قوانين الطبيعة البشرية 52
9
واجه الجانب المعتم في نفسك
) قانون الإخماد (
من النادر أن یكون الناس في حقیقتهم على النحو الذي یظهرون علیه، إنهم یختبئون وراء ما یُظهرونه من أدب وتهذیب؛ ولا شك في أن وراء المظهر الدمث جانبًا معتمًا یقع في الظل، یتكوَّن من مخاوف ودوافع عدوانیة أنانیة؛ یكبتونها ویحجبونها عن أنظار العامة؛ ویتسرب هذا الجانب المعتم منهم في التصرفات التي تحیرك وتؤذیك؛ فتعلَّمْ أن تمیز علامات الظل قبل أن تظهر سمِّیتها. واعلم أن السمات السافرة عند الناس -من الشدة، أو الورع، أو غیر ذلك-
إنما تحجب خصالًا تناقضها، وعلیك أن تدرك الجانب المعتم في نفسك أنت؛ فإذا وعیته فإنك تستطیع التحكم بقدراتك الإبداعیة وتوجیهها؛ تلك القدرات المتواریة في عقلك الباطن؛ فإذا دمجت جانبك المعتم في شخصیتك فستكون إنسانًا أكثر اكتمالًا، وستشع بصدق نفسك فتجتذب الناس إلیك.
في الخامس من شهر تشرین الثاني/ نوفمبر سنة 1968 حقق ریتشارد نیكسون من الحزب الجمهوري ما لعله یعدُّ أعظم عودة سیاسیة في التاریخ الأمریكي،
وذلك بفوزه بفارق ضئیل على منافسه من الحزب الدیمقراطي هیوبرت هامفري؛ لیكون الرئیس السابع والثلاثین للولایات المتحدة الأمریكیة؛ فقبل ثماني سنوات وحسب كان قد خسر في محاولته الأولى في الانتخابات الرئاسیة أمام جون كینیدي خسارة ساحقة، وكانت نتائج الانتخابات تلك متقاربة للغایة، إلا أنه من الواضح أنه قد أسهم في هزیمته بعض ألاعیب الاقتراع في ولایة إیلینوي، بتدبیر من الماكینة الانتخابیة للحزب الدیمقراطي في ولایة شیكاغو، وبعد سنتین من هزیمته تلك خسر خسارة قاسیة في انتخابات حاكم ولایة كالیفورنیا، ونتیجة إحساسه بالمرارة من كیفیة مطاردة الصحافة له واستفزازها إیاه في السباق الانتخابي فقد خاطب وسائل الإعلام بعد یوم من خسارته الأخیرة، مختتمًا كلامه بالقول فكروا فقط كم سینساكم الناس؛ فلن یكون لدیكم بعد
الیوم أخبار عن نیكسون یتحدث هنا وهناك؛ لأنني یا سادة أتحدث إلیكم في آخر مؤتمر صحفي لي وكانت استجابة الوسائل الإعلامیة لهذه الكلمات سلبیة إلى أبعد الحدود؛ فقد اتهموه بأنه یتخبط في رثاء نفسه، وبثت شبكة (إیه بي سي) الإخباریة تقریرًا خاصا لها مدته نصف ساعة بعنوان: النعي السیاسي لریتشارد نیكسون، وانتهت مقالة عنه في مجلة تایم
إلى الحرمان من معجزة: لن یستطیع ریتشارد نیكسون أن یحلم أبدًا بأن یُنتخَب لأي منصب حكومي سیاسي بعد الیوم ولا شك أن حیاة ریتشارد نیكسون المهنیة كان لا بد لها أن تنتهي في سنة 1962 ، لكن حیاته كانت سلسلة متواصلة من الأزمات والعثرات، فجعلته أكثر تصمیمًا وعزمًا، فقد
كان حلمه في شبابه أن یدخل جامعة من جامعات النخبة، فذلك هو مفتاح الوصول إلى السلطة في أمریكا، لقد كان الشاب ریتشارد طموحًا بصورة لا نظیر لها، لكن أسرته كانت فقیرة نسبیا، ولم یكن بمقدورها تحمل تكالیف الدراسة في تلك المؤسسات التعلیمیة؛ إلا أنه تغلب على هذا العائق المستعصي تغلبًا جلیا، وذلك بتحویل نفسه إلى الطالب الفائق، فكسب لقب صاحب المؤخرة الحدیدیة بسبب عاداته في الجلوس ساعات طویلة من أجل الدراسة، بما یفوق قدرات البشر، ونجح في الحصول على منحة لدخول كلیة الحقوق في جامعة الدوق
ولیحافظ على المنحة كان ، علیه أن یبقى الأول على صفه؛ وهو أمرٌ نجح فیه بالدراسة الشاقة المجهدة التي قلَّ من یتحملها.
وبعد سنوات أمضاها في مجلس الشیوخ الأمریكي اختاره دوایت أیزنهاور سنة 1952لیكون مرشحه لمنصب نائب الرئیس من الحزب الجمهوري، لكنه سرعان ما ندم على اختیاره؛ فقد احتفظ نیكسون بأموال سریة أخفاها عن الحزب الجمهوري، فسَرَت الظنون بأنه استخدمها لأغراض خاصة؛ والحق أنه كان بریئًا من تلك التهم، إلا أن أیزنهاور لم یشعر بالارتیاح له، فوجد في تلك التهم عذرًا للتخلص منه، وكان طرده بهذه الطریقة كفیلًا على الأغلب بتدمیر حیاة نیكسون المهنیة السیاسیة؛ إلا أنه ارتقى إلى مستوى التحدي من جدید، فظهر في بث تلفزیوني مباشر لیلقي خطابًا عن حیاته، ویدفع عن نفسه التهم المنسوبة إلیه، وكان خطابه مؤثرًا للغایة، فأثار صخب الجماهیر، وطالبوا أیزنهاور بإبقائه معه في الحملة الانتخابیة، وواصل نیكسون تقدمه بعد فوز أیزنهاور بالانتخابات، فعمل ثماني سنوات نائبًا للرئیس الأمریكي.
وهكذا كانت الهزائم الانتخابیة الساحقة التي أتت على نیكسون في سنتي 1960 و 1962 كانت مرة أخرى وسیلته لیزداد صلابةً، ویبعث الروح في حیاته المهنیة؛ لقد كان أشبه بقطٍّ بسبعة أرواح؛ فابتعد عن العمل السیاسي بضع سنوات، ثم عاد وقد شحذ عزیمته للدخول في انتخابات سنة 1968 . وأصبح الآن: نیكسون الجدید فازداد تحررًا من التوتر العصبي، وازداد لطفًا ودماثة، وعاد رجلًا یحب لعبة البولینغ، ویحب الدعابات المبتذلة. وبعد أن تعلم العِبَر من هزائمه السابقة أدار واحدة من أكثر الحملات الانتخابیة سلاسة وبراعة في التاریخ الحدیث، وجعل جمیع خصومه والمشككین فیه یقرون بخطئهم عندما فاز على هامفري.
ووصل إلى ذروة السلطة إذ أصبح رئیسًا للولایات المتحدة الأمریكیة؛ لكن بقي في ذهنه تحدٍّ واحد لا بد له من التغلب علیه؛ ولعله كان أكبر تحدٍّ واجهه؛ فقد كان أعداء نیكسون من اللیبرالیین یرون فیه رجلًا بهیمًا في السیاسة، ورجلًا یلجأ إلى صنوف الألاعیب للفوز بالانتخابات، وكان في نظر نخبة الساحل الشرقي الكارهین له شخصًا أخرق قادمًا من كلیة (ویتیَر )المتواضعة في كالیفورنیا، وصاحب مطامع مفضوحة، وكان نیكسون مصممًا على إثبات خطئهم جمیعًا؛ فلم یكن الشخص الذي یظنونه؛ بل كان إنسانًا مثالیا في أعماقه، لا سیاسیا همجیا، فقد كانت أمُّه العزیزة علیه واسمها(حَنَّة)- من المتدینین الملتزمین في طائفة الصاحبیین
غرست فیه أهمیة معاملة الناس بالمساواة، والدعوة إلى السلام في العالم؛ فأراد أن یصنع لنفسه مجدًا بأنه واحد من أعظم الرؤساء في التاریخ؛ وكُرمى لأمه -التي توفیت في وقت سابق في تلك السنة- أراد أن یجسد قیمها المثالیة في طائفتها الدینیة، ویبین لمنتقدیه عِظَم الخطأ الذي
ارتكبوه في فهمه. وكان یحتذي برجال یرى فیهم القدوة السیاسیة؛ من قبیل الرئیس الفرنسي شارل دیغول الذي كان التقاه وأعجب به غایة الإعجاب؛ فقد صنع دیغول لنفسه سَمْتًا یشع ثقة
وحبا للوطن، ونیكسون سیكون على مثاله. وأخذ یشیر إلى نفسه في مذكراته بكلمة RN
نسخته من الزعیم العالمي، وسیكون
زعیمًا قویا، وحازمًا، ورجلًا حانیًا، وفیه صفات الرجولة الكاملة. وأمریكا التي سیقودها كانت تمزقها احتجاجات مناهضة للحرب في فیتنام آنذاك، وأعمال شغب تندلع في المدن، وارتفاع في معدل الجریمة؛ فسینهي الحرب، ویعمل لإحلال السلام في العالم؛ وسیجلب لوطنه الازدهار والرخاء، لكل الأمریكیین، وسیقف مع القانون والنظام، وسیغرس في الناس روح اللیاقة والتهذیب التي افتقدتها بلاده؛ فإذا تم له ذلك حفظ لنفسه مكانًا مع الرئیسَین (الأمریكیَّین) – اللذین یجلُّهما أبراهام لینكولن، ووُدرو ویلسون
وسیحقق ذلك، على نحو ما یحقق طموحاته دائمًا.
وتحرك بسرعة في الأشهر الأولى من رئاسته لتنفیذ مطامحه؛ فقام بتشكیل حكومة من الطراز الأول؛ كان فیها الألمعي هنري كیسنجر مستشارًا للأمن القومي؛ أما في فریق عمله الخاص فكان یفضل الشبان الذین سَمتهم حُسن الهیئة، والذین یخلصون له أشد الولاء، ویكونون أداة له لتحقیق طموحاته في وطنه، وكان من أولئك كبیر موظفي البیت الأبیض بوب هالدیمان؛ ومسؤول السیاسات المحلیة جون إرلیتشمان، ومستشار البیت الأبیض (جون دین)؛ ومعاونه لشؤون البیت الأبیض تشارلز كولسون.
ولم یشأ أن یحیط نفسه بالمفكرین؛ بل كان یرید من هم مستعدون للقیام بما یوكل إلیهم من مهمات، إلا أن نیكسون لم یكن بالرجل الساذج؛ فقد كان یعلم أن الولاء السیاسي أمر زائل؛ لذلك قام في مستهل فترته الرئاسیة بتركیب منظومة تنصت صوتي سري في أرجاء البیت الأبیض؛ لا یعلم بشأنه إلا قلة مختارة من موظفیه، وبذلك كان بمقدوره مراقبة فریق موظفیه سرا، والاكتشاف المبكر لأي خیانة محتملة، أو أي نشر للنمائم منهم، وكان ذلك النظام یزوده بالبینة التي یمكنه استخدامها لاحقًا إذا حاول أحدٌ تشویه أي محادثة جرت معه، وأفضل ما في الأمر أنه إذا ما انتهت مدة رئاسته فإن الأشرطة التسجیلیة المنقَّحة یمكن أن تستخدم لإظهار عظمته زعیمًا للبلاد، وإظهار الطرق النیرة والعقلانیة التي كان یتوصل بها إلى قراراته؛ فهذه الأشرطة التسجیلیة ستحفظ له مجده.
وعمل نیكسون على تنفیذ خطته في السنوات الأولى من رئاسته، وكان فیها رئیسًا نشیطًا مؤثرًا؛ فقد وقَّع على قوانین لحمایة البیئة، وصحة العمال، وحقوق المستهلكین،
وفي الجبهة الخارجیة عمل جاهدًا على إطفاء أوار الحرب في فیتنام، وكان نجاحه ضئیلًا هناك؛ لكنه سرعان ما مهد الطریق لزیارته الأولى إلى الاتحاد السوفییتي، ورحلته المشهورة إلى الصین، وعقد اتفاقیة مع الاتحاد السوفییتي للحد من انتشار الأسلحة النوویة، وكانت تلك مجرد بدایة لما سیقوم به تالیًا.
لكن على الرغم من السلاسة النسبیة التي مضت بها سنواته الأولى تلك كان هناك شيء غریب أخذ یجیش في صدره، ولم یستطع التخلص من مشاعر القلق هذه، فهي شيء كان یتعرض له في حیاته كلها، وبدأ ذلك في الظهور في اجتماعاته المغلقة مع فریق العمل الخاص به في أوقات متأخرة من اللیل مع شيء من الخمر؛ فقد بدأ نیكسون یروي لهم حكایات عن ماضیه الزاهي، ویمر في سیاق ذلك على بعض جروحه السیاسیة القدیمة، فتظهر المرارة خارجةً من أعماقه.
وكان مهووسًا على الخصوص بقصة (ألغر هیس)، وكان ألغر هیس موظفًا مهما في وزارة الخارجیة الأمریكیة، واتهم سنة 1948 بأنه جاسوس شیوعي (للسوفییت)، وقد أنكر هیس تلك التهمة؛ وكان بوسامته وأناقته أثیرًا على قلوب اللیبرالیین؛ لكن نیكسون اشتم فیه رائحة الكذب والاحتیال، وكان نیكسون آنذاك عضوًا مستجدا في مجلس النواب الأمریكي عن ولایة كالیفورنیا. وفي الوقت الذي قرر فیه سائر أعضاء مجلس النواب ترك (هیس) وشأنه قرر نیكسون الاستمرار في التحقیق؛ ممثلًا عن لجنة الأنشطة غیر الأمریكیة في مجلس النواب؛ وفي مقابلة له مع هیس، وعندما ذكَّره نیكسون بقانون شهادة الزور والحنث بالیمین، أجابه هیس بقوله أنا أعرف هذا القانون؛ فقد درست في كلیة الحقوق في جامعة هارفارد؛ وأظن أن جامعتك كانت جامعة وِیتیَر؟ مشیرًا بذلك إلى ضعف الجامعة التي درس فیها نیكسون بالمقارنة مع جامعة هارفارد المرموقة.
وكان نیكسون شدید المتابعة له، ونجح أخیرًا بإدانته بشهادة الزور، وألقي هیس في السجن. وأدى هذا الانتصار إلى ذیوع شهرة نیكسون، لكنه أكسبه -على نحو ما یرویه لفریقه الخاص- سخطًا أبدیا من أصحاب نخبة الساحل الشرقي الذین رأوا فیه رجلًا مغرورًا متملقًا جاءهم من وِیتیَر.
وفي سنوات الخمسینیات من القرن الماضي كان هؤلاء النخبة -وكثیر منهم تخرج من جامعة هارفارد- كانوا یواصلون بصمت إقصاء نیكسون وزوجته عن حلقاتهم الاجتماعیة؛ لیقللوا بذلك من معارف نیكسون السیاسیین، أما حلفاؤهم في الصحافة فكانوا یسخرون منه بقسوة في أي خطأ محتمل في أقواله وأفعاله؛ فطبعًا لم یكن نیكسون من الملائكة، وكان نیكسون یحب الانتصارات، إلا أن نفاق هؤلاء اللیبرالیین نكَّد علیه انتصاراته، وكان بوبي كینیدي ملك الخدع السیاسیة القذرة، لكن ما من صحفي كان یذكر ذلك.
ومع إطنابه في سرد هذه الحكایات على موظفیه لیلة بعد لیلة كان یذكِّرهم بأن ماضیه ما زال ینبض بالحیاة؛ فأعداؤه القدامى ما زالوا یكیدون ضده؛ فكان هناك أحد مراسلي شبكة سي بي إس التلفزیونیة واسمه دانیال شور، كان یبدو كارها لنیكسون بحماس متَّقد؛ فقد كانت التقاریر التي یرسلها من فیتنام معدَّةً لتبرِز على الدوام أسوأ جوانب الحرب لجعل نیكسون یبدو بمظهر سیئ، وكانت هناك كاترین غراهام مالكة صحیفة (واشنطن بوست)، وهي صحیفة بدا أن لدیها ثأرًا شخصیا معه، یعود إلى سنوات كثیرة خلت؛ وكانت كاترین أبرز نساء المشهد الاجتماعي في حي (جورج تاون) في العاصمة واشنطن، ذلك المشهد الذي كان یزدریه وزوجتَه لسنوات طویلة، وكان هناك أسوؤهم، وهو (لاري أوبراي) الذي أصبح آنذاك رئیس الحزب الدیمقراطي، وعندما كان من كبار المستشارین في إدارة الرئیس الأمریكي كینیدي نجح في جعل دائرة الإیرادات الداخلیة تراجع حسابات نیكسون، فكان نیكسون یرى فیه تأبط شرا
في السیاسة، فقد كان مستعدا للقیام بأي شيء للحیلولة دون انتخاب نیكسون مرة ثانیة سنة 1972 لقد كان أعداء نیكسون منتشرین في كل مكان، یعادونه عداوة لا هوادة فیها؛ فیزرعون في الصحافة الأخبار السلبیة عنه، ویحصلون من مكاتب الموظفین على نمائم تحرجه، ویتجسسون علیه، وهم مستعدون للانقضاض علیه إذا وجدوا أدنى بارقة فضیحة، وكان نیكسون یلتفت إلى موظفیه سائلًا: ماذا نفعل نحن في مواجهتهم؟! فإذا لم یجیبوه بشيء شعروا بأنهم هم الملامون؛ فكان مجده وطموحاته في خطر. ومع تكاثر أخبار المظاهرات المناهضة للحرب في فیتنام، وانتشار نمائم تتناول المجهود الحربي لإدارة نیكسون هناك، امتلأ نیكسون بالغضب والإحباط، وزادت أحادیثه مع موظفیه من اشتعال الموقف بین مؤیدیه ومعارضیه؛ ویذكر كولسون (معاونه في البیت الأبیض)رغبة نیكسون في الانتقام من بعض معارضیه الذین استفزوه للغایة، فینقل عنه قوله سننال منهم یومًا ما؛ سننال منهم في المكان الذي نختاره، وسندوسهم ذات مرة بأعقابنا، ونُثقِل خطانا فوقهم، ونلویها، ألن نفعل ذلك یا تشارلز؟ ألن نفعله
وعندما علم نیكسون بأن كثیرین من موظفي (مكتب إحصائیات العمل) كانوا یهودًا شعر بأن ذلك یمكن أن یكون السبب في خروج بعض الإحصائیات الاقتصادیة ذات المدلولات السیئة من ذلك المكتب، فقال لهالدیمان (كبیر موظفي البیت الأبیض): الحكومة تغص بالیهود، ومعظم الیهود لا یخلصون الولاء وهم (أي الیهود) عماد ،منظومة الساحل الشرقي التي تعمل كل ما بوسعها في معاداته. وقال لهالدیمان في مناسبة أخرى أرجو أن تحضر لي أسماء الیهود؛ وتعلمُ بأنني أعني كبار المتبرعین الیهود للحزب الدیمقراطي ... فهل عسانا نحقق في أمر بعض الأوغاد لیجري التدقیق في أمرهم بالترتیب بدءًا من صاحب أكبر التبرعات، فالأدنى،فالأدنى. وكانت لدیه أفكار قاسیة أخرى لإیلام كاترین غراهام، وإحراج دانیال شور.
كذلك فقد أخذ نیكسون یزداد قلقًا بشأن صورته أمام العامة التي كانت بالغة الأهمیة لتثبیت مجده؛ فألح على فریقه الخاص -ومنهم هنري كیسنجر-
للترویج في الصحافة لأسلوب قیادته القوي. فكان علیهم في المقابلات الصحفیة أن یشیروا إلیه باسم( السید سلام)، دون توجیه كثیر من الثناء إلى كیسنجر، ثم أراد أن یعلم ما یقوله أصحاب النخبة عنه؛ في حفلاتهم في جورج تاون، وهل انتهوا أخیرًا إلى تغییر رأیهم بطریقة أو بأخرى في ریتشارد نیكسون؟
وعلى الرغم من انفعاله إلا أنه بات واضحًا مع دخول سنة 1972 أن الأحداث تسیر على ما یروم، فمنافسه من الحزب الدیمقراطي في عملیة إعادة انتخابه سیكون عضو مجلس الشیوخ جورج ماغوفرن؛ وهو من عتاة اللیبرالیین؛ فحل نیكسون في المقدمة في استطلاعات الرأي، إلا أنه أراد ما هو أكثر من ذلك، لقد أراد الحصول على أغلبیة ساحقة وتفویض من الشعب؛ ولیقینه بأن رجالًا من أمثال أوبراین یخفون له بعض المكائد في جعبتهم أخذ یوبخ هالدیمان لیدفعه إلى القیام بشيء من التجسس للحصول على شيء من أسرار وفضائح الحزب الدیمقراطي. وأراد من من هالدیمان أن یشكِّل فریقًا من الأكفاء المثابرین في بلوغ المآرب لیقوموا بذلك العمل القذر بأعلى كفاءة، ویترك له أمر التفاصیل.
لكن مما زاد في غمِّ نیكسون، أنه قرأ في حزیران/ یونیو من تلك السنة، في صحیفة واشنطن بوست عن إخفاق عملیة اختراق لفندق (وُترغیت)؛ حیث قامت مجموعة من الرجال بمحاولة وضع أجهزة تنصت في مكاتب لاري أوبراین، وأدى ذلك إلى اعتقال ثلاثة منهم -وكانت أسماؤهم:
جیمس ماكورد، وهوارد هانت، وغوردون لیدي- وكانت لهم صلة بلجنة إعادة انتخاب الرئیس نیكسون، وكان الاختراق قد تم بصورة سیئة للغایة لدرجة أن نیكسون اشتبه في أن یكون ذلك مكیدة من أعضاء الحزب الدیمقراطي؛ فلیس هذا فریق الأكفاء المثابرین الذي كان یدعو إلیه.
وبعد بضعة أیام، وفي یوم 23 حزیران/
یونیو، بحث في أمر الاختراق مع هالدیمان، وكان مكتب التحقیقات الفدرالي FBIیحقق في القضیة، وكان بعض الرجال الذین اعتقلوا عملاء سابقین لوكالة الاستخبارات المركزیة CIA
واقترح هالدیمان أنه لعله من ،الممكن اللجوء إلى كبار ضباط وكالة الاستخبارات المركزیة للضغط على مكتب التحقیقات الفدرالي من أجل إیقاف التحقیق في القضیة، ووافق نیكسون على الاقتراح، وقال لهالدیمان لا أرید التورط في الأمر فأجابه هالدیمان لا یا سیدي، لا نرید أن نورطك فیه لكن نیكسون أضاف قائلًا تدبر الأمر بخشونة، فتلك هي الطریقة التي یعملون بها، وتلك هي الطریقة التي سنعمل بها وكلف نیكسون مستشاره )جون دین) بإجراء التحقیقات الداخلیة (داخل البیت الأبیض)، وأعطاه توجیهات واضحة بألا یتعاون مع مكتب التحقیقات الفدرالي، وأن یخفي أي صلة للبیت الأبیض بالقضیة؛ وعلى أي حال لم یأمر نیكسون بصورة مباشرة بتنفیذ عملیة الاختراق مطلقًا؛ لقد كانت قضیة (وترغیت) تُرَّهةً من الترهات في نظر نیكسون، ولم یكن لها أن تلوث سمعته؛ بل إنها ستذهب بددًا، وتذهب معها الأعمال السیاسیة القذرة الأخرى التي لم تسجلها كتب التاریخ أبدًا.
والحق أنه كان محقا في ذلك الوقت؛ فلم یكن عامة الناس یولون اهتمامًا كبیرًا لعملیة الاختراق، ومضى نیكسون ففاز بأغلبیة ساحقة، كانت من أكبر النتائج التي سجلها تاریخ الانتخابات الرئاسیة في أمریكا؛ فقد حصل على الأغلبیة الساحقة في جمیع الولایات فیما عدا ولایة ماساتشوستس والعاصمة واشنطن، وفاز على الدیمقراطیین بنسبة مئویة كبیرة، وأضحى عنده أربع سنوات أخرى لتثبیت مجده، ولن یقف شيء في طریقه الآن؛ فقد بلغت شعبیته في الإحصائیات أوجها.
إلا أن قضیة وترغیت عادت تكبر شیئًا فشیئًا، ولن تتركه وشأنه؛ ففي كانون الثاني/ ینایر 1973 قرر مجلس الشیوخ البدء بالتحقیق في القضیة. وفي شهر آذار/ مارس أفشى ماكورد أحد المتهمین في القضیة سرَّه أخیرًا مشیرًا إلى تورط عدد من موظفي البیت الأبیض في إعطاء الأمر بتنفیذ عملیة الاختراق؛ أما (هانت )متهم آخر في القضیة فقد أخذ یلح في طلب رشوة لیصمت، ولا یفشي ما یعرفه من معلومات، وكانت سبیل الخروج من هذه الورطة بسیطة وواضحة؛ وهي استئجار محامٍ خارجي من خارج نطاق البیت الأبیض لیقوم بالتحقیقات الداخلیة بین موظفي البیت الأبیض في عملیة الاختراق، مع التعاون الكامل من نیكسون وفریقه الخاص مع ذلك المحامي، وكشف جمیع التفاصیل، وربما تتدهور سمعة نیكسون، وربما یودَع بعض موظفیه السجن، إلا أنه سیبقى في الحیاة السیاسیة على نشاطه؛ وهو الخبیر في العودة إلى الحیاة بعد الموت، في المجال السیاسي.
إلا أنه لم یكن بوسع نیكسون المضي في ذلك الطریق، فسیلحق به على الفور ضرر كبیر؛ فقد أذعرته أشد الذعر فكرة الإفصاح عما یعرفه، وما أمر به، واستمر في اجتماعاته مع (دین) مستشار البیت الأبیض في التباحث في حجب الحقائق، حتى إنه اقترح إمكانیة الوصول إلى دفع رشًى لكتمان المعلومات، وحذره (دین)من التورط في القضیة إلى هذا الحد، لكن نیكسون بدا مأخوذًا على نحو غریب بالورطة التي تزداد تعاظمًا، والتي أحدثها بنفسه، ولم یعد قادرًا على الانفكاك منها.
وسرعان ما أُجبر على عزل هالدیمان كبیر موظفي البیت الأبیض وإرلیتشمان مسؤول السیاسات المحلیة من منصبیهما، وكان الاثنان متورطین إلى حدٍّ بعید في عملیة الاختراق، وكان إجباره على طردهما محنةً علیه، وعندما وصل الخبر إلى إرلیتشمان انهار وبكى؛ لكن یبدو أنه ما من شيءٍ فعَله یستطیع إیقاف زخم التحقیق في قضیة وترغیت؛ وهو التحقیق الذي أخذ یقترب من نیكسون أكثر فأكثر، مما جعله یشعر وكأنه قد علق في مصیدة.
وفي 19 تموز/یولیو 1973 تلقى نیكسون أسوأ خبر على الإطلاق: لقد علمت لجنة مجلس
الشیوخ التي تحقق في قضیة وترغیت بأمر منظومة التنصت السریة المثبتة في البیت الأبیض، وطالبت بأن تستلم أشرطة التسجیل، لتكون بیِّنةَ لها في القضیة؛ وكان كل ما فكر به نیكسون الإحراج الشدید الذي سینجم عن كشف الأشرطة على الملأ؛ فذلك سیجعل منه أضحوكة العالم؛ فقد فكر في أسلوب حدیثه الذي كان یستخدمه، وفي الأشیاء الفظة الكثیرة التي دعا إلیها؛ فصورته أمام العامة، ومجده، والمثُل التي جاهد لتحقیقها ستنهار جمیعًا مرة واحدة بالضربة القاضیة. وفكر في أمه المتوفاة، وفكر في عائلته؛ فلم تسمعه عائلته یومًا یتحدث بالطریقة التي یتحدث بها في أحادیثه الخاصة في مكتبه.
فسیبدو الأمر لهم وكأن شخصًا آخر یتحدث في تلك الأشرطة التسجیلیة، وأخبره كبیر موظفیه الجدید (ألكسندر هیغ) بأن علیه أن ینزع منظومة التنصت، ویتلف جمیع الأشرطة التسجیلیة على الفور، قبل أن یتلقى استدعاءً رسمیا إلى المحكمة.
لكن نیكسون بدا مشلولًا: فإتلافه الأشرطة التسجیلیة سیكون اعترافًا منه بالذنب؛ ولعل الأشرطة تبرئه، ولعلها تثبت أنه لم یأمر أبدًا بتنفیذ عملیة الاختراق أمرًا مباشرًا؛ إلا أن فكرة خروج أي من هذه الأشرطة إلى العلن كانت تصیبه بالذعر، وأعیاه الأمر وهو یقلِّبه في ذهنه، لكنه قرر في النهایة ألا یتلف الأشرطة، وسیمتنع عن تسلیمها متذرعًا بصلاحیاته الرئاسیة.
وفي آخر المطاف، ومع تزاید الضغوط على نیكسون، قرر في نیسان/أبریل 1974 أن یفرج عن نسخة مكتوبة منقحة من الأشرطة، على هیئة كتاب من 1200 صفحة، راجیًا أن یعود علیه ذلك خیرًا. لكن الناس أصیبوا بالهلع إذ قرؤوا الكتاب؛ فمع أن الكثیرین رأوا في الرئیس من ذلك الكتاب رجلًا مراوغًا ماكرًا؛ إلا أن لهجته العنیفة، وسبابه وشتائمه، وخروجه عن طوره أحیانًا، ونبرة جنون العظمة في أحادیثه، وإعطاءه أوامر بتنفیذ أعمال غیر قانونیة؛ دون أي تأنیب للضمیر أو تورُّع كل ذلك كشف جانبًا من نیكسون لم یظنوه فیه یومًا. وحتى أفراد أسرته كانوا مذهولین مصدومین، وفي الأمور المتعلقة بقضیة وترغیت بدا ضعیفًا جدا، وشدید التردد؛ ولم تكن تلك مطلقًا صورة (دیغول) التي أراد إظهارها للناس. فهو لم یُبدِ ولو لمرة واحدة أدنى رغبة في الوصول إلى الحقیقة، ومعاقبة الخاطئین. فأین ذهب رجل القانون والنظام؟!
وفي 24 تموز/یولیو جاءته الضربة النهائیة: فقد أمرته المحكمة العلیا بتسلیم الأشرطة
التسجیلیة نفسها لا نصوصها المكتوبة المنقحة، وكان فیها حدیثه المسجل في 23
حزیران/ یونیو 1972 الذي وافق فیه على استخدام وكالة الاستخبارات المركزیة لإیقاف
تحقیقات مكتب التحقیقات الفدرالي، وكان ذلك هو الدلیل القاطع الذي كشف تورطه في حجب الحقائق منذ بدایة القضیة؛ فكان مصیره الإدانة، وفي أوائل شهر آب/أغسطس قرر الاستقالة من منصبه في رئاسة الولایات المتحدة الأمریكیة، مع أن ذلك یناقض كل ما كان یؤمن به.
وفي صباح الیوم الذي تلا إلقاء نیكسون خطاب استقالته للأمة، خاطب موظفیه للمرة الأخیرة، جاهدًا أن یكبح عواطفه، وانتهى إلى القول إیاكم وتخاذلَ العزیمة، إیاكم وضیقَ الأفق؛ وتذكروا دائمًا: أنه ربما كرهكم الآخرون، إلا أن كارهیكم لن ینالوا فوزهم إلا إذا كرهتموهم، فإذا كرهتموهم دمرتم أنفسكم ثم مضى مع عائلته إلى طائرة مروحیة حملته إلى منفاه السیاسي
0 التعليقات:
إرسال تعليق