و القيام بالقسط، و كفَّ العبد نفسه عن الظلم و المعاصي، و ليتأمل ما تضمنته من إثبات المعاد و تفرَّد الربِّ في ذلك بالحكم بين خلقه، و أنه يومٌ يدين الله فيه الخلق بأعمالهم من الخير و الشر، و ذلك من تفاصيل حمده، و موجبه كما قال تعالى : { و قُضيَ بينَهم بالحقِّ و قيل الحمدُ لله ربِّ العالمين}[الزمر:75].
و يروى أن جميع الخلائق يحمدونه يومئذ أهل الجنة و أهل النار، عدلا و فضلا، و لما كان قوله {الحمد لله رب العالمين}.
إخبارا عن حمد عبده له قال : حمدني عبدي.
ما معنى ( الثناء ) (التمجيد)
و لما كان قوله { الرحمن الرحيم} إعادة و تكريرا لأوصاف كماله قال : " أثنى عليَّ عبدي "، فإنَّ الثناء إنَّما يكون بتكرار المحامد، و تعداد أوصاف المحمود، فالحمد ثناء عليه، و { الرحمن الرَّحيم } وصفه بالرحمة.

و لما وصف العبد ربه بتفرُّده بملك يوم الدين و هو الملك الحق، مالك الدنيا و الآخرة ؛ و ذلك متضمِّن لظهور عدله، و كبريائه و عظمته، و وحدانيته، و صدق رُسله، سمَّى هذا الثناء مجداً فقال : " مجَّدني عبدي " فإن التمجيد هو : الثناء بصفات العظمة، و الجلال، و العدل، و الإحسان .
عبودية { إيَّاك نعبدُ }
فإذا قال : { إيَّاك نعبدُ و إيَّاك نستعين } انتظر جواب ربه له : " هذا بيني و بين عبدي، و لعبدي ما سأل ".
و تأمل عبودية هاتين الكلمتين و حقوقهما، و ميِّز الكلمة التي لله سبحانه و تعالى، و الكلمة التي للعبد، و فِقهِ سرَّ كون إحداهما لله، و الأخرى للعبد، و ميِّز بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة { إيَّاك نعبدُ } و التوحيد الذي تقتضيه كلمة { و إيَّاك نستعين }، و فِقهَ سرَّ كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما، و الدعاء بعدهما، و فِقه تقديم { إياك نعبد } على { و إياك نستعين }، و تقديم المعمول على العامل مع الإتيان به مؤخراً أوجز و أخضر، و سرَّ إعادة الضمير مرَّة بعد مرة .
تقديم العبادة على الاستعانة
قلت : أراد تقديم العبادة ـ و هي العمل ـ على الاستعانة، فالعبادة لله و الاستعانة للعبد، فالله هو المعبود، و هو المستعان على عبادته، فإياك نعبد ؛ أي إياك أريد بعبادتي، و هو يتضمن العمل الصالح الخالص، و العلم النافع الدال على الله، معرفة و محبة، و صدقا و إخلاصاً، فالعبادة حق الرب تعالى على خلقه، و الاستعانة تتضمن استعانة العبد بربه على جميع أموره، و هي القول المتضمن قسم العبد.
فكل عبادة لا تكون لله و بالله فهي باطلة مضمحلة، و كل استعانة
لا تكون بالله وحده فهي خذلانٌ و ذل.
و تأمل علم ما ينفع العباد و ما يدفع عنهم كل واحد من هاتين الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية نفعاً و دفعاً و كيف تدخل العبد هاتان الكلمتان في صريح العبودية.
القرآن مداره على هذه الكلمة

و تأمل عِلم كيف يدور القرآن كلّه من أوّله إلى آخره عليهما، و كذلك الخلق، و الأمر و الثواب و العقاب و الدنيا و الآخرة، و كيف تضمّنتا لأجلِّ الغايات، و أكمل الوسائل، و كيف أتى بهما بضمير المخاطب الحاضر، دون ضمير الغائب، و هذا موضوع يستدعي كتاباً كبيراً، و لولا الخروج عمَّا نحن بصدده لأوضحناه و بسطناه، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب : "مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد و إياك نستعين " و في كتاب " الرسالة المصرية ".
ضرورة العبد لقوله {اهدنا الصِّراط المُستقيم }
ثم ليتأمل العبد ضرورته و فاقته إلى قوله { اهدنا الصِّراط المُستقيم } الذي مضمونه معرفة الحق، و قصده و إرادته و العمل به، و الثبات عليه، و الدعوة إليه، و الصبر على أذى المدعو إليه فباستكمال هذه المراتب الخمس يستكمل العبد الهداية و ما نقص منها نقص من هدايته.
و لما كان العبد مفتقراً إلى هذه الهداية في ظاهره و باطنه، بل و في جميع ما يأتيه، و يذره من :
أنواع الهدايات التي يفتقر لها العبد
* أمور فعلها على غير الهداية علماً و عملاً و إرادة، فهو محتاج إلى التوبة منها و توبته منها هي من الهداية.
* و أمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها.
* و أمور قد هُدي إليها من وجهٍ دون وجهٍ، فهو محتاجٌ إلى تمام الهداية في كمالها على الهدى المستقيم، و أن يزداد هدى إلى هداه.
* و أمور هو محتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها.
* وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها اعتقاداً صحيحاً.
* و أمور يعتقد فيها خلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد الباطل، و تُثبت فيه ضدّه.
* و أمور من الهداية : هو قادر عليها، و لكن لم يخلق له إرادة فعلها، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة.

* و أمور منها : هو غير قادر على فعلها مع كونه مريد لها، فهو محتاج في هدايته إلى إقدار عليها.
* و أمور منها : هو غير قادر عليها و لا مريد لها، فهو محتاج إلى خلق القدرة عليها و الإرادة لها لتتم له الهداية.
* و أمور : هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادا و إرادة، و علما و عملاً، فهو محتاج إلى الثبات عليها و استدامتها، فكانت حاجته إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات، و فاقته إليها أشد الفاقات، و لهذا فرض عليه الرب الرحيم هذا السؤال على العبيد كلّ يوم و ليلة في أفضل أحواله، و هي الصلوات الخمسُ، مرات متعددة، لشدَّة ضرورته و فاقته إلى هذا المطلوب.
* ثم بيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب و أهل الضلال، و هم اليهود، و النصارى و غيرهم .
فانقسم الخلق إذن إلى ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية :
مُنعم عليه : بحصولها له و استمرارها و حظه من المنعم عليهم، بحسب حظه من تفاصيلها و أقسامها.
و ضالٌ : لم يُعطَ هذه الهداية و لم يُوفق لها .
و مغضوب عليه : عَرفها و لم يوفق للعمل بموجبها.
فالضال : حائد عنها، حائر لا يهتدي إليها سبيلا.
و المغضوب عليه : متحيّر منحرف عنها ؛ لانحرافه عن الحق بعد معرفته به مع علمه بها.
فالأول المنعم عليه قائم بالهدى، و دين الحق علما و عملاً و اعتقادا و الضال عكسه، منسلخ منه علماً و عملاً.
و المغضوب عليه لا يرفع فيها رأسا، عارف به علماً منسلخ عملاً، و الله الموفق للصواب.

أسرار الصلاة 2

 أسرار الصلاة 2


الكلام عن الوضوء
فبالوضوء يتطَّهر من الأوساخ، و يُقدم على ربِّه متطهرا، و الوضوء له ظاهر و باطن :
فظاهره : طهارة البدن، و أعضاء العبادة.
و باطنه و سرّه : طهارة القلب من أوساخ الذنوب و المعاصي و أدرانه بالتوبة ؛ و لهذا يقرن تعالى بين التوبة و الطهارة في قوله تعالى : { إن الله يحب التَّوابين و يحب المتطهرين }[ البقرة : 222] و شرع النبي صلى الله عليه و سلم للمتطهِّر أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول : "اللهم اجعلني من التوّابين، و اجعلني من المتطهرين " .
فكمَّل له مراتب العبدية و الطهارة، باطنا و ظاهرا، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، و بالتوبة يتطهر من الذنوب، و بالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة .
فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز و جل، و الوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرا و باطنا، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه و بذلك يخلص من الإباق.
و بمجيئه إلى داره، و محل عبوديته يصير من جملة خدمه، و لهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم و المستحبة عند آخرين.
من تمام العبودية الذهاب للمسجد

و العبد في حال غفلته كالآبق من ربه، قد عطّل جوارحه و قلبه عن الخدمة التي خُلق لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف التذلل و الانكسار، فقد استدعى عطف سيِّده عليه، و إقباله عليه بعد الإعراض عنه .
عبودية التكبير " الله أكبر ".
و أُمر بأن يستقبل القبلة ـ بيته الحرام ـ بوجهه، و يستقبل الله عز و جل بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي و الإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع المسكين المستعطف لسيِّده عليه، و ألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس، خاشع القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، طرفة عين، لا يمنة و لا يسرة، خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه.
و أقبل بكليته عليه، ثم كبَّره بالتعظيم و الإجلال و واطأ قلبه لسانه في التكبير فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء، و صدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله تعالى يشغله عنه، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره، كان ما اشتغل به هو أهم عنده من الله، و كان قوله " الله أكبر " بلسانه دون قلبه ؛ لأن قلبه مقبل على غير الله، معظما له، مجلاً، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير، أخرجه من لبس رداء التكبّر المنافي للعبودية، و منعه من التفات قلبه إلى غير الله، إذا كان الله عنده و في قلبه أكبر من كل شيء فمنعه حقّ قوله : الله أكبر و القيام بعبودية التكبير من هاتين الآفتين، اللتين هُما من أعظم الحُجب بينه و بين الله تعالى.
عبودية الاستفتاح
فإذا قال : " سبحانك اللهم و بحمدك" و أثنى على الله تعالى بما هو أهله، فقد خرج بذلك عن الغفلة و أهلها، فإن الغفلة حجاب بينه و بين الله.
و أتى بالتحية و الثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيما له و تمهيدا، و كان ذلك تمجيدا و مقدمة بين يدي حاجته.

فكان في الثناء من آداب العبودية، و تعظيم المعبود ما يستجلب به إقباله عليه، و رضاه عنه، و إسعافه بفضله حوائجه
حال العبد في القراءة و الاستعاذة
فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقامات العبد و أنفعها له في دنياه و آخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه، و انتفاعه دونه بالبدن و القلب، فإن عجز عن اقتطاعه و تعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه و عطَّله، و ألقى فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب تبارك و تعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه و ليحي قلبه، و يستنير بما يتدبره و يتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه، و نعيمه و فلاحه، فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.
و لما علم الله سبحانه و تعالى حَسَد العدو للعبد، و تفرّغه له، و علم عجز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه، و يلتجئ إليه في صرفه عنه، فيكتفي بالاستعاذة من مؤونة محاربته و مقاومته، و كأنه قيل له : لا طاقة لك بهذا العدو، فاستعذ بي أعيذك منه، و استجر بي أجيرك منه، و أكفيكه و أمنعك منه .
نصيحة ابن تيمية لابن القيِّم
و قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه و نوَّر ضريحه يومًا : إذا هاش عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته، و مدافعته، و عليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك الكلب، و يكفيكه.
فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنه .

فأفضى القلب إلى معاني القرآن، و وقع في رياضه المونقة و شاهد عجائبه التي تبهر العقول، و استخرج من كنوزه و ذخائره ما عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و كان الحائل بينه و بين ذلك، النفس و الشيطان، فإن النفس منفعلة للشيطان، سامعة منه، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها، و طُرد ألَّم بها الملَك، و ثبَّتها و ذكّرها بما فيه سعادتها و نجاتها.
فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه و مناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرّض لمقته و سخطه، بأن يناجيه و يخاطبه، و قلبه معرِض عنه، ملتفت، إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته، و يكون بمنزلة رجل قرَّبه ملك من ملوك الدنيا، و أقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك، و قد ولاَّه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة و يسرة، فهو لا يفهم ما يقول الملك، فما الظن بمقت الملك لهذا.
فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين و قيوم السماوات و الأرضين.
حال العبد في الفاتحة
فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة، ينتظر جواب ربِّه له، و كأنه يسمعه و هو يقول : " حمدني عبدي " إذا قال : { الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ}.
فإذا قال : { الرَّحمن الرَّحيم } وقفَ لحظة ينتظر قوله : " أثنى عليَّ عبدي ".
فإذا قال : {مالكِ يومِ الدِّينِ } انتظر قوله : " مجَّدني عبدي ".
فإذا قال : { إيَّاك نَعبدُ و إيَّاك نَستعين } انتظر قوله تعالى : " هذا بيني و بين عبدي ".
فإذا قال : {اهدِنا الصِّراط المُستقيم } إلى آخرها انتظر قوله : " هذا لعبدي و لعبدي ما قال ".
و مَن ذاق طعم الصلاة عَلِمَ أنه لا يقوم مقام التكبير و الفاتحة غيرهما مقامها، كما لا يقوم غير القيام و الركوع و السجود مقامها، فلكلٍّ عبوديه من عبودية الصلاة سرٌّ و تأثيرٌ و عبودية لا تحصل في غيرها، ثمَّ لكل آية من آيات الفاتحة عبودية و ذوق و وجد يخُصُّها لا يوجد في غيرها.

فعند قوله : { الحمد لله رب العالمين } تجد تحت هذه الكلمة إثبات كلّ كمال للرب و وصفا و اسما، و تنزيهه سُبحَانه و بحمده عن كلِّ سوء، فعلاً و وصفاً و اسماً، و إنما هو محمود في أفعاله و أوصافه و أسمائه، مُنزَّه عن العيوب و النقائص في أفعاله و أوصافه و أسمائه.
فأفعاله كلّها حكمة و رحمة و مصلحة و عدل و لا تخرج عن ذلك، و أوصافه كلها أوصاف كمال، و نعوت جلال، و أسماؤه كلّها حُسنى.

أسرار الصلاة

 أسرار الصلاة


أسرار الصَّلاة

للإمَام العلامَة أبي عَبد الله محمَّد بن أبي بَكر بن أيُّوب الزَّرعي الدِّمشقي الشَّهير بابن قيِّم الجَوزيَّة
691-751

اعتنى به
أبو عبد الله همَّام الجزائري
28/04/2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يسّر و أعن يا كريم
قال الإمام محمد بن أبي بكر بن القيِّم الجَوزية رحمه الله تعالى .
فصلٌ


الصلاة قرة عيون المحبين و هدية الله للمؤمنين

فاعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين، و لذة أرواح الموحدين، و بستان العابدين و لذة نفوس الخاشعين، و محك أحوال الصادقين، و ميزان أحوال السالكين، و هي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين .
هداهم إليها، و عرَّفهم بها، و أهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين، رحمة بهم، و إكراما لهم، لينالوا بها شرف كرامته، و الفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم، بل منَّة منه، و تفضَّلا عليهم، و تعبَّد بها قلوبهم و جوارحهم جميعا، و جعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين و أعظمهما ؛ و هو إقباله على ربِّه سبحانه، و فرحه و تلذذه بقربه، و تنعمه بحبه، و ابتهاجه بالقيام بين يديه، و انصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، و تكميله حقوق عبوديته ظاهرا و باطنا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه.

و لما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة و أشباهها، اقتضت تمام رحمته به و إحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان و التحف و الخلع و العطايا، و دعاه إليها كل يوم خمس مرَّات، و جعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة، لذة و منفعة و مصلحة و وقار لهذا العبد، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر، لتكمل لذة عبده في كل من ألوان العبودية و يُكرمه بكلِّ صنفٍ من أصناف الكرامة، و يكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفّرا لمذموم كان يكرهه بإزائه، و يثيبه عليه نورا خاصا، فإن الصلاة نور و قوة في قلبه و جوارحه و سعة في رزقه، و محبة في العباد له، و إن الملائكة لتفرح و كذلك بقاع الأرض، و جبالها و أشجارها، و أنهارها تكون له نورا و ثوابا خاصا يوم لقائه.
فيصدر المدعو من هذه المأدبة و قد أشبعه و أرواه، و خلع عليه بخلع القبول، و أغناه، و ذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة، قد ناله من الجوع و القحط و الجذب و الظمأ و العري و السقم ما ناله، فصدر من عنده و قد أغناه و أعطاه من الطعام و الشراب و اللباس و التحف ما يغنيه .
تشبيه القلب بالأرض
و لما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب، و قحطُ النفوس متوالياً عليها، جدّد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مُستسقيا، طالبا إلى من بيده غيثُ القلوب، و سَقيُها مستمطراً سحائب رحمته لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان، و كلأ الإحسان و عُشبه و ثماره، و لئلا تنقطع مادة النبات من الروح و القلب، فلا يزال القلب في استسقاء و استمطار هكذا دائما، يشكو إلى ربه جدبه، و قحطه، و ضرورته إلى سُقيا رحمته، و غيث برِّه، فهذا دأب العبد أيام حياته.

فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة، فالغفلة هي قحط القلوب و جدبها، و ما دام العبد في ذكر الله و الإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة و كثرة، فإذا تمكَّنت الغفلة منه، و استحكمت صارت أرضه خرابا ميتة، و سنته جرداء يابسة، و حريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائم.
فتصير أرضه بورا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات، و الثمار و غيرها، و إذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه و أعماله و ربت، و أنبتت من كلِّ زوج بهيج، فإذا ناله القحط و الجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها و خضرتها و لينها و ثمارها من الماء، فإذا منعت من الماء يبسَت عروقها و ذبلت أغصانها، و حُبست ثمارها، و ربما يبست الأغصان و الشجرة، فإذا مددت منها غصناً إلى نفسك لم يمتد، و لم ينْقَد لك، و انكسر، فحينئذ تقتضي حِكمة قيِّم البستان قَطع تلك الشجرة و جعلَها وقوداً للنار .
القلب ييبس إذا خلا من توحيد الله

فكذلك القلب، إنما يَيبس إذا خلا من توحيد الله و حبه و معرفته و ذكره و دعائه، فتصيبه حرارة النفس، و نار الشهوات، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها، و الانقياد إذا قُدتها، فلا تصلح بعدُ هي و الشجرة إلا للنَّار { فويلٌ للقاسية قُلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلال مُّبين} [الزمر :22]، فإذا كان القلب ممطورا بمطر الرحمة، كانت الأغصان ليِّنة مُنقادة رطبة، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك، و أقبلت سريعة لينة وادعة، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان و مادتها من رطوبة القلب و ريِّه، فالمادة تعمل عملها في القلب و الجوارح، و إذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البِّر ؛ لأن مادة القلب و حياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية، و لله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخُصُّه، و طاعة مطلوبة منها، خلقت لأجلها و هيئت لها .
الناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم
و الناس بعد ذلك ثلاثة أقسام :
أحدهما : من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له، و أريد منها، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة، و باع نفسه لله بأربح البيع.
و الصلاة وُضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعاً لقيام القلب بها و هذا رجلٌ عرَف نعمة الله فيما خُلق له من الجوارح و ما أنعم عليه من الآلاء، و النعم، فقام بعبوديته ظاهراً و باطناً و استعمل جوارحه في طاعة ربِّه، و حفظ نفسه و جوارحه عمَّا يُغضب ربه و يشينه عنده.
و الثاني : من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له، بل حبسها على المخالفات و المعاصي، و لم يطلقها، فهذا هو الذي خابَ سعيه، و خسرت تجارته، و فاته رضا ربَّه عزَّ و جل عنه، و جَزيل ثوابه، و حصل على سخطه و أليم عقابه.

و الثالث : مَن عطَّل جوارحه، و أماتها بالبطالة و الجهالة، فهذا أيضا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله،فإن العبد إنما خُلق للعبادة و الطاعة لا للبطالة .
و أبغض الخلق إلى الله العبد البطَّال الذي لا في شغل الدنيا و لا في سعي الآخرة.
بل هو كلّ على الدنيا و الدين، بل لو سعى للدنيا و لم يسع للآخرة كان مذموماً مخذولاً، و كيف إذا عطّل الأمرين، و إنَّ امرء يسعى لدنياه دائما، و يذهل عن أُخراه، لا شكَّ خاسر.
تمثيل لهذه الأصناف الثلاثة
فالرجل الأول، كرجل أُقطع أرضا واسعة، و أعين على عمارتها بآلات الحرث، و البذر و أعطي ما يكفيها لسقيها و حرثها، فحرثها و هيَّأها للزراعة، و بذر فيها من أنواع الغلات، و غرس فيها من أنواع الأشجار و الفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط، و لم يهملها بل أقام عليها الحرس، و حصنها من الفساد و المفسدين، و جعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منه، و يغرس فيها عوض ما يبس، و ينقي دغلها و يقطع شوكها، و يستعين بغلَّتها على عمارتها.
و الثاني : بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض، و جعلها مأوى السباع و الهوام، و موضعاً للجيف و الأنتان، و جعلها معقلا يأوي إليه فيها كل مفسد و مؤذٍ و لصٍّ، و أخذ ما أعين به من حرثتها و بذارها و صلاحها، فصرفه و جعله معونة و معيشة لمن فيها، من أهل الشرِّ و الفساد.
و الثالث : بمنزلة رجل عطَّلها و أهملها و أرسل الماء ضائعاً في القفار و الصحارى فقعد مذموماً محسوراً.
فهذا مثال أهل اليقظة، و أهل الغفلة، و أهل الخيانة.
أهل اليقظة و الغفلة الخيانة
فالأول : مثال أهل اليقظة، والاستعداد لما خلقوا له.
و الثاني : مثال أهل الخيانة.
و الثالث : مثال لأهل الغفلة .
فالأول : إذا تحرّك أو سَكَن، أو قام أو قعد، أو أكل أو شرب، أو نام، أو لبس، أو نطق، أو سكت كان كلِّه له لا عليه، و كان في ذكر و طاعةٍ و قربة و مزيد .

و الثاني : إذا فعل ذلك كان عليه لا له، و كان في طردٍ و إبعادٍ و خُسران .
و الثالث : إذا فعل ذلك كان في غفلة و بطالةٍ و تفريطٍ .
فالأول : يتقلَّب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة و القربة.
و الثاني : يتقلب في ذلك بحكم الخيانة و التعدِّي، فإن الله لم يملِّكه ما ملّكه ليستعين به على مخالفته، فهو جانٍ متعد خائن لله تعالى في نعمه عليه معاقبٌ على التنعُّم بها في غير طاعته.
و الثالث : يتقلب في ذلك و يتناوله بحكم الغفلة و الهوى و نهمة النفس و طبعها، لم يتمتع بذلك ابتغاء رضوان الله تعالى و التقرب إليه، فهذا خسرانه بيَّن واضح، إذ عطّل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح و التجارات .
فدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس، رحمة منه بهم، و هيأ لهم فيها أنواع العبادة ؛ لينال العبد من كلِّ قول و فعل و حركة و سكون حظه من عطاياه.
ما هو سرّ الصلاة ؟ و تمثيل لذلك

و كان سرُّ الصلاة و لُبها إقبال القلب فيها على الله، و حضوره بكلِّيته بين يديه، فإذا لم يقبل عليه و اشتغل بغيره و لهى بحديث نفسه، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه و مستمطرا سحائب جوده و كرمه و رحمته، مستطعما له ما يقيت قلبه، ليقوى به على القيام في خدمته، فلما وصل إلى باب الملك، و لم يبق إلا مناجته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا و شمالا، أو ولاه ظهره، و اشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك، و أقلّه عنده قدرا عليه، فآثره عليه، و صيَّره قلبة قلبه، و محلَّ توجهه، و موضع سرَّه، و بعث غلمانه و خدمة ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضا عنه و يعتذروا عنه، و ينوبوا عنه في الخدمة، و الملك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا، فكرم الملك وجوده و سعة برّه و إحسانه تأبي أن يصرف عنه تلك الخدم و الأتباع، فيصيبه من رحمته و إحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين، و بين الرضَّخ لمن لا سهم له : { و لكل درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعمالهم و هم لا يظلَمون }[الأحقاف :19]، و الله سبحانه و تعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه و اختصه له، و خلق كل شيء له، و من أجله كما في الأثر الإلهي : " ابن آدم خلقتك لنفسي، و خلقت كلِّ شيء لك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عمَّا خلقتك له " .
و في أثر آخر : " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب و تكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن و جدتني و جدت كلّ شيء، و إن فُتَّك فاتك كلّ شيء، و أنا أحب إليك من كلّ شيء".
و جعل سبحانه و تعالى الصلاة سببا موصلا إلى قُربه، و مناجاته، و محبته و الأنس به .
ما بين الصلوات الخمسة تحدث الغفلة

و ما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة و الجفوة و القسوة، و الإعراض و الزَّلات، و الخطايا، فيبعده ذلك عن ربه، و ينحّيه عن قربه، فيصير بذلك كأنه أجنبيا من عبوديته، ليس من جملة العبيد، و ربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره، و غلَّه، و قيَّده، و حبسه في سجن نفسه و هواه .
فحظه ضيق الصدر، و معالجة الهموم، و الغموم، و الأحزان، و الحسرات، و لا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمه ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة، مختلفة الأجزاء، و الحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد، و بحسب شدَّة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية .

21‏/06‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 57

 قوانين الطبيعة البشرية 57


 

الإنسان الكامل (المتصالح مع نفسه)

لا شك أننا في مسیرة حیاتنا نلتقي بأشخاص یبدو أحدهم مرتاحًا مع نفسه على نحو ممیز، وتظهر علیه سمات تعطینا هذا الانطباع: فهو قادر على السخریة من نفسه إذ یرتكب أخطاءه؛ وبإمكانه الاعتراف بنقائص طبعه، والإقرار بالأخطاء التي یرتكبها؛ ولدیه جانب مرح، یصل إلى التهور أحیانًا، وكأنه یحتفظ بقدر كبیر من الإنسان الطفل داخله؛ وبإمكانه القیام بدوره في الحیاة وقد نأى عنها بعض النأي ویمكن أن یكون أحیانًا عفویا على نحو خلاب.

إنه یلفت نظرنا إلى عِظَم صدق نفسه، فإذا كان أكثر الناس قد فقدوا كثیرًا من سماتهم الطبیعیة في طریقهم لیصبحوا بالغین اجتماعیین، فإن صادق النفس نجح بطریقة أو بأخرى في إبقاء تلك السمات حیةً فیه، مفعمةً بالنشاط؛ وبإمكانك تمییزه بسهولة بالصنف المضاد من الناس الذین یتصفون بأنهم سریعو الغضب، ومفرطو الحساسیة تجاه أي استخفاف بهم یلاحظونه، والذین یعطون الانطباع بأنهم غیر مرتاحین مع أنفسهم بقَدَر، وأن لدیهم شیئًا یخفونه، ونحن البشر خبراء في اكتشاف الاختلاف بین الصنفین؛ فبإمكاننا غالبًا أن نشعر بالناس من تصرفاتهم غیر الكلامیة؛ بإیماءاتهم المسترخیة والمتوترة، ونبراتهم المنسابة والمتلعثمة؛ أو من الطریقة التي تحدق بها أعینهم وتتركك تنظر إلیها؛ ومن الابتسامة الصادقة وانعدامها.

 

إلا أن هناك أمرًا أكیدًا؛ فنحن ننجذب انجذابًا كاملًا إلى صنف صادقي الأنفس، ونرفض الصنف المضاد، بلا وعي منا، والسبب في ذلك بسیط: إننا في سریرتنا نأسى على جزء الإنسان الطفل الذي فقدناه في طبعنا، فقدنا شعلة الاتقاد، وصفاء العفویة، وحدَّة الخبرة، وانفتاح العقل،وضعفت طاقتنا الإجمالیة من جراء ما فقدناه؛ فنجد عند من یشع بصدق النفس ما یلفتنا إلى احتمال آخر، هو أن نكون بالغین ناجحین في دمج الإنسان الطفل بالإنسان البالغ فینا، ودمج الجانب المعتم بالجانب المشرق، ودمج العقل الباطن بالعقل الواعي، فترانا نتوق للاقتراب منهم؛ لعل شیئًا من طاقتهم یؤثر فینا.

 

ویدلنا هذا الصنف من الناس على المسار الذي علینا أن نسلكه، وهو یرتكز إلى حدٍّ كبیر على

الوعي الذاتي، فإذا وعینا (ظلنا) فبإمكاننا التحكم به، وتوجیهه، ودمجه، وإذا علمنا ما فقدناه، أمكننا أن نعید الاتصال بذلك الجزء منا، الغارق في الظل.

 

ونذكر فیما یأتي أربع خطوات واضحة عملیة للوصول إلى تلك الغایة.

 

1-  شاهد ظلك: هذه هي الخطوة الأصعب في هذه العملیة، فالظل شيء ینكره المرء ویكبته، والأسهل علیه أن ینقِّب في الخصال المعتمة للآخرین، ویقدم فیها العظات، ویكاد یخالف طبیعته إذا نظر إلى هذا الجانب المعتم في نفسه، لكن تذكر أنك لن تكون إلا نصف إنسان، إذا أبقیت هذا الجانب مطمورًا فیك، فلتكن جسورًا مقدامًا في هذه العملیة.

وخیر طریقة تبدأ بها هي أن تبحث عن العلامات غیر المباشرة التي أشرنا إلیها في الفقرات السابقة؛ فعلى سبیل المثال: دوِّن ما تلاحظه في نفسك من سماتٍ وحیدة الجانب تلفت النظر إلیها بشدة، وافترض أن السمة المضادة كامنة مطمورة في أعماقك، ومن هذه النقطة، حاول أن ترى علامات لهذه السمة المضادة في تصرفاتك، وانظر في فوراتك العاطفیة، ولحظات شدة نزقك. فلا بد أن شخصًا أو شیئًا قد ضرب على الوتر الحساس عندك، وحساسیتك ما هي إلا ملاحظة أو تهمة فیك؛ على صورة قلق دفین؛ تشیر إلى اهتیاج خصلة الظل في أعماقك، فما علیك إلا أن تظهرها.

 

فانظر بتمعن في میولك في تسلیط عواطفك وخصالك المعتمة على من تعرفهم، أو حتى تسلیطها على جماعات بأكملها؛ فعلى سبیل المثال، لنفترض أنك تبغض بشدة الصنف النرجسي من الناس، أو أصحاب الغطرسة، فما یحدث فعلیا هو أنك ربما كنت تتفادى میولك النرجسیة، ورغبتك المستترة في أن تكون أكثر فرضًا لنفسك على الآخرین إثباتًا لنفسك على صورة الإنكار الشدید علیهم وبغضهم، فأنت حساس جدا للسمات المعتمة ومواطن الضعف في الآخرین، تلك التي تكتمها في نفسك. وانظر في لحظات من شبابك في أواخر سن المراهقة وأوائل العشرینیات كنت تتصرف فیها بلا حساسیة كبیرة، أو حتى بصرامة وعنف، فعندما كنت في سن صغیرة، كان تحكمك بالظل قلیلًا، فكان یخرج إلى العلن بصورة طبیعیة، خالیًا من قوة الكبت التي نمت في السنوات الآتیة.

 

وفي النهایة، انظر في أحلامك كأنها المشهد المباشر الأكثر وضوحًا (لظلك)؛ ففي أحلامك وحدها تجد جمیع أنواع السلوكیات التي حرصت على تجنبها في حیاتك الواعیة؛ فظلك یتحدث معك بطرق شتى، ولا تبحث عن رموزٍ أو معانيَ مستترة؛ بل انتبه إلى الحالة العاطفیة والمشاعر المجملة التي تلهمك إیاها تلك الرموز والمعاني، وتشبث بها طیلة نهارك الذي تسبر فیه أغوار نفسك، وقد تكون تلك سلوكًا جریئًا غیر متوقع منك، أو قد تكون قلقًا شدیدًا تحفزه حالات معینة، أو إحساسًا بأنك عالق في جسدك، أو أنك تحلق فوقه، أو استكشافًا لمكان محظور علیك، وما وراء الحدود المسموحة لك، ویمكن أن ترتبط بواعث قلقك بالمخاوف التي لا تواجهها؛ فالتحلیق والاستكشاف هما رغبة مكتومة لمحاولة الوصول إلى العقل الواعي، فاعتد كتابة أحلامك، وإیلاء أكبر الاهتمام لحالة المشاعر فیها.

 

وكلما تقدمت في هذه العملیة ورأیت معالم (ظلك) سهل علیك إتمامها، وستجد علامات أكثر إذا ارتخى عندك شد قوة الكبت، وفي مرحلة معینة یتحول الألم الذي تعانیه وأنت تسیر في هذه العملیة، یتحول إلى تشوق إلى ما تكشِف عنه.

 

2-  تقبَّل ظلك: إن رد فعلك الطبیعي إذ تكشف عن جانبك المعتم وتواجهه، هو شعورك

بالانزعاج، وإبقاؤك على مجرد إدراك سطحي بظلك، إلا أن هدفك هنا أن تكون على نقیض ذلك، فلا یكفیك القبول التام بظلك؛ بل لا بد أیضًا أن تحدوك الرغبة في دمجه في شخصیتك الحالیة.

 

3-  استكشف ظلك: انظر إلى الظل كأن فیه أعماقًا تكمن داخلها طاقة إبداعیة عظیمة؛

فعلیك أن تستكشف هذه الأعماق، التي فیها صور بدائیة أخرى من التفكیر، وفیها أكثر

الاندفاعات إعتامًا مما یخرج من الطبیعة الحیوانیة للبشر.

فعندما كنا أطفالًا، كانت عقولنا سلسة جدا ومنفتحة، وكنا نقوم بربط الأفكار بطریقة مدهشة وبدیعة لا تجارى، لكننا مع تقدمنا في العمر بتنا نمیل إلى تضییق ذلك، والتخفف منه، فنحن نعیش في عالم معقد، یغصُّ بالتكنولوجیا الحدیثة، تحكمه إحصائیات وأفكار مستقاة من بیانات ضخمة، والحریة في ربط الأفكار، وصور الأحلام، والسوانح، والخواطر، یبدو أمرًا غیر منطقي وغیر موضوعي، إلا أن ذلك یودي بنا إلى التفكیر العقیم بأبلغ صوره، وللعقل الباطن فینا -أي جانبِ (الظل) من عقولنا- قدرات لا بد أن نتعلم الاستفادة منها، والحق أن بعض أعظم الناس إبداعًا بیننا یُدخِلون في تفكیرهم هذا الجانب بصورة فعالة.

 

الاستنتاج: یعدُّ التفكیر الواعي الذي نعتمد علیه محدودًا للغایة؛ فلا یمكننا إلا الاحتفاظ بمعلومات قلیلة جدا في ذاكرة قصیرة وطویلة الأمد؛ أما العقل الباطن فیحتوي قدرًا غیر محدود تقریبًا من ذاكرتنا وتجاربنا، ومعلومات استوعبناها بالدراسة؛ فبعد بحث مطول في مشكلة أو عمل على حلها تسترخي عقولنا في الأحلام، أو تسترخي ونحن نقوم بأعمال عادیة لا صلة لها ببحثنا أو عملنا، ویبدأ العقل الباطن في العمل، ویربط بین كل صنوف الأفكار العشوائیة، فتظهر لنا أكثرها تشویقًا، وجمیعنا تأتیه الأحلام، والخواطر، والربط الحر للأفكار، لكننا غالبًا ما نرفض الالتفات إلیها، أو نرفض أخذها على محمل الجد، فعلیك بدلًا من ذلك أن تنمي في نفسك عادةَ استخدام هذه الصورة من التفكیر بوتیرة أكبر، بأن تجعل لنفسك وقتًا غیر منظم، یمكنك فیه أن تتلاعب بأفكارك، وتوسِّع الخیارات التي تنظر فیها، وتلتفت بجدیة إلى ما یخطر لك في أقل حالات العقل وعیًا.

وفي السیاق ذاته علیك أن تستكشف داخل نفسك أكثر دوافعك إعتامًا؛ حتى الدوافع التي تبدو لك إجرامیة؛ لتعثر على طریقة للتعبیر عنها في عملك، أو إظهارها بطریقة من الطرق في دفتر یومیاتك على سبیل المثال؛ فالناس كلهم عندهم رغبات عدوانیة وغیر اجتماعیة، حتى تجاه من یحبونهم، ویحتفظون أیضًا بصدمات من السنوات الأولى في حیاتهم، وهي مرتبطة بالمشاعر التي یفضلون نسیانها، ویتجلى فنُّ وسائل الإعلام في تعبیرها بطریقة أو بأخرى عن هذه الأعماق، فتتسبب في رد فعل قوي فینا جمیعًا؛ لأن تلك الأعماق مكبوتة داخلنا بشدة، وتلك القوة هي القوة التي تظهر في الأفلام

 

4-  أظهر ظلَّك: نعاني سرا في غالبیة الأحیان من أن علینا الالتزام بقوانین اجتماعیة كثیرة لا تحصى؛ فعلى الواحد منا أن یظهر بمظهر الإنسان اللطیف السلس الذي یمضي مع الجماعة أینما مضت، ویحسُن به ألا یبدي الكثیر من الطموح أو الثقة بالنفس، وعلیه

أن یظهر بمظهر المتواضع المشابه لأي شخص آخر؛ فتلك هي قوانین اللعبة (لعبة الدخول في المجتمع)، فإذا سرت في تلك الطریق، فستكسب الانسجام مع الجماعة؛ لكنك ستصبح أیضًا إنسانًا دفاعیا، مستاءً في سرِّك، ویصبح تحوُّلك إلى اللطف البالغ عادةً عندك، فیغدو من السهل أن تتحول إلى إنسان هیَّاب، وتفقد ثقتك بنفسك، وتكثر من التردد والحیرة، وفي الوقت نفسه، سیُظهر (ظلك) نفسه لكن بلا وعي منك، فیتجلى في نوبات وطفرات متفجرة، ملحقًا الضرر بك في أكثر الأحیان.

 

ومن الحكمة لك أن تنظر في حال الناجحین في مجالاتهم، فلا شك أنك سترى معظمهم قلیل الالتزام بتلك القوانین، فهم بصورة عامة أقرب إلى فرض أنفسهم، وإظهار طموحاتهم، ویقل اهتمامهم بما یظنه الآخرون فیهم، وتراهم یسخرون من التقالید بكل صراحة وفخر، ولا ینالون عقابًا على ذلك، بل هم یكافَؤون علیه أعظم المكافأة، وترى المثال النموذجي لهؤلاء یتمثل في (ستیف جوبز)، فقد أظهر جانبه القاسي المعتم في طریقته في العمل مع الآخرین، واتجاهنا للنظر في حال أناس على مثال جوبز هو للإعراب عن إعجابنا بإبداعهم وعدم نبذهم الخصال المعتمة فیهم؛ لأنها غیر مفیدة، فلو أنه اكتفى بأن یكون شخصًا لطیفًا لعدَّه الناس ولیا من الأولیاء، لكن الحقیقة هي أن جانبه المعتم تشابك مع طاقته وإبداعه تشابكًا لا انفصام له؛ فكانت قدرته على عدم الاستماع إلى الآخرین، والمضي في طریقه، وأن یكون قاسیًا بعض الشيء في نهجه، كانت أجزاء أساسیة في نجاحه الذي نُكبِره، وكذلك الأمر مع كثیر من الناس الأقویاء في

أنفسهم، المبدعین في عملهم، فإذا هم نبذوا (ظلهم) المؤثر فیهم باتوا مثل غیرهم ممن تعوزهم القوة والإبداع.

الاستنتاج: أنت تولي قیمة كبیرة لأن یكون المرء لطیفًا یحترم رغبات الآخرین أكبر مما تولیه للإظهار الواعي (لظلك)، ولتسیر في طریق الإظهار الواعي (للظل) علیك

 

أولًا: أن تبدأ باحترام آرائك أنت بما یفوق احترامك لآراء الآخرین، وبخاصة عندما یتعلق الأمر بمجال اختصاصك؛ المجال الذي تغمس نفسك فیه، فلتؤمن بنبوغك الفطري، والأفكار التي توصلت إلیها.

وعلیك ثانیًا: أن تجعل عادتك في حیاتك الیومیة زیادة إثبات نفسك (فرضها على غیرك)، وتقلیل مداهنتك للناس، ولیكن ذلك بقَدَرٍ تقدِّره، وفي الأوقات المواتیة.

وعلیك ثالثًا: أن تبدأ بتقلیل اهتمامك بما یقوله الناس فیك، وبذلك تشعر بإحساس عظیم بالحریة. أما رابعًا: فعلیك أن تدرك أنك في بعض الأوقات لا بد أن تُغضِب غیرك، أو حتى تؤذیه، إذا اعترض طریقك، وكان صاحب قیم بشعة، وانتقدك دون وجه حق، فاستخدم لحظات إزالة الظلم عن نفسك، لإخراج (ظلك)، وإظهاره وأنت فخور به.

وخامسًا:علیك أن تشعر بأن لك مطلق الحریة في أن تكون صفیقًا: طفلًا عنیدًا یسخر من غباء الآخرین ونفاقهم.

وأخیرًا: علیك أن تستخف بالتقالید؛ التي یتبعها الآخرون بحذافیرها الدقیقة، وعلى مر مئات السنین، وحتى یومنا هذا تمثل أدوار الذكورة والأنوثة أقوى التقالید المتبعة بین جمیع التقالید، فما یستطیع الرجل والمرأة قوله أو فعله مضبوط غایة الضبط، إلى حد أن ذلك یبدو كأنه یمثل اختلافات بیولوجیة لا تقالید اجتماعیة، فالمرأة على وجه الخصوص یراها المجتمع شدیدة اللطف والسلاسة؛ فتشعر المرأة بضغوط مستمرة علیها للتقید بتلك  الصفة، فتخطئ إذ تظنها صفة طبیعیة وبیولوجیةفقد كانت بعض أعظم النساء تأثیرًا في التاریخ ممن عمدن إلى خرق هذه القوانین؛ نذكر من الممثلات مارلین دیتریتش، وجوزفین بیكر؛ ومن الشخصیات السیاسیة إیلینور روزفلت، ومن صاحبات الأعمال كوكو شانیل. لقد أخرجن (ظلهن) وأظهرنه بتصرفهن

بطرق كانت تعدُّ تقلیدیا طرقًا ذكوریة، فمزجن بین أدوار الذكورة والأنوثة، وأشبعنها خلطًا.

فانظر إلى إخراج(ظلك) كأنه بوجه عام صورة من صور طرد الأرواح الشریرة، وحالما تظهر هذه الرغبات والاندفاعات لن تعود تقبع مستترةً في زوایا شخصیتك، تتلوى وتعمل بطرق تخفى علیك، لقد أخرجت الشیاطین من نفسك، وعززت حضورك؛ إنسانًا صادق النفس، وبهذه الطریقة یصبح(ظلك) حلیفك.