حرب المستضعفين 13
وقد نُظمت قوات الفييتمينة في ثلاث فئات، وفق النموذج المتبع في الصين:
1- المحاربون النظاميون الدائمون ( تشولوك )، الذين يمكن استخدامهم استراتيجياً في أي مكان، ويؤلفون كبد القوات في عملية كبرى.
(لماذا قام الاستعماريون الفرنسيون بهذا التقويم؟ لأنهم فكروا بأنه لا بد من وجود جيش لمقارعتهم عند الاجتياح. وكان من المستحيل عليهم أن يفهموا الحقيقة الأساسية الحاسمة، المتمثلة بأن الجيش الضعيف مادياً، كان جيشاً شعبياً... وعندما بدأ العدوان، فقدوا محبة أمة بكاملها. والاوقع أن الأمة الفيتنامية كلها، الشعب الفيتنامي بأسره ثار ضدهم. وبما أن الجنرالات الفرنسيين لم يكونوا قادرين على فهم هذه الحقيقة العميقة، وآمنوا بانتصار سهل، فإنهم ساروا على العكس نحو هزيمة محققة ).
فإذا اسقطنا المبالغة اللفظية، وجدنا أن هنالك كثيراً من الحقيقة في أقوال جياب. فالقوات الفرنسية المتمسكة بالاستراتيجية التقليدية، ألفت نفسها ( غارقة في بحر من البشر المسلحين ). ولقد أتى معظم الأسلحة من الحملة ( الفرنسية ) نفسها، التي قال جياب عنها أنها أصبحت ( المزود بلا تعمد لجيش الشعب الفيتنامي بالأسلحة الفرنسية، الأمريكية أصلاً ).
أما عن تنظيم المقاومة، فإن جياب يلاحظ، بأنه كان قبل كل شيء سياسياً، ثم عسكرياً:
( لقد طالب حزبنا، من أجل خوض الحرب الشعبية، بإنشاء ثلاثة أنواع من القوات المسلحة، وأولى كثيراً من الاهتمام لتشكيل وتنمية وحدات الدفاع الذاتي ووجدت حرب العصابات، وأُنشئت الميليشيا في كل مكان. وبفضل توطيد الإدارة الشعبية في الريف كله، ولوجود فروع الحزب في كل مكان، فإن الميليشيا توسعت كثيراً ونهض الشعب للقتال. وقامت وحدات من العصابات بالاشتراك مع الجيش النظامي بالعمل على مؤخرات العدو وإرهاقه، وثبتته في قواعده، وسمحت بذلك لجيشنا النظامي بالقيام بعمليات متحركة لإبادته. وقد تحولت هذه المؤخرات إلى جبهة بالنسبة إلينا، وانتظمت قواعد استطاع الجيش النظامي الانطلاق منها لشن هجمات في قلب المناطق التي يسيطر عليها العدو، كما حمت هذه القواعد الأشخاص وممتلكاتهم، وحفظت الإنتاج، وأحبطت نية العدو الساعية إلى تغذية الحرب بالحرب، وباستخدام الفيتناميين لقتال الفيتناميين. ففي المناطق المحررة، قاتلت وحدات ثوار العصابات العدو بفعالية، وراقبت الخونة، وكانت الأدوات الفعالة للإدارة وللأحزاب المحلية. كما كانت في الوقت ذاته، القوة الضاربة في الإنتاج والنقل والتموين. ومن خلال القتال والعمل، أصبحت وحدات ثوار العصابات منبعاً ثميناً لا ينضب لاختيار متطوعي الجيش النظامي وصارت تمده بالجنود والضباط المثقفين سياسياً، والحائزين على خبرة قتالية ثمينة ).
وقد ارتكبت المعسكران أخطاء فادحة في المرحلة الأولى، فلقد كرس الفرنسيون خمسة أشهر من العام 1947 لمحاولة فاشلة تستهدف إلقاء القبض على هوشي منه وهيئة أركانه، معتقدين أن ذلك سيؤدي إلى اختصار مدة الحرب. وحتى أنهم لو نجحوا في ذلك، فإن مجرى الحرب ما كان ليتأثر، إذ أن النتيجة لم تكن تتوقف على عبقرية عسكرية فردية، بل على استراتيجية أملاها الموقف السياسي – العسكري، ولأن كل مسؤول شيوعي تعلم الدرس الصيني، كان بإمكانه تطبيق تلك الاستراتيجية تلقائياً.
ومن المناسب أن نلاحظ مرة أخرى، أن أهم ما يدفع ثوار العصابات لأن يقاتلوا بطريقتهم تلك، هو أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء آخر. إن وضعهم يحدد طريقة تصرفهم، فلأنهم لا يمتلكون أسلحة ثقيلة، ولا فرقا مؤهلة لشن حملات تقليدية، فإنهم يجدون أنفسهم مجبرين، كما يقول كلاوفيتز، على قضم أطراف الجيش المعادي، والقتال على مؤخراته. ولأنهم لا يمتلكون القدرة المادية لتحقيق الحسم العسكري، فلا بد لهم بالضرورة من انتظار الحسم السياسي. ففي وضع ثوري، لا بد أن يأتي الحسم السياسي لمصلحتهم، لأنه نتيجة لحرب طويلة لا يستطيع العدو دعمها سياسياً أو نفسياً، مهما كان وضع قواته العسكرية.
ويحلل الجنرال جياب موقف الفرنسيين بقوله:
( يتحول العدو ببطأ من الهجوم إلى الدفاع، وتتحول الحرب الخاطفة إلى حرب استنزاف، ويلفى العدو نفسه أمام مأزق: إن عليه أن يستمر في الحرب لمدة طويلة حتى يكسبها، وهو لا يمتلك الوسائل السياسية أو النفسية لدعم قتال طويل الأمد ).
ولقد كان جياب على حق، فالضغوط السياسية التي وقعت فرنسا تحتها، وتدني مستوى معنويات السكان الباقين على الولاء لفرنسا، وتناقص معنويات القوات مع الزمن، اعاقت جهود الحملة بشدة.
وكثرت المليشيا الثورية في البلاد، وتشكلت عملياً وحدات منها في كل قرية، وأجرى نظاميو الفييتمينة مسيرات طويلة في الأدغال لمهاجمة رتل هنا وموقع صغير هناك، وكانوا يجهزون في خلال مسيراتهم وبسرعة، وحدات جديدة، بفضل الأسلحة المستولى عليها من العدو، والمعدات الثقيلة المهرَّبة من الصين .
وفي نهاية العام 1949، فقد الفرنسيون المبادرة، التي انتقلت إلى الفييتمينة، واستطاع الثوار شن هجوم محدد بخمس عشرة كتيبة، لاحتلال دلتا نهر توكين في مرتفعات ( التي ) العالية.
وفي الربيع وقع هجوم أشد اتساعاً أدى إلى احتلال دفاعات وادي ( النهر الأحمر ) وعندما أتى الصيف، كان كل الجزء الشمالي الشرقي من تونكين قد تحول إلى قلعة فيتنامية. ووقع ما كان من الواجب توقعه، إذ بدأت الضغوط السياسية في فرنسا. وفي آب 1950، أمرت حكومة باريس بإنقاص قوات الهند الصينية بمقدار تسعة آلاف رجل، مبرهنة بذلك عن جهلها التام للحقائق العسكرية. وتجاوب المجلس الوطني الفرنسي ( مجلس النواب ) مع الشعور العام في البلاد والمناهض للحرب، فطالب بألا يرسل جندي من المجندين لخدمة العلم إلى الهند الصينية، أب أن ما يجري فيها يجب أن يتم بعمل جهاز الشرطة، ويُنفَّذ من قبل الجنود المحترفين، وخاصة أفراد الفرقة الأجنبية، ووحدات المغاربة، ووحدات أخرى غير فرنسية.
ونتج عن ذلك طبعاً وهن جديد للجهد ( العسكري )، وهجوم فيتنامي جديد. وانقطعت سلسلة من حاميات تونكين الغربية عن قواعدها، ووقعت مجموعة مؤلفة من 3500 مغربي، و 2600 جندي من جنسيات أخرى، من المظليين و 500 مدني، في كمين أسفر عن إبادة المجموعة، كما أبيدت 3 كتائب أُرسلت لمساعدة المجموعة.
وقد كتب ( برنارد فول ) في ( الفيتناميين :
- في نهاية شهر تشرين الأول 1950، أضحى النصف الشمالي من فيتنام كله تقريباً معقلاً للفييتمينة، لا يمكن للفرنسيين اختراقه – باستثناء إغارة قامة بها المظليون على ) لانغ سون ) في تموز 1953.
- وعندما انقشع الدخان، كان الفرنسيون قد عانوا أكبر هزيمة استعمارية لهم منذ موت ( مونكالم ) في كيبك. إذ فقدوا ستة آلاف رجل، وثلاث عشرة قطعة مدفعية، ومائة وخمسة وعشرين هاوناً، وأربعمائة وخمسين شاحنة، وثلاثة فصائل من المدرعات، وتسعمائة وأربعين رشاشاً، وألفاً ومئتي رشيشة، وأكثر من ثمانية آلاف بندقية، وتركوا مستودعات كافية لإعداد فرقة فييتمينة كاملة.
( وعندما فقد الفرنسيون حرب الهند الصينية، وكان استمرارها بعد ذلك أربع سنوات، دليلاً على قصر نظر السلطات المدنية، المكلفة باستخلاص النتائج السياسية من موقف عسكري يائس. أما العون الأمريكي – الذي ظهر في جزيران 1950 بعد اندلاع الحرب الكورية، على شكل سبع طائرات نقل – فلم يكن ليغّير أبداً من نتيجة النزاع ).
إلا أن القرار الذي اتخذه الجنرال جياب بشكل سابق لأوانه في نهاية نيسان 1950، وقرر فيه القيام بهجوم عام، أدى إلى إضعاف تقدم الفييتمينة. إن تلك المحاولة لدخول المرحلة الثالثة الحـاسمة من حرب ماو الثورية ( الهجوم الاستراتيجي )، قبل نضوج الموقف كلفت الفييتمينة غالباً. فخلال معركة واحدة في دلتا النهر الأحمر، في يومي 16 و 17 كانون ثاني 1951، فقد جياب ستة آلاف رجل. وفي آذار 1951، انهزم من جديد، عندما أراد الاستيلاء على ميناء هايفونغ، كما أخفقت أيضاً محاولة ثالثة في حزيران.
وركَّز الفييتمينة جهودهم بعد ذلك بتعقل على أهداف تسمح بتحقيق نتائج أفضل، وخاصة السيطرة على الهضاب المرتفعة، حيث لا يمكن للفرنسيين التدخل بمدفعيتهم أو طيرانهم أو مدرعاتهم، بل كان عليهم أن يقاتلوا بالشروط التي حددها الفييتمينة لهم.
وكان على الفرنسيين مواجهة معضلتين أساسيتين: الأولى عسكرية، وتتمثل في عدم كفاية القوات، والثانية سياسية، وتتمثل في عدم الحصول على دعم الوطن الأم. وتفاقمت المعضلات بسبب الضغوط اليبلوماسية. وبقيت استراتيجية الفييتمينة مرنة، في حين حافظت الاستراتيجية الفرنسية على جمودها، وهذا ما جعل الحملة تجر نفسها غالباً في وضع غير متوازن.
ونتيجة لنقص القوات، كانت الحملة تسيطر بضعف على أقاليم شديدة الاتساع، وتقاوم بشكل سيء الضربات الموجهة في الفرق الفيتنامية، المركزة. وعندما كانت الحملة تتجمع للقيام بالهجوم وأخذ المبادرة في قطاع، كان ثوار العصابات يمارسون نشاطهم في مكان آخر، لإجبارهم على التفرق من الجديد. ومن جهة أخرى، وبسبب استراتيجيتهم السياسية والعسكرية، استطاع الفييتمينة الحصول على نجاحات كبرى، عن طريق ممارسة الضغوط، السياسية والنفسية على العدو.
ويوضح اجتياح لاووس من قبل جياب، وفي بداية ربيع 1953، هذه النقطة بشكل جيد. فلقد قام به بواسطة ثلاث فرق معززة بزهاء 4000 من الباثيت لاو ضد 3000 فرنسي، يدعمهم جيش لاووسي يضم عشرة آلاف رجل. وحتى لا يضحي القائد الفرنسي بحامياته الحدودية الضعيفة، أمرها بالانسحاب، على ألا تترك إلا كتيبة واحدة للعمل كمؤخرة. ولم يبق على قيد الحياة من هذه الكتيبة، إلا أربعة رجال. وعندما هوجمت إحدى هذه الحاميات أثناء انسحابها، فإنه لم يعد منها إلا 180 رجلاً من أصل 2400 رجل.
وقد استطاع التعزيزات، الآتية من فيتنام عن طريق الجو، إيقاف الاجتياح على سهل ( الجرار ). لكن ذلك أوجب أخذ الاحتياطات من قطاع العمليات الرئيسية، واستنفار كافة وسائل المواصلات الجوية لمدة من الزمن، ولقد تم صد الفيتناميين، لكنهم اعتبروا أن الحملة لم تكن جهداً مبدداً.
ويعلن كاتزنباخ: ( إن نتائج هذه العملية، مع أنها لم تبلغ كافة غاياتها. كانت مماثلة لنتائج انتصار كبير، ونادراً ما حُققت أشياء عظيمة بمثل الوسائل القليلة.
والأمر الأكثر غرابة في العملية، والذي لم يؤخذ في الاعتبار إلى بعد فوات الأوان، هو أنها كانت منذ البداية مناقضة للمثل القائل: من لا يخاطر بشيء لا يخسر شيئاً. فلم تكن هنالك أية مخاطرة عسكرية حقيقية، وكانت العملية مضمونة بمقدار ضمان نجاح غزو التيبت من قبل الصين.
ومع ذلك، فإن الشيوعيين بغزوهم الذي استمر ثلاثة أسابيع، حصلوا على النتائج التالية:
1. نشروا الرعب لدى السلطات العسكرية والمدنية في الهند الصينية وفي فرنسا.
2. أجبروا قوات الدفاع على تمديد خطوطها بشكل أطول.
3. زادوا من حدة مطالب الاستقلال السياسي في لاووس وكمبوديا.
4. خلقوا موقفاً زاد من نفقات فرنسا بمقدار ستين مليوناً من الدولارات.
5. جعلوا الولايات المتحدة تخسر حوالي 460 مليوناً من الدولارات من عونها الخارج ).
أما الشرح الذي قدمه جياب عن الاستراتيجية المستخدمة لإحباط مخطط ( نافار ) الشهير، وهو المجهود النهائي الذي بذلته فرنسا لأخذ زمام المبادرة في الهند الصينية، فإنه يتضمن سرداً مثيراً للاهتمام عن الحرب الثورية.
وكا المخطط المصمم من قبل الجنرال نافار، آخر قائد فرنسي عام في فيتنام، يتضمن القيام بهجوم عام، يستهدف – كما قال جون فوستر دالس أمام لجنة من مجلس الشيوخ: ( تحطيم القوة المنظمة للعدوان الشيوعي في نهاية فصل الصيد من عام 1955 ( في ثمانية عشر شهراً ) ).
وفي تقرير سري لم ينتشر إلا بعد بيان فو، اعترف نافار بأن حرب الهند الصينية كانت قد خُسرت قبل تطبيق مخططه، وأنه كان يأمل أن يصل إلى التعادل في أفضل الحالات. ومهما كان الأمر، فقد نُفِّذ المخطط بدعم مادي ومالي عظيم من الولايات المتحدة.
وقد تضمن المخطط تركيز القوات المتحركة في دلتا النهر الأحمر، وذلك لمحاولة الاشتباك مع قوة الثوار الضاربة وتدميرها في خلال خريف وشتاء 1953. وفي الوقت نفسه، احتلال ديان بيان فو في الغرب، واستعمالها كمقفز لتسديد ضربات قوية للمناطق الشيوعية المجاورة. وفي ربيع 1954، كان من المفروض أن يكون ثوار الفييتمينة، منهكين، فتقوم وحدات أخرى مشكلة حديثاً بالاستيلاء على مناطق الفييتمينة في جنوبي فيتنام، وأخيراً يأتي الهجوم العام في الشمال ويؤدي إلى إنهاء الحرب بنصر كامل.
وتجمعت أربع وأربعون كتيبة فرنسية في الدلتا، من أجل المرحلة الأولى في خريف 1953، ونشبت سلسلة من المعارك الشرسة. وفي كانون الثاني 1954، احتل المظليون ديان بيان فو، وبدأ إعداد هذه القاعدة فوراً.
وفي الوقت نفسه شن الفييتمينة هجوماً مضاداً، حاصروا ديان بيان فو، وانضموا إلى الباثيت لاو لتحقيق اختراق في مرتفعات لاووس. ثم وقع في كانون الثاني هجومان آخران، أحدهما في الجنوب، والثاني في الشمال، ونجم عن ذلك تحرير حوض ( نام هو )، وتهديد العاصمة اللاووسية ( لوانغ برابانغ ).
وتجمع الفرنسيون في آذار لاستئناف هجومهم، فبدأ الفييتمينة انقضاضهم التاريخي على ديان بيان فو لمدة 55 يوماً. ويقول جياب في هذا الصدد:
بصورة عامة، شكلت الإدارة الاستراتيجية لحملة ديان بيان فو، ولحملة 1953 – 1954، نجاحاً متميزاً للعقيدة العسكرية والثورية للماركسية اللينينية، المطبقة في الشروط الخاصة لحرب فيتنام.
( وبدأت استراتيجيتنا بتحليل تناقضات العدو، وهدفت إلى حشد قواتنا في القطاعات التي بدأ العدو فيها معرضاً نسبياً، وإلى تدمير قواته، وتحرير جزء من البلاد، وإجباره على توزيع قواته لخلق الشروط الملائمة لانتصار حاسم.
( وفي خلال الحرب كلها، كانت الحملة الفرنسية مضطرة إلى توزيع قواتها، فقسمت فرقها إلى أفاج وكتائب وسرايا وفصائل، مرابطة في مراكز متعددة على احتلال القطر المجتاح إذا لم يوزع قواته، وإذا وزعها وقع في موقف خطر، وأصبحت الوحدات الموزعة فرائس سهلة لقواتنا. وتناقصت القوات المتحركة وظهر النقص في عدد القوات بشكل أكبر ثم أكبر. ومن جهة أخرى، كان على العدو أن يخفض قوات الاحتلال، إذا ما أراد حشد قواته لأخذ المبادرة والتقدم ضدنا، وفي هذه الحالة تزداد صعوبة سيطرته على البلاد، علماً بأن قيامه بأخلاء الأقاليم المحتلة يعني التخلي عن الغاية التي شن حرب الغزو من أجلها ).
وعند الإعداد لتطبيق مشروع نافار، ألفى الفرنسيون أنفسهم أمام مأزق: فهم لا يستطيعون القيام بالهجوم دون حشد قواهم، وإذا حشدوها، أضحوا عاجزين عن الدفاع عن الحلقات العديدة والضعيفة من سلسلة مراكزهم الدفاعية. ومرة عاجزين عن الدفاع عن الحلقات العديدة والضعيفة من سلسلة مراكزهم الدفاعية. ومرة أخرى شلهم نقص القوات. ولكي يخرجوا من المأزق، شكلوا وحدات جديدة ( كان معظمهم من المجندين الفيتناميين ) لتحل محل الوحدات الثابتة، والتي سحبت من مواقعها وأرسلت سراً إلى الدلتا من أجل زيادة الحشد ( التركيز ). وقد أدى هذا المخطط إلى جعل الفييتيمنة يتخذون قرارات هامة. ويقول جياب في هذا الصدد:
( كانت المشكلة الواقعية هي أن العدو يحتشد في دلتا النهر الأحمر، ويشن هجماته ضد مناطقنا الحرة. فهل كان علينا أيضاً أن نحتشد أمامه، أو أن نستعمل قواتنا في اتجاهات أخرى؟ ففي الحالة الأولى، أي لو أننا قاتلنا في الدلتا، لكان بإمكاننا الدفاع عن منطقتنا الحرة، لكن العدو بقي قوياً، لذا فإن بالإمكان أن نتعرض للإبادة. وفي الحالة الثانية، أي لو أننا هاجمنا في اتجاهات أخرى، لكان بإمكاننا العمل ضد نقاط العدو الضعيفة، بغية تدمير كبد قواته، إلا أن ذلك يعني تعرض منطقتنا المحررة للخطر )
وانكبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي جماعياً على هذه المعضلة، وانتهت إلى تبني الشق التالي: ( فعالية، ومبادرة/ وحركية، وسرعة في الحسم أمام المواقف الجديدة ) ويشرح جياب معنى هذا الشعار بقوله:
- باتخاذنا زمام المبادرة، كان بوسعنا حشد قوانا لمهاجمة النقاط الاستراتيجية الضعيفة نسبياً/ والحصول على نجاحات، وإجبار العدو على توزيع قواته. ومن جهة أخرى، لو اقتصرنا على الدفاع/ لما كان بإمكاننا تدمير كثير من الأعداء ولأصبح تعرضنا للخسائر ممكناً ولخاطرنا نحن بتحمل الخسائر.
ولقد تقرر القيام بحملة ديناميكية:
( كانت اللجنة المركزية مقتنعة دائماً بأن الأمر الجوهري هو القضاء على قوات العدو، فوضعت مخطط عملها استناداً إلى التحليل العلمي، وكان هذا المخطط: تركيز هجومنا على النقاط الاستراتيجية حيث كان العدو ضعيفاً نسبياً، لإبادة جزء من وسائله، وإجباره على توزيع قواه، من أجل الدفاع عن النقاط الحيوية، التي لا بد له من السيطرة عليها بأي ثمن.
-وظهرت هذه الاستراتيجية صحيحة، فبينما كان العدو يحشد قواته الهامة في الدلتا ليهدد منطقتنا الحرة، جمعنا قوانا، بدلاً من تركها في الدلتا، أو توزيعها في المنطقة المحررة للدفاع عنها، وذلك بغية الهجوم ببسالة باتجاه الشمال الغربي.
ونتج عن ذلك، كما قال جياب إبادة: ( آلاف من المجرمين المحليين [ المسلحين من قبل الفرنسيين ] )، وتحرير أربع نقاط استراتيجية محصنة، والإخفاء شبه النهائي لرتل فرنسي، وتطويق ديان بيان فو، ( مما أجبر العدو على نقل تعزيزات عاجلة لمنع سقوطها ) ويضيف جياب: ( وهكذا أضحت ديان بيان فو نقطة ثانيية لحشد القوات المعادية ).
وفي الوقت نفسه، حقق الهجوم في المنطقة المركزية من لاووس عدة نجاحات، فاضطر الفرنسيون لإرسال تعزيزات باتجاه آخر على حساب حشودهم في الدلتا، وخلقوا منطقة حشد أخرى في مطار ( سينو ) الذي غدا مهدداً.
وكان هناك عمليات تشتيتية أخرى، من بينها انقضاض على الهضاب الغربية العليا، وهجوم في الجزاء الشمالي من لاووس. وأسفرت هذه العمليات، عن قيام الفرنسيين بإرسال تعزيزات جديدة.
ويقول جياب: ( تضمنت المرحلة الأولى من حملة الشتاء – الربيع بالنسبة إلينا، مجموعة من الهجمات المشنونة في الوقت ذاته، باتجاه قطاعات هامة، حيث كان العدو حساساً نسبياً، ما سمح لنا بتدمير جزء من قواته، وتحرير أقاليم، كما ساعدنا على دفع العدو إلى التبعثر في اتجاهات متعددة. واحتفظنا دائماً بالمبادرة في العمليات، ورددنا العدو إلى حالة الدفاع... أما على الجبهة الرئيسية، فقد ثبتنا العدو في ديان بيان فو، وخلقنا بهذا الشروط الملائمة لقواتنا في ساحات معارك أخرى ).
وكانت النتيجة إنقاص الضغط على المناطق المحررة، بحيث ( استطاع مواطنونا العمل حتى في وضح النهار، دون أن يعانوا من الطائرات المعادية ) بالإضافة إلى تثبيت الفرنسيين، المشغولين والمبعثرين، إلى حد لا يسمح لهم بتنفيذ عمليات التطهير المصممة في مشروع نافار، كفاتحة للهجوم العام ضد كبد قوات الفييتمينة في الشمال. وبالنتيجة لم تستطع الفرنسيون تصفية مناطق العصابات في جنوبي فيتنام، وأمام ذلك التهديد الدائم المتزامن مع الضغط على ديان بيان فو، لم يلبث أمل الفرنسيين باستعادة المبادرة أن تبخر.
واختنق المشروع قبل أن يوضح جدياً موضع التنفيذ. وكان تدمير قاعدة ديان بيان فو الحصينة، واستسلام ما تبقى من حاميتها حدثاً حاسماً . ويقول برنارد فول: ( في الثامن من أيار 1954، وفي الساعة الواحدة وثلاث وخمسين دقيقة، - بالتوقيت المحلي – سكتت المدافع الأخيرة في ديان بيان فو، بعد انقضاض يائس بالسلاح الأبيض، شنه، الجزائريون وجنود الفرقة الأجنبية الذين كانوا يدافعون عن معقل ( ايزابيل )، عندما اجتاحته أعداد كبير من الفيتناميين الظافرين. وهكذا انتهت تقريباً، الحرب التي دامت ثمانية أعوام ).
وأوصلت لجنة تحقيق عسكرية، أرسلت من فرنسا لتحديد حجم الكارثة، بترك شمالي فيتنام، ومحاولة الصمود، جنوبي خط العرض 17. واعتمدت التصفية الديبلوماسية التي جرت في جنيف هذا القرار.
ويكتب فول: ( انتهت حرب الهند الصينية في 21 تموز 1954، في الساعة الثالثة والدقيقة الثالثة والأربعين، وخسرت قوات ( الاتحاد الفرنسي ) فيها 172 ألف شخص بين قتيل وجريح، وتحطمت إلى الأبد سيطرة فرنسا على فيتنام ).
فالخبراء يقدرون أن من الضروري
وجود جنود مقابل كل ثائر، وقد يقفز الرقم إلى عشرين، وحتى مائة، في بلد يشكل كل
مواطن فيه ثائر عصابات محتمل.
وقد نُظمت قوات الفييتمينة في ثلاث فئات، وفق النموذج المتبع في الصين:
1- المحاربون النظاميون الدائمون ( تشولوك )، الذين يمكن استخدامهم استراتيجياً في أي مكان، ويؤلفون كبد القوات في عملية كبرى.
2- ثوار العصابات الأقليميون،
المحاربون في مقاطعتهم، والقادرون في كل لحظة على العودة إلى حالتهم كفلاحين أو عمال
عند الضرورة.
3- رجال الميليشيا الريفيون
( دوكتيش ). وهم رجال عصابات في الليل، وفلاحون في النهار، ويقع على عاتقهم
تنفيذ المهمات المحدودة: تخريب جسر، نصب الكمين، زرع ألغام على الطرقات، نقل الرسائل
والأموال، ولكنهم يعودون إلى قراهم عندما تظهر أول بوادر الفعل العسكري.
يقول جياب: ( عند بداية الاجتياح الإمبريالية، قدَّر الجنرال لوكلير بأن إعادة احتلال فيتنام لن يكون سوى نزهة عسكرية. وعندما واجه المقاومة في الجنوب، تخيلها ضعيفة وذات سمة عابرة، واستمر في الاعتقاد بأنه لن يلزمه أكثر من عشرة أسابيع لاحتلال كل جنوبي فيتنام وتهدئته.
يقول جياب: ( عند بداية الاجتياح الإمبريالية، قدَّر الجنرال لوكلير بأن إعادة احتلال فيتنام لن يكون سوى نزهة عسكرية. وعندما واجه المقاومة في الجنوب، تخيلها ضعيفة وذات سمة عابرة، واستمر في الاعتقاد بأنه لن يلزمه أكثر من عشرة أسابيع لاحتلال كل جنوبي فيتنام وتهدئته.
(لماذا قام الاستعماريون الفرنسيون بهذا التقويم؟ لأنهم فكروا بأنه لا بد من وجود جيش لمقارعتهم عند الاجتياح. وكان من المستحيل عليهم أن يفهموا الحقيقة الأساسية الحاسمة، المتمثلة بأن الجيش الضعيف مادياً، كان جيشاً شعبياً... وعندما بدأ العدوان، فقدوا محبة أمة بكاملها. والاوقع أن الأمة الفيتنامية كلها، الشعب الفيتنامي بأسره ثار ضدهم. وبما أن الجنرالات الفرنسيين لم يكونوا قادرين على فهم هذه الحقيقة العميقة، وآمنوا بانتصار سهل، فإنهم ساروا على العكس نحو هزيمة محققة ).
فإذا اسقطنا المبالغة اللفظية، وجدنا أن هنالك كثيراً من الحقيقة في أقوال جياب. فالقوات الفرنسية المتمسكة بالاستراتيجية التقليدية، ألفت نفسها ( غارقة في بحر من البشر المسلحين ). ولقد أتى معظم الأسلحة من الحملة ( الفرنسية ) نفسها، التي قال جياب عنها أنها أصبحت ( المزود بلا تعمد لجيش الشعب الفيتنامي بالأسلحة الفرنسية، الأمريكية أصلاً ).
أما عن تنظيم المقاومة، فإن جياب يلاحظ، بأنه كان قبل كل شيء سياسياً، ثم عسكرياً:
( لقد طالب حزبنا، من أجل خوض الحرب الشعبية، بإنشاء ثلاثة أنواع من القوات المسلحة، وأولى كثيراً من الاهتمام لتشكيل وتنمية وحدات الدفاع الذاتي ووجدت حرب العصابات، وأُنشئت الميليشيا في كل مكان. وبفضل توطيد الإدارة الشعبية في الريف كله، ولوجود فروع الحزب في كل مكان، فإن الميليشيا توسعت كثيراً ونهض الشعب للقتال. وقامت وحدات من العصابات بالاشتراك مع الجيش النظامي بالعمل على مؤخرات العدو وإرهاقه، وثبتته في قواعده، وسمحت بذلك لجيشنا النظامي بالقيام بعمليات متحركة لإبادته. وقد تحولت هذه المؤخرات إلى جبهة بالنسبة إلينا، وانتظمت قواعد استطاع الجيش النظامي الانطلاق منها لشن هجمات في قلب المناطق التي يسيطر عليها العدو، كما حمت هذه القواعد الأشخاص وممتلكاتهم، وحفظت الإنتاج، وأحبطت نية العدو الساعية إلى تغذية الحرب بالحرب، وباستخدام الفيتناميين لقتال الفيتناميين. ففي المناطق المحررة، قاتلت وحدات ثوار العصابات العدو بفعالية، وراقبت الخونة، وكانت الأدوات الفعالة للإدارة وللأحزاب المحلية. كما كانت في الوقت ذاته، القوة الضاربة في الإنتاج والنقل والتموين. ومن خلال القتال والعمل، أصبحت وحدات ثوار العصابات منبعاً ثميناً لا ينضب لاختيار متطوعي الجيش النظامي وصارت تمده بالجنود والضباط المثقفين سياسياً، والحائزين على خبرة قتالية ثمينة ).
وقد ارتكبت المعسكران أخطاء فادحة في المرحلة الأولى، فلقد كرس الفرنسيون خمسة أشهر من العام 1947 لمحاولة فاشلة تستهدف إلقاء القبض على هوشي منه وهيئة أركانه، معتقدين أن ذلك سيؤدي إلى اختصار مدة الحرب. وحتى أنهم لو نجحوا في ذلك، فإن مجرى الحرب ما كان ليتأثر، إذ أن النتيجة لم تكن تتوقف على عبقرية عسكرية فردية، بل على استراتيجية أملاها الموقف السياسي – العسكري، ولأن كل مسؤول شيوعي تعلم الدرس الصيني، كان بإمكانه تطبيق تلك الاستراتيجية تلقائياً.
ومن المناسب أن نلاحظ مرة أخرى، أن أهم ما يدفع ثوار العصابات لأن يقاتلوا بطريقتهم تلك، هو أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء آخر. إن وضعهم يحدد طريقة تصرفهم، فلأنهم لا يمتلكون أسلحة ثقيلة، ولا فرقا مؤهلة لشن حملات تقليدية، فإنهم يجدون أنفسهم مجبرين، كما يقول كلاوفيتز، على قضم أطراف الجيش المعادي، والقتال على مؤخراته. ولأنهم لا يمتلكون القدرة المادية لتحقيق الحسم العسكري، فلا بد لهم بالضرورة من انتظار الحسم السياسي. ففي وضع ثوري، لا بد أن يأتي الحسم السياسي لمصلحتهم، لأنه نتيجة لحرب طويلة لا يستطيع العدو دعمها سياسياً أو نفسياً، مهما كان وضع قواته العسكرية.
ويحلل الجنرال جياب موقف الفرنسيين بقوله:
( يتحول العدو ببطأ من الهجوم إلى الدفاع، وتتحول الحرب الخاطفة إلى حرب استنزاف، ويلفى العدو نفسه أمام مأزق: إن عليه أن يستمر في الحرب لمدة طويلة حتى يكسبها، وهو لا يمتلك الوسائل السياسية أو النفسية لدعم قتال طويل الأمد ).
ولقد كان جياب على حق، فالضغوط السياسية التي وقعت فرنسا تحتها، وتدني مستوى معنويات السكان الباقين على الولاء لفرنسا، وتناقص معنويات القوات مع الزمن، اعاقت جهود الحملة بشدة.
وكثرت المليشيا الثورية في البلاد، وتشكلت عملياً وحدات منها في كل قرية، وأجرى نظاميو الفييتمينة مسيرات طويلة في الأدغال لمهاجمة رتل هنا وموقع صغير هناك، وكانوا يجهزون في خلال مسيراتهم وبسرعة، وحدات جديدة، بفضل الأسلحة المستولى عليها من العدو، والمعدات الثقيلة المهرَّبة من الصين .
وفي نهاية العام 1949، فقد الفرنسيون المبادرة، التي انتقلت إلى الفييتمينة، واستطاع الثوار شن هجوم محدد بخمس عشرة كتيبة، لاحتلال دلتا نهر توكين في مرتفعات ( التي ) العالية.
وفي الربيع وقع هجوم أشد اتساعاً أدى إلى احتلال دفاعات وادي ( النهر الأحمر ) وعندما أتى الصيف، كان كل الجزء الشمالي الشرقي من تونكين قد تحول إلى قلعة فيتنامية. ووقع ما كان من الواجب توقعه، إذ بدأت الضغوط السياسية في فرنسا. وفي آب 1950، أمرت حكومة باريس بإنقاص قوات الهند الصينية بمقدار تسعة آلاف رجل، مبرهنة بذلك عن جهلها التام للحقائق العسكرية. وتجاوب المجلس الوطني الفرنسي ( مجلس النواب ) مع الشعور العام في البلاد والمناهض للحرب، فطالب بألا يرسل جندي من المجندين لخدمة العلم إلى الهند الصينية، أب أن ما يجري فيها يجب أن يتم بعمل جهاز الشرطة، ويُنفَّذ من قبل الجنود المحترفين، وخاصة أفراد الفرقة الأجنبية، ووحدات المغاربة، ووحدات أخرى غير فرنسية.
ونتج عن ذلك طبعاً وهن جديد للجهد ( العسكري )، وهجوم فيتنامي جديد. وانقطعت سلسلة من حاميات تونكين الغربية عن قواعدها، ووقعت مجموعة مؤلفة من 3500 مغربي، و 2600 جندي من جنسيات أخرى، من المظليين و 500 مدني، في كمين أسفر عن إبادة المجموعة، كما أبيدت 3 كتائب أُرسلت لمساعدة المجموعة.
وقد كتب ( برنارد فول ) في ( الفيتناميين :
- في نهاية شهر تشرين الأول 1950، أضحى النصف الشمالي من فيتنام كله تقريباً معقلاً للفييتمينة، لا يمكن للفرنسيين اختراقه – باستثناء إغارة قامة بها المظليون على ) لانغ سون ) في تموز 1953.
- وعندما انقشع الدخان، كان الفرنسيون قد عانوا أكبر هزيمة استعمارية لهم منذ موت ( مونكالم ) في كيبك. إذ فقدوا ستة آلاف رجل، وثلاث عشرة قطعة مدفعية، ومائة وخمسة وعشرين هاوناً، وأربعمائة وخمسين شاحنة، وثلاثة فصائل من المدرعات، وتسعمائة وأربعين رشاشاً، وألفاً ومئتي رشيشة، وأكثر من ثمانية آلاف بندقية، وتركوا مستودعات كافية لإعداد فرقة فييتمينة كاملة.
( وعندما فقد الفرنسيون حرب الهند الصينية، وكان استمرارها بعد ذلك أربع سنوات، دليلاً على قصر نظر السلطات المدنية، المكلفة باستخلاص النتائج السياسية من موقف عسكري يائس. أما العون الأمريكي – الذي ظهر في جزيران 1950 بعد اندلاع الحرب الكورية، على شكل سبع طائرات نقل – فلم يكن ليغّير أبداً من نتيجة النزاع ).
إلا أن القرار الذي اتخذه الجنرال جياب بشكل سابق لأوانه في نهاية نيسان 1950، وقرر فيه القيام بهجوم عام، أدى إلى إضعاف تقدم الفييتمينة. إن تلك المحاولة لدخول المرحلة الثالثة الحـاسمة من حرب ماو الثورية ( الهجوم الاستراتيجي )، قبل نضوج الموقف كلفت الفييتمينة غالباً. فخلال معركة واحدة في دلتا النهر الأحمر، في يومي 16 و 17 كانون ثاني 1951، فقد جياب ستة آلاف رجل. وفي آذار 1951، انهزم من جديد، عندما أراد الاستيلاء على ميناء هايفونغ، كما أخفقت أيضاً محاولة ثالثة في حزيران.
وركَّز الفييتمينة جهودهم بعد ذلك بتعقل على أهداف تسمح بتحقيق نتائج أفضل، وخاصة السيطرة على الهضاب المرتفعة، حيث لا يمكن للفرنسيين التدخل بمدفعيتهم أو طيرانهم أو مدرعاتهم، بل كان عليهم أن يقاتلوا بالشروط التي حددها الفييتمينة لهم.
وكان على الفرنسيين مواجهة معضلتين أساسيتين: الأولى عسكرية، وتتمثل في عدم كفاية القوات، والثانية سياسية، وتتمثل في عدم الحصول على دعم الوطن الأم. وتفاقمت المعضلات بسبب الضغوط اليبلوماسية. وبقيت استراتيجية الفييتمينة مرنة، في حين حافظت الاستراتيجية الفرنسية على جمودها، وهذا ما جعل الحملة تجر نفسها غالباً في وضع غير متوازن.
ونتيجة لنقص القوات، كانت الحملة تسيطر بضعف على أقاليم شديدة الاتساع، وتقاوم بشكل سيء الضربات الموجهة في الفرق الفيتنامية، المركزة. وعندما كانت الحملة تتجمع للقيام بالهجوم وأخذ المبادرة في قطاع، كان ثوار العصابات يمارسون نشاطهم في مكان آخر، لإجبارهم على التفرق من الجديد. ومن جهة أخرى، وبسبب استراتيجيتهم السياسية والعسكرية، استطاع الفييتمينة الحصول على نجاحات كبرى، عن طريق ممارسة الضغوط، السياسية والنفسية على العدو.
ويوضح اجتياح لاووس من قبل جياب، وفي بداية ربيع 1953، هذه النقطة بشكل جيد. فلقد قام به بواسطة ثلاث فرق معززة بزهاء 4000 من الباثيت لاو ضد 3000 فرنسي، يدعمهم جيش لاووسي يضم عشرة آلاف رجل. وحتى لا يضحي القائد الفرنسي بحامياته الحدودية الضعيفة، أمرها بالانسحاب، على ألا تترك إلا كتيبة واحدة للعمل كمؤخرة. ولم يبق على قيد الحياة من هذه الكتيبة، إلا أربعة رجال. وعندما هوجمت إحدى هذه الحاميات أثناء انسحابها، فإنه لم يعد منها إلا 180 رجلاً من أصل 2400 رجل.
وقد استطاع التعزيزات، الآتية من فيتنام عن طريق الجو، إيقاف الاجتياح على سهل ( الجرار ). لكن ذلك أوجب أخذ الاحتياطات من قطاع العمليات الرئيسية، واستنفار كافة وسائل المواصلات الجوية لمدة من الزمن، ولقد تم صد الفيتناميين، لكنهم اعتبروا أن الحملة لم تكن جهداً مبدداً.
ويعلن كاتزنباخ: ( إن نتائج هذه العملية، مع أنها لم تبلغ كافة غاياتها. كانت مماثلة لنتائج انتصار كبير، ونادراً ما حُققت أشياء عظيمة بمثل الوسائل القليلة.
والأمر الأكثر غرابة في العملية، والذي لم يؤخذ في الاعتبار إلى بعد فوات الأوان، هو أنها كانت منذ البداية مناقضة للمثل القائل: من لا يخاطر بشيء لا يخسر شيئاً. فلم تكن هنالك أية مخاطرة عسكرية حقيقية، وكانت العملية مضمونة بمقدار ضمان نجاح غزو التيبت من قبل الصين.
ومع ذلك، فإن الشيوعيين بغزوهم الذي استمر ثلاثة أسابيع، حصلوا على النتائج التالية:
1. نشروا الرعب لدى السلطات العسكرية والمدنية في الهند الصينية وفي فرنسا.
2. أجبروا قوات الدفاع على تمديد خطوطها بشكل أطول.
3. زادوا من حدة مطالب الاستقلال السياسي في لاووس وكمبوديا.
4. خلقوا موقفاً زاد من نفقات فرنسا بمقدار ستين مليوناً من الدولارات.
5. جعلوا الولايات المتحدة تخسر حوالي 460 مليوناً من الدولارات من عونها الخارج ).
أما الشرح الذي قدمه جياب عن الاستراتيجية المستخدمة لإحباط مخطط ( نافار ) الشهير، وهو المجهود النهائي الذي بذلته فرنسا لأخذ زمام المبادرة في الهند الصينية، فإنه يتضمن سرداً مثيراً للاهتمام عن الحرب الثورية.
وكا المخطط المصمم من قبل الجنرال نافار، آخر قائد فرنسي عام في فيتنام، يتضمن القيام بهجوم عام، يستهدف – كما قال جون فوستر دالس أمام لجنة من مجلس الشيوخ: ( تحطيم القوة المنظمة للعدوان الشيوعي في نهاية فصل الصيد من عام 1955 ( في ثمانية عشر شهراً ) ).
وفي تقرير سري لم ينتشر إلا بعد بيان فو، اعترف نافار بأن حرب الهند الصينية كانت قد خُسرت قبل تطبيق مخططه، وأنه كان يأمل أن يصل إلى التعادل في أفضل الحالات. ومهما كان الأمر، فقد نُفِّذ المخطط بدعم مادي ومالي عظيم من الولايات المتحدة.
وقد تضمن المخطط تركيز القوات المتحركة في دلتا النهر الأحمر، وذلك لمحاولة الاشتباك مع قوة الثوار الضاربة وتدميرها في خلال خريف وشتاء 1953. وفي الوقت نفسه، احتلال ديان بيان فو في الغرب، واستعمالها كمقفز لتسديد ضربات قوية للمناطق الشيوعية المجاورة. وفي ربيع 1954، كان من المفروض أن يكون ثوار الفييتمينة، منهكين، فتقوم وحدات أخرى مشكلة حديثاً بالاستيلاء على مناطق الفييتمينة في جنوبي فيتنام، وأخيراً يأتي الهجوم العام في الشمال ويؤدي إلى إنهاء الحرب بنصر كامل.
وتجمعت أربع وأربعون كتيبة فرنسية في الدلتا، من أجل المرحلة الأولى في خريف 1953، ونشبت سلسلة من المعارك الشرسة. وفي كانون الثاني 1954، احتل المظليون ديان بيان فو، وبدأ إعداد هذه القاعدة فوراً.
وفي الوقت نفسه شن الفييتمينة هجوماً مضاداً، حاصروا ديان بيان فو، وانضموا إلى الباثيت لاو لتحقيق اختراق في مرتفعات لاووس. ثم وقع في كانون الثاني هجومان آخران، أحدهما في الجنوب، والثاني في الشمال، ونجم عن ذلك تحرير حوض ( نام هو )، وتهديد العاصمة اللاووسية ( لوانغ برابانغ ).
وتجمع الفرنسيون في آذار لاستئناف هجومهم، فبدأ الفييتمينة انقضاضهم التاريخي على ديان بيان فو لمدة 55 يوماً. ويقول جياب في هذا الصدد:
بصورة عامة، شكلت الإدارة الاستراتيجية لحملة ديان بيان فو، ولحملة 1953 – 1954، نجاحاً متميزاً للعقيدة العسكرية والثورية للماركسية اللينينية، المطبقة في الشروط الخاصة لحرب فيتنام.
( وبدأت استراتيجيتنا بتحليل تناقضات العدو، وهدفت إلى حشد قواتنا في القطاعات التي بدأ العدو فيها معرضاً نسبياً، وإلى تدمير قواته، وتحرير جزء من البلاد، وإجباره على توزيع قواته لخلق الشروط الملائمة لانتصار حاسم.
( وفي خلال الحرب كلها، كانت الحملة الفرنسية مضطرة إلى توزيع قواتها، فقسمت فرقها إلى أفاج وكتائب وسرايا وفصائل، مرابطة في مراكز متعددة على احتلال القطر المجتاح إذا لم يوزع قواته، وإذا وزعها وقع في موقف خطر، وأصبحت الوحدات الموزعة فرائس سهلة لقواتنا. وتناقصت القوات المتحركة وظهر النقص في عدد القوات بشكل أكبر ثم أكبر. ومن جهة أخرى، كان على العدو أن يخفض قوات الاحتلال، إذا ما أراد حشد قواته لأخذ المبادرة والتقدم ضدنا، وفي هذه الحالة تزداد صعوبة سيطرته على البلاد، علماً بأن قيامه بأخلاء الأقاليم المحتلة يعني التخلي عن الغاية التي شن حرب الغزو من أجلها ).
وعند الإعداد لتطبيق مشروع نافار، ألفى الفرنسيون أنفسهم أمام مأزق: فهم لا يستطيعون القيام بالهجوم دون حشد قواهم، وإذا حشدوها، أضحوا عاجزين عن الدفاع عن الحلقات العديدة والضعيفة من سلسلة مراكزهم الدفاعية. ومرة عاجزين عن الدفاع عن الحلقات العديدة والضعيفة من سلسلة مراكزهم الدفاعية. ومرة أخرى شلهم نقص القوات. ولكي يخرجوا من المأزق، شكلوا وحدات جديدة ( كان معظمهم من المجندين الفيتناميين ) لتحل محل الوحدات الثابتة، والتي سحبت من مواقعها وأرسلت سراً إلى الدلتا من أجل زيادة الحشد ( التركيز ). وقد أدى هذا المخطط إلى جعل الفييتيمنة يتخذون قرارات هامة. ويقول جياب في هذا الصدد:
( كانت المشكلة الواقعية هي أن العدو يحتشد في دلتا النهر الأحمر، ويشن هجماته ضد مناطقنا الحرة. فهل كان علينا أيضاً أن نحتشد أمامه، أو أن نستعمل قواتنا في اتجاهات أخرى؟ ففي الحالة الأولى، أي لو أننا قاتلنا في الدلتا، لكان بإمكاننا الدفاع عن منطقتنا الحرة، لكن العدو بقي قوياً، لذا فإن بالإمكان أن نتعرض للإبادة. وفي الحالة الثانية، أي لو أننا هاجمنا في اتجاهات أخرى، لكان بإمكاننا العمل ضد نقاط العدو الضعيفة، بغية تدمير كبد قواته، إلا أن ذلك يعني تعرض منطقتنا المحررة للخطر )
وانكبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي جماعياً على هذه المعضلة، وانتهت إلى تبني الشق التالي: ( فعالية، ومبادرة/ وحركية، وسرعة في الحسم أمام المواقف الجديدة ) ويشرح جياب معنى هذا الشعار بقوله:
- باتخاذنا زمام المبادرة، كان بوسعنا حشد قوانا لمهاجمة النقاط الاستراتيجية الضعيفة نسبياً/ والحصول على نجاحات، وإجبار العدو على توزيع قواته. ومن جهة أخرى، لو اقتصرنا على الدفاع/ لما كان بإمكاننا تدمير كثير من الأعداء ولأصبح تعرضنا للخسائر ممكناً ولخاطرنا نحن بتحمل الخسائر.
ولقد تقرر القيام بحملة ديناميكية:
( كانت اللجنة المركزية مقتنعة دائماً بأن الأمر الجوهري هو القضاء على قوات العدو، فوضعت مخطط عملها استناداً إلى التحليل العلمي، وكان هذا المخطط: تركيز هجومنا على النقاط الاستراتيجية حيث كان العدو ضعيفاً نسبياً، لإبادة جزء من وسائله، وإجباره على توزيع قواه، من أجل الدفاع عن النقاط الحيوية، التي لا بد له من السيطرة عليها بأي ثمن.
-وظهرت هذه الاستراتيجية صحيحة، فبينما كان العدو يحشد قواته الهامة في الدلتا ليهدد منطقتنا الحرة، جمعنا قوانا، بدلاً من تركها في الدلتا، أو توزيعها في المنطقة المحررة للدفاع عنها، وذلك بغية الهجوم ببسالة باتجاه الشمال الغربي.
ونتج عن ذلك، كما قال جياب إبادة: ( آلاف من المجرمين المحليين [ المسلحين من قبل الفرنسيين ] )، وتحرير أربع نقاط استراتيجية محصنة، والإخفاء شبه النهائي لرتل فرنسي، وتطويق ديان بيان فو، ( مما أجبر العدو على نقل تعزيزات عاجلة لمنع سقوطها ) ويضيف جياب: ( وهكذا أضحت ديان بيان فو نقطة ثانيية لحشد القوات المعادية ).
وفي الوقت نفسه، حقق الهجوم في المنطقة المركزية من لاووس عدة نجاحات، فاضطر الفرنسيون لإرسال تعزيزات باتجاه آخر على حساب حشودهم في الدلتا، وخلقوا منطقة حشد أخرى في مطار ( سينو ) الذي غدا مهدداً.
وكان هناك عمليات تشتيتية أخرى، من بينها انقضاض على الهضاب الغربية العليا، وهجوم في الجزاء الشمالي من لاووس. وأسفرت هذه العمليات، عن قيام الفرنسيين بإرسال تعزيزات جديدة.
ويقول جياب: ( تضمنت المرحلة الأولى من حملة الشتاء – الربيع بالنسبة إلينا، مجموعة من الهجمات المشنونة في الوقت ذاته، باتجاه قطاعات هامة، حيث كان العدو حساساً نسبياً، ما سمح لنا بتدمير جزء من قواته، وتحرير أقاليم، كما ساعدنا على دفع العدو إلى التبعثر في اتجاهات متعددة. واحتفظنا دائماً بالمبادرة في العمليات، ورددنا العدو إلى حالة الدفاع... أما على الجبهة الرئيسية، فقد ثبتنا العدو في ديان بيان فو، وخلقنا بهذا الشروط الملائمة لقواتنا في ساحات معارك أخرى ).
وكانت النتيجة إنقاص الضغط على المناطق المحررة، بحيث ( استطاع مواطنونا العمل حتى في وضح النهار، دون أن يعانوا من الطائرات المعادية ) بالإضافة إلى تثبيت الفرنسيين، المشغولين والمبعثرين، إلى حد لا يسمح لهم بتنفيذ عمليات التطهير المصممة في مشروع نافار، كفاتحة للهجوم العام ضد كبد قوات الفييتمينة في الشمال. وبالنتيجة لم تستطع الفرنسيون تصفية مناطق العصابات في جنوبي فيتنام، وأمام ذلك التهديد الدائم المتزامن مع الضغط على ديان بيان فو، لم يلبث أمل الفرنسيين باستعادة المبادرة أن تبخر.
واختنق المشروع قبل أن يوضح جدياً موضع التنفيذ. وكان تدمير قاعدة ديان بيان فو الحصينة، واستسلام ما تبقى من حاميتها حدثاً حاسماً . ويقول برنارد فول: ( في الثامن من أيار 1954، وفي الساعة الواحدة وثلاث وخمسين دقيقة، - بالتوقيت المحلي – سكتت المدافع الأخيرة في ديان بيان فو، بعد انقضاض يائس بالسلاح الأبيض، شنه، الجزائريون وجنود الفرقة الأجنبية الذين كانوا يدافعون عن معقل ( ايزابيل )، عندما اجتاحته أعداد كبير من الفيتناميين الظافرين. وهكذا انتهت تقريباً، الحرب التي دامت ثمانية أعوام ).
وأوصلت لجنة تحقيق عسكرية، أرسلت من فرنسا لتحديد حجم الكارثة، بترك شمالي فيتنام، ومحاولة الصمود، جنوبي خط العرض 17. واعتمدت التصفية الديبلوماسية التي جرت في جنيف هذا القرار.
ويكتب فول: ( انتهت حرب الهند الصينية في 21 تموز 1954، في الساعة الثالثة والدقيقة الثالثة والأربعين، وخسرت قوات ( الاتحاد الفرنسي ) فيها 172 ألف شخص بين قتيل وجريح، وتحطمت إلى الأبد سيطرة فرنسا على فيتنام ).
0 التعليقات:
إرسال تعليق