21‏/06‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 55

 قوانين الطبيعة البشرية 55


وفیما یأتي بعض أهم العلامات اللافتة في تحرر الظل:

 

1-  السلوك المتناقض: هذه هي أبلغ العلامات على الإطلاق؛ فهنا تكمن التصرفات التي

       تكذِّب ما یبنیه الناس من المظاهر بدقة وعنایة، ومثال ذلك مباغتة صاحب عظات الأخلاق        في وضع مخزٍ للغایة، أو انكشاف علامات القلق والهرع عند صاحب المظهر الصلب، أو التحول الفجائي لصاحب الدعوة إلى حریة الحب (إطلاق السفاد فلا زواج)والسلوكیات المنفتحة، لیصبح شخصًا مستبدا متسلطًا في حیاته الزوجیة أو في علاقاته الغرامیة والاجتماعیة؛ فالسلوك الغریب المتناقض ما هو إلا تعبیر مباشر عن (الظل).

 

2-  الانفعالات العاطفیة: ترى أحدهم یفقد فجأة ضبطه المعتاد لنفسه، ویعبر بحدة عن مشاعر استیاء عمیقة، أو یقول شیئًا لاذعًا وجارحًا، وفي أعقاب هذا التحرر لنوازعه المعتمة ربما تراه یلقي باللائمة على الضغوط؛ وقد یقول بأنه لم یقصد أي شيء مما قاله؛ والحق أن الوضع نقیض ذلك؛ فظله هو من تحدث عنه، فعلیك بأخذ ما قاله على محمل الجد؛ وفي المستوى الأقل شدة من ذاك ربما یصبح فجأة سریع الانفعال، وشدید الحساسیة، على نحو غیر معتاد؛ فبعض مخاوفه ودواعي قلقه العمیقة، الملازمة له منذ الطفولة، قد تنشطت بطریقة أو بأخرى، وهذا ما یجعله شدید الحذر من أي ازدراء محتمل، متوثبًا لانفعالات عاطفیة صغیرة.

 

3-  الإنكار الأهوج: یقول فروید بأن الطریقة الوحیدة لوصول شيء بغیض أو مزعج في

العقل الباطن إلى العقل الواعي هي الإنكار الشدید؛ فنحن نعبر عما یناقض تمامًا المدفون في نفوسنا، وقد تكون هذه حال شخص یستنكر الشذوذ الجنسي (اللواط والسحاق)، وهو أو هي یشعر بنقیض ذلك، وكان ریتشارد نیكسون قد لجأ إلى حالات الإنكار هذه مرارًا، مثلما حدث عندما أخبر الآخرین بأشد العبارات بأنه لم یبكِ یومًا، ولم یحمل ضغینة على أحد، ولم یستسلم للضعف في حیاته، ولا اهتم یومًا بما یظنه الناس فیه؛ فالواجب علیك أن تعید تفسیر عبارات الإنكار تلك، لترى فیها تعبیرات أكیدة عن رغبات الظل.

 

4-  السلوك العابر: یتحدث بعض الناس في أنهم سیقلعون عن شيء أدمنوه، أو أنهم لن

یجهدوا أنفسهم في العمل حتى الإعیاء، أو أنهم سیستمرون في الابتعاد عن العلاقات التي تدمر النفس، ثم نراهم یسقطون في سلوكیات قالوا بأنهم سینأَون عنها؛ ملقین باللائمة على مرضٍ لا یمكنهم التحكم به، أو تبعیة خارجة عن سیطرتهم. وهذا ما یسكِّن عقلهم الواعي لینغمس في الجانب المعتم فیهم؛ وهم ببساطة لا یستطیعون منع ذلك؛ فالواجب فیك أن تتجاهل مبرراتهم، وتنظر إلى (ظلهم)وهو یعمل فیهم، ویتحرر من عقاله، ولا تنس أیضًا أنه إذا كان أحدهم مخمورًا، وتصرف على نحو مختلف عما اعتاده فالغالب أن من ینطق بلسانه هو ظله، لا الخمر التي أسكرته.

 

5-  الإفراط في إسباغ المثالیة: یمكن أن تكون هذه العلامة هي الأكثر فعالیة في إخفاء

الظل، ولنفترض أننا نؤمن بقضیة من القضایا من قبیل أهمیة الشفافیة في أفعالنا، وبخاصة في السیاسة، أو أننا نبجل زعیمًا في قضیة من تلك القضایا، وننقاد له، أو أننا توصلنا إلى أن نوعًا جدیدًا من الاستثمار المالي -كسندات الرهن العقاري على سبیل المثال- یمثل آخر بِدَع جمع الثروة وأكثرها تطورًا؛ ففي هذه الحالات، یذهب واحدنا إلى ما هو أبعد من التحمس البسیط، ویملؤه اعتقاد راسخ، فیغشَى بصرُه عن أي عیب، أو تناقض، أو جوانب سلبیة محتملة، ویمسي وهو یرى كل شيء بلونیه الأبیض والأسود فیقول: قضیتي أخلاقیة، وعصریة، وتقدمیة؛ أما الآخرون، وفیهم المشككون في استقامة قضیتي، فهم الأشرار، وهم الرجعیون.

 

ویشعر حینئذ بأنه مخوَّل للقیام بأي شيء في سبیل قضیته من كذب، وغش، وخداع، وتجسس، وتزویر بیانات علمیة، وأخذٍ بالثأر، وأيُّ شيء یفعله الزعیم یكون مبررًا. وفي حالة الاستثمار المالي، یشعر بأنه من المسوَّغ له الحصول على ما ینظر إلیه بأنه مجازفة كبیرة عادةً، وذلك لأن المشروع المالي الآن مختلف وجدید، ولا تحكمه القواعد المعهودة. ویمكن أن یملأ الطمع قلبه دون أن ینظر في العواقب.

إننا نمیل إلى الانبهار بقوة اعتقادات الناس، ونفسر سلوكهم المُبالغ فیها بأنه ببساطة: حَمِیَّة مفرطة، إلا أن علینا أن ننظر إلیها من زاویة مختلفة؛ فعندما یفرط الناس في إسباغ المثالیة على قضیة، أو شخص، أو غرض معین، فإن ذلك یمكِّنهم من أن یرخوا العنان للظل فیهم؛ فذلك هو دافعهم في العقل الباطن، فیجب علینا أن نأخذ على محمل الجد ما یخرج من صفات التنمر، والخداع، والطمع، في سبیل تلك القضیة أو ما سواها؛ فالاعتقاد المفرط في القوة ما هو إلا ستار رقیق تُخرِج العواطف المكبوتة نفسها فیه.

 

ویتصل بهذا الأمر ما یحدث في المجادلات؛ حیث یَستخدم الناس اعتقاداتهم الراسخة لتكون طریقتهم المثلى في تمویه رغباتهم في التنمر والتهدید؛ فترى أحدهم یعرض الإحصائیات والحكایات وهي أشیاء یمكن العثور علیها في أي وقت انتصارًا لدعواه، ثم یشرع في إهانتك أو تكذیبك، ویقول إن الأمر لا یعدو أن یكون تبادلًا للأفكار، فعلیك أن تنتبه إلى نبرة التنمر في حدیثه، ولا تنخدع بظاهر كلماته، وإذا كان من یجادلك من المفكرین فهو أبرع من ذلك؛ فتراه یتعالى علیك بحدیث ملتبس، وأفكار غامضة لا یمكنك معرفة كنهها، فیشعرك بأنك أدنى منه منزلة بسبب جهلك بما یقول، وفي جمیع الحالات، علیك أن ترى في ذلك عدوانیة مكبوتة وجدت طریقها إلى الخروج من أعماق نفسه.

 

6-  الإسقاط: تعد هذه الطریقة حتى الآن أكثر الطرق شیوعًا في تعامل الناس مع

ظلالهم، فهي تمكنهم من تحریرها یومیا تقریبًا؛ فهناك رغبات معینة لا یستطیع الناس الاعتراف بها لأنفسهم - في السِّفاد، والمال، والسلطة، والتفوق في مجال ما -؛ لذلك تراهم بدلًا من الاعتراف بها لأنفسهم یسقطونها على أشخاص آخرین، ونرى الناس أحیانًا یتصورون هذه السمات في الآخرین ویسقطونها علیهم بلا أي مبرر؛ خلا إصدار الأحكام على الآخرین وإدانتهم، وفي أحیان أخرى نرى أناسًا یعبرون عن هذه الرغبات المحرمة بصورة أو بأخرى، فنبالغ فیما رأیناه منهم، لنبرر كرهنا لهم أو ضغینتنا علیهم.

 

فعلى سبیل المثال: تراك توجِّه تهمةً إلى شخص اختلفت معه بأن لدیه رغبة في التسلط، وحقیقة الأمر أنه یدافع عن نفسه وحسب؛ فأنت من یتمنى في سرِّه الهیمنة على الآخر، لكنك إذا نظرت إلى الأمر من الطرف الآخر بدایةً فبإمكانك أن تنفِّس عن رغبتك المكبوتة على صورة حكم تلقیه على نفسك، تبرر به استجابتك المتسلطة؛ فإذا افترضنا فیك الكبت منذ الصغر لاندفاعات إثبات نفسك وفرضها على الآخرین، واندفاعات عفویة طبیعیة جدا في الأطفال؛ ففي عقلك الباطن ستتمنى لو ترجع إلى تلك الخصال إلا أنه لا یمكنك تجاوز محرماتك الداخلیة؛ فتنظر إلى خارج نفسك باحثًا عمن هم أقل كبتًا منك وأكثر إثباتًا لأنفسهم وأكثر صراحة في طموحاتهم؛ فتقوم بالمبالغة فیما تراه من میولهم، فیعود بمقدورك أن تزدریهم، وإذا فكرت فیهم فإنك تنفس عما لا تستطیع الاعتراف به لنفسك، أو الاعتراف به عن نفسك.

 

تذكَّر: أي ضغینة شعواء تجد وراءها غالبًا حسدًا مستترًا، مبغضًا جدا للشخص الآخر أو للأشخاص الآخرین؛ فبهذه الكراهیة الشدیدة وحدها یمكن للضغینة أن تتحرر من العقل الباطن بصورة من الصور.

 

ولتفترض أنك محقق إذ ترید جمع كسراتٍ من ظلال الآخرین؛ فبوساطة العلامات المختلفة التي تلتقطها بإمكانك أن تحدد ملامح رغباتهم واندفاعاتهم المكبوتة؛ وهذا سیمكنك من توقع ما یتسرب منها في المستقبل، وتوقع السلوكیات الغریبة التي تشبه ظلالهم، وكن على ثقة من أن تلك السلوكیات لا تحدث مرة واحدة وحسب، وأن الغالب فیها أن تظهر في أماكن مختلفة؛ فعلى سبیل المثال: إذا رأیت میولًا للتنمر في الطریقة التي یجادلك بها أحدهم فستراها تظهر أیضًا في أنشطته الأخرى.

 

ولعلك مأخوذ بفكرة تقول بأن هذا المفهوم للظل هو مفهوم قدیم، كاد یتجاوزه الزمن؛ فنحن نعیش الیوم في ثقافة أكثر عقلانیة وتوجها إلى الأفكار العلمیة من ذي قبل، وربما نقول بأن الناس أصبحوا أكثر شفافیة ووعیًا ذاتیا من ذي قبل، لكن الحقیقة یمكن أن تكون نقیض ذلك تمامًا؛ فنحن -من نواحي شتى- أكثر انقسامًا من أي وقت مضى بین أنفسنا الاجتماعیة الواعیة وبین ظلالنا في عقولنا الباطنة، إننا نعیش في ثقافة تفرض قوانین صارمة للاستقامة، ویتوجب علینا الالتزام بها، وإلا واجهنا الخزي والعار على نحو ما بات شائعًا في وسائل التواصل الاجتماعي؛ فالمفترض بنا أن نرتقي إلى مُثُل الإیثار، وذلك أمر یستحیل علینا؛ لأننا لسنا من الملائكة، فیقود ذلك كلُّه الجانب المعتم في شخصیاتنا إلى مهاوي أعمق وأعمق.

 

وبإمكانك أن تقرأ علامات ذلك في انجذابك إلى الجانب المعتم في ثقافتك، فتراك تفتتن بمشاهدة عروض تمثیلیة تقوم فیها شخصیات میكافیلیة (انتهازیة) بخداع الآخرین وتضلیلهم،والسیطرة علیهم؛ وتستهویك أخبار تلتقط من خرجوا عن طورهم في تصرفات انفعالیة، وتستمتع بما لحق بهم من عار من جراء ذلك، ویشدك القتلة السفاحون (في جرائم متسلسلة)، وزعماء الطوائف الشیطانیة؛ ففي هذه العروض التمثیلیة والأخبار التي تتابعها بإمكانك دائمًا أن تصبح إنسانًا أخلاقیا، وتتحدث عن مدى احتقارك لهؤلاء الأوغاد، لكن الحقیقة أن ثقافتك تدأب على تقدیم هذه الشخصیات إلیك لأنك تواقٌ إلى تعبیرات ظاهرة للجانب المعتم، ویعطیك كل ذلك درجة من التحرر من التوتر؛ الذي تعانیه في قیامك بدور الملاك، والظهور بمظهر الإنسان المستقیم.

وهناك صور من التحرر من ذلك التوتر لا ضرر فیها نسبیا؛ إلا هناك صورًا خطیرة منه، وبخاصة في عالم السیاسة، فتراك تنجذب أكثر فأكثر إلى القادة الذین ینفِّسون عن هذا الجانب المعتم، الذین یعبرون عن العداء والاستیاء اللذَین تشعر بهما في قرارة نفسك، إذ یقولون ما لا تجرؤ أنت على قوله؛ وسعیًا منك لسلامة الجماعة، ونصرةً منك لقضیة معینة، تجد أن لدیك رخصة في التنفیس عن نكدك بتسلیطه على أكباش فداء ملائمة، فإذا أسبغت المثالیة على زعیمك أو قضیتك، تجد أنك أصبحت حرا في التصرف بطرق تخجل منها عادةً بصفتك الفردیة، وذلك الزعیم الذي یثیر الدهماء (الزعیم الدیماغوجي) بارعٌ في تضخیم الأخطار التي تواجهك، ویرسم لك كل شيء باللونین الأبیض والأسود كمن یقول لك: من لیس معنا فهوضدنا؛ أو: نحن تحالف السلام والآخرون محور الشر. ویثیر فیك المخاوف، وبواعث القلق، والرغبة في الانتقام؛ وكلها مطمورةٌ فیك، لكنها تنتظر أي لحظة لتتفجرَ فیها في إطار الجماعة، ویزداد عندك هؤلاء القادة عددًا كلما مررت بدرجات أعمق من الكبت والتوتر الداخلي.

 

والحل بدلًا من ذلك كله: هو أن ترى (ظلَّك) یعمل، فتزدادَ وعیًا ذاتیا؛ فمن الصعب علیك تسلیط

اندفاعاتك المستترة على الآخرین، أو الإفراط في إسباغ المثالیة على قضیة من القضایا إذا أدركت آلیة عمل كل ذلك في نفسك، وإذا أنت تسلحت بهذه المعرفة بالنفس أمكنك أن تجد طریقةً تدمج بها جانبك المعتم في عقلك الواعي، بصورة نافعة وبدیعة.

وعندما تقوم بذلك تصبح أكثر صدقًا وكمالًا في نفسك، فتستفید من أكبر قدرٍ من الطاقات المودعة فیك بصورة طبیعیة.

 

0 التعليقات: