20‏/12‏/2021

أسرار الصلاة

 أسرار الصلاة


أسرار الصَّلاة

للإمَام العلامَة أبي عَبد الله محمَّد بن أبي بَكر بن أيُّوب الزَّرعي الدِّمشقي الشَّهير بابن قيِّم الجَوزيَّة
691-751

اعتنى به
أبو عبد الله همَّام الجزائري
28/04/2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يسّر و أعن يا كريم
قال الإمام محمد بن أبي بكر بن القيِّم الجَوزية رحمه الله تعالى .
فصلٌ


الصلاة قرة عيون المحبين و هدية الله للمؤمنين

فاعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عُيون المحبين، و لذة أرواح الموحدين، و بستان العابدين و لذة نفوس الخاشعين، و محك أحوال الصادقين، و ميزان أحوال السالكين، و هي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين .
هداهم إليها، و عرَّفهم بها، و أهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين، رحمة بهم، و إكراما لهم، لينالوا بها شرف كرامته، و الفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم، بل منَّة منه، و تفضَّلا عليهم، و تعبَّد بها قلوبهم و جوارحهم جميعا، و جعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين و أعظمهما ؛ و هو إقباله على ربِّه سبحانه، و فرحه و تلذذه بقربه، و تنعمه بحبه، و ابتهاجه بالقيام بين يديه، و انصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، و تكميله حقوق عبوديته ظاهرا و باطنا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه.

و لما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة و أشباهها، اقتضت تمام رحمته به و إحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان و التحف و الخلع و العطايا، و دعاه إليها كل يوم خمس مرَّات، و جعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة، لذة و منفعة و مصلحة و وقار لهذا العبد، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر، لتكمل لذة عبده في كل من ألوان العبودية و يُكرمه بكلِّ صنفٍ من أصناف الكرامة، و يكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفّرا لمذموم كان يكرهه بإزائه، و يثيبه عليه نورا خاصا، فإن الصلاة نور و قوة في قلبه و جوارحه و سعة في رزقه، و محبة في العباد له، و إن الملائكة لتفرح و كذلك بقاع الأرض، و جبالها و أشجارها، و أنهارها تكون له نورا و ثوابا خاصا يوم لقائه.
فيصدر المدعو من هذه المأدبة و قد أشبعه و أرواه، و خلع عليه بخلع القبول، و أغناه، و ذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة، قد ناله من الجوع و القحط و الجذب و الظمأ و العري و السقم ما ناله، فصدر من عنده و قد أغناه و أعطاه من الطعام و الشراب و اللباس و التحف ما يغنيه .
تشبيه القلب بالأرض
و لما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب، و قحطُ النفوس متوالياً عليها، جدّد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مُستسقيا، طالبا إلى من بيده غيثُ القلوب، و سَقيُها مستمطراً سحائب رحمته لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان، و كلأ الإحسان و عُشبه و ثماره، و لئلا تنقطع مادة النبات من الروح و القلب، فلا يزال القلب في استسقاء و استمطار هكذا دائما، يشكو إلى ربه جدبه، و قحطه، و ضرورته إلى سُقيا رحمته، و غيث برِّه، فهذا دأب العبد أيام حياته.

فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة، فالغفلة هي قحط القلوب و جدبها، و ما دام العبد في ذكر الله و الإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة و كثرة، فإذا تمكَّنت الغفلة منه، و استحكمت صارت أرضه خرابا ميتة، و سنته جرداء يابسة، و حريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائم.
فتصير أرضه بورا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات، و الثمار و غيرها، و إذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه و أعماله و ربت، و أنبتت من كلِّ زوج بهيج، فإذا ناله القحط و الجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها و خضرتها و لينها و ثمارها من الماء، فإذا منعت من الماء يبسَت عروقها و ذبلت أغصانها، و حُبست ثمارها، و ربما يبست الأغصان و الشجرة، فإذا مددت منها غصناً إلى نفسك لم يمتد، و لم ينْقَد لك، و انكسر، فحينئذ تقتضي حِكمة قيِّم البستان قَطع تلك الشجرة و جعلَها وقوداً للنار .
القلب ييبس إذا خلا من توحيد الله

فكذلك القلب، إنما يَيبس إذا خلا من توحيد الله و حبه و معرفته و ذكره و دعائه، فتصيبه حرارة النفس، و نار الشهوات، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها، و الانقياد إذا قُدتها، فلا تصلح بعدُ هي و الشجرة إلا للنَّار { فويلٌ للقاسية قُلوبهم مِّن ذكر الله أولئك في ضلال مُّبين} [الزمر :22]، فإذا كان القلب ممطورا بمطر الرحمة، كانت الأغصان ليِّنة مُنقادة رطبة، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك، و أقبلت سريعة لينة وادعة، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان و مادتها من رطوبة القلب و ريِّه، فالمادة تعمل عملها في القلب و الجوارح، و إذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البِّر ؛ لأن مادة القلب و حياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية، و لله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخُصُّه، و طاعة مطلوبة منها، خلقت لأجلها و هيئت لها .
الناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم
و الناس بعد ذلك ثلاثة أقسام :
أحدهما : من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له، و أريد منها، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة، و باع نفسه لله بأربح البيع.
و الصلاة وُضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعاً لقيام القلب بها و هذا رجلٌ عرَف نعمة الله فيما خُلق له من الجوارح و ما أنعم عليه من الآلاء، و النعم، فقام بعبوديته ظاهراً و باطناً و استعمل جوارحه في طاعة ربِّه، و حفظ نفسه و جوارحه عمَّا يُغضب ربه و يشينه عنده.
و الثاني : من استعمل جوارحه فيما لم تُخلق له، بل حبسها على المخالفات و المعاصي، و لم يطلقها، فهذا هو الذي خابَ سعيه، و خسرت تجارته، و فاته رضا ربَّه عزَّ و جل عنه، و جَزيل ثوابه، و حصل على سخطه و أليم عقابه.

و الثالث : مَن عطَّل جوارحه، و أماتها بالبطالة و الجهالة، فهذا أيضا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله،فإن العبد إنما خُلق للعبادة و الطاعة لا للبطالة .
و أبغض الخلق إلى الله العبد البطَّال الذي لا في شغل الدنيا و لا في سعي الآخرة.
بل هو كلّ على الدنيا و الدين، بل لو سعى للدنيا و لم يسع للآخرة كان مذموماً مخذولاً، و كيف إذا عطّل الأمرين، و إنَّ امرء يسعى لدنياه دائما، و يذهل عن أُخراه، لا شكَّ خاسر.
تمثيل لهذه الأصناف الثلاثة
فالرجل الأول، كرجل أُقطع أرضا واسعة، و أعين على عمارتها بآلات الحرث، و البذر و أعطي ما يكفيها لسقيها و حرثها، فحرثها و هيَّأها للزراعة، و بذر فيها من أنواع الغلات، و غرس فيها من أنواع الأشجار و الفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط، و لم يهملها بل أقام عليها الحرس، و حصنها من الفساد و المفسدين، و جعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منه، و يغرس فيها عوض ما يبس، و ينقي دغلها و يقطع شوكها، و يستعين بغلَّتها على عمارتها.
و الثاني : بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض، و جعلها مأوى السباع و الهوام، و موضعاً للجيف و الأنتان، و جعلها معقلا يأوي إليه فيها كل مفسد و مؤذٍ و لصٍّ، و أخذ ما أعين به من حرثتها و بذارها و صلاحها، فصرفه و جعله معونة و معيشة لمن فيها، من أهل الشرِّ و الفساد.
و الثالث : بمنزلة رجل عطَّلها و أهملها و أرسل الماء ضائعاً في القفار و الصحارى فقعد مذموماً محسوراً.
فهذا مثال أهل اليقظة، و أهل الغفلة، و أهل الخيانة.
أهل اليقظة و الغفلة الخيانة
فالأول : مثال أهل اليقظة، والاستعداد لما خلقوا له.
و الثاني : مثال أهل الخيانة.
و الثالث : مثال لأهل الغفلة .
فالأول : إذا تحرّك أو سَكَن، أو قام أو قعد، أو أكل أو شرب، أو نام، أو لبس، أو نطق، أو سكت كان كلِّه له لا عليه، و كان في ذكر و طاعةٍ و قربة و مزيد .

و الثاني : إذا فعل ذلك كان عليه لا له، و كان في طردٍ و إبعادٍ و خُسران .
و الثالث : إذا فعل ذلك كان في غفلة و بطالةٍ و تفريطٍ .
فالأول : يتقلَّب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة و القربة.
و الثاني : يتقلب في ذلك بحكم الخيانة و التعدِّي، فإن الله لم يملِّكه ما ملّكه ليستعين به على مخالفته، فهو جانٍ متعد خائن لله تعالى في نعمه عليه معاقبٌ على التنعُّم بها في غير طاعته.
و الثالث : يتقلب في ذلك و يتناوله بحكم الغفلة و الهوى و نهمة النفس و طبعها، لم يتمتع بذلك ابتغاء رضوان الله تعالى و التقرب إليه، فهذا خسرانه بيَّن واضح، إذ عطّل أوقات عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح و التجارات .
فدعا الله عباده المؤمنين الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس، رحمة منه بهم، و هيأ لهم فيها أنواع العبادة ؛ لينال العبد من كلِّ قول و فعل و حركة و سكون حظه من عطاياه.
ما هو سرّ الصلاة ؟ و تمثيل لذلك

و كان سرُّ الصلاة و لُبها إقبال القلب فيها على الله، و حضوره بكلِّيته بين يديه، فإذا لم يقبل عليه و اشتغل بغيره و لهى بحديث نفسه، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرا من خطاياه و مستمطرا سحائب جوده و كرمه و رحمته، مستطعما له ما يقيت قلبه، ليقوى به على القيام في خدمته، فلما وصل إلى باب الملك، و لم يبق إلا مناجته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينا و شمالا، أو ولاه ظهره، و اشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك، و أقلّه عنده قدرا عليه، فآثره عليه، و صيَّره قلبة قلبه، و محلَّ توجهه، و موضع سرَّه، و بعث غلمانه و خدمة ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضا عنه و يعتذروا عنه، و ينوبوا عنه في الخدمة، و الملك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا، فكرم الملك وجوده و سعة برّه و إحسانه تأبي أن يصرف عنه تلك الخدم و الأتباع، فيصيبه من رحمته و إحسانه ؛ لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين، و بين الرضَّخ لمن لا سهم له : { و لكل درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعمالهم و هم لا يظلَمون }[الأحقاف :19]، و الله سبحانه و تعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه و اختصه له، و خلق كل شيء له، و من أجله كما في الأثر الإلهي : " ابن آدم خلقتك لنفسي، و خلقت كلِّ شيء لك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عمَّا خلقتك له " .
و في أثر آخر : " ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب و تكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن و جدتني و جدت كلّ شيء، و إن فُتَّك فاتك كلّ شيء، و أنا أحب إليك من كلّ شيء".
و جعل سبحانه و تعالى الصلاة سببا موصلا إلى قُربه، و مناجاته، و محبته و الأنس به .
ما بين الصلوات الخمسة تحدث الغفلة

و ما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة و الجفوة و القسوة، و الإعراض و الزَّلات، و الخطايا، فيبعده ذلك عن ربه، و ينحّيه عن قربه، فيصير بذلك كأنه أجنبيا من عبوديته، ليس من جملة العبيد، و ربما ألقى بيده إلى أسر العدو له فأسره، و غلَّه، و قيَّده، و حبسه في سجن نفسه و هواه .
فحظه ضيق الصدر، و معالجة الهموم، و الغموم، و الأحزان، و الحسرات، و لا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمه ربه الرحيم الودود أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة، مختلفة الأجزاء، و الحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد، و بحسب شدَّة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية .

0 التعليقات: