08‏/05‏/2019

حتي يغيروا ما بأنفسهم 2

حتي يغيروا ما بأنفسهم 2
من تقديم مالك بن نبي

إن كلَّ قانون يفرضُ على العقل نوعاً من الحتمية تُقيدُ تصرفهُ في حدود القانون .
فالجاذبية قانون طالما قيد العقل بحتمية التنقل براً أو بحراً . ولم يتخلص من هذه الحتمية الإنسان بإلغاء القانون ، ولكن بالتصرف مع شروطه الأزلية بوسائل جديدة تجعله يعبر القارات والفضاء ، كما يفعل اليوم .

فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئاً ، إنما تُفيدنا بأن القانون في الطبيعة ، لا ينْصِبُ أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة ، وإنما يواجهه بنوع ن التحدي يفرض عليه اجتهاداً جديداً للتخلص من سببيةٍ ضيقة النطاق .


مدخَل


وكذلك من المفارقات ، أن نتطلع بشوق إلى تغيير الواقع ، دون أن يخطر في بالنا ، أن ذلك لن يتم ، إلا إذا حدث التغيير قبل ذلك ، بما بالأنفس . ونحن مطمئنون إلى ما بأنفسنا ، ولا نشعر أن كثيراً مما فيها ، هو الذي يعطي حق البقاء لهذا الواقع الذي نريدُ أن يزول ، ونحن نشعرُ بثقلِ وطأتهِ علينا ، ولكن لا نشعرُ بمقدار ما يساهم ، ما في أنفسنا ، لدوامه واستمراره .


وعجز المسلمين أن يعيشوا وفقاً للعقيدة الإسلامية ، مشكلة لا يجتاح إثباتها إلى بذل جهد كبير .

إن الذين لا يرون أن للمشكلة قوانين ، أو يفرضون لها تفاسير خاطئة ، لا يمكن أن يصلوا إلى نتائج . فعدم اعترافهم بالقانون لا ينفي القانون ؛ وإنما يمنعهم من السيطرة عليه وتسخيره ، ويجعل منهم أداة يلعب بها الآخرون الذين علموا القوانين الصحيحة .

وكما يمكن استخدام الحجر الصحي لإيقاف الأوبئة في مستوى المرض الصحي ، يمكن استخدامه في مستوى المرض الاجتماعي . كما يمكن إعطاء اللقاحات والمناعات الفكرية ضد أفكار مرضية .

إن القرآن الكريم ، يذكر المرض في القلب في عدة مواضع ، ولكن لا يذكره على أساس أنه مرض عضوي في جسم الفرد ، وإنما على أساس أنه مرض اجتماعي في نفس المجتمع . وحين يذكر مرض القلب ، لا يعني به ما يمكن أن يصاب به من روماتيزم ، أو تسارع ، أو انسداد الشريان الذي يغذي القلب ، مما يحدث الموت المفاجئ بالسكتة القلبية ، وإنما يقصد القرآن بمرض القلب ؛ مرضاً « فكرياً » يصيب الإنسان في علاقته بالمثل الأعلى ، مما يجعل الشخص عاجزا عن القيام بأداء وظيفته الاجتماعية في جسم الأمة

والآن : إن معنى القانون والتسخير ، الذي يمكن إدراكه في مستوى سلامة الجسد ، يجب أن ينتقل إلى مستوى سلامة المجتمع .

ويقول الكاتب الجزائري مالك بن نبي ، في هذا الموضوع في مستوى الآلة المادية : (فقد تعودنا بالنسبة إلى الآلة على الواقع القائم في أن عمله لا يمكنه أن يتحقق إذا نقصتها (حزقة) أو صامولة . ولكننا لم نُقرَّ في أذهاننا نفس القاعدة بالنسبة إلى العمل البشري ، بينما يبدو جيداً في حالات معينة . أن الإنسان تنقصه هذه الصامولة (الحزقة) بالذات حيثما فقد نشاطه ، تَمكُّنه من الأشياء ، فكان نشاطاً رخواً ، آو هو لا يندمج بطريقة منتظمة مع النشاط المشترك للجماهير)(1) .

يقول صلى الله عليه وسلم في التشبيه الأول : « أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا . ثم شبك بين أصابعه » .

ويقول في التشبيه الثاني : « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى »(1) .

والرسول صلى الله عليه وسلم ، يضرب مثلاً آخر تمتزج فيه السنَّة المادية بالسنَّة الاجتماعية ، في مثل السفينة وركابها ، وعلاقة سنن المركب بسنن المادة تارة ، وبسنن البشر تارة أخرى . هذا المثل يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين أن للمجتمع قانوناً يترابط به ليحميه من الغرق .

وكلما تعود الإنسان التعامل مع السنن ، ازداد ثقة وطمأنينة .

أن هدف الإنسان في هذا المجتمع استئناف حياة إسلامية ، ووسيلته كل ما يمكن أن يصل إليه فكره ويده .


إن النظرات الخاطئة التي تعرقل الحركة ، وتوقف السير ليست كبيرة ضخمة ، ولكنها دقيقة لا يقف الفكر عندها ، بل يتجاوزها قفزاً دون أن يلمحها ، ولكن هذه الغفلة اليسيرة توقف سير التاريخ ،

 كما يقول محمد إقبال :
لحظةً يا صاحبي إن تَغْفُلِ            ألفَ ميلٍ زاد بُعدُ المنزلِ
فالإنسان يتجاوز الخطأ الدقيق في حركته المهتاجة الشغوفة إلى الهدف ، ولكن الصدمة تكون محيرة إلى درجة كبيرة ، مما تجعل الصفوة تقابل مثل هذا الموقف بقولهم : (أنَّى هذا ؟) آل عمران – 165 - .
فكما لم يلاحظ الإنسان الشروط الدقيقة الواضحة والخفية بآن واحد ، أثناء هجمته ، فكذلك يعجز أن يلاحظها في مأساة تحطمه بعد أن يُخفق ، فلا يظن أن ذلك الذي لم يلمحه هو سبب هذا التحطم الشديد ، أو البعد الكبير عن الهدف .
إن السلوك الذي ينتج عن مثل هذه الخبرات ، حين يفقد مراعاة السنن ؛ سلوك يتسم بالحذر والحيرة ، وعدم الثقة ، والعجز مع الحقد ، بينما إدراك سنن الانتقال من الموجود إلى المقصود بصورة محددة ، يقي الإنسان من هذه المضاعفات ، فلا يجعله يظن بنفسه ما لم يؤهلها له ، ولا يحاول أن يستر عجزه ، وإنما يسعى بكل جد إلى استكمال ما ينقصه .
واليوم حين أعرض هذا البحث في مشكلة التغيير من خلال قوله تعالى :
« إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » الرعد – 11 - .
أكتب وأنا معتقد أن إدراك المسلم لهذه القضايا ، يجعله يقبل على ما بين يديه من وسيلة موجودة بكل صبر وجد واستمرار ، دون أن يتمكن أحدٌ أن يصرفه عن غايته ، لأنه يعرف ماذا يعمل ، وأين يؤدي عمله . وكلما اكتسب من سعيه موجوداً جديداً لم يكن عنده ، زادت طمأنينته ، وخرج من الحيرة التي يعيش فيها ، حيث كان ينتقل من سراب إلى سراب ، ويقضي شبابه في هذه الحركة ، التي تشبه حركته من أصابته لوثة ، ثم يركد ساكناً بعد أن يئس دون أن يكون قد خطر في باله أن الدراسة الصابرة تفتح أبواباً للعمل لا ينتبه إليها عادة .



0 التعليقات: