قوانين الطبيعة البشرية 57
الإنسان الكامل (المتصالح مع نفسه)
لا شك أننا في مسیرة حیاتنا نلتقي بأشخاص یبدو أحدهم مرتاحًا مع نفسه على نحو ممیز، وتظهر علیه سمات تعطینا هذا الانطباع: فهو قادر على السخریة من نفسه إذ یرتكب أخطاءه؛ وبإمكانه الاعتراف بنقائص طبعه، والإقرار بالأخطاء التي یرتكبها؛ ولدیه جانب مرح، یصل إلى التهور أحیانًا، وكأنه یحتفظ بقدر كبیر من الإنسان الطفل داخله؛ وبإمكانه القیام بدوره في الحیاة وقد نأى عنها بعض النأي ویمكن أن یكون أحیانًا عفویا على نحو خلاب.
إنه یلفت نظرنا إلى عِظَم صدق نفسه، فإذا كان أكثر الناس قد فقدوا كثیرًا من سماتهم الطبیعیة في طریقهم لیصبحوا بالغین اجتماعیین، فإن صادق النفس نجح بطریقة أو بأخرى في إبقاء تلك السمات حیةً فیه، مفعمةً بالنشاط؛ وبإمكانك تمییزه بسهولة بالصنف المضاد من الناس الذین یتصفون بأنهم سریعو الغضب، ومفرطو الحساسیة تجاه أي استخفاف بهم یلاحظونه، والذین یعطون الانطباع بأنهم غیر مرتاحین مع أنفسهم بقَدَر، وأن لدیهم شیئًا یخفونه، ونحن البشر خبراء في اكتشاف الاختلاف بین الصنفین؛ فبإمكاننا غالبًا أن نشعر بالناس من تصرفاتهم غیر الكلامیة؛ بإیماءاتهم المسترخیة
والمتوترة، ونبراتهم المنسابة والمتلعثمة؛ أو من الطریقة التي تحدق بها أعینهم وتتركك تنظر إلیها؛ ومن الابتسامة الصادقة وانعدامها.
إلا أن هناك أمرًا أكیدًا؛ فنحن ننجذب انجذابًا كاملًا إلى صنف صادقي الأنفس، ونرفض الصنف المضاد، بلا وعي منا، والسبب في ذلك بسیط: إننا في سریرتنا نأسى على جزء الإنسان الطفل الذي فقدناه في طبعنا، فقدنا شعلة الاتقاد، وصفاء العفویة، وحدَّة الخبرة، وانفتاح العقل،وضعفت طاقتنا الإجمالیة من جراء ما فقدناه؛ فنجد عند من یشع بصدق النفس ما یلفتنا إلى احتمال آخر، هو أن نكون بالغین ناجحین في دمج الإنسان الطفل بالإنسان البالغ فینا، ودمج الجانب المعتم بالجانب المشرق، ودمج العقل الباطن بالعقل الواعي، فترانا نتوق للاقتراب منهم؛ لعل شیئًا من طاقتهم یؤثر فینا.
ویدلنا هذا الصنف من الناس على المسار الذي علینا أن نسلكه، وهو یرتكز إلى حدٍّ كبیر على
الوعي الذاتي، فإذا وعینا (ظلنا) فبإمكاننا التحكم به، وتوجیهه، ودمجه، وإذا علمنا ما فقدناه، أمكننا أن نعید الاتصال بذلك الجزء منا، الغارق في الظل.
ونذكر فیما یأتي أربع خطوات واضحة عملیة للوصول إلى تلك الغایة.
1- شاهد ظلك: هذه هي الخطوة الأصعب في هذه العملیة، فالظل شيء ینكره المرء ویكبته، والأسهل علیه أن ینقِّب في الخصال المعتمة للآخرین، ویقدم فیها العظات، ویكاد یخالف طبیعته إذا نظر إلى هذا الجانب المعتم في نفسه، لكن تذكر أنك لن تكون إلا نصف إنسان، إذا أبقیت هذا الجانب مطمورًا فیك، فلتكن جسورًا مقدامًا في هذه العملیة.
وخیر طریقة تبدأ بها هي أن تبحث عن العلامات غیر المباشرة التي أشرنا إلیها في الفقرات السابقة؛ فعلى سبیل المثال: دوِّن ما تلاحظه في نفسك من سماتٍ وحیدة الجانب تلفت النظر إلیها بشدة، وافترض أن السمة المضادة كامنة مطمورة في أعماقك، ومن هذه النقطة، حاول أن ترى علامات لهذه السمة المضادة في تصرفاتك، وانظر في فوراتك العاطفیة، ولحظات شدة نزقك. فلا بد أن شخصًا أو شیئًا قد ضرب على الوتر الحساس عندك، وحساسیتك ما هي إلا ملاحظة أو تهمة فیك؛ على صورة قلق دفین؛ تشیر إلى اهتیاج خصلة الظل في أعماقك، فما علیك إلا أن تظهرها.
فانظر بتمعن في میولك في تسلیط عواطفك وخصالك المعتمة على من تعرفهم، أو حتى تسلیطها على جماعات بأكملها؛ فعلى سبیل المثال، لنفترض أنك تبغض بشدة الصنف النرجسي من الناس، أو أصحاب الغطرسة، فما یحدث فعلیا هو أنك ربما كنت تتفادى میولك النرجسیة، ورغبتك المستترة في أن تكون أكثر فرضًا لنفسك على الآخرین إثباتًا لنفسك على صورة الإنكار الشدید علیهم وبغضهم، فأنت حساس جدا للسمات المعتمة ومواطن الضعف في الآخرین، تلك التي تكتمها في نفسك. وانظر في لحظات من شبابك في أواخر سن المراهقة وأوائل العشرینیات كنت تتصرف فیها بلا حساسیة كبیرة، أو حتى بصرامة وعنف، فعندما كنت في سن صغیرة، كان تحكمك بالظل قلیلًا، فكان یخرج إلى العلن بصورة طبیعیة، خالیًا من قوة الكبت التي نمت في السنوات الآتیة.
وفي النهایة، انظر في أحلامك كأنها المشهد المباشر الأكثر وضوحًا (لظلك)؛ ففي أحلامك وحدها تجد جمیع أنواع السلوكیات التي حرصت على تجنبها في حیاتك الواعیة؛ فظلك یتحدث معك بطرق شتى، ولا تبحث عن رموزٍ أو معانيَ مستترة؛ بل انتبه إلى الحالة العاطفیة والمشاعر المجملة التي تلهمك إیاها تلك الرموز والمعاني،
وتشبث بها طیلة نهارك الذي تسبر فیه أغوار نفسك، وقد تكون تلك سلوكًا جریئًا غیر متوقع منك، أو قد تكون قلقًا شدیدًا تحفزه حالات معینة، أو إحساسًا بأنك عالق في جسدك، أو أنك تحلق فوقه، أو استكشافًا لمكان محظور علیك، وما وراء الحدود المسموحة لك، ویمكن أن ترتبط بواعث قلقك بالمخاوف التي لا تواجهها؛ فالتحلیق والاستكشاف هما رغبة مكتومة لمحاولة الوصول إلى العقل الواعي، فاعتد كتابة أحلامك، وإیلاء أكبر الاهتمام لحالة المشاعر فیها.
وكلما تقدمت في هذه العملیة ورأیت معالم (ظلك) سهل علیك إتمامها، وستجد علامات أكثر إذا ارتخى عندك شد قوة الكبت، وفي مرحلة معینة یتحول الألم الذي تعانیه وأنت تسیر في هذه العملیة، یتحول إلى تشوق إلى ما تكشِف عنه.
2- تقبَّل ظلك: إن رد فعلك الطبیعي إذ تكشف عن جانبك المعتم وتواجهه، هو شعورك
بالانزعاج، وإبقاؤك على مجرد إدراك سطحي بظلك، إلا أن هدفك هنا أن تكون على نقیض ذلك، فلا یكفیك القبول التام بظلك؛ بل لا بد أیضًا أن تحدوك الرغبة في دمجه في شخصیتك الحالیة.
3- استكشف ظلك: انظر إلى الظل كأن فیه أعماقًا تكمن داخلها طاقة إبداعیة عظیمة؛
فعلیك أن تستكشف هذه الأعماق، التي فیها صور بدائیة أخرى من التفكیر، وفیها أكثر
الاندفاعات إعتامًا مما یخرج من الطبیعة الحیوانیة للبشر.
فعندما كنا أطفالًا، كانت عقولنا سلسة جدا ومنفتحة، وكنا نقوم بربط الأفكار بطریقة مدهشة وبدیعة لا تجارى، لكننا مع تقدمنا في العمر بتنا نمیل إلى تضییق ذلك، والتخفف منه، فنحن نعیش في عالم معقد، یغصُّ بالتكنولوجیا الحدیثة، تحكمه إحصائیات وأفكار مستقاة من بیانات ضخمة، والحریة في ربط الأفكار، وصور الأحلام، والسوانح،
والخواطر، یبدو أمرًا غیر منطقي وغیر موضوعي، إلا أن ذلك یودي بنا إلى التفكیر العقیم بأبلغ صوره، وللعقل الباطن فینا -أي جانبِ (الظل) من عقولنا- قدرات لا بد أن نتعلم الاستفادة منها، والحق أن بعض أعظم الناس إبداعًا بیننا یُدخِلون في تفكیرهم هذا الجانب بصورة فعالة.
الاستنتاج: یعدُّ التفكیر الواعي الذي نعتمد علیه محدودًا للغایة؛ فلا یمكننا إلا الاحتفاظ بمعلومات قلیلة جدا في ذاكرة قصیرة وطویلة الأمد؛ أما العقل الباطن فیحتوي قدرًا غیر محدود تقریبًا من ذاكرتنا وتجاربنا، ومعلومات استوعبناها بالدراسة؛ فبعد بحث مطول في مشكلة أو عمل على حلها تسترخي عقولنا في الأحلام، أو تسترخي ونحن نقوم بأعمال عادیة لا صلة لها ببحثنا أو عملنا، ویبدأ العقل الباطن في العمل، ویربط بین كل صنوف الأفكار العشوائیة، فتظهر لنا أكثرها تشویقًا، وجمیعنا تأتیه الأحلام، والخواطر،
والربط الحر للأفكار، لكننا غالبًا ما نرفض الالتفات إلیها، أو نرفض أخذها على محمل الجد، فعلیك بدلًا من ذلك أن تنمي في نفسك عادةَ استخدام هذه الصورة من التفكیر بوتیرة أكبر، بأن تجعل لنفسك وقتًا غیر منظم، یمكنك فیه أن تتلاعب بأفكارك، وتوسِّع الخیارات التي تنظر فیها، وتلتفت بجدیة إلى ما یخطر لك في أقل حالات العقل وعیًا.
وفي السیاق ذاته علیك أن تستكشف داخل نفسك أكثر دوافعك إعتامًا؛ حتى الدوافع التي تبدو لك إجرامیة؛ لتعثر على طریقة للتعبیر عنها في عملك، أو إظهارها بطریقة من الطرق في دفتر یومیاتك على سبیل المثال؛ فالناس كلهم عندهم رغبات عدوانیة وغیر اجتماعیة، حتى تجاه من یحبونهم، ویحتفظون أیضًا بصدمات من السنوات الأولى في حیاتهم، وهي مرتبطة بالمشاعر التي یفضلون نسیانها، ویتجلى فنُّ وسائل الإعلام في تعبیرها بطریقة أو بأخرى عن هذه الأعماق، فتتسبب في رد فعل قوي فینا جمیعًا؛ لأن تلك الأعماق مكبوتة داخلنا بشدة، وتلك القوة هي القوة التي تظهر في الأفلام
4- أظهر ظلَّك: نعاني سرا في غالبیة الأحیان من أن علینا الالتزام بقوانین اجتماعیة كثیرة لا تحصى؛ فعلى الواحد منا أن یظهر بمظهر الإنسان اللطیف السلس الذي یمضي مع الجماعة أینما مضت، ویحسُن به ألا یبدي الكثیر من الطموح أو الثقة بالنفس، وعلیه
أن یظهر بمظهر المتواضع المشابه لأي شخص آخر؛ فتلك هي قوانین اللعبة (لعبة الدخول في المجتمع)، فإذا سرت في تلك الطریق، فستكسب الانسجام مع الجماعة؛ لكنك ستصبح أیضًا إنسانًا دفاعیا، مستاءً في سرِّك، ویصبح تحوُّلك إلى اللطف البالغ عادةً عندك، فیغدو من السهل أن تتحول إلى إنسان هیَّاب، وتفقد ثقتك بنفسك، وتكثر من التردد والحیرة، وفي الوقت نفسه، سیُظهر (ظلك) نفسه لكن بلا وعي منك، فیتجلى في نوبات وطفرات متفجرة، ملحقًا الضرر بك في أكثر الأحیان.
ومن الحكمة لك أن تنظر في حال الناجحین في مجالاتهم، فلا شك أنك سترى معظمهم قلیل الالتزام بتلك القوانین، فهم بصورة عامة أقرب إلى فرض أنفسهم، وإظهار طموحاتهم، ویقل اهتمامهم بما یظنه الآخرون فیهم، وتراهم یسخرون من التقالید بكل صراحة وفخر، ولا ینالون عقابًا على ذلك، بل هم یكافَؤون علیه أعظم المكافأة، وترى المثال النموذجي لهؤلاء یتمثل في (ستیف جوبز)، فقد أظهر جانبه القاسي المعتم في طریقته في العمل مع الآخرین، واتجاهنا للنظر في حال أناس على مثال جوبز هو للإعراب عن إعجابنا بإبداعهم وعدم نبذهم الخصال المعتمة فیهم؛ لأنها غیر مفیدة، فلو أنه اكتفى بأن یكون شخصًا لطیفًا لعدَّه الناس ولیا من الأولیاء، لكن الحقیقة هي أن جانبه المعتم تشابك مع طاقته وإبداعه تشابكًا لا انفصام له؛ فكانت قدرته على عدم الاستماع إلى الآخرین، والمضي في طریقه، وأن یكون قاسیًا بعض الشيء في نهجه، كانت أجزاء أساسیة في نجاحه الذي نُكبِره، وكذلك الأمر مع كثیر من الناس الأقویاء في
أنفسهم، المبدعین في عملهم، فإذا هم نبذوا (ظلهم) المؤثر فیهم باتوا مثل غیرهم ممن تعوزهم القوة والإبداع.
الاستنتاج: أنت تولي قیمة كبیرة لأن یكون المرء لطیفًا یحترم رغبات الآخرین أكبر مما تولیه للإظهار الواعي (لظلك)، ولتسیر في طریق الإظهار الواعي (للظل) علیك
أولًا: أن تبدأ باحترام آرائك أنت بما یفوق احترامك لآراء الآخرین، وبخاصة عندما یتعلق الأمر بمجال اختصاصك؛ المجال الذي تغمس نفسك فیه، فلتؤمن بنبوغك الفطري، والأفكار التي توصلت إلیها.
وعلیك ثانیًا: أن تجعل عادتك في حیاتك الیومیة زیادة إثبات نفسك (فرضها على غیرك)، وتقلیل مداهنتك للناس، ولیكن ذلك بقَدَرٍ تقدِّره، وفي الأوقات المواتیة.
وعلیك ثالثًا: أن تبدأ بتقلیل اهتمامك بما یقوله الناس فیك، وبذلك تشعر بإحساس عظیم بالحریة. أما رابعًا: فعلیك أن تدرك أنك في بعض الأوقات لا بد أن تُغضِب غیرك، أو حتى تؤذیه، إذا اعترض طریقك، وكان صاحب قیم بشعة، وانتقدك دون وجه حق، فاستخدم لحظات إزالة الظلم عن نفسك، لإخراج (ظلك)، وإظهاره وأنت فخور به.
وخامسًا:علیك أن تشعر بأن لك مطلق الحریة في أن تكون صفیقًا: طفلًا عنیدًا یسخر من غباء الآخرین ونفاقهم.
وأخیرًا: علیك أن تستخف بالتقالید؛ التي یتبعها الآخرون بحذافیرها الدقیقة، وعلى مر مئات السنین، وحتى یومنا هذا تمثل أدوار الذكورة والأنوثة أقوى التقالید المتبعة بین جمیع التقالید، فما یستطیع الرجل والمرأة قوله أو فعله مضبوط غایة الضبط، إلى حد أن ذلك یبدو كأنه یمثل اختلافات بیولوجیة لا تقالید اجتماعیة، فالمرأة على وجه الخصوص یراها المجتمع شدیدة اللطف والسلاسة؛ فتشعر المرأة بضغوط مستمرة علیها للتقید بتلك الصفة، فتخطئ إذ تظنها صفة طبیعیة وبیولوجیةفقد كانت بعض أعظم النساء تأثیرًا في التاریخ ممن عمدن إلى خرق هذه القوانین؛ نذكر من الممثلات مارلین دیتریتش، وجوزفین بیكر؛ ومن الشخصیات السیاسیة إیلینور روزفلت، ومن صاحبات الأعمال كوكو شانیل. لقد أخرجن (ظلهن) وأظهرنه بتصرفهن
بطرق كانت تعدُّ تقلیدیا طرقًا ذكوریة، فمزجن بین أدوار الذكورة والأنوثة، وأشبعنها خلطًا.
فانظر إلى إخراج(ظلك) كأنه بوجه عام صورة من صور طرد الأرواح الشریرة، وحالما تظهر هذه الرغبات والاندفاعات لن تعود تقبع مستترةً في زوایا شخصیتك، تتلوى وتعمل بطرق تخفى علیك، لقد أخرجت الشیاطین من نفسك، وعززت حضورك؛ إنسانًا صادق النفس، وبهذه الطریقة یصبح(ظلك) حلیفك.
0 التعليقات:
إرسال تعليق