عن الحرب 23
الدهاء والمكر
يقترب
كثير من الخديعة التى تخفى هى أيضا غايتها ، والدهاء بذاته شكل من أشكال الخداع ،
عندما يتم كلية ، ولو أنه ليس خداعا بالمفهوم العادى للكلمة ، نظرا لعدم وجود خرق
للاستقامة فى النهاية .
ونظرنا إلى الاستراتيجية كفن الاستثمار الماهر للقوة لأجل أهداف أكبر، فما
من ميزة بشرية تبدو مناسبة لمهمة توجيه الاستراتيجية والتأثير فيها كميزة الدهاء ،
والمتابعة العامة للمباغتة .
لتهيئة وإعداد عمل خادع وبدقة كافية لاقناع العدو ، لابد من بذل الكثير من
الوقت والجهد ، ويتصاعد الثمن فى اتساع نطاق المخادعة ، يتطلب ذلك عادة أكثر مما
يمكن توفيره ، لذا فإن ما يدعى بالخدعة الاستراتيجية نادرا ما حقق بالتالى التأثير
المرغوب ، فى الحقيقة من الخطر استخدام قوات كبيرة ولأى قدر من الوقت لمجرد خلق
وهم ،
وهناك خطر ماثل على الدوام ، بعدم تحقيق أى شئ وأن القطعات التى انفتحت لن
تكون متيسرة حين تدعو الحاجة إليها .
القادة فى الحرب منتبهون على الدوام لهذه الحقائق الخطيرة ، وكلما كانت
القوات الموضوعة تحت تصرف القائد الأعلى أكثر ضعفا ، كلما بات استخدام الدهاء
والكر أكثر جاذبية ، ففى موقف أو حالة يسود فيها الضعف ونقص القدرة والكفاية ،
وعندما لا تعود الحكمة والتبصر والقدرة على الحكم والقابلية تكفى لمواجهة ذلك ، قد
يبدو الدهاء ساعتها وكأنه الأمل الوحيد
وكلما كان الموقف أكثر كآبة وتحرجا ، ساعة حشد وتركيز كل الموارد فى محاولة
يائسة واحدة ، كلما شكل الدهاء قوة محفزة للإقدام .
فالإقدام والدهاء حريين بدعم أحدهما للآخر
وإلى حد العمل على تركيز البصيص الخافت للأمل فى ومضة واحدة من النار التى قد توقد
لهيبا .
حشد القوات فى المكان
الاستراتيجية الأفضل هى أن نكون أقوياء جدا ودائما ، وما من قانون أعلى
وأبسط فى الاستراتيجية من ذلك الذى يؤكد على الاحتفاظ بالقوة محتشدة .
يجب
تجنب هذه الحماقة كليا ، وأن يتوقف طرح وتقديم العديد من الأسباب اللامعقولة
لتجزأة القوة ، حالما يدرك ( القائد ) أن حشد القوة هو القاعدة والأصل ، وأن كل
تجزأة أو عزل لها هو استثناء لا بد أن له ما يبرره .
اتحاد القوات فى الوقت
الحرب
هى تصادم قوات متنازعة ، أما عندما تتألف من تفاعل طويل بين قوات تتبادل التدمير ،
فسيغدو من السهل ملاحظة الاستخدام الناجح للقوة ، فمن المسلم به أن الألف سيكونون
أكثر التصاقا مع بعضهم البعض .
لقد
بات واضحا كيف أن نشر( انفتاح ) قوة كبيرة جدا قد يكون ضارا بغض التظر عن الميزة
التى يؤمنها التفوق فى اللحظة الأولى للاشتباك ، فقد تدفع ثمن ذلك فى اللحظة
التالية .
ومع
ذلك فالخطر قائم ولكن فقط فى مرحلة الارتباك ، وظروف التشوش والضعف – والخلاصة ،
الأزمات التى تحدث فى كل اشتباك ، وحتى فى الجانب المنتصر ، وما من شك فى أن ظهور
قوات جديدة ومنعشة نسبيا وسط حالة الوهن هذه سيكون حاسما .
ولكن
ومن الناحية الأخرى ، وحال زوال الفوضى وتأثيرات الفوز ، لا يتبقى سوى التفوق
المعنوى الذى يبثه النصر فى النفوس ، فلن يعود بوسع قطعات جديدة ( منتعشة ) انقاذ
الموقف بعد – بل ستكتسح هى الأخرى .
ليس بوسع جيش
مندحر استعادة ما فقده فى اليوم التالى ، وبمجرد حصوله على احتياطات قوية ، نصل
هنا إلى أصل الاختلاف الحاسم بين الاستراتيجية والتعبية .
النجاحات التعبوية التى تتحقق من خلال وأثناء الاشتباكات تقع عادة خلال
مرحلة التشوش والضعف ، ما يترتب على هذا الاختلاف هو القدرة على استخدام القوة
بالتعاقب فى المجال التعبوى ، بينما لا تعرف الاستراتيجية إلا التزامن فى استخدام
القوة .
إن لم
يؤدى النجاح الأولى فى موقف تعبوى إلى نصر حاسم ، حق لنا أن نخاف من اللحظة
التالية .
علينا بعد ذلك أن نستخدم القدر الضرورى جدا من القوة فى الصفحة الأولى ،
والاحتفاظ بالباقى خارج مدى النيران وبعيدا عن مناطق الاشتباك القريب ، كى يتسنى
لنا مجابهة احتياطات العدو بقوات نشيطة مما لدينا ، أو استخدام هذه القوة لتدمير
قواته المنهكة .
يشكل
الاعياء والجهد والحرمان ، عامل تدمير منفصل فى الحرب – عامل لا يعود أساسا للقتال
.
ولذلك فظهور قوات جديدة سيكون حاسما ، لذلك يتوجب علينا فى المواقف
الاستراتيجية والتعبوية أن نسعى بدأب لتحقيق نصر أولى بأقل عدد من القطعات ،
ليتسنى لنا الاحتفاظ باحتياط قوى للقتال النهائى ، وما يكتسب بالتجربة يعامل كربح
صاف .
ركزت
كل الأفكار والتأملات على الاستخدام المتتالى للقوة ، وبينما تتسبب مجرد "
مدة duration " الاشتباك فى اضعاف
القطعات لذا يصبح الوقت عاملا مؤثرا فى النتائج ، إلا أن الأمر ليس كذلك فى
الاستراتيجية .
وإلى الحد الذى يمارس فيه الوقت فى الاستراتيجة تأثيرا مدمرا على القوات
المشاركة ، وهذا متآت جزئيا من حجم القوات ، من جهة ، وبطرق ووسائل أخرى فى أجزاء
أخرى ، لذا لا يمكن أن يتوخى الاستراتيجى التحالف مع الوقت لأغراضه هو ، وذلك بأن
يزج بقواته تدريجيا وخطوة فخطوة .
القاعدة ، إذا : ينبغى تطوير كل القوات المعدة والمتيسرة للغرض الاستراتيجى
استخداما متزامنا ، وسيكون استخدامها أكثر تأثيرا وفاعلية ، كلما أمكن حشد كل شئ
فى عمل واحد ، وفى لحظة واحدة .
لا يعنى هذا أن لا مكان للجهد المتتابع ،
والتأثير الدائم ، فى الاستراتيجية ، بل حتى لا يمكن تجاهلهما ، الحتياط
الاستراتيجى .
0 التعليقات:
إرسال تعليق