حتي يغيروا ما بأنفسهم 2
من تقديم مالك بن نبي
إن كلَّ قانون يفرضُ على العقل نوعاً من
الحتمية تُقيدُ تصرفهُ في حدود القانون .
فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية
التنقل براً أو بحراً . ولم يتخلص من هذه الحتمية الإنسان بإلغاء القانون ، ولكن
بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء ، كما يفعل
اليوم .
فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئاً ، إنما
تُفيدنا بأن القانون في الطبيعة ، لا ينْصِبُ أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة ،
وإنما يواجهه بنوع ن التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلص من سببيةٍ ضيقة
النطاق .
مدخَل
وكذلك من المفارقات ، أن نتطلع بشوق إلى
تغيير الواقع ، دون أن يخطر في بالنا ، أن ذلك لن يتم ، إلا إذا حدث التغيير قبل
ذلك ، بما بالأنفس . ونحن مطمئنون إلى ما بأنفسنا ، ولا نشعر أن كثيراً مما فيها ،
هو الذي يعطي حق البقاء لهذا الواقع الذي نريدُ أن يزول ، ونحن نشعرُ بثقلِ وطأتهِ
علينا ، ولكن لا نشعرُ بمقدار ما يساهم ، ما في أنفسنا ، لدوامه واستمراره .
وعجز المسلمين أن يعيشوا وفقاً للعقيدة
الإسلامية ، مشكلة لا يجتاح إثباتها إلى بذل جهد كبير .
إن الذين لا يرون أن للمشكلة قوانين ، أو
يفرضون لها تفاسير خاطئة ، لا يمكن أن يصلوا إلى نتائج . فعدم اعترافهم بالقانون
لا ينفي القانون ؛ وإنما يمنعهم من السيطرة عليه وتسخيره ، ويجعل منهم أداة يلعب
بها الآخرون الذين علموا القوانين الصحيحة .
وكما يمكن استخدام الحجر الصحي لإيقاف
الأوبئة في مستوى المرض الصحي ، يمكن استخدامه في مستوى المرض الاجتماعي . كما
يمكن إعطاء اللقاحات والمناعات الفكرية ضد أفكار مرضية .
إن القرآن الكريم ، يذكر المرض في القلب
في عدة مواضع ، ولكن لا يذكره على أساس أنه مرض عضوي في جسم الفرد ، وإنما على
أساس أنه مرض اجتماعي في نفس المجتمع . وحين يذكر مرض القلب ، لا يعني به ما يمكن
أن يصاب به من روماتيزم ، أو تسارع ، أو انسداد الشريان الذي يغذي القلب ، مما
يحدث الموت المفاجئ بالسكتة القلبية ، وإنما يقصد القرآن بمرض القلب ؛ مرضاً «
فكرياً » يصيب الإنسان في علاقته بالمثل الأعلى ، مما يجعل الشخص عاجزا عن القيام
بأداء وظيفته الاجتماعية في جسم الأمة
والآن : إن معنى القانون والتسخير ، الذي
يمكن إدراكه في مستوى سلامة الجسد ، يجب أن ينتقل إلى مستوى سلامة المجتمع .
ويقول الكاتب الجزائري مالك بن نبي ، في
هذا الموضوع في مستوى الآلة المادية : (فقد تعودنا بالنسبة إلى الآلة على الواقع
القائم في أن عمله لا يمكنه أن يتحقق إذا نقصتها (حزقة) أو صامولة . ولكننا لم
نُقرَّ في أذهاننا نفس القاعدة بالنسبة إلى العمل البشري ، بينما يبدو جيداً في
حالات معينة . أن الإنسان تنقصه هذه الصامولة (الحزقة) بالذات حيثما فقد نشاطه ،
تَمكُّنه من الأشياء ، فكان نشاطاً رخواً ، آو هو لا يندمج بطريقة منتظمة مع
النشاط المشترك للجماهير)(1) .
يقول صلى الله عليه وسلم في التشبيه
الأول : « أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا . ثم شبك بين أصابعه » .
ويقول في التشبيه الثاني : « ترى
المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضواً تداعى له
سائر الجسد بالسهر والحمى »(1) .
والرسول صلى الله عليه وسلم ، يضرب مثلاً
آخر تمتزج فيه السنَّة المادية بالسنَّة الاجتماعية ، في مثل السفينة وركابها ،
وعلاقة سنن المركب بسنن المادة تارة ، وبسنن البشر تارة أخرى . هذا المثل يذكره
الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين أن للمجتمع قانوناً يترابط به ليحميه من الغرق .
وكلما تعود الإنسان التعامل مع السنن ،
ازداد ثقة وطمأنينة .
أن هدف الإنسان في هذا المجتمع استئناف
حياة إسلامية ، ووسيلته كل ما يمكن أن يصل إليه فكره ويده .
إن النظرات الخاطئة التي تعرقل الحركة ،
وتوقف السير ليست كبيرة ضخمة ، ولكنها دقيقة لا يقف الفكر عندها ، بل يتجاوزها
قفزاً دون أن يلمحها ، ولكن هذه الغفلة اليسيرة توقف سير التاريخ ،
كما يقول محمد إقبال :
لحظةً يا صاحبي إن تَغْفُلِ ألفَ ميلٍ زاد بُعدُ المنزلِ
فالإنسان يتجاوز الخطأ الدقيق في حركته
المهتاجة الشغوفة إلى الهدف ، ولكن الصدمة تكون محيرة إلى درجة كبيرة ، مما تجعل
الصفوة تقابل مثل هذا الموقف بقولهم : (أنَّى هذا ؟) آل عمران – 165 - .
فكما لم يلاحظ الإنسان الشروط الدقيقة
الواضحة والخفية بآن واحد ، أثناء هجمته ، فكذلك يعجز أن يلاحظها في مأساة تحطمه
بعد أن يُخفق ، فلا يظن أن ذلك الذي لم يلمحه هو سبب هذا التحطم الشديد ، أو البعد
الكبير عن الهدف .
إن السلوك الذي ينتج عن مثل هذه الخبرات
، حين يفقد مراعاة السنن ؛ سلوك يتسم بالحذر والحيرة ، وعدم الثقة ، والعجز مع
الحقد ، بينما إدراك سنن الانتقال من الموجود إلى المقصود بصورة محددة ، يقي
الإنسان من هذه المضاعفات ، فلا يجعله يظن بنفسه ما لم يؤهلها له ، ولا يحاول أن
يستر عجزه ، وإنما يسعى بكل جد إلى استكمال ما ينقصه .
واليوم حين أعرض هذا البحث في مشكلة
التغيير من خلال قوله تعالى :
« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم » الرعد – 11 - .
أكتب وأنا معتقد أن إدراك المسلم لهذه
القضايا ، يجعله يقبل على ما بين يديه من وسيلة موجودة بكل صبر وجد واستمرار ، دون
أن يتمكن أحدٌ أن يصرفه عن غايته ، لأنه يعرف ماذا يعمل ، وأين يؤدي عمله . وكلما
اكتسب من سعيه موجوداً جديداً لم يكن عنده ، زادت طمأنينته ، وخرج من الحيرة التي
يعيش فيها ، حيث كان ينتقل من سراب إلى سراب ، ويقضي شبابه في هذه الحركة ، التي
تشبه حركته من أصابته لوثة ، ثم يركد ساكناً بعد أن يئس دون أن يكون قد خطر في
باله أن الدراسة الصابرة تفتح أبواباً للعمل لا ينتبه إليها عادة .
0 التعليقات:
إرسال تعليق