21‏/06‏/2021

قوانين الطبيعة البشرية 53

 قوانين الطبيعة البشرية 53

 

التفسیر: لقد كان ریتشارد نیكسون لغزًا محیرًا في نظر من عملوا معه عن كثب، فوفقًا لما ذكره كبیر كتاب خطاباته (راي برایس) كان هناك اثنان من نیكسون المشرق، ونیكسون المعتم؛ فكان نیكسون المشرق : نیكسون یحترم الآخرین أحسن الاحترام،  ویهتم بهم أفضل ما یكون الاهتمام، وكان صاحب روح سمحة لا تضاهى في سماحتها، وكان دمثًا لطیفًا للغایة

أما نیكسون المعتِم : فكان غضوبًا، انتقامیا، سیئ المزاج، ذا روح لئیمة ورأى في ذینك الجانبین كأنهما في حرب مستمرة بینهما لكن لعل أكثر مراقبي نیكسون تبصرًا ودقةَ ملاحظةٍ، وأقربهم إلى كشف لغزه، هو هنري كیسنجر، الذي حرص على دراسته عن كثب، بحیث استطاع التعامل معه، أو حتى توجیهه وفقًا لأغراضه الخاصة؛ ووفقًا لما یذكره كیسنجر، فإن مفتاح لغز نیكسون وشخصیته المنقسمة كامن حتمًا في طفولته بطریقة أو بأخرى؛ فمما لاحظه كیسنجر

ذات مرة، ما یقول فیه هل لك أن تتصور الصورة التي یبدو علیها هذا الرجل إذا أحبه شخص ما والظاهر أن نیكسون عندما كان رضیعًا كان محرومًا إلى حدٍّ كبیر؛ فكان طفلًا كثیر البكاء؛ وكانت تهدئته تتطلب جهدًا كبیرًا، وكان یندفع لیشهق بالبكاء باستمرار؛ فقد كان یرید المزید من الاهتمام بأمره، والمزید من الجلبة بشأنه، وكان شدید المراوغة إذا هو لم یحصل على ما یرید، ولم یحب والداه هذا الجانب في طفلیهما؛ فنتیجة نشأتهما في الأیام الخوالي في جنوب كالیفورنیا كانا یریدانه طفلًا متماسكًا یعتمد على نفسه؛ وربما كان والد نیكسون یعنفه جسدیا، وربما كان فاترًا معه؛ أما أمه فكانت أكثر اهتمامًا به، إلا أنها كثیرًا ما تكتئب ویتقلب مزاجها؛ فكانت قد واجهت إخفاقات زوجها في عمله، وواجهت موت شقیقین علیلین لریتشارد، توفیا في مقتبل العمر، وكثیرًا ما كان علیها أن تترك ریتشارد وحیدًا لأشهر لتعتني بشقیقیه؛ وكان ذلك في نظر ریتشارد أشبه بنوع من الهجران.

لقد تشكلت شخصیة نیكسون في تعامله مع أبویه الشدیدَین؛ وسعیًا منه للتغلب على مكامن ضعفه وإخفائها أنشأ لنفسه سَمْتًا نفَعَه غایة النفع؛ مع عائلته أولًا، ومع جمهور الناس من ورائهم. وفي هذا السَّمْت، أبرز مواطن القوة فیه، وأنشأ مواطن قوة جدیدة في نفسه؛ فأصبح شدیدًا في قسوته، وجَلَده، وضراوته، وحزمه، وعقلانیته؛ ولم یكن شخصًا یمكن العبث معه، وبخاصة في المناظراتفوفقًا لما یقوله كیسنجر لم یكن هناك ما یخشاه، أكثر من أن یظن الناس فیه ضعفًا  لكن الطفل الضعیف سریع التأثر الذي یعیش داخله لا یختفي بأعجوبة؛ فإذا لم تُلَبَّ احتیاجاته، أو تعالَج، فإن حضورها سیُغرِق في العقل الباطن، إلى حیث ظلال الشخصیة، منتظرًا الخروج بطرق غیر معروفة، ویصبحَ جانبَه المعتم.

 

وكانت حال نیكسون أنه كلما أصابه توتر أو قلق شدیدان یثور فیه هذا الجانب المعتم، خارجًا من أعماقه؛ على صورة مخاوف عمیقة (أعدائي في كل مكان لا أحد یقدِّرني) وشكوك كبیرة ونوبات اهتیاج  وغضب مفاجئة، ورغبات قویة لخداع من یَعتقد أنهم اعترضوا طریقه ولإیذائهم.

 

وكان نیكسون یكبت هذا الجانب في نفسه، وینكره أشد الإنكار؛ حتى عندما وصل إلى النهایة في كلماته الأخیرة إلى موظفیه، وكان یكرر قوله للناس بأنه لم یبك یومًا، ولم یحمل حقدًا أو ضغینة على أحد، وأنه یهتم بما یظنه الآخرون فیه؛ وكان ذلك كله نقیض الحقیقة، وكان في معظم الوقت یقوم بدور (آرِنR N ) بصورة جیدة، لكن عندما تتحرك فیه العتمة یظهر علیه سلوك غریب، فیعطي ذلك انطباعًا للناس الذین یرونه دائمًا، بأنهم یتعاملون في حقیقة الأمر مع اثنین منه؛ أما في نظر كیسنجر فكان الأمر أشبه برؤیة طفل منبوذ یعود إلى الحیاة.

 

وفي نهایة المطاف، أصبح الجانب المعتم في نیكسون شیئًا ملموسًا على صورة أشرطة تسجیلیة، وكان نیكسون یعلم أن كل ما یقوله یسجَّل، ومع ذلك لم یكن یكبح كلماته، أو ینقِّیها مطلقًا؛ فكان یهین أصدقاءه المقربین غیبةً، مطلقًا لنفسه العنان لنوبات جامحة من أوهام جنون العظمة، وأوهام الثأر والانتقام، فیرغي بهذر الكلام في أبسط القرارات، لقد كان رجلًا یخاف أشد الخوف من أقل نمیمة داخلیة داخل مقر عمله، ویشتبه بخیانة كل من یحیطون به تقریبًا، ومع ذلك ظن أن في الأشرطة التسجیلیة الأمان على مصیره؛ لأنه كان یعتقد بأنها لن تظهر إلى العلن مطلقًا بلا تنقیح، وحتى عندما بدا أنها یمكن أن تخرج إلى العلن، وتلقَّى النصیحة بإتلافها، تشبث بها تحت سحر نیكسون الثاني الذي ظهر فیه، لقد كان الأمر وكأنه أراد في سریرته أن یلقى جزاءه وعقوبته، فالطفل والجانب المعتم فیه یأخذان بثأرهما بسبب إنكاره وجودهما إنكارًا

عمیقًا جدا.

 

الاستنتاج: اعلم أن قصة نیكسون أقرب إلیك وإلى واقعك مما یمكن أن تتصور؛ فحالك كحال نیكسون، صنعت لنفسك سَمتًا علنیا؛ یبرز مواطن قوتك، ویخفي مواطن الضعف فیك، وكحاله أیضًا تراك تكبت السمات التي لا تحظى بقبول اجتماعي كبیر؛ وهي موجودة فیك بصورة طبیعیة منذ طفولتك، وتراك أصبحت لطیفًا وبهیجًا إلى حد كبیر؛ وكحاله أیضًا لدیك جانب معتم؛ جانب تكره الاعتراف به، وتنفر من سبره؛ وفي ذلك الجانب المعتم تقبع مخاوفك العمیقة، ورغباتك المستترة لإیذاء الناس؛ حتى القریبین منك؛ وأوهامك في الانتقام، وشكوكك في الآخرین، وتوقك للحصول على المزید من الاهتمام والمزید من السلطة، ویراودك هذا الجانب المعتم في أحلامك. ویَنِزُّ منك في لحظات الاكتئاب غیر المبرَّر، والقلق غیر المعتاد، والمزاج المشتعل، والحرمان المفاجئ، والأفكار المرتابة، ویخرج في صورة تعلیقات مرتجلة منك، تندم علیها لاحقًا.

وهو یؤدي بك أحیانًا إلى سلوكیات مدمرة؛ كما حصل مع نیكسون؛ وستكون میالًا إلى لوم ظروفك، أو لوم الآخرین من حولك، على هذه المزاجات والسلوكیات؛ إلا أنها لا تفتأ تتكرر لأنك لا تدرك مصدرها، فالاكتئاب والقلق یصیبانك عندما لا تكون على طبیعتك تمامًا؛ وذلك لأنك تصطنع دائمًا دورًا ما؛ ویتطلب منك كبت هذا الجانب المعتم طاقة كبیرة، لكن في بعض الأوقات تتفلت منك سلوكیات غیر مرضیة، تكون سبیلَك للتحرر من الاحتقان الداخلي.

 

ومهمتك وأنت تدرس الطبیعة البشریة هي أن تدرك الجانب المعتم في طبعك، وتقوم بسبره؛ فإذا تعرض هذا الجانب للتدقیق الواعي فإنه یفقد قوته التدمیریة؛ وإذا تعلمت الكشف عن علاماته في نفسك  فبإمكانك أن تطلق هذه الطاقة المعتمة في أنشطة نافعة، وبإمكانك أن تحول ما تشعر به من الحرمان والضعف إلى التعاطف أو المشاركة الوجدانیة؛ وبإمكانك توجیه دوافعك العدوانیة إلى قضایًا ذات شأنٍ، أو توجهها إلى عملك. وبإمكانك الإقرار بطموحاتك

ورغباتك في حیازة السلطة؛ ولا تتصرف وكأنك ترتكب إثمًا، أو تسرق خلسة، وبإمكانك أن تراقب میول الشك فیك، وتراقب إسقاط عواطفك السلبیة على الآخرین، وبإمكانك أن ترى أن الدوافع الأنانیة والمؤذیة تستقر في قرارة نفسك أیضًا؛ فأنت لست مَلَاكًا كما تتصور، ولا قویا كما تتخیل؛ فإذا تسلحت بهذا الإدراك، أصبح الاتزان دأبك وسجیتك، والتسامح مع الآخرین منهجك وطریقتك.

ولعله یبدو لك أن من یُظهرون القوة والصلاح باستمرار یغدون أشخاصًا ناجحین في حیاتهم؛ لكن الحقیقة مختلفة كل الاختلاف؛ فإذا انخرطت في اصطناع دور لك إلى حدٍّ كبیر، وجاهدت للارتقاء إلى مستوى المثالیات غیر الواقعیة، فسینبعث منك زیفٌ یراه الآخرون فیك؛ فلتتأمل في الشخصیات العامة العظیمة؛ من قبیل أبراهام لینكولن، ووینستون تشرتشل. لقد حازوا القدرة على سبر عیوبهم وأخطائهم، والاستهزاء بها؛ فكان أحدهم یعطي الانطباع بأنه إنسان صادق النفس؛ وذلك هو مصدر جاذبیته؛ أما مأساة نیكسون فكانت أنه كان صاحب موهبة سیاسیة كبیرة، وذكاء لامع؛ ولیته حاز أیضًا القدرة على النظر في نفسه، وقیاس الجوانب المعتمة في طبعه. فتلك مأساة تواجهنا جمیعًا، إلى حد أننا نبقى في إنكارنا العمیق لها.

 

تلازمنا اللهفة لارتكاب أمر جنوني في كل حیاتنا؛ فعندما یقف أحدنا مع شخص آخر على شفا هاویة، أو على قمة برج، ألا یتحرك فیه حافز لدفع الآخر إلى السقوط؟ فكیف لنا أن نؤذي من نحبهم، مع علمنا بأننا سنندم على فعلتنا؟ إن حیاتنا كلها لیست إلا صراعًا مع قوى الظلام داخل أنفسنا؛ فحتى نعیش لا بد لنا من أن نحارب تلك العفاریت، بكل ما أوتینا من طاقة، وإذا أردنا أن نطلق الأحكام فلنطلقها على أنفسنا.

                    هنریك إبسن



0 التعليقات: