21‏/06‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 54

 قوانين الطبيعة البشرية 54

مفاتیح للطبیعة البشریة

 

إذا فكرنا في الناس الذین نعرفهم ونراهم بانتظام فلا بد من أن نسلِّم بأنهم عادةً بهیجون ولطفاء جدا، وغالب الأمر أنهم سعداء بصحبتنا، ویتحلون بالصدق والثقة بالنفس نسبیا، وهم موثوقون اجتماعیا، ویستطیعون العمل في فریق عمل، ویعتنون بأنفسهم جیدًا، ویعاملون الآخرین معاملة حسنة؛ لكننا بین حین وآخر نلمح في هؤلاء الأصدقاء، أو المعارف، أو الزملاء، سلوكیات تبدو متناقضة مع ما نراه منهم عادةً.

ویمكن لذلك أن یظهر في صور شتى؛ فنرى أحدهم فجأة ینتقدنا، ویمكن أن یكون انتقاده قاسیًا، أو نراه یقیِّم عملنا أو شخصیتنا بجفاء كبیر! فهل ذلك هو ما یشعر به فعلًا، ویحاول جهده لإخفائه؟! إنه یبدو في لحظة غیر لطیف مطلقًا، أو لعلنا نسمع بتعامله البشع خلف الأبواب المغلقة؛ مع عائلته، أو مع موظفیه، أو نراه فجأة واقعًا في علاقة غرامیة بعیدة الاحتمال جدا، وتودي به إلى المصائب، أو یضع أمواله في مشروع مالي غیر منطقي ومحفوف بالأخطار، أو یقوم بعمل متهور یجعل حیاته المهنیة في خطر، أو تظهر منه كذبة من الكذبات، أو تصرف مخادع، ویمكننا أن نلاحظ تلك اللحظات أیضًا في التصرفات الانفعالیة، أو السلوك المسيء للسمعة، عند الشخصیات العامة والمشاهیر الذین یسهبون بعد ذلك في بذل الأعذار لما ظهر منهم من مزاجات غریبة.

 

وما نلمحه في تلك اللحظات إنما هو الجانب المعتم لطباع أولئك الناس، وهو ما یدعوه

عالِم النفس السویسري (كارل یونغ) باسم: الظل؛ فظل المرء یحتوي على جمیع الخصال التي یحاول أن یكبتها وینكرها في نفسه، ویكون هذا الكبت عمیقًا جدا، ومؤثرًا جدا، حتى إن المرء لا یدرك (ظله) في الأغلب؛ فهذا الظل یعمل في العقل الباطن؛  ویقول یونغ: إن هذا الظل له كثافة، وهي تعتمد على عمق مستوى الكبت، وعدد الخصال التي یخفیها؛ فیمكن أن نقول عن ریتشارد نیكسون بأنه كان صاحب (ظل) كثیف جدا، وعندما تمر بنا اللحظات التي یكشف فیها امرؤٌ من الناس عن جانبه المعتم نستطیع رؤیة مسحة غریبة على وجهه؛ ونستطیع ملاحظة تغیر صوته، وتغیر إیماءات جسمه، وكأنه شخص آخر تقریبًا، فتغدو سمات الطفل المضطرب بادیةً علیه فجأة؛ إننا نشعر بظله وهو یتحرك ویظهر للعیان.

 

ویستلقي هذا الظل مطمورًا في أعماقنا، لكنه یستیقظ وینشط في لحظات التوتر، أو عندما تتحرك مخاوف وجروح عمیقة داخلنا؛ ویزداد میلًا للظهور إذا ازداد الإنسان في العمر؛ فعندما یكون المرء في طور الشباب یبدو كل شيء مثیرًا له؛ ومن ذلك الأدوار الاجتماعیة المختلفة التي علیه أن یؤدیها، لكنه مع تقدمه في العمر ترهقه الأقنعة التي كان یرتدیها؛ فیزداد تسرب الظل منه.

وبما أننا نادرًا ما نرى هذا الظل فإن الناس الذین نتعامل معهم غرباء عنا بعض الشيء، والأمر أشبه برؤیة الناس بصورة مسطحة ذات بعدین؛ فنرى الجانب الاجتماعي البهیج فیهم، وإذا عرفنا ملامح ظلالهم تصبح صورتهم حیة ثلاثیة الأبعاد، وتعد هذه المقدرة على رؤیة الناس رؤیة مستدیرة خطوة أساسیة في معرفتنا بالطبیعة البشریة، فإذا تسلحنا بهذه المعرفة أمكننا أن نتوقع سلوك الناس في لحظات التوتر، ونفهم دوافعهم المستترة؛ ولا تجرنا إلى الهاویة میول تدمر النفس.

 

وینشأ الظل في سنواتنا الأولى في الحیاة، وهو ینبع من قوتین متضاربتین نشعر بهما؛ فمن القوة الأولى نأتي إلى هذا العالم نتفجر طاقةً وعنفوانًا، ولا نفهم الفرق بین السلوك المقبول والسلوك المرفوض؛ فلم نجرب إلا الاندفاعات الطبیعیة، وتكون بعض هذه الاندفاعات عدوانیة، فیرید واحدنا أن یحتكر اهتمام أبویه، وأن یتلقى من الاهتمام ما هو أكثر بكثیر مما یأخذه إخوته، ویمر بلحظات من العاطفة الكبیرة، وكذلك لحظات من الكراهیة، والضغینة الشدیدة؛ حتى تجاه أبویه؛ إذا لم تلبَّ احتیاجاته؛ فهو یرید الشعور بالتفوق بطریقة من الطرق، ویرید أن ینظر إلیه بالتقدیر لتفوقه في المظهر، أو في القوة، أو في الذكاء، وربما یصبح أنانیا جدا إذا أُنكرت علیه رغباته، وربما تحول إلى المكر والخداع لیحقق غایاته، حتى إنه ربما وجد شیئًا من المتعة في إیذاء الناس، وربما غرق في أوهام الانتقام من الآخرین، إنه یمر بطیف كامل من العواطف، ویعبر عنها؛ فهو لیس ذلك الملاك البريء الذي یتصوره الناس في الأطفال.

وفي الوقت نفسه كان واحدنا في صغره هشا للغایة، یعتمد كل الاعتماد على أبویه لیحیا، واستمر هذا الاعتماد علیهما سنوات كثیرة، وكان واحدنا یراقب أبویه بعینین كعیني الصقر، فیلاحظ كل إشارة على وجهیهما تنبئ عن الموافقة أو الرفض، وكان ینال منهما العقاب إذا بالغ في نشاطه وحركته، وهما یتمنیانه لو یبقى ساكنًا هادئًا، ویجده أبواه أحیانًا عنیدًا وأنانیا جدا، ویشعران بأن الآخرین یحكمون علیهما من سلوك طفلیهما؛ لذلك یریدانه أن یكون لطیفًا، وأن یخرج بمظهر جید أمام الآخرین، ویتصرف كأنه ملاك طیب، وكانا یحثَّانه على أن یكون متعاونًا مع الآخرین، ویلعب بنزاهة مع الآخرین؛ مع أنه یتمنى أحیانًا أن یتصرف على نحو مختلف، وكانا یشجعانه على التخفیف من احتیاجاته، لتكون أقرب إلى احتیاجاتهما في حیاتهما القاسیة، وكانا یثنیانه بشدة عن نوبات غضبه، أو أي صورة أخرى من التصرفات الانفعالیة.

 

فإذا كبرت سنُّه تمثلت هذه الضغوط في جبهة أخرى تأتیه من اتجاهات أخرى؛ من أقرانه ومعلمیه، فكان من المقبول منه أن یُظهر بعض الطموح؛ على ألا یبالغ في طموحه فیبدو إنسانًا غیر اجتماعي، وكان بإمكانه إظهار ثقته بنفسه؛ على ألا یبالغ في ذلك فیبدو كمن یفرض تفوقه على الآخرین، وتغدو ضرورة التلاؤم مع الجماعة دافعًا رئیسًا عنده، فیتعلم تذلیل نفسه، وكبح الجانب المعتم في شخصیته، ویستبطن جمیع المثالیات في ثقافته من أن یكون الإنسان لطیفًا، وأن یكون صاحب قیم اجتماعیة إیجابیة، وأكثر ذلك ضروري لصقل دوره في الحیاة الاجتماعیة؛ لكن في هذا المساق ینتقل جزء كبیر من طبیعته إلى جوفه، أي إلى (ظله. (

ولا شك أن هناك بعض الناس لم یتعلموا أبدًا التحكم بهذه الاندفاعات المعتمة؛ فینتهي بهم الأمر إلى التصرف تصرفات انفعالیة غیر مقبولة في واقع الحیاة؛ وأولئك هم المجرمون في المجتمع، لكن حتى المجرمون یحاولون جهدهم للظهور بمظهر جید في أوقات كثیرة، متكئین على تبریر سلوكیاتهم.

وینجح معظمنا في أن یصبح إنسانًا اجتماعیا إیجابیا، لكنْ هناك ثمنٌ یدفعه مقابل ذلك،

فینتهي الأمر بنا وقد افتقدنا العنفوان الذي مررنا به في طفولتنا، وافتقدنا الطیف الكامل من العواطف، وافتقدنا أیضًا الإبداع الذي یرافق هذا النشاط الهائج؛ فترانا نتوق سرا لاسترداده بطریقة أو بأخرى، وینجذب أحدنا إلى ما هو محرَّم من الغرائز الجنسیة والقیود الاجتماعیة؛ ولعله یلوذ بالمسكرات، أو المخدرات، أو أي نوع من المنشطات؛ لأنه یشعر بأن حواسه متبلدة، وأن عقله بات حبیس التقالید، فإذا راكمنا الكثیر من الآلام ومشاعر الاستیاء في حیاتنا ونحن نحاول جهدنا لإخفائها عن الآخرین تزداد كثافة الظل فینا؛ وإذا مررنا بنجاح في حیاتنا نمسي مدمنین على الاهتمام الإیجابي، وفي لحظات السقوط المحتومة -إذ تتبدد جرعة ذلك الاهتمام- یستیقظ ذلك الظل ویبدأ نشاطه.

 

ولا بد من طاقة نبذلها لإخفاء هذا الجانب المعتم؛ وربما تُستنزَف منا في محاولة الظهور بمظهر الإنسان اللطیف الواثق من نفسه؛ وهكذا یغدو الظل بحاجة إلى إطلاق شيء من التوتر الداخلي، فیعود إلى الحیاة،

0 التعليقات: