أسرار الصلاة 2
الكلام عن الوضوء
فبالوضوء يتطَّهر من الأوساخ، و يُقدم على ربِّه متطهرا، و الوضوء له ظاهر و باطن
:
فظاهره : طهارة البدن، و أعضاء العبادة.
و باطنه و سرّه : طهارة القلب من أوساخ الذنوب و المعاصي و أدرانه بالتوبة ؛ و
لهذا يقرن تعالى بين التوبة و الطهارة في قوله تعالى : { إن الله يحب التَّوابين و
يحب المتطهرين }[ البقرة : 222] و شرع النبي صلى الله عليه و سلم للمتطهِّر أن
يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول : "اللهم اجعلني من التوّابين، و
اجعلني من المتطهرين " .
فكمَّل له مراتب العبدية و الطهارة، باطنا و ظاهرا، فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك،
و بالتوبة يتطهر من الذنوب، و بالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة .
فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز و جل، و الوقوف بين يديه، فلما
طهر ظاهرا و باطنا، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه و بذلك يخلص من الإباق.
و بمجيئه إلى داره، و محل عبوديته يصير من جملة خدمه، و لهذا كان المجيء إلى
المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم و المستحبة عند آخرين.
من تمام العبودية الذهاب للمسجد
و العبد في حال غفلته كالآبق من ربه، قد عطّل جوارحه و قلبه
عن الخدمة التي خُلق لها فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف
التذلل و الانكسار، فقد استدعى عطف سيِّده عليه، و إقباله عليه بعد الإعراض عنه .
عبودية التكبير " الله أكبر ".
و أُمر بأن يستقبل القبلة ـ بيته الحرام ـ بوجهه، و يستقبل الله عز و جل بقلبه،
لينسلخ مما كان فيه من التولي و الإعراض، ثم قام بين يديه مقام المتذلل الخاضع
المسكين المستعطف لسيِّده عليه، و ألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس، خاشع
القلب مُطرق الطرف لا يلتفت قلبه عنه، طرفة عين، لا يمنة و لا يسرة، خاشع قد توجه
بقلبه كلِّه إليه.
و أقبل بكليته عليه، ثم كبَّره بالتعظيم و الإجلال و واطأ قلبه لسانه في التكبير
فكان الله أكبر في قلبه من كلِّ شيء، و صدَّق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء
أكبر من الله تعالى يشغله عنه، فإنه إذا كان في قلبه شيء يشتغل به عن الله دلّ على
أن ذلك الشيء أكبر عنده من الله فإنه إذا اشتغل عن الله بغيره، كان ما اشتغل به هو
أهم عنده من الله، و كان قوله " الله أكبر " بلسانه دون قلبه ؛ لأن قلبه
مقبل على غير الله، معظما له، مجلاً، فإذا ما أطاع اللسان القلب في التكبير، أخرجه
من لبس رداء التكبّر المنافي للعبودية، و منعه من التفات قلبه إلى غير الله، إذا
كان الله عنده و في قلبه أكبر من كل شيء فمنعه حقّ قوله : الله أكبر و القيام
بعبودية التكبير من هاتين الآفتين، اللتين هُما من أعظم الحُجب بينه و بين الله
تعالى.
عبودية الاستفتاح
فإذا قال : " سبحانك اللهم و بحمدك" و أثنى على الله تعالى بما هو أهله،
فقد خرج بذلك عن الغفلة و أهلها، فإن الغفلة حجاب بينه و بين الله.
و أتى بالتحية و الثناء الذي يُخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيما له و تمهيدا،
و كان ذلك تمجيدا و مقدمة بين يدي حاجته.
فكان في الثناء من آداب العبودية، و تعظيم المعبود ما
يستجلب به إقباله عليه، و رضاه عنه، و إسعافه بفضله حوائجه
حال العبد في القراءة و الاستعاذة
فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فإنه أحرص ما
يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقامات العبد و أنفعها له
في دنياه و آخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه، و انتفاعه دونه بالبدن و القلب، فإن
عجز عن اقتطاعه و تعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه و عطَّله، و ألقى فيه الوساوس
ليشغله بذلك عن القيام بحق العبودية بين يدي الرب تبارك و تعالى، فأمر العبد
بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه و ليحي قلبه، و يستنير بما
يتدبره و يتفهمه من كلام الله سيِّده الذي هو سبب حياة قلبه، و نعيمه و فلاحه،
فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة.
و لما علم الله سبحانه و تعالى حَسَد العدو للعبد، و تفرّغه له، و علم عجز العبد
عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه، و يلتجئ إليه في صرفه عنه، فيكتفي بالاستعاذة من
مؤونة محاربته و مقاومته، و كأنه قيل له : لا طاقة لك بهذا العدو، فاستعذ بي أعيذك
منه، و استجر بي أجيرك منه، و أكفيكه و أمنعك منه .
نصيحة ابن تيمية لابن القيِّم
و قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه و نوَّر ضريحه يومًا : إذا هاش عليك
كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته، و مدافعته، و عليك بالراعي فاستغث به فهو يصرف عنك
الكلب، و يكفيكه.
فإذا استعاذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم أبعده عنه .
فأفضى القلب إلى معاني القرآن، و وقع في رياضه المونقة و
شاهد عجائبه التي تبهر العقول، و استخرج من كنوزه و ذخائره ما عين رأت و لا أذن
سمعت و لا خطر على قلب بشر، و كان الحائل بينه و بين ذلك، النفس و الشيطان، فإن
النفس منفعلة للشيطان، سامعة منه، مطيعة فإذا بَعُدَ عنها، و طُرد ألَّم بها
الملَك، و ثبَّتها و ذكّرها بما فيه سعادتها و نجاتها.
فإذا أخذ العبد في قراءة القرآن، فقد قام في مقام مخاطبة ربِّه و مناجاته، فليحذر
كل الحذر من التعرّض لمقته و سخطه، بأن يناجيه و يخاطبه، و قلبه معرِض عنه، ملتفت،
إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقته، و يكون بمنزلة رجل قرَّبه ملك من ملوك الدنيا، و
أقامه بين يديه فجعل يخاطب الملك، و قد ولاَّه قفاه، أو التفت عنه بوجهه يَمنَة و
يسرة، فهو لا يفهم ما يقول الملك، فما الظن بمقت الملك لهذا.
فما الظن بمقت الملك الحق المبين رب العالمين و قيوم السماوات و الأرضين.
حال العبد في الفاتحة
فينبغي بالمصلي أن يقف عند كل آية من الفاتحة وقفة يسيرة، ينتظر جواب ربِّه له، و
كأنه يسمعه و هو يقول : " حمدني عبدي " إذا قال : { الحمدُ للهِ ربِّ
العالمينَ}.
فإذا قال : { الرَّحمن الرَّحيم } وقفَ لحظة ينتظر قوله : " أثنى عليَّ عبدي
".
فإذا قال : {مالكِ يومِ الدِّينِ } انتظر قوله : " مجَّدني عبدي ".
فإذا قال : { إيَّاك نَعبدُ و إيَّاك نَستعين } انتظر قوله تعالى : " هذا
بيني و بين عبدي ".
فإذا قال : {اهدِنا الصِّراط المُستقيم } إلى آخرها انتظر قوله : " هذا لعبدي
و لعبدي ما قال ".
و مَن ذاق طعم الصلاة عَلِمَ أنه لا يقوم مقام التكبير و الفاتحة غيرهما مقامها،
كما لا يقوم غير القيام و الركوع و السجود مقامها، فلكلٍّ عبوديه من عبودية الصلاة
سرٌّ و تأثيرٌ و عبودية لا تحصل في غيرها، ثمَّ لكل آية من آيات الفاتحة عبودية و
ذوق و وجد يخُصُّها لا يوجد في غيرها.
فعند قوله : { الحمد لله رب العالمين } تجد تحت هذه الكلمة
إثبات كلّ كمال للرب و وصفا و اسما، و تنزيهه سُبحَانه و بحمده عن كلِّ سوء، فعلاً
و وصفاً و اسماً، و إنما هو محمود في أفعاله و أوصافه و أسمائه، مُنزَّه عن العيوب
و النقائص في أفعاله و أوصافه و أسمائه.
فأفعاله كلّها حكمة و رحمة و مصلحة و عدل و لا تخرج عن ذلك، و أوصافه كلها أوصاف
كمال، و نعوت جلال، و أسماؤه كلّها حُسنى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق